منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    تحليل للمعلقات

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    تحليل للمعلقات Empty تحليل للمعلقات

    مُساهمة   الخميس فبراير 09, 2012 1:33 pm



    تحليل كامل للمعلقات


    [center]حين نتحدّث عن نظام النسج اللغويّ، قد لا نستطيع
    المروق من جلودنا، ولا الإفلات من قبضة طبيعة الأشياء. وإذن، سنقع، حتماً، تحت
    سلطان الأسلوبيّة. وحين نتحدّث عن الأسلوبيّة، فإننا لن نستطيع إخراجها، هي أيضاً،
    من إهابِها، ولا تغريبها عن وضعها الذي وُضِعَت فيه، وَقَدَرِها الذي قدّرت له،
    ومَنزِلَها الذي بُوِئَّتْ إيّاه. فإنما الأسلوبيّة تعني، أو قد تعني، في أشهر
    التعريفات: الإجراءَ الذي يضبط سطح النظام النسجيّ للكلام؛ إمّا في نص من النصوص،
    وإما في مجموعة من النصوص تشكّل أدباً بِرُمَّتِه، في عصر من العصور، وعبر لغة من
    اللغات.


    وسينشأ عن هذا التمثّل الذي نتمثله نحن
    للأسلوبيّة على الأقلّ، بشيء من التجاوز والتسطيح، والتسامح والتعميم: أنّ الحديث
    عنها، أي عن نظام النسج اللغويّ في نصوص المعلّقات؛ أننا لا نخرج عن ملاحظة الاسْمِ
    والفعل، وعلاقة أحدهما بالآخر، وتوظيف بعضهما بإزاء بعض- نسجيّاً(أسلوبياً) لا
    نحوياً- ثم عن ملاحقة النداء والاستفهام والقَسَمْ والتشبيه، ثم نُحاول التوقف لدى
    ما نتوخّى أنه يمثّل نسج النصّ-أو نسج النصوص- ويجسّد روحه جميعاً.


    فكأننا، إذن، نقع من كثير من الوجوه، أو من بعضها
    حتماً، في فخّ المفاهيم البلاغّية. ونحن لا نأنف من أن نكون بلاغييّن على الطريقة
    الحداثيّة، إذ كانت الحداثة لدينا لا تنهض على إلغاء التراث بَجذاميرِه، ولا
    الزُّهْد فيه بحَذافيره؛ ولكنها تلقيحُ التراث بالحداثة، وتوظيفُ الحداثة للتراث؛
    والنظر إلى التراث برؤية متحررة متطوّرة، وبأدوات إجرائيّة جديدة تكون لها القدرة
    على فكّ اللغز، وتعربة المغشَّى، ونبْش المغَطَّى... فليست البلاغة عِلْماً
    مُفْلِساً؛ ولكن الذي أفلس البلاغة هم الذين لم يبرحوا يضيّقون من حولها الخِناق،
    ويُوغِلون في التطبيقات الباردة، ويُصِرّون على تجزئة الظاهرة الأسلوبيّة وقصْرِها
    على تشبيه واحد مقطوع عن أصله....


    بتمثّلّنا الخاص نتعامل مع بعض هذه الأدوات
    البلاغية القديمة للإفادة منها في فهم الظاهرة الأسلوبيّة لنصوص المعلقّات، وليس
    بتمثّل بعض الأقدمين الذين كان قصاراهم التوقّفَ لدى أحسن تشبيه؛ وأجمل استعارة،
    وألطف كناية، خارج إطار النصّ العامّ، وبدون ربط هذا بذاك، ولا ذاك بهذا، ولا
    استنتاج شيء من هذا بالقياس إلى ذاك: إلاّ ما كان من الانطباع البارد الذي ينشأ عن
    الإعجاب غير المبرّر: أي باقتلاع جملة من أصلها، واجتثاثها من أَوَاِخِّيها؛ فإذا
    هي ناشزة شاحبة، وحائرة وخائبة، وسادرة باردة...


    إننّا إذْ نحلّل أطرافاً من النصّ المعلّقاتيّ،
    في منظور مستوى النسج اللغويّ، لِنكررْ ذلك؛ فإنما لكي نراعِي هذه الأدوات البلاغية
    في إطار النصّ العامّ؛ لا في جزئيّاته التي تمزّق النصّ، وتؤذي نظامه، وتشوّه سطحه،
    فتجعلهُ رُقَعَاً خَلْقَاءَ، وأحلاساً بالية.


    وسنرى أنّ ارتفاقنا، ببعض الأدوات البلاغيّة، في
    طَرفٍ من هذه المقالة، يندرج، بوعي منهجّي، ضمن الرؤية الحداثيّة لهذا العلم
    التراثيّ.


    وقد اضطُرِرْنا، ضمن إطار منهجنا المستوياتيّ،
    إلى عقد هذه المقالة التي تتحدّث، هنا، عن نظام النسج اللغوي لسطح النص الشعريّ
    المعلقّاتيّ؛ لأننا لا نرى كيف يمكن، من منظورنا نحن على الأقل، فهم الظاهرة
    الأسلوبيّة المُتبنَّاة في نسج شعر المعلَّقات بدون المَعاجِ على بعض أدوات البلاغة
    نستأنس بها، ونتعامل معها؟..


    وسنحاول، أثناء كلّ ذلك، تعويم بعض هذه الأدوات
    في طرائق القراءة الجديدة التي تَتَجالَفُ ، بتلك البلاغيات، نحو تأويليّة القراءة،
    وسيماءَوِيّ‍ةِ التحليل.


    وسنجتزئ بالتوقف، فيما يرتدّ إلى التشبيه خصوصاً،
    لدى معلقتي امرئِ القيس وطرفة؛ وذلك على أساس أنّ معلقّتيهما أوفر المعلّقات حظّاً
    من التشبيه(أحصيْنا واحِداً وثلاثين تشبيهاً في معلّقّة امرئ القيس، وتسعة وثلاثين
    في معلّقة طرفة: كما وردتا لدى الزوزني). كما سنركّز على تحليل تشبيهات امرئ القيس
    خصوصاً لِمَا سنعلّل به هذا الصنيع بعد قليل. من حيث سيكون توقُّفُنا لدى تشبيهات
    طرفة أقصر نفَساً، وأعجل مَرّاً. أمّا توقّفنا لدى معلّقات الآخرين فسيكون مجرّد
    عرْضٍ لموضوعات التشبيهات المستعمَلة، وعددها، لقلّة أهميّتها لدى أولئك
    المعلّقّاتيين الذين يبدو أنهم لم يركّزوا عليها في نسج اللغة الشعرية عبر
    معلقّاتهم، على نقيض امرئ القيس وطرفة...


    بينما سنجتزئ، مضطرين، بالتوقف لدى معلقاتيين
    اثنين فحسب، وهما لبيد وعمرو بن كلثوم، وذلك فيما ينصرف إلى ما أطلقنا عليه"عذرية
    اللغة، ووحشيّة النسْج".


    أولاً: المعلقات: عذرية
    اللغة، ووحشية النسج


    وعلى أننا لا نريد بمصطلح الوحشيّة إلى دلالة
    تهجينيّة، كما يتبادر إِلى الأذهان؛ ولكننا أردنا به إلى دلالة تحسينيّة. وإن لم
    يُعْجِبْ مُعْجِباً هذا الإطلاق فذلك لا ينبغي أن يصرِفَه عن المعنى الذي أردنا
    إليه من وراء اصطناع مصطلح الوحشيّة التي رمَيْنا بها إلى معنى الطبيعة الأولى، إلى
    السليقة العذراء، إلى معنى أيّ شيء في حالِ كينونَتِه، ومخاضِ صيرورتِه، وهو يلامس
    التوهّج والعنفوان فهذا التوحّش اللغوي، في شعر المعلّقات، هو كالماء حين ينبع من
    النَّبْع، وكالصوت حين يصدر من الطبع، وكالصدى حين ينبعث من أصل الصوت فيصاديه، ولا
    يعاديه...


    والحقّ أننا حين نريد أن نعالج هذه المسألة نودّ
    أن ننبّه إلى أهمّيتها وخطورتها؛ إذ بدون مُدارَسَةِ المادّة الشعريّة، أو المادة
    الخام-بتعبير اللغة العصريّة- للشعر الجاهليّ لا يمكن اهتداءُ السبيلِ إلى خصائص
    النسج فيه؛ وأنظمة الأسلوب عَبْرَهُ. ذلك بأنّ النقاد القدامى، ولقرب عهدهم من زمن
    الجاهليّة، ثمّ لانعدام الأدوات الإجرائيّة للقراءة لديهم التي نمتلكها نحن اليوم،
    كانت هِمَمُهم تقف بهم لدى شرح الغرائب من الألفاظ، والغوامض من المعاني، ممزَّعَةً
    موزّعة... ولم يدُرْ بخَلَدِهم، قطّ، أن يتناولوا لغة المعلقات في تجلياتها
    الإفرادية والتركيبيّة معاً، وفي مظاهرها النسجية والجمالية جميعاً.


    بيد أنّنا لا نودّ أن ندَّعِيَ ما ليس من الحقَّ
    لنا أن ندَّعِيَه؛ فَنْزُعمَ للناس أنّنا سنتناول هذه المسألة بالتحليل الدقيق،
    والدرس العميق، وبالمتابعة الشاملة الكاملة: فذلك ما لا يطمع في إدراكه العقلاء؛
    ذلك بأنّ هذا الوجه من التحليل يُفضْي إلى آفاق شاسعة، وأَفْضِيَةٍ واسعة، ليس
    يستطيع اجتيابَها إلاّ الأديبُ المُخِفُّ، الذي نحن لَسْنَاهُ.


    وما تَكَأَّدَنَا شيءٌ في هذه الكتابات، عن
    المعلّقات، ما تَكَأَّدَنَا من هذا الأمر الذي نُثيره، هنا في هذه المقالة، لأنه
    استهوانا، حتى أغوانا؛ فأَضْنانا... ذلك بأنّنا، لدى الإِقبال على إنجازه، بذات
    خُطُوَاتُ العِلْم تتعثّر، وأخذ الفكرُ يَكِلٌ، وأنشأ الخيال يحسر، وسُقِطَ في
    يَدِنَا، مع الإصرار على الإِقدام على التناول والمعالجة...


    ونقول للباحثين البارعين، والدارسين اللامعين،
    والذين قد تستهويهم هذه المسألة فيشرئّبن إلى أن يُبدعوا فيها ويُجَوِّدُوا في
    كتابتها-وَكَأَنَّا بِهْمْ قَدِ!-: سنكتب ما نكتب هنا لمجرّد إثارة الانتباه إلى
    هذه المسألة اللطيفة دون الاِلتزام بالذَّهاب فيها إلى غاية المذهب الذي كنا نودّ
    الذهاب فيه، أو إليه؛ ونُضْطَرِبُ في مُعالجتها المُضطرَبَ الذي كنّا نتطلّع إلى
    اجتيابه...


    فذلك، ذلك.

    1. اللغة الإفرادية:

    إنّ أيَّ بناء من النسج اللغويّ ينهض على اصطناع
    العناصر الأولى في هذا البناء، وهي اللغة.


    فاللغة في أيّ نسج أدبيّ، كما نتمثّلها، إنما هي
    بمثابة الألوان الزيتيّة المصطنَعة في النسج الرسميّ. فكما أنّ الرسّام لا يستطيع
    أن يُنجز لوحة زيتيَّةَ إلاَّ بواسطة الألوان، والمواد الزيتيّة، فكذلك الشاعر لا
    يستطيع إنجازَ قصيدةٍ إلا بواسطة الألفاظ اللغوية التي تمثّل، في نسج الشعر،
    عناصِرَ البناء.


    وإنّ أيَّ بناءٍ باللغة، عَبْرَ النسج الأسلوبيّ،
    ينشأ عنه، بالضرورة؛ معرِفَةُ طبيعةِ السِّماتِ التي تتسّم بها عناصر اللغة في ذلك
    النسج. فاللغة بناءٌ، والبناء لغة. والسمة لفظ لغويّ، واللفظ اللغوي سمة.


    وتلك العناصر الصوتيّة التي تتبادل المواقع
    التركيبيّة، داخل لغة ما، هي التي تمثّل النظام اللغويّ للكلام؛ لتلك اللغة التي
    يغتدى اللعب بها شكلاً أدبيّاً يبهر ويسحر.


    وعلى الرغم من أنّ اللغة الجاهلية، كما وصلتنا عن
    طريق ما صحّت روايته(وما صحّت روايته لا يعني، توكيداً ويقيناً، أنه صحيح، وأنه هو
    حقّاً كما قاله أًصحابُه حرفيّا، وَنَسَجَه شعراؤُه لفظِيّاً، لأسباب كثيرة منها
    أنّ الرواية الشفويّة معرّضة لأَنْ يقَعَ فيها التغييرُ والتبديل؛ لا سيما إذا
    علمنا أن الشعر الجاهليّ استقرّت نصوصه بعد أكثر من قرنين من ميلاده المفترَضِ على
    الأقلّ: عَرَفَ العربُ أثناءهما أحداثاً مَهُولَةً، وانقلاباتٍ عقليَّةً وروحيّةً
    وسياسّية جذريّة، وأنّ كثيراً من الرواة عَبثوا بنصوص الشعر الجاهليّ، ومنهم حمّاد
    الراوية، وعاثُوا: لأسباب ذَكَرها النقاد القدماء، وقد عَرَضْنا لها نحن بالتفصيل
    والتحليل في غير هذه المقالة...): هي الأساس الذي قام عليه التركيب اللغويّ في
    العصور اللاحقة بدون تغيير يذكر، بفضل نصّ القرآن العظيم دينيّاً، ثم بفضل النصوص
    الشعريّة والنثريّة، العربيّة القديمة الجميلة التي ربطت الأحفادَ بالأجدادِ
    رَبْطاً عاطفيّاً وجماليّاً فظلّوا يحِنُّون إلى تلك العهود الغابرة، والحقب
    الدارسة: حنيناً عارماً؛ فظلّوا يتمثّلونها في أنفسهم، ويتصوّرونها في ضمائرهم،
    فَيَنْعَمونَ بما يتمثّلون، ويتمتّعون بما يتصوّرون: فإنّ اللغة الجاهليّة، كما
    وصلتنا من خلال النصوص الشعريّة الجاهلية بعامّة، ومن خلال نصوص المعلّقات بخاصة؛
    يجب أن تظلّ ذات خصوصيّة دلاليّة وتركيبيّة جميعاً. كما يجب أن تظلّ، بعد لغة
    القرآن ونظمه، مرجعيّة عالِيَة لنماذج الكتابة، وطرائق النسج الأسلوبي في اللغة
    العربيّة.


    ونحن لا نقبل بأن نذهب إلى عَدِّ هذه اللغة
    غريبةً لمجرد أنها غريبة علينا نحن؛ فالغريب حقاً هو ما كان غريباً في زمانه، وبين
    أهله وقُطَّانِه، والحال أنّ تلك الألفاظ، أو تلك العربيّة العُذْرية، كانت مفهومة
    فهمْاً عامّاً لدى أهل الجاهليّة وصدرٍ طويلٍ من الإِسلام، وخصوصاً لدى الرواة
    والنقاد.


    ثمّ ذهب العهد بأهلها، فبدأت تغترب قليلاً قليلاً
    إلى أن اغتدى في العربيّة لغتان اثنتان: لغةٌ قديمة، وهي على جمالها وجزالتها، يكاد
    المعاصرون من أوساط الثقافة لايفهمون منها شيئاً ذا بال؛ ولغةٌ حديثة رَوَّجَتْ لها
    الصحافَةُ السيّارة، والصحافة الطيّارة، والصحافة الثَّيَّارة، فاغتدَتْ هي اللغةَ
    الشائعةَ الذائعة بين عامة هؤلاء الناس.


    وإذا كانت اللغة القديمة رَوَّجَ لاستقرارها
    وانتشارها، في الجزيرة، المواسِمُ والأسواق ثم القرآنُ الكريم، والحديث النبويّ
    الشريف، ثمّ نصوص الخُطَب، والأشعار، والرسائل، والأحاديث، والأقوال المأثورة،
    والحكم السائرة... فإنّ اللغة الحديثة رَوَّجَ لها ما يعرف اليوم في اللغة المعاصرة
    تحت مصطلح"وسائِلُ الإعلام"، أو"وسائلُ الاتصال". ويضاف إليها الكتابات الأدبيّة
    على اختلافها من شعر ورواية وقصة ومسرحيّة ومحاورات سينمائيّة...


    والذي يتأمّل لغة المعلّقات يصادف عدداً ضخماً من
    ألفاظها لم يَعُدْ مستعَملاً بيننا لأنّ المعاني التي قيل فيها لم نعد محتاجين
    إِليها على عَهْدِنا هذا. وقد لاحظنا أنّ كثيراً من هذه الألفاظِ التي يمكن أن
    نصِفَها الآنَ بأنها ميتة، أو مُمَاتَة، أو على الأقلّ مجمّدة الاستعمال، كانت
    نُطْلَقُ على الناقة، وعلى الأماكن، وعلى جملة من المرتفقات الحضاريّة، والمعاني
    الوثيّة، أو المعاني الأثنولوجيّة، والأثنوغرافيّة، المرتبطة بطقوس فولكلوريّة
    بادَتْ، أو بادَ كثيرُ منها على الأقلّ. بإِشراق الإِسلام بنوره الوهّاج على ربوع
    الأرض.


    وكثيراً ما نصطنع اليوم تلك الألفاظ، أو بعض تلك
    الألفاظ، ولكن بمعان لاعهد لأهل الجاهليّة، ولا لِمَنْ بعْدَهم في الزمن قليلاً،
    بها: مثل"البليّة" التي كانت تطلق على الناقة التي تُشَدُّ على قبر صاحبها حتى
    تَهْلَكَ من حوله جوعاً وظَمَأ. فقد رأينا، إذن، أن معنى البليّة الأوّل، والذي ورد
    في معلّقة لبيد:



    تَأْوي إلى اْلأَطْنابِ كلُّ رَذِيَّةٍ
    مِثْلِ البَلِيَّةِ قَالِصٍ أَهْدامُها


    مات بموت تلك العادة المعتقداتيّة التي لا يمكن
    فَهْمُها إلاّ بتعويمها في الرؤية الأنتروبولوجية، ولكنّ لفظها ظلّ مستعمَلاً في
    معنىً آخرَ؛ وهو المعنى الشائع الاستعمال في اللغة المعاصرة، حين ينطق، أو حين
    يكتب.


    ولا يقال إلاّ بعضُ ذلك في لفظ "الحقيقة" التي
    كانت تستعمل، في اللغة الجاهليّة، استعمالاً واسعاً بمعنى ما يَحِقُّ عليك حِفْظُه،
    فكانت"حقيقة الرجل: ما يَلْزَمُهُ حِفْظَهُ وَمَنعُه، ويحق، عليه الدفاعُ عنه من
    أهل بيته" (1). وكانت العرب كثيراً ما تردّد، حول هذا المعنى، وحين يريدون إلى مدح
    بمكارم الأخلاق، ومآثر الأفعال: "فلانٌ يَسوق الوسيقَة، وينسل الوديقَة، وَيَحمِيْ
    الحقيقة"(2).


    وقد ورد لفظ الحقيقة في معلّقة عنترة بهذا
    المعنى:



    ومِشَكِّ سابغةٍ هتكْتُ فُرُجَها
    بالسيف عن حامي الحقيقة مُعْلَمِ


    فالحقيقة إذن لدى قدماء العرب كانت تعني ما يجب،
    أو ما يحق، عليك حمايتُه؛ أو ما هو حقّ لك من الأشياء والممتلكات، ثمّ تنوسي هذا
    المعنى القديم، لهذا اللفظ الجميل، بضعف الحميّة الجاهليّة التي لم يبرح الإسلام
    يحاربها، واغتدى موقوفاً على معنى الشيء اليقينيّ في التصورّ لدى الفلاسفة، ولدى
    أهل التصوّف أيضاً.


    ومثل لفظ"الضريبة" الذي اغتدى اليوم يطلق في لغة
    أصحاب الضرائب والجبايات، والذين يتابعون الناس في أرزاقهم يقتطعون منها، على مقدار
    معلوم يقتطع من مرتّب الموظف، أو يفرض على التاجر ورجل الأعمال، وكلّ ذي
    دَخْل(وبالمناسبة فإنّ لفظ"الدّخل" كان يطلق، في العربيّة القديمة، على ما يناقض
    المظهر الخارجيّ للمرء، وقد خلّدت هذا المعنى تلك الفتاة العربيّة التي أجابت أباها
    لمّا سألها عن أمر فتيان إخْوَةٍ جاؤوا جميعاً يختطبونها، فلمّا حارت في أمر اختيار
    أحَدِهِمْ قالت:


    "ترى الرجالَ كالنَّحْل، وما يُدْرِكَ ما
    الدَّخْل؟": بينما أصبح لفظ"الدخل" يطلق في لغة التّجار ورجال الأعمال، وعلماء
    الاقتصاد، على الرزق الذي يقع للموظف، أو المواطن، أو الربح الذي يقع للتاجر...)؛
    في حين أنه كان يطلق على الشيء الذي يُضْرَبُ بالسيف، والشخص الذليل الذي كان
    يُضْرَبُ بالسيف، فلا يَضْرِبُ هو: "المُضَّرب". وقد جاء هذا اللفظ بهذا المعنى، في
    معلّقة الحارث بن حلزّة:



    ليس منّا المُضَرَّبونَ ولا قيـ
    ـسٌ، ولا جَنْدَلٌ، ولا الحَذَّاء


    ولعلّ الذي أبعد العربيَّة القديمةَ على ما يجري
    به الاستعمال المعاصر، الشائع، ثلاثةُ أمورٍ: أولهما: موت المعاني التي
    استُعْمِلَتْ فيها العربيّة القديمة، مثل العتيرة، والحقيقة، والمُضَرَّب، وكثير من
    تلك المعاني كان مندرجاً في طقوس وثنيّة بادَتْ.


    وثانيها: شيوع الأميّة اللغويّة، وغلَبَة الكسل،
    وانعدام حبّ المعرفة، لدى كثير من الناس.


    ولم تبق هذه الأميّة اللغويّة مقصورةً على عامة
    الناس فحسب، ولكنها جاوزتهم إلى الكتاب والشعراء أنفسهم؛ فإذا هم لا يكادون
    يستعملون إلاّ ألفاظاً بسيطة قليلة في كتابات كثيرة: فغاب الدور الجماليّ للّغة، في
    أعمال أدبيّة يفترض أنّ الوجود اللغويّ فيها هو الذي يمنحها الشرعيّة، ويشرئّب بها
    نحو الخلود.


    ولقد نشاهد كلّ يوم في الفضائيات الأجنبيّة
    الساقطة علينا من أَجْوَاءِ أوربا أنّ هناك برامَج ثقافيَّةً وترفيهيّة كثيرة تقدّم
    إلى الناس باللغة، وعن اللغة... بينما الذين يشرفون على البرامج المبثوثة عبر
    الأثير، في معظم بلدان الوطن العربيّ، لا يملكون أن يقدّموا مثل تلك البرامج
    الثقافيّة اللغويّة الجميلة؛ لأنّ الصحفيّ العربيّ في أوّل درس يتلقّاه في مدرسة
    الصحافة، يقال له: اللغة للمختصّين، وللذين يدرّسون اللغة العربيّة في المدارس
    والجامعات... أمّا أنت فعليك بالكتابة، وبكتابة لا تكلّف نفسَها معرفة أكثر من
    ثلاثة آلاف لفظة!... والله المستعان!...


    وآخرها: طفوحُ معانٍ جديدة، بحكم التطوّر
    الحضاريّ المذهل، ثم بحكم التطور الطبيعيّ للمجتمعات والأشخاص بحيث أنّ إنشاء ألفاظ
    جديدة كثيراً يكون شؤماً مشؤوما على حياة ألفاظ قديمة فتموت، أو تُمَاتُ، وتُنْسَى،
    أو تُتَنَاسَى... وهذا قانون ينطبق، في الحقيقة(بالمعنى الحديث)، على جميع اللغات
    الإنسانية التي تَطَوُّرُها واتّسِاعُها وتَبَحُّرُها لا يحَدْثُ في كلّ الأطوار،
    دون أن يَضِيرَ ما قَدُمَ من الألفاظ، وما غَبَرَ من المعاني. من أجل ذلك، ارتأينا
    أن نطلق على لغة المعلّقات، في بعض استعمالاتها على الأقلّ. صفة التوحّش، لا صفة
    الغرابة؛ وصفة العذريّة، لا صفة البَداوة.


    ولمَّا كان الأصلُ في كلّ تركيب لغويّ، هو اللغةَ
    نفْسَها في لَعِبِها بنفسها؛ ولمَّا كانت هذه اللغة هي المادّةَ الأولى التي يتشكّل
    منها التركيب، ويتركَّب منها النسج، ولمّا كانت هذه اللغة التي قيل عبرها الشعر
    الجاهلي وحشيَّةً، غجريّة: كأنّها نبْعُ الماء حين يتبجّس، أو شذَى الوردِ حين
    يعبق، أو خضرةُ النبْتَة حين تَدْهَامُّ، أو زَرْقَةُ السماء حين تصفو، أو إِشراقة
    الشمس حين تتوهَّج، أو نور القمر حين يتلألأ: سمحةً كعطاء الطبيعة، وكريمةً كقَطْرِ
    الغيث، وعبِقَةً كنفَس الفجر، ودافئةً كَلَبَنِ الثدي، كان التركيب اللغويّ الذي هو
    أثر من آثار عطائها، وشكل من ثمرات تشكّلها: غجريّاً مثلها.


    خذ لذلك مثلاً قول لبيد:

    *في لَيْلَةٍ كَفَرَ النجومَ غَمَامُها*


    فإننا نلاحظ فيه:


    1. فعلى المستوى النحويّ تقديمُ المفعول على
    الفاعل، على غير المألوف من التركيب، بحيث يمكن للقارئ، أو المتلقيّ، أن يقع في
    غَلَط إذا تسرّع في قراءته فيرفع المفعول، وينصب الفاعل، قبل أن يَنْبَه إلى وجه
    الكلام، ويهتدي السبيلَ إلى صواب الإعراب.


    2. وعلى المستوى النحويّ أيضاً-لأنّ النحو ليس
    إِقامة الإعراب فحسب، ولكنه إقامة المعنى أيضاً- نلاحظ أنّ لفظ "غمامها"، هنا،
    مُشْكِلٌ بحيث يمكن أن تعود الهاء منه إِمّا على"ليلة"، وإِما على"النجوم": دون أن
    يمتنع إمكانُ توجيهِ إعرابِ على إعرابِ، وتخريج على تخريج.


    3. وعلى المستوى الدلاليّ فإنّ اصطناع لفظ
    "كَفَرَ" الشائع في اللغة العربيّة، منذ ظهور الإسلام، بمعنى الشرك بالله، أو الشكّ
    في وجوده، أو القطْع بعدم وجوده: يوهم القارئَ العاديّ فيتسرّع وَهْمُهُ إلى المعنى
    الإسلاميّ، لا إلى المعنى الوصفِيّ لهذا اللفظ الذي كان معناه في أصل الوضع
    للسَّتْرِ والإِخفاء والمُواراة.


    4. نلاحظ أنّ إضافة الهاء المُشْبَعَة بالسكون
    المفتوح الممدود، إلى الميم من لفظ (أو "ضَرْب"، كما يصطلح العَروضيّون):
    "غَمَامُها" ينهض بوظيفة إِيقاعيّة وجماليّة عجيبة؛ فلو أُورِدَ هذا المصراعُ على
    التركيب البسيط، فقيل:


    *في ليلةٍ كَفَرَ فيها الغَمَامُ النجومَ


    لخرج عن كلّ انزياح؛ ولَمَزَق من دائرة الخرْق
    النسجي، والتوتُّر اللغويّ؛ وإذن، لَمَا كان له مثل هذا الوقع الجميل، وهذا التنغيم
    البديع.


    كما أنه لو أُوِرَد على طريقةِ النسج في هذه
    القصيدة، ولكنْ بتقديم وتأخير المفعول، وقيل:


    *في ليلةٍ كفَرَ الغَمَامُ نُجومَها


    لفسد الإيقاع، ولخرج من صوت الضمّ إلى صوت الفتح؛
    وإذن لانْكَسَرَ الصوت؛ وإذن لحدث اضطراب مُريع في مسار الإيقاع الشعريّ الأخير
    لهذه القصيدة الوحشيّةِ الخارقةِ الجمال.


    ويبدو أنّ نسج هذه القصيدة يُعَدُّ أُمَّ النسوج
    الشعريَّة التي قيلت على شاكلتها، على نحو أو على آخر، ابتداءً من الفرزدق إلى أبي
    الطيب المتنبي:



    وفاؤُكما كالربْع أَشجاه طاسِمُهْ
    بِأَنْ تُسْعِدَا والدَّمْعُ أشقاه ساجِمُه(3)


    إلى أبي الحسن الحُصْرِيّ في داليته البديعة (وهي الداليّة التي
    تناصّ معها كثيراً من الشعراء منهم نجم الدين القمراوي، وناصح الدين الأزّجانيّ،
    وأحمد شوقي...)(4) فنسج على غرار قصيدة لبيد، مع وجود الفارق، ولكن مع استلهام روح
    الإيقاع، متناصّاً معه:



    يا ليلُ الصَّبُّ مَتى غَدُهُ
    أقيامُ الساعة مَوْعِدُهُ؟


    ولعلّ من الواضح أنّ إعادة الضمير على سابق في
    هذا الإيقاع، واجْتِعَاَلَ هذه الهاءِ عنصراً إيقاعيّاً، إضافيّاً، بجانب ما قبله:
    يفجّر اللغة بما فيها من الطاقات النغميّة، والعطاءات الصوتيّة؛ فيغتدى النسج كأنّه
    منظومة من الأنغام المتتالية المتصاقبة التي تخرج ألفاظ اللغة من مجرّد سمات صوتيّة
    فيزيائية دالة على مدلول، إلى سمات جماليّة تستحيل بالوظيفة اللغويّة من الذهن إلى
    السمع، ومن المدلول إلى الدالّ...


    وممّا يمكن أن يندرج ضمن ما نطلق عليه التركيب
    الوحشيّ للغة العربيّة، قول لبيد أيضاً:


    *قَسَمَ الخلائِقَ بيننا عَلاَّمُها*


    فهذا التركيب بعيدٌ عن النسْج المألوف للغة
    العربية وأسلوبِها"الأَرْطودُوْكْسِي" بين الناس؛ وَفَهْمُ معناه لا يتأتَّى إلا
    باستعمال الذكاء، والاندماج في روح النّصّ حيث تصادفنا جملة من الانزياحات النسجّية
    منها:


    1- تقديم المفعول على الفاعل، هنا أيضاً، كما
    كنّا لاحظْنا ذلك لدى تحليل المصراع الشعريّ السابق، وهو قوله:


    *في ليلة كَفَرَ النجومَ غَمامُها*


    وإن كان المفعول هنا، على موقعه المتقدّم، يبدو
    أكثر اطمئناناً في النسج، وأشدّ استقراراً في التركيب، وذلك على أساس أنّ القارئ
    العربيّ الذكِيَّ يُدرك، لأوّل وهلة، أن الذي يَقْسِمُ الأرزاقَ بين الناس لا يكون
    إلاّ علاَّمَ الغيوب؛ فهو الفاعل الأعظم، والمقِّدَّر الأكرم.


    2- إن الضمير الوارد، هنا، في هذا المصراع الشعري
    اللَّبِيديّ، جَاءَ لِمُجَرَّدِ إِشباعِ الإيقاعْ بصوت إضافيّ، بعد الميم التي
    كأنَّها، لو أُبْقِيَ على ضَمِّها غير الممدود لكان في ذلك قمْعٌ للنفَس، وقهر
    لاندفاع الصوت، وغَفْص لمخْرَجِه، وَكَبْت لمنتهاه: أعِيدَ على الخلائق، ولكن
    بتغليب الكائنات غير العاقلة على العاقلة، وكأنّ الحياة كانت لا تبرح في تلك اللحظة
    الشعريّة العذريّة، تمثّل النشأة الأولى للإنسانيّة. وكأنه لم يكن هناك أي فرْقٍ
    بين ما لا يعقل، وبين من يعقل، ولذلك وقع التغليب. وعلى أننا نعلم، من الوجهة
    النحويّة الخالصة، أنه يجوز إعادة الضمير على جمع التكسير على هذا النحو دون حرج.
    ولكننا أردنا إلى تأويل هذا الضمير سيماءَوِياً، لا نحويّاً.


    3- إنّ التركيب في هذا المصراع لا يستقيم، كما
    يجب أن يلاحظ ذلك كل مُتَلقٍ من الناس، وأنه مكثّف إلى درجة أن المتلقّي هو الذي
    عليه تأويلُ الصياغة، وتخريجُ المعنى، وتركيب النسج على الوجه المألوف، إن شاء أن
    يَفْهَم. وهو ببعض ذلك كأّنّه شعر حديث جداً، لأنّ الباثّّ، هنا، يرسم نصف صورة،
    ويترك للمتلقّي تكملةَ رسْمِ النصف الآخر من هذه الصورة.


    ويغتدي المفعول، حين يُعْمِلُ المتلقي ذهنه،
    منصوباً على المُغَالَطَةِ (ونحن نتجرَّأُ على النحاة باقتراح هذا المصطلح الذي
    فرضتْه إجراءات هذه القراءة)، وهو هنا نائب لمفعول غائب اقتضاه التكثيف الشعري:
    يتمثل في لفظ"الرزق". وعلى بعض ذلك يغتدي تقدير نسج هذا المصراع العجيب:


    * قَسَم العلاَّمُ الرِزقَ بين الخلائق.


    فكأنّ التكثيف اقتضى تغييُبُ لفظ "الرزق"،
    المفهوم لدى المتلقّي الذكيّ، وتعويضه بمَنْ ينتفعون به وهم الخلائق: من الوِجْهة
    الدلاليّة، كما اقتضى حذف لفظ "الرزق" واتخاذ "الخلائق" نائباً له، للدّلالة عليه
    من الوجهة النحويّة. أمّا الهاء التي أُشْبِعَ بها صوتُ الميم من اللفظ الأخير في
    المصراع (الضرب)؛ فقد جاء، كما أَسْلفْنا الْقَالَ، لينهض بوظيفة جماليّة أساساً؛
    ولكن لا يمتنع من أن ينهض بوظيفة إضافيّ‍ة تتجسّد في تعميق الدلالة، وتوكيد المعنى.


    ولو جئنا نقرأ مثلاً هذا البيت لعمرو بن كلثوم:



    ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أَدْمَاءَ بِكْرٍ
    هِجَانِ اللَّونِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينَا


    لتأكّد لنا ما كنّا زعمناه في شيء ممّا كنّا
    قرأناه من بعض شعرِ لبيدٍ، ولاٌ ستبانَ لنا أنّ هذا النسِج حوشيّ غجَريّ في معناه،
    وفي تركيبه:


    1. فأَيْمْا في معناه فإنه يُشّبِهُ ذراعَيِ
    المرأةِ بذراعَي الناقة؛ وهي صورة في منتهى السوء، وانحطاط الذوق البدويّ، وقصوره
    عن إدراك جمال الحياة، وجمال الأشياء. ولعلّ الذي حمله على ذلك هو حرصه على إقناع
    المتلقّي بضخامة هذه المرأة: طولِ قامةٍ، وضخامَةِ جسدٍ. وإذِ اغتدتْ ذراعاً هذه
    المرأة العجيبة ذراعَيْ عيْطلٍ من النُّوق؛ فقد وُصِفَتْ بأنَّها كومُةُ من
    اللُّحْمانِ، وكثيبٌ من الأعصاب: فهي فارعة طويلة، وضخْمة بدينةٌ؛ فكأنّها مجموعة
    من النساء مجسّدة في امرأة، وطائفة من الأجساد مطويّة في واحد، وعلى الرجل الذي
    يريدها كلّها، أو يريد شيئاً منها: أن يكون، على الأقلّ، في مستوى طولها وعَرْضها،
    وبَدانتها وضَخامتها... وهذه أوصاف كلّها عيوب، ونعوت كلّها منفِرّات من المرأة، لا
    مرِغبات فيها.


    وبياض هذه المرأة مثْلُ أَمْرِ ذراعيْها. فكما
    أنّ ذراعيها تشبهان ذراعي الناقة في الضخامة والبضاضة، فإنّ لونها، أيضاً، يشبه
    بياضُه بياضَ الناقةِ الأَدْمَاءِ. وتذوب هذه المرأة في هذا الحيوان، في هذه
    الناقة، أو البقرة الوحشيّة، لتتّخذ لها وصْفاً آخَرَ منهما؛ فكأنّ خيال الناصّ كان
    من القصور والحرمان بحيث لم يستطع قطّ مجاوزة صورة تلك الناقة التي كان يشاهدها
    ويركَبُها، فصوَّرَ فيها صاحَبَتَه، وجعلها امتداداً منها، أو امتداداً لها.


    ولمّا جاء الناصّ يصف هذه المرأة، أو قل جاء
    ليؤكّد الوصف، بياض اللون، اصطنع لفظ "الِهجان"، وهو لفظ لا يكاد يطلق إلاّّ على
    البيضِ من النُّوق، وإِلاَّ على البِيضِ من العقيلات. وأنهى الصورة التي أراد من
    ذكرها تجميلَ صاحبتِه وتقديمها للمتلقّين في صورة من الحُسْن والجمال، بِجَعْلِ هذه
    المرأة ناقةً لمَّا تَقْرَأَ: أي لمَّا تَحْمِلْ. فهاتان الذَّراعان السمينتان،
    الغضّتان البضّتان، كأنهما ذراعا ناقة فتيّة ضخمة الجسم، طويلة العنق؛ لَمَّا
    تتجشّم الحمل...


    وقد رأينا أنّ جمال هذه المرأة المسكينة انقلب من
    سحر الأنوثة، وفتنتها، ولطافتها، ورشاقتها؛ إلى مجرد كثيبٍ من اللّحمان المترهّلة،
    وقامة غليظة عملاقة تشبه هيئة النخلة المتهاوِيَة.


    2. وَأيَمْا في تركيبه فإِنه تغْلُبُ عليه هذه
    الأوصاف التي هي، أصلا، للناقة، ثمّ استعيرت لهذه المرأة: فإذا العيطل، والأدماء،
    والبكر، وهجان اللون، وَعَدَم القَرْءِ.


    ولو جاء معاصر يقرؤها لأَلْفاها ألفاظاً مسلوكةً
    في اللغة الغجريّة المنصرفة إلى هذا الحيوان الذي كان يلازم العرب ويلازمونه، وهو
    الناقة. فعلى ما يبدو في هذا النسج من أُلْفَةِ التركيب العربيّ، فإنّ المادة
    اللغويّة المنسوجَ منها تَجْعَلُهِ في مُجْتَعَلِ التوحُّش، وتعود به إليها. إذ
    الكلام واردٌ في معارِضَ حَوَالَ المرأةِ في معناه، وحوْل الناقِة في لفظه؛ فإذا
    صورة المعنى تطفو على صورة النسج، وإذ الدالُّ حيوان، وإذا المدلول إنسان.


    أو قل إنه لا يمكن فَهْمُ هذا البيتِ فهْماً
    صحيحاً إلاّ بتعويمه في الأنتروبولوجيا والسيمائيّة معاً. فهو من الوِجهة الأولى
    يضطرب في مجتمع بدائيّ ينهض فيه الحيوان بوظيفة مركزيّة في الحياة اليوميّة،
    وَيُنْظَرُ فيه إلى الأشياء نظرة بدائيّة، ويُتَمَثَّلُ فيه الجمال بناء على ما
    بلغته الحياة الخياليّة في ذلك المجتمع... وهو من الوِجهة الأَخراةِ نُلفي الناقةَ
    تنهض، في هذا البيت، بوظيفة السمة الحاضرة، الدالّة على السِّمَة الغائبة. وليست
    السِّمَةُ الحاضرة هي المقصودة في الكلام، ولكن السمة الغائبة... وتذوب الصورة
    الغائبة في الصورة الحاضرة، أو قل إنّ الصورة الحاضرة هي التي تُذيبُ الصورة
    الغائبة فيها حتى ترقى بها إلى مستوى المُماثِل(الإقونة): إذْ لم تكن هاتان
    الذِّراعان المشاهَدَتانِ إلاّ صورةً للذراعيْن الغائبتين؛ كما أنّ هذه العَيْطل
    الأدْمَاءَ الحاضرةَ ليست إلاّ صورة كاملة مُمَاثِلَةً للمرأة الغائبة... ويمكن
    قلْبُ الصورة المُماثِليَّة بتعويم صورة المرأةِ في صورة الناقة؛ حيث إنّ هذه ذابت
    في تلك، وتلك ذابت في هذه؛ فلا ندري أيٌّ منهما يُرادُ؟ ولا ندرِي في أيّ منهما كان
    الناصّ يفكّر، وأيّاً منهما كان يَصِفُ، وأيَّاً منهما كان يَحِبُّ؟ إِنَّ منزلة
    الناقة تستوي هنا بمنزلة المرأة فليس بينهما فرق.


    ولو جئنا نتابع أبياتاً لهذا، وأبياتاً لذلك، من
    المعلّقاتييّن، لَما أمِنَّا أن يستحيل هذا المجاز، في هذه المقالة، إلى فصل طويل،
    وربما إلى مجلدّ كامل. من أجل ذلك نجتزئ ببعض ما قدّمنا. ولكن قبل أن ننفض اليد من
    ذلك نودّ أن ننبّه إلى أنّ الشّاهديْن السابقَيْن لهذا: على الرغم من عذريّتهما
    النسجيّة، إلاّ أنّ التصوير فيهما كان بديعاً، وأنّ البَداوة لم تَحْرِمْهُما من
    فيض فيّاض من الجمال العبقريّ؛ فكأنّ مثل ذلك الشعر يظلّ، أبد الدهر، مصدَرَاً من
    مصادر الإلهام وينبوعاً من ينابيع الجمال.


    ****


    ثانياً: النسج اللغويّ
    بالتشبيه


    ليس هناك أيّ أدبٍ في العالم، وبأيّ لغة كُتِبَ،
    وفي أي نسْج نُسِجَ، وتحت أيّ خيال أنْشِئَ: تراه يخلو من التشبيه. وليس التشبيهُ
    مقصوراً على المبدِعين، شعراء وكتّاباً، وَحْدَهُمْ، ولكنه زينةٌ يصطنعها كلّ
    المتعاملين باللغة في حياتهم اليوميّة، وفي تعاملاتهم التبليغيّة الابتذاليّة، وفي
    تعابيرهم الشعبيّة، حيث تلفي المرأة البدويّة تستعمل التشبيه، بلغتها العاميّة،
    وَحَسَبْ مستواها الذهني والثقافي؛ فتصيب المحَزَّ، وتقطع المفصَلَ. وحيث تلفي
    الشاعر الشعبيّ يصطنع هذه الزينة الكلامية، في شعره، فتراه يشبّه صغير الحجم
    بكبيره، وناضر الوجه بأنضر منه، وطويل القامة بأطول منه، وهلمّ جرا...


    وقد لاحظنا أنّ كثيراً من الأوصاف التي كنّا
    نلفيها لدى الشعراء الجاهلييّن لا تبرح متداوَلَةً بين الشعراء الشعبييّن، في
    العالم العربيّ بعامة، مع اختلاف في النسج، وتفاوت في درجة التعبير. فإذا كان
    العربيّ القديم كان يصطنع عبارة "بعيدة مَهْوَى القُرْطِ" ليصف بها عنق المرأة في
    طوله، وإذا كان امرؤ القيس يشبّه جِيدَ صاحبتِه بجيد الرئم في طوله-غير الفاحش- وفي
    لطفه واستوائه؛ فإننا نلفي شاعراً شعبيّاً جزائريّاً يستعمل الرَّقَبَةَ عَوِضَ
    العُنُق، ويستعمل الطْول صراحةً عَوِضَ التكنية عنه ببُعْدِ مَهْوَى القُرْطِ، أو
    تشبيهه بجيد الرئم...


    وقد توقف البلاغيّون العرب لدى التشبيه، طويلاً،
    فقتلوه تعريفاً وتصنيفاً، وتقسيماً وترتيباً؛ ولكنّ الذي فاتهم، فيما يبدو، أنهم لم
    يميلوا إلى تناول جماليّته، وما يضفيه على النسج الأدبيّ من حسن فنّيّ بديع. فكأنهم
    تعاملوا معالتشبيه، كما تعاملوا في أطوار كثيرة مع الاستعارة أيضاً، تعاملاً
    إجرائيّاً؛ فغلب التصنيف والتقسيم على التحليل، وطغَا التعريف والترتيب على إبراز
    ما يجب أن يكمُنَ فيه من جمال يرقى بالنسج الأٍسلوبيّ من مجرد كلام عاديّ مبتذل،
    إلى كلام فنّيّ بديع.


    وقد اجتهد في أن يُدَارِسَ التشبيه من الوِجْهة
    النفسيّة، ولكن ضمن التقسيم البلاغيّ المدرسيّ(5). ولعلّ أوّل من حاول أن يراعي
    الجانب الجمالي، في البلاغيّات بوجه عامّ، كان الأستاذ عليّ الجارم في كتابه
    المدرسيّ "البلاغة الواضحة". ولكن مساعيه، هي أيضاً، لن تجاوز المنطلقات التقليدية
    لمفهوم الإجراءات البلاغيّة، وتقسيماتها الركبكة...


    وإنّ ما نودّ التوقّف لديه نحن، هنا، هو أنّ
    التشبيه حتى في حال اشْتِيَاقِهِ إلى التقبيح، وتعلّقه بأداء وظيفة التشويه: يظل،
    في منظورنا، راكِضاً في رياض الجمال، وسابحاً في مروج الخيال. فالشاعر حين يقول:



    وإذا أشارَ مُحَدِّثاً فكَأَنَّه
    قِرْدٌ يُقَهْقِهُ، أو عجوزٌ تَلْطِمُ!


    فلا يعني حُبُّ التقبيح والتشنيع في رسم هذه
    الصورة، أنَّ التشبيه، من حيث هو إجراءٌ فنَيَ جماليَ، يلتحق بغاية أبي الطيب من
    إِرادة تشويه هيئة هذا المتحدّث الذي يشبّه هنا بصورة القِرْد حين يُقَهْقِه، وصورة
    العجوز الشمطاء حين تلطم. فالجمال الفنّيّ يكمن، بالذات، وهنا، في هذا القبح
    الجميل. أي أنّ عبقرية النسج تكمن في أنّ الناصّ استطاع أن يُصوِّرَ لنا القبيح
    الدميم، في صورة تشبيّه جميلة، فصوّر لنا الدميم البشع في صورة أدبيّة طافحة
    الجمال. فكأنّ المفارقة تقوم في أن الدميم من الأحياء، والرديء من الأشياء: قد
    يذوّبها الأديب الكبير في نسج عبقريّ فتغتدي الدمامة في نفسها، كأنها دمامة جميلة
    في نسج الكلام.


    فلا شيء أسوأ من مَرآةِ قِرْدٍ وهو يضحك، ولا
    شيءَ أبشعُ من منظر عجوز وهي تلطم على وجهها؛ بيد أن نقل هذه الصورة المركّبة من
    منظريّن بشعِيْن إلى صورة شخص بشع يتحدّث بيْن أصحابه، ثم ربط المناسبة بينهما
    بجَعْل الصورة الأولى كأنها الصورة الأخراةُ لهذا الشخص: هو الذي جسّد عبقريّة
    النسج، وجمال التصوير، وحُسْن التشبيه: فتوارَتِ البشاعةُ، أو كأَنْ قَدِ! والسرّ
    في كلّ ذلك، ذلك الجمالُ الطافح الذي أنشأ هذا النسيج الكريم من الألفاظ، من مجرد
    الألفاظ؛ فتكوّنت علاقة بين بَشِعٍ واحدٍ، وبشعيْن اثنيْنِ؛ ولكن عَبْرَ عرائِسَ من
    الألفاظ، وعجيباتٍ من الصور.


    ومما لاحظناه في تشبيهات امرئ القيس أنه كان
    يعمد، أطواراً، إلى تشبيه قويّ بضعيف، ومتوهّج باهر، بشاحب ذابل: أي أنه كان يصطنع
    ما يمكن أن نطلق عليه"التشبيه المقلوب".


    ولعلّ بعض ذلك يَمْثُلُ في قوله، مثلاً:



    أصاحِ تَرى برْقاً أُريكَ وَميِضَهُ
    كَلَمْعِ اليَدَيْنِ في حَبِيٍّ مُكَلَّلِ


    فهذا الوَمَضَانُ الخاطِفُ للأبصار، حين يَمِضُ
    في السَّحاب المركوم: لا يعدو أن يُشْبِهَ حركةَ اليديْن الصغيرتين. وماذا في حركة
    اليدين من وَمَضَانٍ، وماذا فيهما من سُرعة الحركة حتى يُشَبَّه بهما وميضُ البرق
    الخاطف؛ إلاّ أن يكون تشبيهاً مقلوباً؟


    وذلك، مع أنّ الذي يقرّره البلاغيّون هو أنّ
    التشبيه يقوم على ضرورة بروز الحالة التي يراد تشبيهُها: في المشبَّه به، أكثر من
    المشبّه: فيشبّه الضعيف بالأضعف منه، والقويّ بالأقوى منه، والجميل بالأجمل منه،
    وهلمّ جرا... كما يقرّرون أنّ التشبيه، من وجهة أخراة، يقوم على تشبيه المجرّد
    بالمحسوس... ولكنّ هذه المقرّرات لا يمكن الالتزام بها لدى الكتابة الإبداعيّة التي
    تنهض على الإبداع في اللغة، وفي النسج، وفي الصور... وليس على تقليد الصور البالية،
    والتشبيهات العتيقة...، كما كان يقرر ذلك القدماء، ومنهم ابْنُ طَبَاطِبَا(6).


    وقد لاحظنا أنّ التشبيهات لدى امرئ القيس
    تتنازعها ثلاثَةُ محاوِرَ كُبرى: وهي البياض، واللمعان، والنضارة، والصفاء، وما في
    حكمها. ثمّ الحركة والتبختر والاهتزاز وما في حكمها. ثمّ الطول والاعتدال والنحافة
    والرِّقّةُُ والاستواء. ونسعى الآن إلى متابعة ذلك خلال شعره.






    أولاً: البياض والصفاء
    والإشراق والبريق


    1. البياض والطراوة:

    *وشَحْمٍ كَهُدَّاب الدِمَقْسِ المُفَتَّلِ*


    2. البياض والصَّقْل والصفاء:

    *ترائِبُها مصقولَةٌ كالسَّجَنْجَلِ*


    3. البياض القائم على التمازج مع الأصفر(الصفاء):

    *كبِكْرِ المُقاناةِ البَيَاضِ بِصُفْرَةٍ*


    4. البياض والصفاء والإشراق:



    تُضيءُ الظلامَ بالعِشاءِ كَأَنَّها
    منارةُ مُمْسَى راهبٍ مُتَبَتِّلِ


    5. بياض اللون، وطول الذيول، وسُبوغ الشعور، وتبختر الحركة:
    معاً:



    فَعَنَّ لنا سِرْبٌ كأنَّ نِعَاجَه
    عَذَارَى دَوَارٍ في مُلاءٍ مُذَيَّلِ


    6. بياض: أطرافُه سُودٌ:



    فأَدْبَرْنَ كالجِزْعِ المُفَصَّلِ بَيْنَهُ
    بِجيدِ مُعَمٍّ -في العشيرة- مُخْوَلِ


    7. البياض واللّمعان(له علاقة بالبياض)، وسرعة الحركة:



    أصاحِ تَرى برْقاً أُريِكَ وميضَه
    كلمْع اليديْن في حِبَيٍّ مُكَلَّلِ


    8. البياض المخطّط:



    كأنَّ ثبيراً في عَرانينِ وَبْلِهِ
    كبيرُ أناسٍ في بِجَادٍ مُزَمَّلِ


    9. البياضُ واللّمعان:


    كلمْع اليديْن في حَبيٍّ مُكَلَّلِ



    [table:85dc bor

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس مارس 28, 2024 7:09 pm