منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    ( تمظهرات الحضور الأنثوي في شعر عيسى حسن الياسري )

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    ( تمظهرات الحضور الأنثوي في شعر عيسى حسن الياسري ) Empty ( تمظهرات الحضور الأنثوي في شعر عيسى حسن الياسري )

    مُساهمة   الأحد مارس 21, 2010 10:50 am

    [b]( تمظهرات الحضور الأنثوي في شعر عيسى حسن الياسري )

    - مجموعة " أناديك من مكان بعيد " أنموذجا -

    عيسى حسن الياسري


    ( ربّيت يا أم عيسى مثل من حملت

    في كفها الماء

    أو في عينها الإبرُ

    تسرّب الماء إن فكت أصابعها

    وإن تحرّك جفناها

    شكا البصرُ ......... )

    ( عيسى الياسري )

    مجموعة ( أناديك من مكان بعيد )





    (( في طفولته، نام في زورق وغاص

    ولما كبر غاص في القمح ونام هناك ))

    ( نص سومري )





    في قصيدة ( يا أمّ عيسى ) - من مجموعة " أناديك من مكان بعيد " ، دار سنابل ، القاهرة ، 2008 - يقدم الشاعر " عيسى حسن الياسري " لنصه بإهداء : ( إلى شجرتي البعيدة : أمّي ) معيدا إلى الأذهان واحدة من التعبيرات الرمزية عن الأمومة الخالدة وهي : الشجرة . ويلحق بذلك فورا ، وفي بيت الإستهلال ، توسيعا رمزيا متواترا أسطوريا وشعريا لحضور الإبن وهو القمر :

    ( يا أمّ عيسى :

    لقد أودى بك السهر

    سهرت

    أم نمت

    لن يأتي لك القمر ... - ص 89 ) .

    ومن غرائب أرض الرافدين أن القمر رمز ذكوري في موروثها الأسطوري في حين أنه رمز أنثوي في أغلب الحضارات القديمة . وأعتقد أنها المعادلة الصحيحة أن تكون في السماء الشمس أنثى والقمر ذكر ، هذا القمر الذي ينجذب " إليها " البحر . والقمر / الإبن قد انفصل عن أمه إلى الأبد ، ليس الإنفصال الوجودي المبرر الذي يفرضه التقدم في العمر والنضج النفسي ، ولكنه الإنفصال القسري الذي فرضه النأي والتغرّب . وتشكّل قسرية هذا الفراق عوامل طاردة .. عوامل نبذت الإبن من الحضن الأمومي متمثلة في هذا الجفاف الشامل الذي شمل بلعناته السماء بغيومها التي لم تعد مثقلة بالمطر ، والأرض التي تيبست أشجارها وصمتت مراتعها الموحشة وهجرت حقولها أقدام الفتيات الراعيات الجذلى :

    ( لقد مضى عن بلاد ليس يعبرها

    غيـــمٌ

    يسافر في أثوابه المطرُ

    لمن يضيء ؟؟

    فلا الأشجار مورقة

    ولا المراتع يشدو فوقها الوترُ

    لا بيدر القمح

    لا أقدام راعية

    تخطو إلى الحقل جذلى وهي تزدهرُ )

    لقد انتهت وظيفة هذا " القمر " الكونية التي لا تزدهر عادة إلا مرتبطة بازدهار الرحم الكوني الأنثوي ، الطبيعة الأم . والإبن القمر يتساءل : لمن يضيء ، في عالم حكمه الخراب وتسيدت على هامته أشباح المثكل ؟ . ناسيا الوظيفة الجوهرية الأخرى لقمر البنوة وهي إضاءة دروب الأم ، وتبديد ظلمات سنينها الآفلة . إن في هذا نوع من " التمنّع " الطفلي المغلف للحفزات الأوديبية ، وهو " مقلوب " الواقع النفسي والإجرائي الفعلي ، لأن الأمومة هي قمر سماوات الطفولة الفيزيولوجية ، والرجولة النفسية اللاشعورية . وعملية قلب الأدوار هذه هي التي لعبت دورها المخادع في جعل الإله الإبن خطأ هو الإله المنقذ / إله الخصب والنماء والخلاص ، سالبا عن هذه الطريق امتياز الأمومة الكوني والحياتي . ورغم عملية السلب هذه فإن الإبن / الإله القمر ، يخلّ بالتزامه المركزي تجاه الأم / الإلهة المنهجرة ، فلا يرى ضمن واجبات الوفاء الحاسمة المناطة به إلا إضاءة عوالم حيوات مكونات الطبيعة ، غافلا دوره الحيوي الوفائي . وفي محاولة التفافية يغيب فيها الإحساس بالذنب ، نجده يعمد إلى عملية تبريرية ، موسعا دوره من جديد ، ومانحا نفسه سمة الاستجابة لـ " تكليف " مبكر يشبه تلك " العلامات " الأولية التي تبشّر بميلاد الإبن المنقذ ، فيرى أن النأي والسفر هو واجبه الذي كُلف به منذ طفولته ، وإن من المفروض بالأم - الآن - أن لا تعيق انطلاقته بالبكاء الوجل :

    ( دعيه يرحل لا تبكيه في وجل

    فمن صباه دعاه النأي والسفر - ص 89 ) .

    والمعادلة المتوازية التي أقامها الشاعر بين الأم الأرقة التي جافت النوم وابنها القمر الذي هجر لياليها وصار يعرف أنها تنتظر بلا رجاء ، تعكس تجانس المخاوف المتقابلة التي تجري تحت غطاء الليل .. فلا يترعرع القلق إلا في الظلمة .. والبنية الليلية هي بطلة هذه القصيدة .. وتحت أستار الظلمة تنمو المخاوف والهواجس وموجات الرجاء الممزوجة باليأس . الظلمة هي الفراق وسواد الخيبة وعتمة الإنهجار وحلكة محتويات صندوق الذاكرة الأسود :

    ( أتذكرين ..

    وكان الليل منسدلا

    على العيون

    سوى عينيك تنتظر ؟ )

    والإنتظار هو اختصاص الأم .. خصوصا الأم العراقية ومنذ فجر الخليقة ؛ الأم العراقية هي إلهة الإنتظار .. الإنتظار فن الأمومة .. في حين أن الغياب هو اختصاص الإبن ، وعلى امتداد القصيدة سنواجه معادلات وظائفية تتقابل بين الإبن والأم . الأم تنتظر الإبن ، وهذا واجبها ، لا ينفصل عن محن الإنتظار الحاكمة في حياتها .. انتظار نزف الخصوبة .. إنتظار علامات الحمل .. انتظار يوم هبوط " المنقذ " في الولادة .. وانتظاره المديد في تشوفات الإلتحام العصي والمحرم في ظلمات اللاشعور .. وانتظار انفصاله النهائي المستحيل فهو طفل اللاشعور مهما نما ونضج و" تكلف " بمهمات وجودية وحياتية . الأم تنتظر والإبن يغيب ضائعا مطاردا :

    ( ولم يعد

    وقتها لفته قافلة

    من الضياع

    ويعدو خلفه القدر

    أظفاره لم تزل بيضاء ناعمة

    وخوفه إن رأى الجدران .. يستعر - ص 90 ) .

    والحرية منجز أمومي .. ولهذا كان أول استعمال لمفردة " الحرية " في تاريخ البشرية ، وعلى أرض سومر ، في صورة مفردة " أمارجي " وتعني " العودة إلى الأم " كما يؤكد ذلك " صموئيل نوح كريمر " في كتابه " ألواح سومر " وكأن ذروة التحرر والأمن الذي حصل عليه الإنسان يتمثل في النهاية في العودة إلى الفردوس الرحمي الذي بالهبوط منه - ترى هل هناك موازاة صاغها اللاشعور الماكر بين هذا الهبوط وهبوط جدنا الآثم من الجنة بعد اقتراف الخطيئة ؟ - تنطلق صرخة العذاب الأبدي .. لكن في واقع الحال إن الأم ليست حرّة .. فهي مرتهنة بالإبن الغائب - كما تجسد ذلك القصيدة - الذي يريد تجريب أقصى حدود التحليق في سماوات " الحرية " التي منحته الأم صرختها الأولى في لحظة الوضع وعلمته مراراتها . الإبن / طائرها المحلق يخشى الجدران ، هو ربيب بيت القصب ذي الباب المشرع دائما :

    ( كطائر

    كان يخشى أن يحطّ بها

    يوما

    لتأسره أبوابها الكثر

    فكوخه قصب

    والباب مشرعة - ولا أعلم لماذا أنّث الشاعر مفردة الباب وهي مذكرة في القرآن ، قد يكون ذلك تحت تأثير الإنفعال بالمناخ الأنثوي - ص 91 ) .

    لقد خطفته - الإبن - قافلة الضياع بكل ما تعنيه من معاني الإنفصال القسري والتغرب والخيبة والخسران .. خسران العالم الفردوسي الذي يؤثثه حضور الأم .. ففي الذاكرة الطفلية لا أمل ولا اخضرار ولا نماء إلا بحضور الأم ، ولا أمن ولا اطمئنان إلا تحت ظلال عطايا رحمها الفردوسي المبارك ، وهذا ما فقده الإبن الضائع مرة واحدة وإلى الأبد :

    ( جاراه

    صفصافه الريفي والنهر

    كانت مراعيه حضنا حين يأخذه

    إليه يغفو

    فلا خوف

    ولا كدر

    وكان شعر صباياها إذا خطرت

    ريح الصباح

    على عينيه ينهمر - ص 91 ) .

    وفي هناءة هذه البهجة الفردوسية ، يأتي " أولئك " الذين صاروا وكلاء للمثكل في تهديم اللذات وتفريق الجماعات كما تصف سيّدة الحكّائين " شهرزاد " الموت عند ختام كل ليلة من لياليها ، وحاولوا تجريده من جوهر حياته .. ما يعبّر عنه بـ " الرائحة " التي تعادل حياته ..وهي رائحة الأمومة .. الأرض .. الوطن .. التراب الطهور .. ووجد ذاته - ومن خلاله نجد ذواتنا نحن أيضا - ومن جديد ، " يعقلن " ويبرّر ارتحاله .. وغيبته .. هذه المرّة ، ليس بنداءات النفي والسفر التي " كُلّف " بها منذ طفولته ، ولكن بمهمة أوسع إطارا وأغنى محتوى وأكثر جلالا ، وتتمثل في دور وطني أوسع ، فهو الآن مسيح يحمل صليبه / الوطن على كتفيه ويجوب به معذّبا ومدمى في دروب الضياع والإحباط :

    ( حتى أرادوا له أن ينضو رائحة

    أحبها حدّ أن يفنى بها العمر

    حطّ الشفاه على أحجارها قبلا

    وقال :

    كوني معي

    يا أرض يا حجر

    مضى يشيل على أكتافه وطنا

    ودربه : صفعات الريح

    والعثر - ص 92 ) .

    والياسري محترف شعر وليس من هواته .. محترف بمعنى الصنعة العالية الدقة التي تحدث عنها " هايني " شاعر ألمانيا العظيم بقوله : " يتحدثون عن الإلهام ، وأنا أعمل كالحدّاد " ، لهذا نجده - أي الياسري - يحتفظ بانتباهته الحادة لتوفير شروط وحدة قصيدته الموضوعية ليس في الثيمة المركزية حسب ، بل في تشكلات الصور اللغوية ايضا . فنراه يعود - في المقطع الرابع - إلى مفتتحه الخطابي : يا أم عيسى من ناحية ، ويختمه بالتذكير بالمراتع / المرجة ، وبالمطر كما سار في رسم مقطعه الأول ، ولكن في حركة إنعاش معاكسة ، فهناك سطوة الجفاف الماحقة وغياب المطر الذي جفّف ضرع الحياة بكل صورها ، وهنا فيض المطر الذي لا يخصب أرض الآمال الجدباء ، ولكنه يسقي مرجة حزن الأم : طفلها السرمدي :

    ( يا أمّ عيسى

    صحبت الحزن يافعة

    وقد هرمت

    وشاخ الظل .. والثمر

    وظل حزنك طفلا لاهيا أبدا

    يخيط أثوابه الإيراق .. والصغر

    كأنه مرجة ما جفّ مرتعها

    كل الفصول

    عليها يهطل المطر - ص 92 ) .

    والياسري عملي وواقعي في تعامله مع حزن أم عيسى ، فهو لا يلطفه ولا يزوّقه مثل بعض المذيعات المتفذلكات اللائي لا ينفكن عن ترديد النغمة الببغاوية في الفضائيات بأن الحزن العراقي ليس حزنا بل شجنا ، ثم تبعتهن مجموعة من " المثقفين " الذين لم يروا في وصف الحزن تكريما لصبر الأمهات العراقيات - ورمزهن هنا أم عيسى - الخرافي على عتبات أبواب الليل - ولاحظ سطوة الظلمة الآسرة - . ترى لو سألنا أم عيسى عن سرّ نداءات فجيعتها التي تجعل الريح تنذعر من هول شهقات بكائها على ابنها الغائب ، وأجابت : والله عندي شجن الليلة !! فأي سخف تعبيري هذا ، وأي استجابة باردة هازئة ومفتعلة تثيرها في نفوسنا ؟ . ومن مفارقات اللغة العربية هو أن مؤلفي قاموس المنجد كانوا حائرين في تعريف لفعل ( حزن ) فقاسوه على معنى الفعل ( سرّ ) فقالوا : حزَن حُزنا : ضدّ سرّه . ، وحزِن حَزَنا له وعليه : ضدّ سُرّ وفرح فهو حزين ( الصفحة 131 ) ، وعندما جاءوا إلى الفعل ( شجن ) قاسوه على الفعل ( حزن ) فقالوا : شجِن شجنا وشجونا : حزِن ( الصفحة 375 ) . وصحيح أنّ الشجن يعني الهمّ ، لكن وقع المفردة النفسي أخف من مفردة الحزن التي يتبادر إلى أذهاننا معنى الإكتئاب والأسى والثكل والسواد والدموع . أما بالنسبة للياسري ، فإن الحزن العراقي هو حزن من الوزن الثقيل ومع سبق الإصرار والترصد . هو حزن لا تنفع معه أي محاولات تلطيف .. حزن أسود وقاتم وثقيل .. حزن تقاسم إرثه الخانق مع أمه المفجوعة ، هي هناك ، وهو هنا ، ولكن أي " هنا " : هنا المنافي ، و" هناك " رداء الحزن الأمومي الذي يلبسه نخل العراق وحقول قمحه وشجره ، وقد قلت مرارا أن علينا أن نتخلص من أخدوعة العبارة النمطية التاريخية التي تسمي العراق بأرض السواد لأن البدوي الساذج الآتي من الجزيرة شاهد أرضه سوداء من بعيد بسبب كثافة غابات النخيل . أرض السواد هي نسبة إلى ثقل الأحزان الجسيمة والمرعبة التي كتبت على جبين هذه الأرض ، وإلا فإن الهند ستكون في ناظري البدوي العتيد أرض سواد أشد بسبب غاباتها الكثيفة المعروفة :

    ( يا أمّ عيسى

    أوحدي من تفارقه

    أمّ

    لتجعل هذي الريح تنذعر

    تظل تشهق طول الليل باكية

    فتشهق الروح في المنفى

    وتنعصر

    الأمهات رداء الحزن يلبسه

    نخل - العراق -

    حقول القمح

    والشجر

    لا أمّ في أرضه إلا وقد جلست

    ثكلى

    على عتبات الليل تنكسر - 93 ) .

    لكن الياسري - ولا أدري كيف يموت المؤلف وعيسى حاضر ، بل حتى أمّه الحقيقية في ساحة النص ، حاضران بلحمهما ودمهما الحي النابض ، ولا يمكن فك شفرات حزن النص المميتة دون أن يحضرا ونتعرف عليهما بدقة في المخيلة القرائية ؟ - لا يستطيع مراوغة مشاعره واللعب عليها طويلا حتى لو استدرجته إليها إغواءات توسيع الدور الأسطوري ، وذلك لأنه صادق ، وقابل للغواية بفعل الطفل الصغير ، والصغير جدا الرابض في أعماقنا ، والذي يرفض أن يكبر وينفصل عن حضن الأم نهائيا ، بل هو يصر على البقاء طفلا ( العبقرية هي الطفولة المستعادة قصدا كما يقول بودلير ) لأنه يدرك من حيث لا يدرك أن سرّ إعجازه الشعري يكمن في هذه الطفولة المستبقاة عمدا ، ولهذا نجده - ومن حيث لا يشعر - يعلن انكساره الطفلي الحيي الباهر بعد أن امتلأ طويلا بالواجب الكوني والوجودي ، وبنداءات الرحيل المبكرة التي تشبه التكليف الرسولي . يعود إلى هشاشته البشرية القابلة للإنجراح ، يصرح بها بلا لبس ، بل بنزوع حقيقي يؤكد دور الأمومة - الأصل - الولاء الثابت ، العزوم الذي لا يخضع لتبريرات أو تخريجات مهما كانت محكمة ، (وهل في إنهاكات الجنين عذرا للتخلي عنه ؟؟ ) مقابل تقلبات دور الإبن التي تحكمها تغيرات استجابات موقفية ومصلحية :

    ( تقول لحظة توديعي :

    أتتركه ؟

    أقول :

    رحماك يا أمي أنا بشر

    لست المسيح

    وما كنت الحسين أنا

    حتى أراه

    فلا أذوي وأنذعر

    ما كان قلبيَ يا أمّاه من حجر

    حزن العراق

    له الأحزان تعتذر - ص 94 ) .

    الآن نزل القمر المؤسطر المتعالي - حتى على تربة أصله - إلى أرض واقع العجينة التي شكل منها .. فلا مهمات أسطورية .. ولا فذلكات خرافية .. ولا دور ذي أبعاد كونية . عاد عيسى في هذه اللحظة بشريا وأرضيا ، لا قمرا غادر البلاد لأنها لم تعد تحوي شيئا يضيء له .. ولا " منتظرا " كتب عليه النأي والسفر .. عاد يتوسل - كما هو متوقع من ابن عراقي بار - خيمة الأمومة الصابرة كي تمد ظلال عطاياها الباذخة فتشمل بعطفها لا هو حسب ، بل كل رفاقه المتغربين المنفيين . فهي أم الجميع ، وبهذا المعنى فقط تعود الأم لتكون هي المؤسطرة / الأصل ، الأم العشتارية التي تتسع عباءتها لكل الأبناء المعذبين المنخذلين ، بعد أن حاول الشاعر /الإبن عبثا،انتزاع امتيازات الدور الأمومي الكوني "مقلوبه" كما فعل جدّه"دموزي" بمباركة مكبوتات اللاشعور الجمعي التي تحاول الخلاص من سياط العذاب عن أي طريق حتى لو كانت مخالفة لوقائع مؤصلة ومرهونة بحقائق الحياة :

    ( يا أمّ عيسى

    وعيسى كلّ مغترب

    أضاع أمّا

    فأوهى عمره الضجر

    كوني لهم أمّهم

    صلّي لوحشتهم

    كما تصلّين لي إذ يطلع السحر

    لقد بعدنا وهذي الريح باردة

    فلتدخلي البيت

    عبّي كأس من صبروا - ص 95 ) .

    لكن القمر الإبن لا يكتفي بالنزول المذعن إلى أرض حقيقته الواقعية المؤصلة أيضا حسب ، بل يوغل في التكفير الإعترافي الذي يحاول إطفاء جذوة جمرة الإحساس بالإثم التي خلقتها محاولته الخلاصية التحليقية الجامحة في استهلال النص / الفعل الإبداعي / الحلم ، فيذهب " بعيدا في طحين " البراءة الأولى ؛ براءة الإنكسار الطفلي البيضاء ، التي لا مصلحة شعرية أو نفسية فيها . براءة لوجه البراءة ، وفي هذه الحال لابدّ أن تكون اعترافا نهائيا لا شائبة عليه ، وإقرار بحق الأنوثة/ الأمومة الأزلي ؛ هذا الحق أول من يدركه الشعراء الأبناء النجباء في لاشعورهم . هذا ما يشتمل عليه المقطع الثامن مضمونيا ، ولكن هذا المقطع يثير في مواجعنا كل خلاصات الألم الفاجع في القصيدة . وفوق ذلك فهو يحرك موقفا نقديا تقييميا يتعلق بفرادة الصورة الشعرية المذهلة التي صاغها الياسري . فإذا كان الدكتور إحسان عباس في كتابه عن السياب الكبير قد اعتبر الصورة التي رسمها السياب للكيفية التي تنسج فيها إبر الرغبة الآثمة نسيج بيت الإغواء العنكبوتي حول حشود العابرين منطلقة من الألحاظ الماكرة واحدة من أجمل الصور في تاريخ الشعرية العربية :

    ( كأن ألحاظ البغايا

    إبر تُسل بها خيوط من وشائع في الحنايا

    وتظل تنسج بينهن وبين حشد العابرين

    شيئا كبيت العنكبوت يخصّه الحقد الدفين

    حقد سيعصف بالرجال )

    فإن الياسري يقدم - مع الفارق المضموني طبعا - صورة ينبغي وضعها ضمن إطار الصور الشعرية العربية النادرة . صورة إعجازية يعز نظيرها في الشعر الحديث . وأهم ما فيها أنها مخلصة للموروث الشعبي العراقي وخصوصا في مجال الشعر الدارمي الحافل بتعبيرات " التضاد العاطفي - AMBIVALENT " التي تتسم بها الشخصية العراقية ، وليس الإزدواجية الشعبية التي وسمها بها العلامة الراحل " علي الوردي " . شعر عيسى - وهذه من سمات قوته - هو شعر شعبي جزل مسبوك بالفصحى . لقد وجد عيسى طريقه الأسلوبي المتميز بعد أن أدرك بحساسيته العالية أن تيارات الحداثة وما بعد الحداثة التي يتمحور جهدها الأساس حول مركزية إلغاء الحضور الإنساني بأي طريق و " تشييئه " لتمهيد الطرق لغزو العولمة التي لا تعيش مع الاختلاف والخصوصية ، وتنتعش بالتجانس والسطوح المتساوية ، حتى حركة " الأواني المستطرقة " في العلاقات الإنسانية تضر حركتها الغازية رغم بساطتها . إن الصورة التي رسمها " مبضع " عيسى الشعري ، وهو مبضع جارح شديد الوطأة ، تصوّر التناقض الوجداني بشكل مدمّر ، تناقض عاطفي بطلته وضحيته في الآن نفسه الأم العظيمة الممتحنة :

    ( ربّيت يا أم عيسى مثل من حملت

    في كفها الماء

    أو في عينها الإبرُ

    تسرّب الماء إن فكت أصابعها

    وإن تحرّك جفناها

    شكا البصرُ - ص 96 ) .

    المقابلة بين المكونين : الإبرة الفولاذية المسبوكة من أعظم المعادن لإنجاز مهمة صغيرة ، والماء اليومي السائل البسيط الذي لا غناء عنه لديمومة حياتنا ، هنا تتواجه سمات متناقضة في الظاهر لكن الشاعر يطابقها في فعلها المجازي وبفعل خلاقيته الشعرية العالية ، فيجعل الحديد أخا للماء ، ورفيقا موجعا في النتائج المدمرة . إنها حيرة الأم التاريخية والنفسية التي لا حلّ لها . العين المشبوحة التي ابيضت من حزن الإنتظار الذي لا نهاية له ؛ إنتظار الإبن القمر الغائب ، والكف المتعبة والعنيدة القابضة على وشل قطرات ماء الأمل ، أمل العودة المستحيلة . وبالعودة إلى محنة الإنتظار المفتوحة ، يغلق الشاعر دائرة قصيدة العذاب فيختمها بما يعيدنا إلى بيت الإستهلال ، وهكذا ينسج الشاعر وحدة قصيدته ببراعة حدّاد مثل هايني :

    ( وحين تعبرك الأيام لن تجدي

    سوى ليال نأى عن أفقها القمرُ - ص 96 ) .

    وحين تحدثنا في الإستطلاع التمهيدي عن أن الحضور الأنثوي الباهر في مجموعة عيسى ( أناديك من مكان بعيد ) هو تمظهرات فعلية وتعبيرات رمزية عن حضور الأم الوجداني والنفسي اللاشعوري خصوصا ، فإن هذا الإستنتاج قد وجد تطبيقه " المباشر " إذا جاز التعبير في قصيدة " يا أم عيسى " . لكن هناك تجسّدات أخرى يلعب عليها الشاعر بمهارة وذكاء ، منها ما هو من بدائل الأمومة مثل خالة الأم في قصيدة " زيارة الخالة حليمة " التي يربط في مقطعها الإستهلالي الأول وبصورة مباشرة بين أمه وخالتها ، وهي رابطة مزدوجة من الناحية النفسية ، حيث تلعب الخالة دور الأم بالنسبة لأم الشاعر :

    ( إلى الطرقات المتعرجة

    تلك التي تربط قريتنا بـ " كميت "

    تتجه عينا أمي

    كلّ مساء - ص 55 )

    والأم تدخل هنا - وضمن اختصاصها التاريخي وبتخطيط من الشاعر - لعبة انتظار جديدة ، لكنها تجاه " الأم " البديلة ؛ الخالة التي يضفي عليها الشاعر صفة الطول الفارع ، طول الشجرة الرمز ، شجرته التي أهدى إليها قصيدته السابقة ، ويمنحها امتياز " الحكّاءة " ، والحكاية فن أمومي أصيل ، ولكل امرأة روايتها ، بل كل امرأة " حبلى " بروايتها الخاصة كما يقول الناقد " جورج طرابيشي " :

    ( هناك تقطن خالتها

    الخالة - حليمة -

    ذات الطول الفارغ

    وحكايا الليل المدهشة - ص 55 )

    والشاعر في الواقع يستعيد " حكايته " الخاصة ، حكاية طفولته ، أيام كان يصطف مع أقرانه منتظرين قدوم الخالة المباركة الفارعة الحكّاءة ، التي تملأ لياليهم بالدهشة والأرق الملذ ، والأهم الغبطة التي تعيشها الأم في تلك الليالي الرائعة :

    ( في تلك الليلة

    يقف النوم بعيدا

    وتلبس أمي سحنتها الفرحة - ص 56 )

    قد تكون الأم ، أم الشاعر ، تعيش لحظة الإنتشاء الطفلي في اللقاء بالأم . فمهما كبرت البنت وصارت أما تبقى تلوب في داخلها تلك الحاجة الأصيلة نحو الرحم الفردوسي الحاني ، وعناية الأم بوليدها تعكس في جوانب كثيرة منها الكيفية التي كانت تتمنى أن يُعتنى بها فيها وهي طفلة . ويتجلى انتشاء الأم بالحضور الأمومي الباذخ في ما يشبه " النكوص " النفسي الذي تكشفه أمنية " كونية " تحاول فيها تسخير تحولات الطبيعة وفق مشيئة رغبتها ليصبح العالم بأسره حضنا دافئا ومكافئا للرحم الحاني الحامي :
    ( أمي

    تتمنى في تلك الليلة أن

    تنهمر الأمطار

    وأن يبقى نهار اليوم التالي

    يواصل إغفاءته - ص 56 )

    لكن يبدو أن قدر الإفتراق والنأي هو من الأقدار " المكتوبة " على جبين المسرّات العراقية ، فلم تتح لهذه الصلة الحميمة بالخالة أن تدوم ( ما كان يقربنا ... صار بعيدا ) ، ويوظّف الشاعر من جديد موروثا شعبيا متداولا يصف التشتت القاسي الذي يصيب الأحبة ويضعهم كل واحد ( حدر نجمة ) :

    ( صرنا نقطن تحت نجوم

    متفرقة

    لكن الخالة ظلت تعرف

    طرقات منازلنا

    كما يعرف الطائر طرقات مشاتيه - ص 56 )

    ولكن يبدو أن حفاظ الخالة على أواصر التواصل مع " أبنائها " هو مرحلة انتقالية قبل أن يعم الخراب الشامل الذي لا يمحو دروب الإلفة حسب بل يمحو الأحبة أنفسهم ، لا يمسح ، بلا رحمة ، وبلا هوادة ، طرقات مشاتي الطائر ، بل يجتث الطائر نفسه . الشتاء هو الفصل الحاكم في حياة الياسري الإبداعية والفعلية . له حضوره الحاكم من خلال كونه فصل التلقيح الكوني الذي تقوم به السماء للأرض / الأم بعد جدبها الصيفي . الفلاحون أبناء الشتاء أصلا رغم البرد والأمطار تختزن الذاكرة لحظات الدفء الحميمة قرب المواقد ، لحظات الإلتصاق بالأم ، والحكايا الأمومية الشهرزادية في ليله الطويل البارد . هل ابتكرت الأم " روايتها " وهي راكعة قرب مهد وليدها أم وهي تطمئن نفسها ونفسه قرب الموقد في ليالي الشتاء المظلمة لتطفيء قلقها وقلقه ؟ حتى الآن يتذكر الشاعر خالته التي رحلت مرتبطة بحكاياها وبضحاتها المجلجلة :

    ( إني ... وحتى هذي اللحظة

    ومنذ رحيلك أيتها الخالة

    مازلت أتسمع ضحكتك المجلجلة - ص 57 )

    ومع قرب سطوة المثكل الساحقة والمهيبة على أجواء حياة الشاعر وذكرياته ينسى الشاعر تماما أن المرتكز الثاني لحكايته هو الأم ، التي بدأ قصيدته بانتظارها اليومي لإطلالة خالتها الفارعة . بالعكس نجده يتحول إلى علاقة مناقضة في الجوهر النفسي بين الخالة والأب ، يسترخيان فيها بلفائفهما وأحاديثهما بعيدا عن متاعب العالم القاسي المحيط بهما :

    ( وأرى كيف يبادلك أبي الراحل

    لفافات التبغ

    وتبتعدان كثيرا في أحاديثكما

    عن تعب هذا العالم - ص 57 )

    لكن العذر البنائي مبرر ؛ فالخالة هي محور القصيدة ، وقد رحلت الآن ، ثم رحل الأب كما يشير المقطع السابق .. والأشد مضاضة وفجعا هو أن كل من كانوا يحتفون بليالي الخالة الشتوية ؛ بحكاياتها الرائعة وضحكاتها المجلجلة وحضورها الدافيء قد رحلوا أيضا .. ويترتب على ذلك خواء في الزمن نفسه . لاجدوى قدوم الليل الشتوي ذاته .. خواء حضوره حينما صار يأتي ليواجه بالوحشة والإنهجار والفراغ البشري ، فيغادر خائبا خجلا ، هكذا ينتصر زحف المثكل حتى على الزمن الجبار الذي يشعر الإنسان بضآلته أمامه عادة :

    ( أكثر من ليل شتوي جاء

    كضيف خجل

    وسريعا ما غادر

    لقد رحل من كانوا

    يحتفلون به - ص 57 )

    وهنا تقوم مغادرة متقابلة كأننا في يوم الفزع الأكبر ، البشر يهربون .. والزمان يفرّ ..

    وقد قلنا في الدراسة التمهيدية أيضا أن أي توسيع لدور أي أنموذج أنثوي - الحبيبة الزوجة ، البنت ، الأخت - سيحيل هذا الأنموذج - عبر المراجعة اللاشعورية المختزنة - إلى الأصل المرجعي الحاكم وهو : الأم . فعطايا الأمومة - وخصوصا هناءات رحمها المنعم التي نغفو في ظلالها اتكاليين بلا عناء أو رهق - هي التي يقاس عليها عطاء أي أنموذج أنثوي لاحق في مراحل حياة الفرد التالية . إن الأم كأول أنثى في حياة الإنسان ، تتعزز مهابتها في وجدان الفرد بسمات آلهة في المرحلة الطفلية التي تمتاز بالإعتماد الكلي . وليس عبثا أن أول إله تمت عبادته في تاريخ البشرية كان امرأة . فوق ذلك فالأم هي موضوع الحب الأول الذي تحفظ صورته في طيات لاشعورنا بصورة كامنة لكن فاعلة ، تصحو في أعماقنا مع اقتراب خطى أي أنثى من دائرة وجودها الحساس ، الوجود الحي الذي لا يموت حتى بعد فنائه ، فنقيس عليها سمات الصورة الجديدة . ومن مفارقات العلاقات الزوجية أن الزوج - في كثير من حالات التصافي الرائقة - يعلن امتنانه وحبه لزوجته بالقول : أنت أمّي وكل شيء في حياتي !! . ولسنا بمجانبي الصواب إذا قلنا أن كل العالم الجمالي الذي يؤسسه الإنسان لاحقا يتأسس على خبرات علاقة الطفل بأمه ، مترافقة وممتزجة - وإن بدرجة أقل - مع خبرات العلاقة بالأب . في قصيدة " كعصفور غسلته الأمطار " المهداة " إلى - ب - نجمة الغروب " ، يشي الإهداء بالسمو بموضوع الحب والإرتفاع به من الأرض إلى السماء ليكون نجمة غروب تتلجلج وتتردّد في إطلالتها الساحرة فلا تبين تماما وهذا من نتائج التضاد الوجداني المحارمي أولا ، وهي بلا محدّد مكاني أو فضائي قاطع بعد تقادم ظلمات الليل وهي الحركة الإلتفافية التي تموّه موضوع الحب ثانيا . يستهل الشاعر قصيدته بوصف البهجة الطاغية التي يعيشها الرجل من دون أن نمسك بدافع هذه البهجة الكاسحة التي تمتد موجاتها لتشمل الكون كلّه ، بعصافيره وزهوره وفراشاته وأشجاره . وهذه العدوى الإنفعالية هي من نتائج " القدرة الكلية - omnipotence " الطفلية ، التي تغيّر رغباتها وهيجاناتها العاطفية موجودات الحياة ومكونات الكون وفق اتجاهاتها :

    ( كعصفور غسلته الأمطار

    كزهرة حطّ على شفتيها سرب فراشات

    كشجر قارة قطبية أدركه

    ربيع بكر

    انتفضت أغانيه من بين شفتيه المطبقتين - ص 50 )

    وفي نقلة تفسيرية متراخية يحاول الشاعر رسم صورة مكملة لكنها توحي بالإستقلال ، يجعل المرأة - التي يخاطبها الشاعر مباشرة في حين تحدث عن الرجل بضمير الغائب - تقف بحضورها البهي إلى جوار الرجل في تألق تأثير هذا الحضور على حركة مكونات هذا الكون ممثلة بالنجوم الشاحبة التي ستتلألأ على خلفية الجدائل الحالكة - وليست شديدة السواد ليضفي عليها سمة من سمات الليل ليدمج الحضور الأنثوي بمكونات اللوحة الكونية - :

    ( إلى جانبه كنت ترخين جدائلك

    كانت جدائلك حالكة

    مما يجعل حتى النجمات الشاحبة تضيء - ص 50 )

    هذا الوجود الساحر يدفع المحب إلى التأمل .. التأمل الذي يلكز الغريزة فتصحو في صورة تطافر طيور المخيلة مثل مطر الليل المنهمر - ولاحظ أن مطر الليل أكثر جمالا ، تشكيليا إذا جاز الوصف ، من مطر النهار - في لمعانه المنوي في أحشاء رحم الليل الأسود :

    ( لحظة تأملك

    كانت تتعاقب عبر مخيلته طيور

    أكثر ألقا من

    مطر الليل - ص 50 )

    حضور " يعيد " .. وفي الإعادة الذاكراتية - والذاكرة أم - تتجسد مفردات جديدة في حياة الرجل .. مفردات محملة بالجمال والمتعة التي لم يألفها من قبل في حياته السابقة ، فالحدائق تحتشد بربيع لم يره من قبل ، وبحيرة العينين الداكنتين يتألق فيهما قمر عجيب . لكن من هو رجل هذه المرأة الفريدة ؟ . هنا يقلب الشاعر معادلة السعادة الرخية التي أسسها في أذهاننا إلى الآن ، والتي انبنت على حضور المرأة الإنقلابي الذي غير حياة الرجل جذريا . نفاجأ الآن بمشهد موحش دخيل ، فالرجل في هذه اللحظة الشعرية ، راع يجلس وحيدا منعزلا .. يحيا من دون حبيبته ، بل هو يعد للقائها العصي الذي لم يتحقق ، أو لم يستعده إلا من محتويات ذاكرته ، أو خيالاته التي تبغي تعويض خيباته :

    ( وحيدا يجلس ذاك الراعي

    ذو الأثواب البيض

    كشمس ظهيرته

    لقد غادره الأصحاب

    وأماسي أيلول

    ومازال يرتب للقائك

    أعيادا فرحة - ص 51 )

    ولو راجعنا أغلب قصائد الياسري فسنجد أن من سماته الأسلوبية هي أنه يحكم تماسك مقاطع قصائده ، وبالتالي القصيدة ككل من خلال الطرق على المعاني الدلالية والرمزية لمفردة معينة أو إعادة توظيفها بالمجاورة فتبقى السلسلة في ذهن القاريء متصلة . ففي المقطع الأول من هذه القصيدة لعب على الرجفة اللذية الهائلة لشفتي الزهرة التي حطّ عليها سرب فراشات ، ولشفتي العاشق الراعي الذي اتضحت هويته الآن بانتفاضة أغانيهما المحمومة . حصل هذا في مقطع واحد . لكن في المقطعين السادس والسابع يشتغل الشاعر على " البياض " : أثواب الراعي البيض التي تشبه شمس ظهيرته في المقطع السادس ، وبكاء الدراويش الأبيض لحظة يأخذهم السكر . أما مفردة النجوم فإنه قد وظفها أولا في المقطع الثاني عندما جعل جدائل الحبيبة الحالكة " أرضية - ground " تتألق عليها حتى النجوم الحالكة كـ " شكل - figure" في تجانس متقن حسب أطروحات " الجشطلت " . لكنه يقدم أفكارا صوفية حسّية إذا جاز التعبير عن النجوم في المقطع الحادي عشر :

    ( ما كنت أحسب أن النجوم هي الأخرى

    تحب النوم بأحضان الأرض

    النجوم ثمار الله السماوية

    خمرة قدّيسيه

    وأغنية من لا شفاه لهم - ص 53 ) . ونعود في خاتمة هذا المقطع إلى مقابلة الأغنية والشفاه التي انتفضت في المقطع الإستهلالي . والصورة التي يتساءل فيها الشاعر عن دهشته لأن النجوم تحب النوم في أحضان الأرض لا تجاريها سوى صورة " بوريس باسترناك " في إحدى قصائده والتي يتحدث فيها عن العربة التي تدوس على النجوم في الطريق الطيني . أما في المقطع الثاني عشر والأخير فإن الرجوع إلى رمز النجوم سيكون ختاما لمسيرة الفقدان والخيبة . فبعد أن يتحدث الشاعر عن الراعي العاشق ذي الأثواب البيض والذي يرتب أعيادا فرحة للقاء حبيبته ( المقطع السادس ) ، وبعد أن أحال جسد الحبيبة وحضورها واستجابة العاشق لها إلى عرس كوني ( من المقطع الأول حتى السادس ) ، يهبط بنا إلى قعر منخفض الكآبة والإحباط وبصورة مباشرة ، كاشفا إنهيار الراعي الوشيك بلا سبب مباشر يبرّر هذا الإنفعال السوداوي المريع لمحب يزّين أيام إنتظار اللقاء الموعود رغم أن أصحابه قد غادروه وبات وحيدا :

    ( ببكاء - الدراويش - الأبيض

    لحظة يأخذهم السكر

    كان يبلل لحيته

    وذؤابات الشعر الأجعد

    لقد كان وشيكا أن يتداعى - ص 52 )

    ولا يكتفي الشاعر بتعطيل كشف هوية الرجل المتيّم حتى المقطع السادس ، بل يقوم بنقلة مهمة ومغيّبة حين يخاطب الحبيبة مباشرة سائلا إياها :

    ( هل قال لك أحدهم

    أنك أجمل مما أبدعه من رسموا

    وجهك فوق لحاء الأرض

    ودفاتر الماء ؟ - ص 52 )

    وهنا يرقى توسيع الحضور الأنثوي أقصاه ليحصل على امتيازات البهاء الأمومي وفق الاشتراطات التي أشرنا إليها . لا تنسرب أنثى في دفاتر الماء ولا تنرسم على لحاء رحم الأرض إلا إذا كانت تمظهرا لأمومة . فقط الأم العشتارية هي التي منحت هذه الامتدادات الكونية الخارقة . أنثى تكون أرضا وشجرة ونجوما وحدائق وبحيرات وجدائل تبزغ منها النجوم . لكن هذا التساؤل المندهش ( في المقطع الثامن ) الذي يوجه إلى الضمير الثاني ، تعقبه حركة كشف مضاعفة لهوية العاشق ، فهنا ( في المقطع التاسع ) يحصل " تماه " وتطابق بين الراعي والشاعر ، يدخل الشاعر بنفسه إلى ساحة القصيدة ، ويحل ضمير المتكلم / الضمير الأول ، ويصدح الأنا الذي يضبط كفتي ميزان الحضور بصورة شديدة التوازن فلا يتردد في إعلان الأصل الأمومي لأنثى لحاء الأرض ودفاتر الماء :

    ( أنا سأقول لك هذا

    وأقول لك أيضا

    أن جدائلك تشبه ليل قراي

    وأن لك رائحة كوخي - ص 52 )

    ولا يتأجج ألق بياض الإشتغال الشعري للياسري - كما قلت - إلا تحت استار الظلام . وهي سمة أسلوبية راسخة في منجزه الشعري . مثلما يمكننا القول - وكسمة أسلوبية بارزة أخرى - أن الياسري " فلّاح " شعري ، كل أدواته الشعرية ؛ لغة ورموزا وصورا هي أدوات ومفردات لظواهر " زراعية " إذا جاز لنا القول . من نصوصه تفوح رائحة الأرض بملحها ونمائها وتشققاتها ونتاجاتها المباركة . وفي نصه تزدهر حركة الفصول وتحولات الطبيعة وتصارع مكوناتها الخلّاق . هنا - وفي المقطع العاشر - يصدمنا الشاعر بجرعة جديدة من الخيبة الصارخة بعد أن أنعش نفوسنا في المقطع السابق وهو يضيف إلى الصورة الأمومية الكونية التي رسمها المبدعون أبعادا ساحرة أكثر اتساعا . ولا أعتقد أن هناك قصيدة للشاعر في هذه المجموعة لا تنتهي بالركوع عند قدمي السيّد المثكل ، والتسليم بحكمه ، تسليما هادئا لا تشوبه شائبة احتجاج أو تمرّد . ( هل عيسى ميت في الحياة ؟؟ أعتقد أن هذه نتيجة متوقعة من نتائج الإنخلاع من حضن الأم / الوطن / نيسان / أبو بشوت . فما الذي بقى في حياته من " مدّخرات " يستعين بها على التعامل في سوق الخسارات المعتمة ) :

    ( كانت أمسية معتمة

    المصابيح مطفأة

    الخريف يترك بصمات شاحبة فوق

    وجوه المسنين

    المسنين الذين اتخذت منهم وطنا - ص 53 )

    هكذا تزدهر أشباح الخراب : الأماسي المعتمة ، والمصابيح المطفأة والوحدة وآثار بصمات الخريف الجارحة على الوجوه المتعبة ( لاحظ أخاديد وجه عيسى .. وجهه أرض الجنوب التي شققها القهر !! ) ، خراب يتأسس عليه بلا عناء وبرهاوة " الفراغ الفاجع " كما يصفه الشاعر .. فراغ لا يمكن أن تشغله أية نجوم أخرى بعد الفقدان الجسيم لنجمة الحياة ؛ نجمة الأمومة . وهنا نصل الاستخدام الأقصى لرمزية النجوم ملتحمة بنسيج البناء الخرابي المتراكم الذي امتد عبر المقاطع الإثنى عشر متناوبا مع جرع إنتعاشية تأتي كنوبات وجيزة مربكة . لكن في النهاية لا حكم إلا للموت ، الحي الذي لا يموت :

    ( هناك فراغ فاجع

    تشغله نجوم أخرى

    فراغ سيبقى معتما

    وملفعا برياح ساخنة وملحية

    لأنك غائبة ، وبعيدة ، ومطفأة - ص 53 )

    لكن التوظيف الخارق ليس الفعل الذي تحكمه أواليات قبل الشعور التي حللنا نماذجها سابقا ، لكن الفعل اللاشعوري الأصيل ، بألعابه الخلاقة ومصائده الماكرة ، هذا الفعل " الحرّ " المسؤول عن المنجز الإبداعي بأكمله ، رغم أن هذه الحرية المطلقة لا تتعارض مع الحركة الرقابية التالية للشعور / الوعي ، وهي بدورها مسخرة - من حيث لا تعلم - لخدمة المخططات الرغائبية اللاشعورية من وراء ستار . يأتي النص / القصيدة في غاية " البراءة " ، لا شبهة صارخة عليه ، ولا يمكن الإمساك به متلبسا بغير قصديته " البيضاء " الظاهرة . لكننا سرنا في منهجنا على أساس معاملة النص الإبداعي كنص حلمي له " معنى ظاهر - MANIFEST CONTENT " شديد البراءة ، وقد يثير التهكم أوالتعاطف الحاني في أفضل الأحوال ، وله " معنى كامن - LATENT CONTENT " شديد الدهاء ، سرديا ورمزيا صوريّا ، يمرّر تحت أغطيته أشد الرغبات مكرا وسمّية . وهناك " عمل الحلم - DREAM WORK " الذي يوازي عمل الشاعر في تنكير الرغبات اللاشعورية - وأغلبها مكبوت ومحرّم ، ولا رمزية إلا لمكبوت كما يقول " إرنست جونز " - وتسريبها في المضمون الظاهر " النص " بأدنى درجة من الحساسية النقدية التي تفرضها سلطة الأنا الأعلى ( هل يستطيع الناقد الإمساك بالمسكوت عنه إن لم تكن لديه كبوتات مثل الشاعر ؟ لن يموت المؤلف ) . وعليه فإن الجهد الشعري السابق الذي انتقل من مخاطبة الأم / شجرة الشاعر واستعراض عذابات عمر الشاعر في علاقته معها كممثل للأرض والأصل والوطن / العراق وأحزانه التي تعتذر لها أحزان الأرض ، ومرورا بنجمة الغروب ؛ النجمة التي اتسعت لتكون كونا وزمنا ماضيا رخيا وحاضرا مهيب العناءات ، وفي الحالتين تستطيع البصيرة المتفتحة لأي قاريء الإمساك بعقد التمظهرات الأمومية الحبية مع ثقافة نقدية راكزة ومعقولة . لكن الشاعر - والشعراء يتبعهم الغاوون - قادر على أن يضرب على أوتار معروفة لتقدم أنامله نغمات غير متوقعة . يتضح هذا الإقتدار في قصيدة : " هذي الكأس " التي لا أعتقد أن عنوانها يستعصي على الإدراك المباشر من حيث صلتها بالخمرة . فكأس الماء من الدونية والمهانة بحيث لا تستأهل أن نكتب عنها قصيدة ( لتتذكر أيها القاريء أن لا رمزية إلا لمكبوت ) تستنزف من الشاعر جهدا ودما وعواطف عاصفة . يمكن أن نشكر الله الذي جعل من الماء كل شيء حي ّ، لكن الماء بحد ذاته ومجردا عن رمزيته الإخصابية الذكورية أو الرحمية الأنثوية مثلا ليس موضوعا شعريا . والعنوان هنا في غاية البساطة " هذي الكأس " ؛ إشارة إلى كأس ماثلة أمام الشاعر ، وفي تصوراتنا المرجعية التقليدية لا تزيد الكأس عن أناء يشرب فيه ( والكأس لغةً هي الخمرة !! ) . لكن أي حدود يمكن أن يقف عندها الشعر ؟ وعند أي تخوم يصطدم الشاعر بنفاد توليداته ؟ . لا حد .. لا حد .. أبدا .. أبدا . يقول النواسي :

    شف الزجاج وشفت الخمر وتشابها فتشابه الأمر

    فكأنما خمر ولا قدح وكأنما قدح ولا خمر

    أين تنتهي سلسلة معاني الكأس التي صارت وعاء لدم الكرمة ؟ .

    ليس الياسري قاصرا عن مجاراة هذا اللعب المدوّخ الأخّاذ والذي يستولي على مداركنا . الياسري شاعر عبّاسي حديث !! . ببساطة يستهل قصيدته ليشرح لنا مواصفات كأسه الخارقة هذه . فهي لا تشبه أي كأس " بشرية " نعرفها :

    ( ليس هنالك ما يشبهها

    لا الغدران الصافية

    لا زبد البحر

    ولا حتى مرارة أشجار الدفلى - ص 64 )

    أي كأس هذه التي لا يعدلها لا زبد البحر ولا الغدران الصافية . إنه تقرير ابتدائي جازم يمنع المراجعة ويقطع الطريق على التدقيق من خلال أربع " لاءات " نافية حازمة .

    ومثلما قلت سابقا فإن مقتل النص حين يكون الشاعر " خدرا " ومغيّب الإنتباهة معتقدا أن التطويح بالوعي يعينه على تفجير مخزونات لاشعوره مثلما كان بعض الشعراء الأوربيين يفعلون باستخدام عقاقير الهلوسة - LSD التي أنتجت خدعا شعرية باهرة لكنها لم تنتج شعرا باهرا . الشعر وليد الوعي الحاد المستقيم الناجز لا الرؤية الضبابية المشوشة والكحولية . حتى بودلير الذي " تعاطى " كل شيء كان يكتب القصيدة بكامل وعيه وحدّته . إذن " هذي الكأس " التي ليس هنالك ما يشبهها ليست كأس الخمرة العادية ، فهناك الكثير من الأكؤس التي تشبهها . والشاعر ذاته يعيد تأكيد الحقيقة المموهة عن كأس سعتها بسعة الكون تتسع لحقول ولزوارق ولأصدقاء :

    ( لم أعرف كأسا تتسع لكل

    دنان الخمر

    لحقول شاسعة

    لزوارق عائدة بأشرعتها من الصيد

    لأصدقاء يتحلقون على مائدتها - ص 64 )

    إنه حضن بسعة أرض وبحر . هي الكأس الخلاصة ( ولاحظ أن الرحم الأنثوي يشبه شكل الكأس المقلوبة ) التي تلف الوجود بنعمائها . لكن التوسيع الذي أصر عليه ، والذي يأتي - من حيث لا يدري الشاعر الذي لا يخطط بوعيه بل بحكمة لاوعيه السديدة - بتسلسل حيي ومتراخ ، يتمثل في أن مرارة " هذي الكأس " التي لا تشبهها حتى مرارة شجرة الدفلى ، تكفي - المرارة - لجعل الدراويش المندمجون بحب " الواحد " حدّ الفناء ، يقايضون أشياء لا يمكن مقايضتها بـثمالة " هذي الكأس " التي اعتدنا على أن لا نرى منها ، في التقاطاتنا اليقظة وأحكام وعينا المادية الفجّة أكثر من " هذي الكأس " ببساطة . لكن يبدو أن في " هذي الكأس " الياسري ما هو أكثر من هذي الكأس المعتادة حتى لو كانت كأسة خمر ، وإلا لماذا يقايض دراويش الإيمان حصيلة مسيرتهم الإيمانية بثمالتها المرّة ؟؟ :

    ( لدراويش يبيعون صلاتهم الليلية

    وحلقات الذكر بثمالتها المرّة - ص 64 )

    مركّب عجيب تحتويه هذي الكأس : حقول وزوارق وأصدقاء يتحلقون حول مائدتها ودراويش يقايضون صلاتهم بمرارة ثمالتها . هي كأس تطعم وتنعم . هي كأس مقدسة تشترى بالتبتلات والصلوات والإلتحام النهائي بالخالق / الأب .

    وتحضرني هنا التقاطة في غاية الخطورة من دائرة المعارف الإسلامية ؛ إنتباهة شديدة الجسارة ترى أن الإنسان تعرف إلى الله بعد أن اخترع الخمرة أو اكتشفها !! فقد كان الإنسان الأول جسدا بلا روح ، لكنه شعر بوجود " شيء " في داخله غير محدّد وغريب وهلامي وعصي على التعريف بدأ يتحرك في داخله بعد الكأس الأولى ، فقد احمرت وجنتاه و "خفّ " وجوده وتغيّرت ضربات قلبه وأصبح يميل إلى الغناء . صدمه هذا الإدراك المدهش بوجود " شيء " في داخل جسده المادي لا يمكن تفسيره ماديا فأسماه الروح التي عزاها إلى الله . ومن المؤكد أن السومريين هم أول من فعل ذلك فهم أول من فكر بعصر العنب وتحويله إلى خمرة ( وهناك رقيم سومري لرجلين جالسين حول " طشت " ويحتسيان الخمرة بـ " الطاسة " ، أضف إلى ذلك أن الآلهة السومرية تسكر و " تخربط " وفيها الكثير من الطباع البشرية النزقة والعنيفة - راجع كتابي كريمر : ألواح سومر والسومريون ) . لكن الأمر لدى الياسري ( وريث السومريين الماكر ) يختلف تماما . فهو ، ومع كل مقطع من قصيدته ، يصدمنا بسمات جديدة هائلة وغير متوقعة لـ " هذي الكأس " ، فهي الآن أشبه بحقل صغير مطرز بالورود الحمراء وفيه بحيرة صغيرة عذبة تتراقص على صفحتها الرائقة أضواء القمر ، وهذا ما يمكن أن يقوم به إنسان عاشق مع كأس خمرة يقدمها إلى محبوبته ( لكن هل تبقى حاجة للخمرة مع حضور المرأة المدوّخ ؟! ) :

    ( في صفحتها الرائقة

    تتراقص أضواء القمر

    وورود حمراء كشفاه امرأة - ص 65 )

    لكن ما يميز قصيدة الياسري - وهذه أيضا من سماته الأسلوبية المركزية - هو " التحويلات " الجانبية إذا جاز الوصف التي يقوم بها بين مقطع شعري وآخر ، تلك التحويلات التي - حين لا نمسك بالمضمون الكامن للقصيدة / النص الحلمي - لن نستطيع تحديد الخيط الناظم لسلسلة صور القصيدة المتتابعة والتي ستبدو وكأنها مفككة مثل تفكك صور المضمون الظاهر للحلم . لكن على القاريء أن يتنبه إلى لعبة " التسليم " التي تشبه عصا عدائي لعبة البريد . لكنها - هنا - عصا الشعر .. المفردة المخاتلة . فبعد أن تحدث الشاعر عن كأسه ومحتوياتها الكونية في المقاطع الثلاثة الأولى ، اختتم المقطع الأخير بمفردة المرأة التي تشبه ورود الكأس / الحقل الحمراء شفاهها ، فدخل " بيت " المرأة التي خبّأت رائحته في روابي جسدها . والمرأة هي بيت الرجل فعليا - بايولوجيا كأم وجنسيا كزوجة ونفسيا كحبيبة ، وبات الرجل : تزوج ، وبيت الرجل : شرفه - مثلما يكون بيت الشعر بيت الشاعر الذي لا يمكن فهم معانيه النفسية من دون العودة إلى جذره اللغوي . والمحتوى المضموني لهذا المقطع الرابع يجعل جسد الصبية " وعاء " أو " كأسا " يقابل وعاء " هذي الكأس " ولكن في كون الجسد الأنثوي المحدّد الذي يمدّ الشاعر من أبعاده من خلال استعارة أوصاف الطبيعة : الروابي والمنحدرات ، ليجعلها حقلا موازيا للحقل السابق ، لكنه ينطوي هذه المرّة على رائحة الشاعر :

    ( الصبية التي تخبيء بين ضفائرها

    وفوق شفتيها

    وعلى روابي ومنحدرات جسدها رائحتي

    اتخذتها بيتا - ص 65 )

    وتكرار موضوعة الرائحة في أغلب القصائد - والتي تصل الذروة في الرائحة التي حطمت حياة عيسى حين راهنوه الأوغاد عليها في قصيدة " يا أم عيسى " - تعيدنا بصورة مستترة إلى الرائحة الأصل ، وتمنحها معان رمزية واسعة . وعلى الرغم من أن " المسافة الفعلية " يمكن أن تُغرّب وتُقلب على بطانتها ، لكن " المسافة الرمزية " رغم قصر نفسها اللغوي والتصويري ، توغل في رسم مساحات تغريب شاسعة بين الأصل والصورة . وهذا ما يربكنا فيه الشاعر بتحويلة غير محسوبة حين يتساءل :

    ( كم هي شاسعة هذي الكأس

    الصغيرة كتويج الزهرة

    والهشة كشواطىء رملية - ص 65 )

    فهذه المفارقة المتضادة بين صغر " هذي الكأس " كتويج زهرة وشساعة حجمها ، وبين هشاشتها الرملية وصلابتها الفعلية رغم عدم ذكرها للمقارنة لأن الإلحاق الإيحائي يكفي ، لا يمكن استيعابها إلا بالعودة إلى سلسلة التداعيات اللاشعورية التي تثيرها مفردات المقارنة وكلّها مأخوذة من الجسد / الكأس الأصل / المرأة . لكن بعد موجة التوسيع الكونية التي وصلت ذروتها في المقطع الثاني ثم بدأت بالإنحدار قليلا في المقطع الثالث ، لتدخل دائرة الجسد الأنثوي الصبي المزدهي الأقل مساحة في المقطع الرابع ، تليها دائرة أصغر لكنها باقية في سماوات التجريد المنفتح ، تستقر الموجة عند مركز دائرة ضيقة .. دائرة كأس الخمرة اليومية المعتادة التي يخف إليها المعذّبون - والشاعر منهم - كي يطفئوا مرارة معاناتهم بمرارة ثمالتها ، ويغيبوا وعيهم في مخادعة وقتية يصحون بعدها على ألسنة جحيم الوعي بحقائق الخراب :

    ( بيد مرتجفة أمسك قبضتها

    إني أحييهم أولئك الذين يخفّون

    إليها كل مساء - ص 65 )

    هكذا نعود وبصورة مباشرة - وهذا تكتيك عيسى الشعري التقربي والإلتفافي - إلى " أرضية " الرمز وعاديته بصورة تربك كل المسلمات البسيطة التي بنيناها على المقدمات " المؤسطرة " . لكنه يعود وفق سمته الأسلوبية إلى تقليب مفردة المرارة ، ليس كمفردة لغوية محددة وضيقة الأبعاد ولكن كمرتكز لصورة يمكن تسميتها بـ " الصورة السردية الممتدة " . فمحتوى الكأس الأمرّ من مرارة شجرة الدفلى والذي يقايض بالصلوات ، هو الداء والدواء . هي مرارة الترياق اللازمة لمعادلة مرارة سمّ النفي والغربة . ورغم أن مرارتها تفوق طعم كل مرارات الخيبة والنأي بعدا عن الأهل والمدينة الأم / بغداد ، إلا أن الشاعر يجد شفتيه تستسلم لاإراديا لها :

    ( لا مرارة وداع الأهل

    لا حلمي أن أغفو ليلة

    صيف واحدة فوق سطوح

    منازل بغداد

    لا صوتي المرتعش وأنا أناديك من

    أبعد زاوية في هذي الدنيا

    أقسى من مرارتها - ص 66 )

    وفي المقطع هذا ، ومن خلال الإشارة إلى " أناديك من أبعد زاوية " ، يحيلنا الشاعر إلى سمة أسلوبية أخرى في منجزه الشعري ، وتتمثل في حقيقة أن أغلب الشعراء الذين يصدرون دواوين ومجموعات شعرية

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة أبريل 19, 2024 4:01 am