منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    المتلقي الانفعالي ولذة النص

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    المتلقي الانفعالي ولذة النص Empty المتلقي الانفعالي ولذة النص

    مُساهمة   الأربعاء أكتوبر 26, 2011 9:59 am

    المتلقي الانفعالي ولذة النص 1ـ الإيقاع الشعري والوقع الجمالي:

    ما كان للنص الشعري القديم أن تكون لـه لذة ونشوة، لولا توفره على بعض
    الخصائص الشكلية التي تتضافر لتحقق الإمتاع من جهة، وتستطيع شد المتلقي
    وإشراكه في بناء النص وإنتاج الوقع الجمالي نفسه.

    وتتجسد هذه الخصائص في كل ما يثير المتلقي، من أصوات وتشاكلات صوتية تنتج
    عن تلك القوانين المعروفة من تكرار وتراكم وتقابل، وما تنسجه تلك التشاكلات
    من مستويات موسيقية ونغمية. وتشكل هذه العناصر مجتمعة بنية فضائية يحكمها
    النظام والتناظر والتوازي، وتسمى بنية الإيقاع التي يمكن اختزالها في الشكل
    الآتي:
    ا ب

    جـ ا ب جـ
    ا ب جـ ا ب جـ
    ا ب جـ ا ب جـ
    ا ب جـ ا ب جـ

    فهذا النص الذي يتكون من حروف تم ترتيبها وفق نظام معين، يجسد نوعاً ما ـ
    على الرغم من بساطته ـ مبدأ أساساً من مبادئ الشعر وهو الإيقاع الذي يقوم
    على المكونات الآتية:
    1ـ النظام: وهو واضح في ترتيب الحروف جدولياً ونسقياً.
    2ـ التساوي: ويتضح في تساوي الحروف وزناً وعدداً.
    3ـ التوازي: وهو أن كل حرف منعزلاً، أو كل وحدة (أ، ب، جـ) تتوازن وتتعادل فيما بينها نسقياً وجدولياً.
    4ـ التكرار: ويتمثل ذلك في أن الحرف الواحد يعود


    للظهور مرة أخرى، لا في السطر الواحد بل يتردد في فضاء النص كله، ويتوزع على المحورين معاً: الأفقي والعمودي.

    ولعل من نافلة القول التأكيد هنا على أن المستوى الإيقاعي باختلاف صيغه
    وأشكاله، هو المدخل الرئيسي لتفاعل المتلقي مع النص الشعري، بل هو السمة
    المميزة للغة الشعرية وخاصة القديمة منها على استدراج المتلقي الانفعالي
    إلى عالم النص، وإثارة مجموعة من الإيحاءات والتداعيات لديه، حيث تشكل نقطة
    الانطلاق للدخول في بناء مختلف مستويات المعنى في النص. ويعزز ذلك ما
    يحمله الشكل من إيقاع صوتي وتشاكلات صرفية وتركيبية. وبذلك تكون مواطن
    الجمال على مستوى الشكل مجسدة في رمزية الصوت وجوقة الدوال وجرس العبارة
    وموسيقى الإيقاع. وهذا ما يعني أن الشكل في الشعرية القديمة هو المصدر
    الأول لإحداث الوقع الجمالي عند المتلقي الانفعالي، وبواسطته يتم إدخاله
    إلى عالم النص، وبعدها يتوارى الشكل في مرحلة ما من التلقي حيث يبقى موجهاً
    خفياً لتحقيق المتعة الجمالية، أو ما يسميه السيوطي بالدغدغة النفسانية( [1]
    وهي عبارة عن شهوة داخلية شبّه البعض سريانها في الجسم بنشوة الخمر وهزتها
    بطرب الألحان كما في قول ابن الأثير: "لقد تصفحت الأشعار قديمها وحديثها
    وحفظت ما حفظت منها، وكنت إذا مررت بنظري في ديوان من الدواوين ويلوح لي
    فيه مثل هذه الألفاظ أجد لها نشوة كنشوة الخمر وطرباً كطرب الألحان"( [2]).
    1ـ 1 ـ الوقع الجمالي لموسيقى الوزن:

    لقد لفت المعري الانتباه إلى أن القيمة الجمالية للنص الشعري لا تكمن في
    بنية الشكل وحدها، وإنما هي حصيلة تفاعل مجموعة عوامل ومحددات. منها ما
    يعود إلى النص نفسه باعتباره شكلاً وبنية إيقاعية، ومنها ما يرجع إلى تلك
    العملية الشاملة المتمثلة في تجارب المتلقي وتفاعله. وهذا ما يعني أن


    جمالية نص معين ليست معطي قبلياً ومتعالياً يصدر عن جوهر لا تاريخي، بل
    إنها تستمد طابعها وعمقها من تعالق النص مع النسق الأدبي /الفكري/ الثقافي
    العام في فكرة تاريخية محددة. لكن ذلك لا يلغي دور المتلقي الذي يتجاوب مع
    جمالية النص ثم تصدر عنه أحكام القيمة التي تعد أول مظهر من مظاهر إنتاج
    ذلك الوقع الأولي الذي يؤهل النص ليكون موضوعاً جمالياً يرقى إلى مقام
    القراءة والتأويل.

    فإلى شيء من هذا المعنى يشير المعري في تعريفه المثير للشعر حيث يقول على
    لسان ابن القارح مخاطباً (رضوان) حارس الجنان: "أنا رجل لا صبر لي على
    اللُّواب ـ أي العطش ـ وقد استطلت مدة الحساب، ومعي صكٌّ بالتوبة، وهي
    للذنوب كلها ماحية، وقد مدحتك بأشعار كثيرة ووسمتها باسمك. فقال: وما
    الأشعار؟ فإني لم أسمَعْ بهذه الكلمة قط إلا الساعة. فقلت الأشعارُ جمع
    شعر، والشعر كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط، إن زاد أو نقص أبانه
    الحسُّ، وكان أهل العاجلة يتقربون به إلى الملوك والسادات، فجئت بشيء منه
    إليك لعلّك تأذن لي بالدخول إلى الجنة"( [3]).

    يلح المعرّي في هذا التعريف على عنصرين هامين في التجربة الشعرية: أحدهما
    يرتبط بشعرية النص، ويتعلق الأمر بجانب الإيقاع ممثلاً في موسيقى الوزن
    باعتباره قيمة مهيمنة، تبدو في جنس الشعر أكثر بروزاً وإثارة للحس. ومما
    تجدر ملاحظته في هذا التعرف أنه يلتقي في جانب منه بالتعريف التقليدي
    القائل: "الشعر كلام موزون مقفى يدل على معنى".

    وهو تعريف شكلي محض اقترحه قدامة بن جعفر وشدّد فيه على عنصر الوزن بوصفه
    قيمة نوعية تميز الشعر عن النثر. إلا أن ما يلفت الانتباه في تعريف الشعر
    عند المعري هو غياب أي إشارة تدل على أهمية القافية باعتبارها عنصراً
    أساسياً من عناصر القصيدة العربية.

    ومن المحتمل أن يكون غيابها في تعريفه السابق راجعاً إلى شيئين اثنين:
    أولهما أن المعري لم يكن مهتماً بوضع تعريف للقصيدة العربية بل كان مهتماً
    بوضع تعريف للبيت الشعري


    ، وهذا ما جعله يهمل عنصر القافية لأن دورها الوظيفي لا قيمة لـه في البيت
    فهي أكثر ارتباطاً بالقصيدة منه. أما الشيء الثاني فمرده إلى أن القافية
    عند المعري سمة أسلوبية أو خاصية نوعية لا تخص جنس الشعر وحده، بل توجد
    أيضاً في جنس النثر، ومن ثم فهي تمثل عنصراً مشتركاً يحضر في الجنسين معاً ـ
    الشعر والنثر ـ وهذا ما يفسّر اهتمام المعري بقضية السجع أو الغاية في
    نثره الفني، الأمر الذي يفهم منه أن النثر عند أبي العلاء يدخل ضمنه جنس
    النظم، وهذا ما يدل عليه قوله الذي ساقه في رسالة الصاهل والشاحج:
    "والمنثور من الكلم جنس للمنظوم. وعلى حسب ما يتسع في القول المتكلم، يتصرف
    لدى النظم الشاعر، ولذلك صح أن العرب أوفر الأمم حظّاً في الموزون، لأن
    لغتهم تستبحر وإن لم تُبْنَ منها أوزان الشعر"( [4]).

    ولم يقتصر أبو العلاء في تعريفه للشعر على عنصر الإيقاع وحده، بعيداً عن
    التلقي. فالشعر لكي يتحول إلى تجربة فعلية يحتاج إلى عنصر التجا


    وب والانفعال، ويتجسد ذلك في استجابة المتلقي، وهذا ما يتضمنه الشق الثاني
    من التعريف. ففيه إشارة إلى أن القيمة الجمالية المهيمنة في الشعر، ممثلة
    في جانبه الموسيقي، تتجاوب مع الغريزة الفطرية لدى المتلقي فتحدث لديه
    وقعاً جمالياً يستجيب لـه طبعه وذوقه الفني. إلا أن كل خلل أو مخالفة
    لقواعد الإيقاع الموسيقي من شأنه أن يشوش على استجابة المتلقي فيتبينه عن
    طريق الحس الغريزي، ومن ثم لا تحدث لديه الدغدغة النفسانية التي تكون
    ملازمة للمتعة الفنية.

    وبما أن الشعر عند المعري استجابة للحس والغريزة، فهو بذلك طبع لصيق
    بغريزة الإنسان بعيداً عن جنسه وأرومته، حتى إنه ليس ببعيد أن يخطر الكلام
    الموزون ببال من لم يسمع الشعر قط. يقول المعري في رسالة الصاهل والشاحج
    "ويقدر الله جل اسمه على أن يُنطق الصاهلِ، فيقول: وما كفاك أنك ادعيت
    النظم الذي هو طبع في غريزة الآدميين أن يقوله الصبيُّ منهم والمرأة والشيخ
    اليَفَنُ والعجوز الفانية، وهو في غرائز الأمم كلها حتى إنه يُحكَمُ على
    أنه لا يمتنع أن يخطر الكلام الموزون لمن لم يسمع شعراً قط"( [5]).

    ومما يرمز إليه هذا النص هو أن الشعر موهبة فطرية مردها إلى الطبع لا إلى
    العلم والصنعة. ومما يؤكد ذلك أن الصنعة والعلم وحدهما في منأى عن الفطرة
    والغريزة لا يصدر عنهما شعر جيد. وكثير من علماء الشعر ـ كالخليل مثلاً،
    وقد كان عالماً بالشعر لا يضاهى ـ قد عجزوا عن الإتيان ببيت واحد تستجيب
    لـه الغريزة ويطرب لـه الذوق. ثم إن هذه الغريزة ليست وقفاً على أمّة، أو
    جنس بشري دون آخر، فهي متساوية في طباع الناس جميعهم، فلكلّ أمّة شعريتها
    التي تستجيب لحسّها الفني وترضي ذوقها الجمالي، "ولا يصحّ أن تعتقد أمّة أن
    الشعر فيها من دون الأمم الأخرى"( [6]).

    إن ما يقولـه أبو العلاء عن مشاعية الشعر وارتباطه بالغريزة الإنسانية
    يبدو ـ منذ الوهلة الأولى ـ م


    خالفاً لنصوص أخرى وردت في رسالة الغفران قد يستنتج منها أن المعري يلمح
    إلى أن الشعر فن يختص بالعرب دون سواهم. يقول أبو العلاء المعري وهو يقص
    حواراً جرى بين ابن القارح وبين الملَكِ (زُفَر) أحد خزنة الجنة بعد أن
    مدحه بشعره: "(يقول ابن القارح): رحمك الله! كنّا في الدار الذاهبة نتقرب
    إلى الرئيس والملك بالبيتين أو الثلاثة، فنجد عنده ما نُحبُّ، وقد نظمت فيك
    ما لو جُمع لكان ديواناً، وكأنك ما سمعت لي زَجْمَةً ـ أي كلمة ـ فقال (أي
    زُفَر): لا أشعُرُ بالذي حمَمْتَ ـ أي قصدتَ ـ وأحسب هذا الذي تجيئني به
    "قرآن إبليسَ" المارد، ولا ينفُقُ على الملائكة، إنما هو للجانِّ
    وعلَّمُوهُ ولد "آدم" فما بُغْيَتُكَ؟ فذكرت لـه ما أريدُ، فقال: واللهِ ما
    أقدِرُ لك على نَفْع، ولا أملكُ لخلقٍ من شَفْع، فمن أي الأمم أنت؟ فقلت:
    من أمة "محمد بن عبد الله بن عبد المطلب" فقال: صدقتَ، ذلك نبيُّ العرب،
    ومن تلك الجهةِ أتيتني بالقريض، لأن "إبليس" اللّعين نفثَهُ في إقليم
    العَرَبِ فتعلّمهُ نساء ورجال"( [7]).



    وفي
    موضع آخر من رسالة الغفران يشير المعري إلى الفكرة نفسها على لسان حميد بن
    ثور وهو يحادث ابن القارح في الجنة: "ولقد كان الرجل منّا يُعْمِلُ
    فِكْرَهُ السّنَةَ أو الأشهر، في الرجل قد أتاه اللهُ الشَّرفَ والمالَ،
    فربّما رجع بالخيبة، وإن أعطي فعطاءٌ زهيدٌ، ولكن النظم فضيلة العرب"( [8]).

    إن منطوق العبارة في النصين معاً يشير إلى أن الشعر جنس أدبي قد برع فيه
    العرب واختصوا به دون غيرهم من الأمم والأجناس، ويبدو أن هذا الرأي كان
    متداولاً في الثقافة العربية القديمة، تبناه كثير من نقاد العرب كالجاحظ
    الذي ذكره صراحة في كتاب الحيوان فقال: "وفضيلة الشعر مقصورة على العرب
    وعلى من يتكلم بلسان العرب"( [9]) كما أشار إل


    يه أيضاً الثعالبي معاصر أبي العلاء في مقدمة كتابه يتيمة الدهر بقوله: "الشعر عمدة الأدب، وعلم العرب الذي اختصت به عن سائر الأمم"( [10]).

    وإذا كانت عبارة الجاحظ والثعالبي تدل دلالة قطعية وبدرجة كبيرة من الوضوح
    لا تقبل الاحتمال عمّا يعتقده الناقدان، من أن الشعر فن لصيق بغريزة العرب
    وحدهم، فإن السياق الذي جاءت فيه الفكرة في نصي المعري لا يصل إلى الدرجة
    نفسها، ممّا لا يمكن التحقق معه هل كان أبو العلاء ممّن يتبنى هذا الرأي
    ويعتقده أم لا؟ لا سيّما أن النصين معاً يحتملان أوجهاً تحول دون إقرار
    حقيقة واحدة لا تقبل التأويل. منها أن المعري قد عرض الفكرة في سياق حواري
    نسبها إلى ذوات أخرى ولم ينسبها إلى نفسه وأمام هذا الوضع لا نستطيع أن
    نجزم هل الفكرة ـ قطعاً ـ ممّا يراها المعري ويعتقدها أم أن عرضها كان
    عرضاً موضوعياً بعيداً عن الذاتية. وهب أن الفكرة تعبّر عن رأي ذاتي ساقه
    على لسان الآخر، فكلامه "يمكن حمله على أن


    يكون قد عنى أن النظم فضيلة مشتهرة عند العرب من جملة فضائل أخرى لا أنه
    فضيلة العرب دون غيرهم"( [11]).

    وفي رسالة الغفران إشارة أخرى، يفهم منها أن غريزة التلقي تتفاوت درجتها
    بين جنس البشر أنفسهم، فهي عند النساء أقوى منها عند الرجال لأنهن أكثر
    غرائز، وهذا ما يساعدهن على إدراك مواطن الخلل والاضطراب في موسيقى الشعر
    عن طريق الغريزة وحدها، كأن يكون زحافاً نابياً يعوق انسياب الموسيقى
    فيدركه الذوق ويحسّ به. يقول المعري مخاطباً ابن القارح، مشيراً في الوقت
    نفسه إلى قصة يتحدث فيها عن قوة الاستجابة الغريزية عند النساء: "وربما كان
    في نساءِ "حلب" ـ حرسها الله ـ شواعرُ، فلا يأمن أن تكون هذه منهن، فطال
    ما كنَّ أجود غرائز من رجالهن، وحدَّثَ رجلٌ ضرير من أهل "آمدٍ" يحفظ
    "القرآن" ويأنس بأشياء من العلم، أنه كان وهو شابٌّ لـه امرأة مقيِّنَةٌ
    تزيِّنُ النساءَ في الأعراس، وكان ينجم على الطريق، وكانت لـه قرعةٌ فيها
    أشعارٌ كن


    حو ما يكون في القُرع، وكان يعتمد حفظ تلك الأشعار ويدرسها في بيته، ولا
    غريزة لـه في معرفة الأوزان، فيكسر البيتِ، فتقول لـه امرأتُه الماشطةُ:
    ويلي، ما هذا جيدٌ، فيلاجُّها ويزعم أنها مخطئةٌ. فإذا أصبح مضى فسأل من
    يعرف ذلك، فأخبره أنّ الصواب معها، وعرَّفهُ كيف يجب أن يكون. فإذا لقِنَهُ
    عنه، عاد في الليلة الثانية، فذكرَهُ وقد أصْلِحَ، فتقول الماشطة: هذا
    الساعةَ جيِّدٌ.

    وكان لي كرِيٌّ من أهل البادية يُعرفُ بـ "علوان" وله امرأة تزعم أنها من
    "طيء"، فكان لا يعرف موزونَ الأبيات من غيره، وكانت المرأة تُحسُّ بذلك.
    وكانت تتأسَّفُ على طفلٍ مات لها يقال لـه رَجَبٌ، وكانت تُنشدُ هذا البيت:
    إ


    ذا كنتَ من جرَّا حبيبك موجعاً



    فلا بُدَّ يوماً من فراقِ حبيبِ


    فقالت يوماً:
    ـ إذا كنتَ من جرَّا رُجَيْبٍ موجَعاً ـ
    فعلمت أن الوزن مختلٌّ، فقالت:
    ـ إذا كنتَ من جرَّا رُجَيْبِنَ موجَعاً ـ
    فحركت التنوينَ وأنكرتْ


    تحريكَهُ بالطبع. فقالت:

    ـ إذا كنتَ من جرَّا رُجَيْبِكَ موجَعاً ـ
    فأضافته إلى الكاف فاستقامَ الوزنُ واللفظ"( [12]).

    يشير المعري من خلال هذا الشاهد إلى أن موسيقى الشعر ممثلة في الوزن
    العروضي ذات علاقة بالجانب الغريزي الفطري، ولذلك لا يدركها بصفة دقيقة إلا
    من أوتي طبعاً شعرياً قوياً يميز به بين موسيقى منسابة تقبلها الأذن
    ويستجيب لها الذوق، وبين موسيقى مضطربة تنكرها الغريزة ويمجها السمع كما
    يحدث من كثرة الزحافات التي تلحق الشعر فتحطم الوزن تحطيماً. واستناداً إلى
    غريزة التلقي رفض المعري بعض الروايات الشعرية لما فيها من زيادات تؤذي
    الأذن وتشوش على الوزن كما هو الشأن في إحدى روايات معلقة امرئ القيس. يقول
    المعري: "ويسأل (ابن القارح) عن "امرئ القيس بن حُجْرٍ" فيقال ها ه


    و ذا بحيث يسمعُكَ. فيقول: يا أبا هند، إنَّ رواة البغداديينَ يُنشدون في
    (قفا نبْكِ) هذه الأبياتَ بزيادةِ الواو في أوّلها، أعني قولَك:

    ـ وكأنَّ ذُرَى المُجَيْمِرِ غُدْوَةً ـ
    وكذلك:
    ـ وكأنَّ مكاكِيَّ الجِواءِ ـ
    ـ وكأن السّباع فيه غرقى ـ( [13])

    فيقول: أبعَد اللهُ أولئك! لقد أساءوا الروايةَ، وإذا فعلوا ذلك فأيُّ فرق
    يقَع بين النّظم والنثر؟ وإنما ذلك شيء فَعَلَه من لا غريزة لـه في معرفة
    وزن القريض، فظنَّه المتأخرون أصلاً في المنظوم، وهيهات!"( [14]).


    إننا إذا أضفنا هذا النص إلى ما سبقه خرجنا بفكرة واحدة، خلاصتها أن تلقي
    الشعر اعتماداً على الذوق والغريزة تعد قضية نقدية هامة يجب الاهتمام بها
    اهتمامنا بإبداع الشعر نفسه، إذاً لا قيمة لشعرية النص إذا لم تقابلها في
    الطرف الآخر شعرية تلقيه، ولا يتأتى ذلك إلا بوجود غريزة فطرية نابعة من
    ذوق فني مكتسب. ومن هنا يميز المعري بين استجابتين مختلفتين: الأولى ذات
    طبيعة فطرية تستند إلى حس غريزي محض، قوامه الطبع والبديهة والذوق، أما
    الثانية فهي استجابة مشوبة بأمشاج من العلوم والمعارف، ولذلك فهي تحرص على
    أن يكون تلقيها للشعر مدعوماً بحجج العلماء وإجازاتهم، إلا أن المعري يؤثر
    الاستجابة الفطرية ذات الحس الذوقي على الأخرى التي تقوم على الضبط العلمي،
    لما ينشا عنها من صنعة وتكلف قد تذهب بماء الشعر ورونقه، ولعلَّ هذا ما
    يفسّر رفض المعري للرواية البغدادية التي تصرّف رواتها في الأبيات الثلاثة
    من معلقة امرئ القيس، فأضافوا الواو إلى كل بيت طلباً لنسق الأبيات
    وترابطها، وأن هذه الزيادة هي مما أجازه علماء


    الشعر وأطلقوا عليها اسم الخَزْم. وليس ذلك بعيب عندهم، "لأن أحدهما إنما
    يأتي بالحرف زائداً في أول الوزن، إذا سقط لم يفسد المعنى، ولا أخلَّ به
    ولا بالوزن، وربما جاء بالحرفين والثلاثة ولم يأتوا بأكثر من أربعة أحرف"( [15]) ويذكر ابن رشيق أن الخَزْم قد أجيز لعلة معنوية تتجلى في إزالة اللبس وتوضيح المعنى كما في بيتي علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

    اشدد حيازيمك للموت



    فإن الموت لاقيكا


    ولا تجزع من الموت



    إذا حلَّ بواديكا


    <


    /DIV> فقد أوتي بالخزم هنا وهو زيادة فعل الأمر "اشدد" طلباً لبيان المعنى( [16]).
    كما قد يُلتجأ إليه أيضاً ـ كما يشير إلى ذلك ابن رشيق رواية عن عبد
    الكريم بن إبراهيم ـ حرصاً على الوحدة العضوية للنص حتى يكون أكثر بناءً
    وإحكاماً، تتعالق أجزاؤه ويرتبط سابقها بلاحقها وذلك توخياً لبيان المعنى
    وتماسكه، وهكذا "إذا كان البيت يتعلق بما بعده وصلوه بتلك الزيادة بحروف
    العطف التي تعطف الاسم على الاسم والفعل على الفعل والجملة على الجملة"( [17])
    وربما لهذه العلة تصرف أبو الحسن بن كيسان في رواية الأبيات الثلاثة فزاد
    في كل واحد منها واو العطف "ليكون الكلام نسقاً بعضه على بعض"(


    [18]
    ).

    فإذا كانت الرواية البغدادية قد استندت إلى مسوغات علمية أجاز العروضيون
    الأخذ بها، فإن المعري قد رأى فيها تلقياً لا يستجيب للذوق الفني لما
    يتضمنه من زحاف بيّن لا يستسيغه السمع وينكره الطبع، إضافة إلى ما يسببه من
    تحطيم للوزن وخرق للإيقاع الخارجي الذي يشكل عماد الشعر وأحد أركانه
    الأساسية، ولا يسمى شعراً حتى يكون لـه وزن وإيقاع وبدونه لا يتمّ التمييز
    بين النظم والنثر.

    ولذلك احتكم المعري إلى الاستجابة الذوقية ذات المنبع الغريزي لردّ هذه
    الرواية، وعبّر عن نفوره منها لما فيها من زحاف مستكره، لحق النص بسببه خلل
    واضطراب جعل صورته تبدو قبيحة "كقبح الخلق واختلاف الأعضاء في الناس وسوء
    التركيب"( [19]).
    وتجنباً لهذه الصورة المستكرهة استحسن المع


    ري الرواية التي يستجيب لها الذوق الغريزي ويلذ لها السمع، وهي التي لا خَزْمَ فيها، لأنها ألطف وقعاً وأخف مستمعاً.

    وهذا ما جعل منها استجابة عفوية وغريزية تقترب من الطبع وتنأى عن التكلف
    والصنعة اللذين يلازمان الاستجابة ذات المنحى التعليمي الصارم. ويقترب من
    هذا المعنى كلام لابن رشيق ساقه عقب انتهائه من حديثه عن الزحافات التي
    تلحق الأوزان. وفيه إشارة ضمنية إلى التمييز بين استجابة جمالية قوامها
    الذوق وحده وبين استجابة تتحكم فيها قواعد العلم ورخصه تضطرها في بعض
    الأحيان للخروج عن طريق الفن إلى طريق التكلف. يقول ابن رشيق: "وقد ذكرت ما
    يليق ذكره بهذا الموضع ليعرفه المتعلم إن شاء غير متكلف به شعراً إلا ما
    ساعده عليه الطبع، وصح لـه فيه الذوق، لأني وجدت تكلف العمل بالعلم في كل
    أمر من أمور الدين أوفق، إلا في الشعر خاصة، فإن عمله بالطبع دون العروض
    أجود، لما في العروض من المسامحة في الزحاف، وهو ما يهّجن الشعر، ويذهب
    برونقه"( [20]


    ).

    ونفهم من كلام ابن رشيق أن الشعر ربيب الغريزة والطبع وهذا ما جعله يدعو
    إلى اعتماد الجانب الذاتي في الأحكام العروضية، لا إلى الاحتكام إلى
    القاعدة التي تحدد ما يجوز وما لا يجوز بطريقة صارمة، بعيداً عن الحس
    والذوق اللذين يصدر عنهما الشعر. وما يقوله ابن رشيق هنا يشبه إلى حدّ ما
    يدعو إليه المعري، ومفاده أن للشعر علاقة قرابة مع الذات نشأة وتقبلاً،
    الشيء الذي يعني أن تكون الأداة التي تقاس بها القيمة الجمالية نابعة من
    الذاتية وذات أصل فطري وغريزي وهو المصدر نفسه الذي نشأ منه جنس الشعر.

    لم يعد المعري ينظر إلى الأحكام العروضية ـ بما فيها قضية الزحافات ـ نظرة
    علمية صرفة مجردة من كل بعد إنساني وجمالي. فالأمر لا يتعلق بمادة وموضوع
    ذي طبيعة علمية خالصة، وإنما يتعلق بموضوع ينغرس عميقاً في كيان الإنسان
    عاطفة وشعوراً وحساً. أعني بذلك أن هذه الأحكام ترتبط بفن الشعر، وبما أن
    هذا الفن هو كتلة من المعاني مصدرها العاطفة والحس ووظيفتها إحداث الوقع
    الجمالي في المتلقي، فالأمر يق


    تضي أن تكون هذه الأحكام نفسها خاضعة لمبدأ الذاتية والغريزة، وأن يتم
    التمييز بين جيدها ورديئها وحسنها وقبيحها بناء على الوقع الجمالي الذي
    تخلفه في الحس والنفس.

    لقد نظر المعري إلى الزحافات في الشعر العربي باعتبارها انزياحاً إيقاعياً
    عن القاعدة، وذلك استناداً إلى مبدأ وقعها في الحس والغريزة. ومن هذا
    المنطلق صنفها إلى ثلاثة أنواع: زحاف بيّن في الغريزة، وزحاف خفي وزحاف
    حسن.
    1ـ الزحاف البيّن:

    يريد به المعري كل زحافات بانت عنه الغريزة فمجّه السمع ولم يستسغه، كما
    يحدثه من نشاز في موسيقى الوزن. وتدخل ضمن هذا النوع مجموعة من الزحافات
    حددها في الآتي: الخَرْم وهو زيادة تلحق الوزن في أول الشطر، والخَرْم وهو
    ضد الخَزْم.
    ومعناه "سقوط حرف متحرك من أول كل شعر أصل بناء أوله عل


    ى حرفين متحركين والثالث ساكن"( [21])
    والطي والخَبْل، والكف والقبض في الجزء السباعي من الطويل، والخبن والطي
    والخبل في الجزء الثالث من البسيط، والطي والخبن والخبل في البسيط الأول
    والثاني، والقبض في الجزء الثالث من الهزج.
    2ـ الزحاف الخفي:

    إن هذا الزحاف هو ضد الزحاف الأول، لا تحس به الغريزة ولا يعلم به في الحس
    والذوق، ويكون حال البيت به كحاله من دونه. ويضم مجموعة من الزحافات حصرها
    المعري في الأنواع الآتية: قبض الجزء الخماسي من الطويل، الإضمار في
    الكامل، العصب في الوافر، الكف في الأجزاء الثلاثة من الهزج، الطي والخبن
    والخبل في الرجز.
    3ـ الزحاف الحسن:
    الزحاف ضرورة شعرية هي "كالرخصة في الفقه ـ كما يقول الأصمعي ـ لا يقدم عليها إلا فقيه"( [22]) وفي هذه الحال يكون اللجوء إليها ملحاً في بعض الأحيان مثل الحرص على تحقيق نغمة موسيقية أفضل، ترضي الغريزة والطبع لدى المتلقي.

    ومعنى هذا أن من الزحاف ما يملح في الغريزة ويحسن في الذوق. ومن طبيعة هذا
    النوع أنه يكون "أخف من التمام وأحسن كالذي يستحسن في الجارية من التفاف
    البدن واعتدال القامة"( [23]).
    وقد ذكر المعري أنواعاً كثيرة من هذا الصنف الذي يكون أكثر وقعاً وأخف
    مستمعاً من التمام، حتى عدّ الرجوع إلى الأصل عيباً في الشعر وفساداً في
    الذوق. ومن هذه الأنواع: قبض الخماسي ا


    لذي قبل الضرب في الطويل الثالث، خبن البسيط السادس في العروض والضرب، طي
    مفعولات في حشو المنسرح، طي مستفعلن في ضرب المنسرح الأول.

    نستنتج من خلال النصوص التي أوردناها آنفاً إلحاح المعري الشديد على
    الخاصية الموسيقية باعتبارها قيمة مهيمنة على الشعرية العربية، وأن لهذه
    القيمة علاقة قوية بعنصر آخر يرتبط بذات الشاعر والمتلقي معاً، ويتعلق
    الأمر بقضية الطبع والغريزة.

    وهذا يعني أن موسيقية الشعر العربي قضية فنية تضرب بجذورها عميقاً في
    الغريزة والطبع، ومن ثمَّ فإن تذوقها وتحليل وقعها الجمالي في المتلقي لا
    يحتاج إلى فكر منظّم يحتكم إلى القاعدة العلمية الصارمة، بقدر ما يحتاج إلى
    طبع شعري فطري وإلى أذن موسيقية دقيقة وإلى ذوق فني متوقّد، وكلها آليات
    حدسية ذاتية من شأنها أن تميز بين إيقاع مستملح تسيغه الأذن وتقبله الغريزة
    وبين إيقاع مستثقل مكروه ويشوّه النغمة الموسيقية الأصيلة فتمجّه الأذن
    ولا تحتمله النفس إلا على كره كما تحتمل الضرورات.
    والنماذج التي انتزعت من كتب متفرقة للمعري تشهد أنه
    كان يملك ذوقاً فطرياً وحسّاً نقدياً موسيقياً مرهفاً استند إليهما في
    أحكامه الجمالية حول إيقاع الشعر وموسيقاه، ويبدو ذلك بديهياً لأمرين
    اثنين: أولهما أن المعري قد انقطعت بينه وبين العالم كل الأسباب "إلا بسبب
    من أذنه ولمسه فكان بالحري أن تراعي هذه الأذن المرهفة كل نأمة من حوله وكل
    هيعة"( [24]
    أما الأمر الثاني فيتعلق بالجانب المعرفي الذي يتجسّد في إلمام المعري
    وإطلاعه الكبير على ضروب وألحان الموسيقى حتّى شكّل ذلك الجانب مصدراً
    ذوقياً ومعرفياً لكثير من الأحكام الجمالية والفنية. ويخبرنا كتاب الفصول
    والغايات أن المعري كان بالفعل ملمّاً بطرق الألحان وبضروبها يتذوقها ويحلل
    آثارها في نفوس المتلقين. يقول المعري: "والطرائق الثماني:

    الثقيل الأول، وإيقاعهُ ثلاث نقراتٍ متساوياتُ الأقدار على مثال مفعولن:
    "مَفْ" نقْرةٌ. "عو" نقرةٌ. "لنْ" نقرة،


    وهي نقراتٌ ثقالٌ وأنت تثبته بالوتَد المفروق أوضح ممّا تثبّته بالسبب
    المضْطرب، وذلك أن الوتِد المفروق ثلاثةُ أحرف أوسطها ساكن، والسبب حرفان،
    فأنت إذا وقفت على الوتد المفروق سكنْتَ سكوناً أطول من السكون الذي على
    السبب، مثل قولك صخْرٌ، بحْرٌ، دَهْرٌ، فعلى هذا يجري الثقيل الأوّلُ.
    وخفيف الثقيل الأول. وحقيقته ثلاث نقرات متواليات، وهي أخفُّ من التي ذكرنا وأسرع توالياً، كقولك: مفعولن بلا فضل.

    والثقيل الثاني: وقد اختلفوا في إيقاعه، فإسحاقُ يوقعه ثلاث نقرات: نقرتان
    متساويتان مُمْسكتان، وواحدة ثقيلة على وزن مفعولان. ومنهم من يوقعه أربع
    نقرات متساويات الأقدار، لا خفاف مَحْثُوثَات، ولا ثقال ممسكات، على مثال
    مفْعُو مفْعُ، ومنهم من يوقعه أربع نقرات: ثلاثُ متساوياتٌ، والرابعة أثقل
    منهن، على مثال مفعولاتن.
    وخفيف الثقيل الثاني. وحقيقته أسرع حثّاً منه، وهو نقرتان خفيفتان والثالثة ثقيلة، وهو خفيف الذي اختاره إسحاق، ويسمى


    الماخوري، وهو عكس الرَّمَلِ، ووزنه مفعولان.
    والرَّمَلُ، وهو نقرة ثقيلةٌ واثنتان محثوثتان، "لان مفْعُو" ومثلهُ في الكلام "ملَّ وصْلي صدَّ عنِّي".

    وخفيف الرمَّل جاء على غير جنسهِ، وذلك أن خفيف كلَّ نوع جاء على غير
    جنسه، وذلك أن خفيف كل نوع مثلُ ثقيله إلاَّ أنَّه أخفُّ حثِّ الإيقاع.
    فأمّا الرمل فلم يجئ خفيفهُ على عدد نقراته وهو على نقرتين بينهما فصلٌ،
    ووزنه على مثال فَعْلُنْ.
    والهزَجُ وهو على نقرةٍ، نقرة: واحدة ثقيلةٌ، وأخرى خفيفة على وزن "قال لي".
    وخفيفُ الهزج مثله إلاَّ أنه أسرع حثّاً منه( [25]).

    ويظهر عياناً أن هذا النص ينب


    ئ عن دراية كبيرة بطبيعة الألحان وعن معرفة دقيقة بضروبها ومقاماتها، من
    ثقيل وخفيف الثقيل والرمل والهزج وغيرها. ولا ريب أنَّ من يملك ذلك ـ رواية
    ودراية ـ بإمكانه أن يحدد مواطن الجمال الموسيقي تحديداً فطرياً، وأن يميز
    جيد الألحان من رديئها تمييزاً غريزياً يغنيه عن القاعدة العلمية وعن
    الأداة الموضوعية الصرفة.

    وللمعري في هذا الصدد إشارات وتنبيهات قد وردت في شعره ونثره معاً، هي من
    العلامات الدالة على رسوخ قدم المعري في علم الموسيقى، ليست معرفة علمية
    وكفى بل معرفة بمقاماتها تحليلاً وتذوقاً. وهذه الأبيات من اللزوميات تلمح
    إلى شيء من هذا القبيل:



    وخلت أنِّي حرف الوقف سكَّنَهُ



    وقتٌ، وأدركه في ذاك تشديدُ( [26])


    وأشرف الناس في أعلى مراتبه



    مثلُ الصديد ولكن قيل صنديدُ


    ما كِبْرُهُ وثقيلُ اللحن يمنعُهُ



    من سرعة الفهم ترسيلٌ وتمديدُ



    ويستنتج من هذا النموذج الشعري أن للمعري معرفة بطبائع ضروب الألحان في
    عصره، وكأن هذه المعرفة قد تخطت الأذن فامتزجت بالذوق والشعور. يدل على ذلك
    البيت الأخير دلالة قطعية، فهو يتضمن وعياً عميقاً بطبيعة اللحن الثقيل
    مشيراً إلى "أن من طبيعة هذا اللحن أن لا يكون سريعاً إلى الفهم لطول
    الترسل والتمديد فيه"( [27]).

    بيد أن النص الأكثر دلالة في هذا الشأن هو ما أورده المعري في رسالة
    الغفران، إذ فيه من النظرات النقدية ما يدل على إطلاع وخبرة كبيرة بالجانب
    الموسيقي، وفيه أيضاً ما يشير إلى أن المعري كان خبيراً بالألحان خبرة من
    شأن


    ها أن تحدّد علاقة الألحان بعضها ببعض وتدرك قواعد الانتقال من لحن إلى
    لحن. ففي روضة من رياض الجنة يلتقي ابن القارح برِفٍّ ـ الجماعة من الطير ـ
    من إوزٍّ الجنّة فيدور بينه وبينها حوار ويسألهن ابن القارح عن شأنهن
    ووظيفتهن "فيقلن ألهمنا أن نسقط في هذه الروضة فنغنِّي لمن فيها من شرْبٍ.
    فيقول: على بركة الله القدير. فينتفضن، فيصرنَ جواريَ كواعبَ يرفُلُن في
    وشي الجنّة. وبأيديهنَّ المزاهرُ وأنواعُ ما يُلتمسُ به الملاهي (...)
    فيقول لإحداهن على سبيل الامتحان: اعمَلي قول أبي أمامة (النابغة الذبياني)
    ـ وهذا هو القاعد:
    أمن آلِ "ميَّةَ" رائحٌ أو مغتدِ



    عجلانَ ذا زادٍ وغير مزوّدِ( [28])


    ثقيلاً أولَ. فتصنَعُهُ، فتجيء به مطرباً، وفي أعضاء السامع متسرباً. ولو نحت صنمٌ من أحجار، أو دفُّ أشِرَ( [29]) عند النجار، ثم سمع ذلك الصوت لرقص، وإن كان متعالياً، هبط ولم يراعِ أن يوقَصَ( [30]) فيردُّ عليه ـ أورد اللهُ قلبه المحابَّ ـ زولٌ( [31]
    تعجز عنه الحيلُ والحول، فيقول هلمَّ خفيف الثقيل الأول! فتنبعثُ فيه بنغم
    لو سمعه الغريض "لأقرَّ أن ما ترنّم به مريض. فإذا أجادتهُ، وأعطته
    المِهرةَ( [32])
    وزادته، قال: عليك بالثقيل الثاني: ما بين مثالِثك والمثاني، فتأتي به على
    قريٍّ لو سمعه "عبد الله بن جعفر" لقرن أغاني "بُدَيْحٍ" إلى هدير ذي
    المشفر فإذا رأى ذلك قال: سبحان الله! كلما كشفت القدرةُ بدت لها عجائب، لا
    تثبت لها النجائب، فصيري إلى خفيف الثقيل الثاني، فإنك لمجيدةٌ محسنة،
    تطرد بغنائك السنةُ. فإذا فعلت ما أمر به، أتتْ بالبرحين، وقالت للأنفس:
    ألا تمرحين؟ ثم يقترح عليها: الرمَلُ وخفيفهُ، وأخاهُ الهزج ودفيفهُ، وهذه
    الألحان الثمانية، للأذن تمنيها المانيةُ( [33]).
    فإذا تيقن لها حذاقةً، وعرف منها بالعودِ لباقة، هلّل وكبّرَ، وأطال حمد ربِّه واعتبر"( [34]).


    ( [1]) المزهر للسيوطي، 1/361.

    ( [2]) المثل السائر لابن الأثير، 1/79.

    ( [3]) رسالة الغفران، تحقيق بنت الشاطئ، ص 250، 251.

    ( [4]) الصاهل والشاحج، ص: 162.

    ( [5]) نفسه، ص: 193 ـ 194.

    ( [6]) مذاهب أبي العلاء، محمد طاهر الحمصي، ص: 242.

    ( [7]) رسالة الغفران، ص: 251 ـ 252.

    ( [8])

    ( [9]) الحيوان، تحقيق عب


    د السلام هارون، 1/74 ـ 75.

    ( [10]) يتيمة الدهر، 1/3.

    ( [11]) مذاهب أبي العلاء في اللغة وعلومها، محمد طاهر الحمصي، ص: 243.

    ( [12]) رسالة الغفران، ص: 580 ـ 581.

    ( [13]) والأبيات كما جاءت في معلقة امرئ القيس هي:
    كأن ذُرَى رأس المُجَيْمِرِ، غُدوَةً



    من السيْلِ، والغُثَاءِ فلكة مِغْزَلِ


    كأنَّ مكاكيَّ الجِواءِ، غديّةً،



    صُبحنْ سُلافاً، من رحيق مفلفلِ


    كأن السِّباع


    َ، فيه غرقى عشيّةً



    بأرجائهِ القصوى أنا بيشُ عُنصُلِ




    ( [14]) رسالة الغفران، ص: 313 ـ 314.

    ( [15]) العمدة، ابن رشيق، 1/278.

    ( [16]) نفسه، 1/ 278.

    ( [17]) العمدة، ابن رشيق، 1/ 280.

    ( [18]) نفسه، 1/ 280.

    ( [19]) نفسه، 1/276.

    ( [20]) العمدة، 1/ 280.

    ( [21]) الفصول والغايات، ص: 191، 192.

    ( [22]) العمدة، 1/ 276.

    ( [23]) نفسه، 1/ 274.

    ( [24]) المعري والموسيقى، فخري البارودي، المهرجان الألفي لأبي العلاء المعري، ص: 389.

    ( [25]) الفصول والغايات، الفصول والغايات، ص: 121 ـ 122.

    ( [26]) شرح اللزوميات، 1/ 417.

    ( [27]) المعري والموسيقى، فخري البارودي، المهرجان الألفي، ص391.

    ( [28]) البيت مطلع داليته في وصف المتجردة.

    ( [29]) الدفّ: بفتح الدال وضمّها، آلة طرب، أشر: نشر.

    ( [30]) وقص: دقت عنقه فهو موقوص.

    ( [31]) الزوال: العجب.

    ( [32]) أعطته ا


    لمهرة: أداه أحسن أداء.

    ( [33]) المانية: القادرة.

    ( [34]) رسالة الغفران، ص: 212، 213، 214.



      الوقت/التاريخ الآن هو الأربعاء مايو 01, 2024 3:18 pm