منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    الصورة واللغة (مقاربة سيميوطيقية)

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    الصورة واللغة  (مقاربة سيميوطيقية) Empty الصورة واللغة (مقاربة سيميوطيقية)

    مُساهمة   الأحد نوفمبر 13, 2011 12:34 pm

    الصورة واللغة


    (مقاربة سيميوطيقية)

    محمد العماري

    1 - تحديدات مفاهيمية:

    لعل أول خطوة منهجية ينبغي القيام بها في
    معالجة هذا الموضوع هي تحديد المفاهيم المكونة لعنوان المقالة: ما الصورة؟
    وما اللغة؟ وما السيميوطيقا؟


    يعرف "روبير" Robert الصورة بأنها إعادة
    إنتاج طبق الأصل، أو تمثيل مشابه لكائن أو شيء. ويحيل أصل المصطلح
    الاشتقاقي على فكرة النسخ والمشابهة والتمثيل والمحاكاة، ذلك أن الفعل
    اللاتيني (Imitar) يعني "إعادة الإنتاج بواسطة المحاكاة". أما في الاصطلاح
    السيميوطيقي فإن الصورة تنضوي تحت نوع أعم يطلق عليه مصطلح الإيقون"
    (Icone)، وهو يشمل العلامات التي تكون فيها العلاقة بين الدال والمرجع،
    قائمة على المشابهة والتماثل. ولعل أول من قدم تعريفا مرضيا لهذا المفهوم
    هو العالم الأمريكي "شارل ساندرس بورس" (C.S.Peirce) (1839-1914)،



    وذلك عبر مقارنته بمفهومين آخرين هما الرمز والقرينة (Symbole-indice).
    فإذا كانت العلاقة بين العلامة والمرجع اعتباطية في الرمز، ومعللة بواسطة
    المجاورة أو السببية في القرينة، فإن ما يخصص العلامة الإيقونية هو شبهها
    النشوئي بالموضوع المحال عليه(1) ولا يهم -في نظر "بورس"- إن كانت هذه
    العلامة بصرية (صورة مثلا) أو سمعية.




    أما اللغة (Langage) فتطلق -في العرف
    اللساني السوسيري- على القدرة التي يختص بها النوع الإنساني، والتي تمكنه
    من التواصل بواسطة نسق من العلامات الصوتية. وهي تتحدد انطلاقا من علاقتها
    بمفهومين لسانيين آخرين هما اللسان والكلام. أما اللسان فهو الوجه
    الاجتماعي للغة، أي مؤسسة اجتماعية يخضع لها الفرد المتكلم ليتمكن من
    التواصل مع أفراد مجموعته اللسانية. ويعد اللسان-من الوجهة البنائية-نسقا
    من العلاقات، أو بالأحرى مجموعة من الأنساق المترابطة فيما بينها، بحيث أنه
    لا قيمة لنسق منها خارج العلاقات التي تربطه بالمجوعة.


    وإذا كان اللسان هو الواجهة الاجتماعية للغة، فإن الكلام هو واجهتها الفردية، أي الإنجاز الفردي للسان.

    والحقيقة أن العلامات اللسانية ليست هي
    الوحيدة المتداولة في التواصل الإنساني، بل هناك عدد هائل من العلامات
    الأخرى شأن "… الكتابة وأبجدية الصم البكم والطقوس الرمزية وأشكال وصيغ
    الاحترام والإشارات العسكرية…"(2). ,إذا كانت اللسانيات هي التي تتكفل
    بدراسة أنساق اللسان، فإن العلامات الأخرى يتكفل بدراستها علم جديد أطلق
    عليه "سوسير" (F.S. Saussure) (1857-1914) مصطلح سيميولوجيا، يقول: "ولذلك
    يمكن أن نؤسس علما يدرس حياة العلامات داخل الحياة الاجتماعية، فيشكل هذا
    العلم جزءا من علم النفس الاجتماعي، وبالتالي جزءاً من علم النفس العام.
    وسنطلق عليه اسم علم العلامات أو السيميولجيا (Semiologie) (من اليونانية
    Semeion أي علامة. وسيمكننا علم العلامات من معرفة ماهية العلامات
    والقوانين المسيرة لها"(3).


    ويذهب "سوسير" إلى أن علم اللسان جزء من
    السيميولوجيا، لكنه يحظى بأهمية بالغة تنمو وتتطور. يتساءل "سوسير": "لماذا
    لم يتم بعد الاعتراف بالسيميولوجيا من حيث إنها علم مستقل بذاته ويختص مثل
    غيره من العلوم بموضوع متميز؟ يبدو وكأننا ندور في حلقة مفرغة: فمن جهة
    تقدم اللغة أكثر من أي شيء آخر أساسا يساعد على إدراك طبيعة المسألة
    السيميولوجية، ومن جهة أخرى لدراسة المسألة السيميولوجية دراسة مرضية ينبغي
    أن تدرس اللغة في حد ذاتها…"(4).


    ولعل ما يعنينا هنا هو هذه الوضعية
    المركزية التي حظيت بها اللغة في الفكر السوسيري، بحيث غدت النموذج الذي
    ينبغي أن تدرس على منواله أنساق العلامات الأخرى. بل إن من الدارسين من
    عدها الوسيط الوحيد والضروري بين الإدراك الإنساني والعالم.


    2 - الصورة واللغة: أطروحتان متعارضتان:

    1.2-أطروحة رولان بارث: العالم أخرس ولا يتكلم إلا عبر اللغة:

    يذهب "بارث" -على الخلاف من "سوسير"- إلى
    أن السيميوطيقا ما هي إلا فرع من اللسانيات، وسنده في ذلك أنه "ليس من
    المؤكد وجود أنسقة علامات في حياتنا الاجتماعية الراهنة تضاهي اللغة شمولا.
    مثل إشارات الطريق. وبتجاوزها إلى أنسقة ذات عمق اجتماعي، فإننا نصادف
    اللغة من جديد. من الثابت أن الأشياء والصور والسلوكات تستطيع الدلالة، وهي
    تقوم بذلك بامتياز، ولكن ليس بكيفية مستقلة البتة، بحيث إن كل نسق
    سيميولوجي يمتزج باللغة. فالمادة البصرية مثلا تثبت مدلولاتها عن طريق
    مضاعفتها برسالة لفظية (وهو حال السينما والإشهار والتصوير الفوتوغرافي
    الصحفي الخ) بحيث يقيم جزء من الرسالة الأيقونية علاقة بنيوية مع نسق
    اللغة، هذا في الوقت الذي لا تحوز فيه أشياء كاللباس والأكل صفة النسق إلا
    إذا هي مرت عبر محطة اللغة التي تقطع دوالها وتسمي مدلولاتها. إننا نعيش
    حضارة الكتابة أكثر من أي وقت مضى، بالرغم من اجتياح الصورة لحياتنا.


    ومجمل القول: يبدو من الصعب أكثر فأكثر
    تصور نسق من الصور أو الأشياء تستطيع مدلولاتها أن توجد خارج اللغة (…) فلا
    وجود للمعنى إلا باللغة. وعالم الدلالة ما هو إلا عالم اللغة"(5).


    لقد أثارت أطروحة "بارث" هذه جدلا عنيفا بحيث تجند العديد من الباحثين لدحضها. فـ"بورشر" (L.Percher) يستدرك على "بارث" بما يلي:

    ـ ليس من الثابت أن الرسالة الأيقونية
    تلعب وظيفة حشوية بالنظر إلى اللغة. ولعل أوضح دليل على ذلك وجود أفلام
    صامتة كليا، ولكنها تفهم. ثم لماذا لا تكون الرسالة اللفظية هي التي تقوم
    بالوظيفة نفسها لصالح الصورة؟


    ـ حين درس "بارث" نسق الموضة تعامل مع
    الخطاب المكتوب حولها، وهو ما لا يفيد إلا جزئيا في فهم كيفية اشتغال
    الأزياء داخل المجتمع، ثم إن هذا يهمش القضية الأساس التي تستهدفها
    السيميوطيقا، وهي: كيف يدل اللباس؟ ما الذي يجعل من لباس ما دالا على
    المحافظة والتزمت وآخر دالا على التحرر والإباحية مثلا؟


    ـ إن العالم في نظر "بارث" أبكم، ولا
    يستطيع الدلالة إلا من خلال اللغة، وهو ما يترتب عنه خلاصتان هما: أن
    العالم مجرد لغة، وأن العالم الوحيد الموجود هو عالم العلم. وإذا كانت هذه
    الأطروحة لا تعدم نصيبا من الصحة، فإنها تفرض نوعا من ديكتاتورية اللغة،
    مرسخة بذلك مغالطة مفادها: لا يمكن أن تكون الدلالة إلا لسانية، وكل ما ليس
    لسانيا -بالتالي- لا يحمل دلالة.


    ـ إن "بارث" يخلط بين اللغة واللغة
    الواصفة (métalangage)، إذ أنه يستنتج من قدرة اللغة على ترجمة مدلولات غير
    لسانية، أنها هي النسق الوحيد الذي ينتج دلالة بحق، وهو أمر غير كاف للزعم
    بأن الدلالة ذات منشإ لساني(6).


    يضاف إلى ملاحظات "بورشر" Prcher ما سجله
    أعضاء جماعة لييج (Liège) حول أطروحة "بارث"، إذ يذهبون إلى أن إطلالة
    بسيطة على كتب الرياضيات والفيزياء والكيمياء والتيكنولوجيا تثبت أنها
    مليئة بالرسوم والصور، وهي رسوم وصور لا يصح الاستغناء عنها والاكتفاء
    باللغة (7).


    بناء على هذه الملاحظات تصبح أطروحة
    "بارث" مجرد افتراض لا يمنع من قيام افتراضات مخالفة تنطلق من أسس مغايرة.
    ونحن سنقتصر في هذا المقام على تقديم أطروحة واحدة من ضمن تلك الأطروحات،
    وهي للباحث البلجيكي الشهير :إيريط بيوزنس" (E. Bryssens)، وستسمح لنا
    المقارنة بينها وبين أطروحة "بارث" باستجلاء طبيعة العلاقة القائمة بين
    الصورة واللغة.


    2.2-أطروحة إيريك بيوزنس: الصورة نسق دلالي قائم الذات:

    يعترف "بيوزنس" بوجود أنسقة علامية غير
    لسانية مستقلة وتامة. يقول: "الأنساق السيميوطيقية الأكثر شهرة هي الألسنة
    بطبيعة الحال. وينبغي أن نذكر إلى جانبها الرموز العلمية والمنطقية
    والإشارات الطرقية وإيماءات الأترابيين (Les trapistes)، وتلك التي
    يتداولها الهنود الحمر للتواصل بين القبائل التي ليس لها اللسان نفسه،
    ودقات أجراس الكنائس والأبواق العسكرية، ثم أن لوائح القطارات والدلائل
    السياحية تستعين بقدر كبير من العلامات، وهي علامات تستعمل أيضا في
    الخرائط. ويلجأ مصححو المطابع إلى زمرة من العلامات. كما أن أجهزة الراديو
    مثلا تحمل علامات توضح كيفية تشغيلها (…) واللائحة طويلة. لكن يلزم التنبيه
    إلى أنها لا تتمضن لا حروف الهجاء ولا كتابة "براي" ولا شفرة "المورس"
    (Morse)، ذلك أن هذه الشفرات لا تفهم إلا إذا عرفت لغة مستعملها، على خلاف
    الأنساق السيميوطيقية المذكورة أعلاه التي ليست لها أية قاعدة لسانية"(Cool.


    يتضح من هذا القول أن "بيوزنس" يقر بوجود
    أنسقة سيميائية غير لسانية، وهو لا ينفي أن هذه الأنسقة يرتبط إدراكها
    باللغة، ولكن في حدود معينة. وهو أمر لا غرابة فيه من الناحية
    الإبستمولوجية. وبذلك فلا طائل من المبالغة في الاعتداد بأولوية هذا النظام
    العلامي وشموليته، وسيكون من الأجدى البحث في سر هذه الأولوية وهذا
    الشيوع.


    يذهب "بيوزنس" إلى أن الأنظمة التواصلية
    السمعية أكثر فعالية في التواصل من الأنساق البصرية، ذلك أن هذه الأخيرة
    تقتضي عدم وجود حاجز بين المرسل والمتلقي، كما تتطلب حدا مقبولا من الضوء.
    ولعل ما هو أهم من هذا هو أن الرضيع يدرك في سن مبكرة جدا أن إيماءاته
    وحركاته لا تلفت نظر الأم إليه، خلافا للصراخ والبكاء الذي يستقدمها حتى
    وإن كانت غائبة عن مجال بصره. من هنا ينبع -في راي بيوزنس- السبب في كون
    الإنسان يتواصل بالكلام أكثر مما يتواصل بالإيماء والحركة. فالنظام اللساني
    يملك إذن مزية تتصل بتركيبنا السيكوفيزيولوجي والاجتماعي(9).


    يضاف إلى ما سبق ذكره أن هذا النظام يقدم
    مزايا استعمالية، إذ أنه الأنسب من بين الأنظمة السمعية الأخرى مادام لا
    يقتضي استعمال اية أداة، أي أن إنتاج علاماته يتم بأعضاء طبيعية (جهاز
    النطق)، ومن ثمة فهو لا يفرض على مستعمله أية تبعية اصطناعية أو أداتية
    خارجية، كما أن توظيفه سهل وغير مهدد بالعطل، هذا فضلا على أنه أكثر غنى
    وتنوعا واقتصادا من كل الأنساق السمعية الأخرى كالصفير والتصفيق والركز…الخ
    (10).


    بعد تقرير أفضلية النسق اللساني، يميز
    "بيوزنس" بين "الأنظمة المباشرة" و"الأنظمة البديلة". فالخطاب اللفظي مثلا
    نظام مباشر، لأن دواله تحيل على مدلولاته بكيفية مباشرة، أما الكتابة فنظام
    بديل، والأمر نفسه بالنسبة لأبجدية "براي" وعلامات "المورس"، وإن كان هذان
    الأخيران نظامين بديلين من الدرجة الثانية، ذلك أن مستقبل رسائلهما يحول
    العلامات إلى حروف الأبجدية، ثم يحول هذه الحروف إلى أصوات اللسان ليصل بعد
    ذلك إلى مدلول الرسالة. وإذا كان المرور عبر اللغة حتميا في الأنساق
    البديلة، فإن الأمر يختلف مع الأنساق المباشرة، فهي تستطيع الدلالة دون
    حاجة إلى العلامات اللسانية.


    نخلص مما سلف إلى أن السيبل الذي سلكه
    "بيوزنس" أخصب من ذلك الذي سلكه "بارث"، ذلك أن "بيوزنس" لا يفرط في التحوط
    المنهجي الذي يقضي بإيلاء الأولوية للغة، لكن دون أن يجعل الأنساق
    السيميوطيقية الأخرى تابعة لها. فمن الثابت أن اللغة نظام ذو طابع شمولي ما
    دام هو الأشيع في المجتمعات الإنسانية، إلا أن له حدودا. فالمهندس
    المعماري مثلا، وكذا عالم الحيوان وعالم النبات… الخ لا يستطيعون الاكتفاء
    باللغة في وصف موضوعاتهم، وإنما هم مضطرون إلى توظيف الرسوم والصور
    والتخطيطات… أي إلى أنظمة سيميوطيقية أخرى.


    إن تحليلا كهذا يكتسي أهمية بالغة بما أنه
    يضع نسق اللغة في مكانه السيميوطيقي المناسب: فهو يحتل الرتبة الأولى دون
    أن يحتكر الدلالة بمفرده. بل إن الأمر لا يقتصر على وجود أنظمة غير لسانية
    أخرى مستقلة فقط، وإنما يضطر نسق اللغة ذاته -أحيانا- إلى الاستعانة بها
    لضمان أداء وظيفته التواصلية والدلالية على أكمل وجه.


    3 - الصورة واللغة: أية علاقة؟

    ما الفرق بين اللسان والشفرة التي تجسد
    الصورة أحد تجلياتها؟ إذا كانت دوال اللسان تتخذ في الرسالة طابعا خطيا
    (Lineaire) بحيث تدرك حسب نظام تحدده بنية الجملة، فإن دوال الشفرة
    الأيقونية تنتشر في فضاء الصورة، بحيث أن إدراك عنصر من عناصرها لا يتم قبل
    العناصر الأخرى ضرورة، فالبدء بهذا العنصر عوض ذاك مسألة متروكة لاختيار
    المتلقي. ومن ثمة فإن الرسائل اللفظية تظل سجينة قواعد النحو والتداول
    خلافا للخطاب البصري الذي لا يخضع لقواعد تركيبية صارمة، إضافة إلى أن
    عناصره تدرك بشكل متزامن.


    ثم إن الخطاب اللفظي يقبل التفكيك إلى
    عناصر يقوم المتلقي بإعادة تركيبها ليتحصل له معناها، في حين أن خطاب
    الصورة تركيبي، لا يقبل التقطيع إلى عناصر صغرى مستقلة، بحيث تبدو الصورة
    ككتلة تختزن في بنياتها دلالات لا تتجزأ، وهو ما يكسبها طاقة إبلاغية لا
    تضاهى (تستطيع الشفرات البصرية أن تنقل 107 وحدة معلومية (bit) في الثانية،
    وإن كان الإنسان لا يستطيع أن يدرك منها سوى ثمان إلى خمس وعشرين وحدة في
    الثانية(11).


    ينضاف إلى هذا أن علامات اللسان تقوم على
    الاعتباط والمواضعة (أي العلاقة بين الدال والمرجع فيها غير معللة) في حين
    أن الصورة تقوم على التعليل والمشابهة. ولعل هذا ما يجعل الرسائل اللسانية
    شديدة التشفير على حين تبدو الصورة وكأنها نقل للواقع بكامل العضوية
    والطبيعية، إلى حد أن بعض الباحثين اعتقد أنها "رسالة بدون شفرة"(12).


    إن التعايش بين الصورة واللغة قديم وضارب
    بجذوره في عمق التاريخ. فمنذ ظهور الكتابة والكتاب وقع تلازم بين الصورة
    والنص. وقد تعززت وتقوت هذه العلاقة بتطور أشكال التواصل الجماهيري بحيث
    أصبح من النادر مصادفة صورة (ثابتة أو متحركة) غير مصحوبة بالتعليق اللغوي
    (سواء أكان مكتوبا أن شفهيا). فما هي العلاقات البنيوية التي تقوم بين
    الخطابين؟ هل يكتفي الخطاب اللفظي بتكرار ما في الصورة أم أنه يضيف إليه
    معلومات جديدة؟


    يذهب "بارث" إلى أن النص اللغوي الذي يحضر إلى جوار الصورة يلعب إحدى الوظيفتين التاليتين:

    ـ وظيفة الترسيخ (Ancrage)، ذلك أن الصورة
    تتسم بالتعدد الدلالي (polyse;ie)، أي أنها تقدم للمشاهد عددا كبيرا من
    المدلولات لا ينتقي إلا بعضها ويهمل البعض الآخر. ومن ثمة فإن النص اللفظي
    يوجه إدراك المتلقي ويقود قراءته للصورة بحيث لا يتجاوز حدودا معينة في
    التأويل(13) فالنص اللغوي إذن يمارس سلطة على الصورة ما دام يتحكم في
    قراءتها ويكبح جماحها الدلالي. وأكثر ما تشيع هذه الوظيفة في الصور الثابتة
    كالصور الفوتوغرافية الصحفية والملصقات الإشهارية…الخ.


    ـ وظيفة التدعيم (relais) وتكون حين يقوم
    النص اللغوي بإضافة دلالات جديدة للصورة. بحيث إن مدلولاتهما تتكامل وتنصهر
    في إطار وحدة أكبر (قد تكون هي الحكاية في الشريط السينمائي مثلا)، وتندر
    هذه الوظيفة في الصور الثابتة. لكنها الأشيع في الصور المتحركة كالفيلم
    السينمائي والتلفزي والرسوم المتحركة…. الخ.


    وقد تتجاوز الوظيفتان وتتعايشان في
    الملفوظ الواحد، عدا أن هيمنة إحداهما على الأخرى لا تعدم الدلالة: فطغيان
    التدعيم على الترسيخ معناه أن المتلقي ملزم بمعرفة اللسان لإدراك فحوى
    الرسالة، في حين أن طغيان الترسيخ معناه أن الملفوظ قائم على الحشو، وأن
    جهل المتلقي باللغة قد لا يحرمه من استيعاب دلالة الصورة(14).


    ومجمل القول فإن الصلات بين الصورة واللغة
    ما تزال معرفتنا بها غامضة وسطحية، وهو أمر راجع إلى أن البحث في مجال
    الصورة ما يزال في بدايته، إذ أن الباحثين ما زالوا في طور البحث عن
    الأدوات والمناهج الملائمة التي تسعفهم في الكشف عن طبيعة هذا الموضوع
    المنفلت وإبراز قواعد اشتغاله. ولن نتمكن من سبر أغوار هذه العلاقة إلا
    عندما يصل علم الإيقونولوجيا إلى ما وصل إليه علم اللسان من تقدم في الوقت
    الراهن.






    الهوامش

    1 - U. Eco- le signe - Labor, 1988, p. 75-76.

    2 - فرديناند دوسوسير: فصول من دروس في
    علم اللغة العام، ت.ع. الرحمان أيوب، ضمن مدخل إلى السيميوطيقا، إشراف سيزا
    قاسم ونصر حامد أبو زيد، ج.1، ط2، منشورات عيون، ص 149-150.


    وتنبغي الإشارة إلى أننا نختلف مع أصحاب
    الكتابة بخصوص تقريبهم مصطلح "langue" بـ"لغة" ومصطلح "langage" بـ"لسان".
    ذلك أن المصطلح الأول يناسبه (لسان)، بما أن اللسان يختلف من قوم لقوم -
    ومنه قوله تعالى: "واختلاف ألسنتكم وألوانكم"، والمصطلح الثاني تناسبه لفظة
    "لغة"، بما أنها ترتبط بقدرة الإنسان على الترميز.


    3 - نفسه، ص 150

    4 - نفسه، ص 150.

    5 - R. Barthes, Présentation de communications 4, p. 1-2.

    6 - L. Porcher: Introduction à uen sémiologie des images, Didier 1976, p. 172-173.

    7 - Groupe U, Traité du signe visuel, Seuil 1992, p. 52.

    8 - أخذا عن "بورشر" (مرجع مذمور) ص 174.

    9 - نفسه، ص 174-175.

    10 - وقد تنبه المفكرون والفلاسفة
    المسلمون إلى هذه المزايا منذ القديم. فهذا فخر الدين الرازي (544 هـ -
    606هـ) يقول: "الحكمة في وضع الألفاظ للمعاني: وهي أن الإنسان خلق بحيث لا
    يستقل بتحصيل جميع مهماته، فاحتاج إلى أن يعرف غيره ما في ضميره ليمكنه
    التوسل به إلى الاستعانة بالغير، ولا بد لذلك التعريف من طريق، والطرق
    كثيرة مثل الكتابة والإشارة والتصفيق باليد والحركة بسائر الأعضاء، إلا أن
    أسهلها وأحسنها هو تعريف ما في القلوب والضمائر بهذه الألفاظ، ويدل عليه
    وجوه: أحدها أن النفس عند الإخراج سبب لحدوث الصوت، والأصوات عند تقطيعاهها
    أسباب لحدوث الحروف المختلفة، وهذه المعاني تحصل من غير كلفة معونة بخلاف
    الكتابة والإشارة، وغيرهما، والثاني أن هذه الأصوات كما توجد تفنى عقيبه في
    الحال، فعند الاحتياج إليه تحصل وعند زوال الحاجة تفنى وتنقضي، والثالث أن
    الأصوات بحسب التقطيعات الكثيرة في مخارج الحروف تتولد منها الحروف
    الكثيرة، وتلك الحروف الكثيرة بحسب تركيباتها الكثيرة يتولد منها كلمات
    تكاد أن تصير غير متناهية (…) ومثل هذا لا يوجد في الإشارة والتصفيق، فلهذه
    الأسباب الثلاثة قضت العقول السليمة بأن أحسن التعريفات لما في القلوب هو
    الألفاظ" نشر هذا النص في مجلة دراسات أدبية ولسانية، ع.1، خريف 1985، ص
    148-149.


    11 - Groupe 11 (op.cit), p. 61.

    12 - يقول "رولان بارث" في معرض حديثه عن الصورة الفوتوغرافية "هكذا يتبدى الوضع الخاص بالصورة الفوتوغرافي: إنها رسالة بدون شفرة"

    Barthes , l’obvie et l’obtus: Le message photographique, Seuil Tel quel, 1982, p. 11.

    13 - R.Barthes, Rhetorique de l’image,
    in L’obve et l’obuts (op.cit), p. 30-31, voir aussi du même auteur: le
    système de la mode Seuil Points 1967, p. 23-24.


    14 - R.Barthes, Rhétorique de l’image, p. 31-32.

    - مجلة فكر ونقد

      الوقت/التاريخ الآن هو الثلاثاء مارس 19, 2024 12:19 am