منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    قصيدة (موسيقى عراقية): مقاربة إيقاعية

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    قصيدة (موسيقى عراقية): مقاربة إيقاعية  Empty قصيدة (موسيقى عراقية): مقاربة إيقاعية

    مُساهمة   الإثنين سبتمبر 10, 2012 7:50 am





    موقع الشاعرة بشرى البستاني



    الشعر أولا وأولا وأولا







    قصيدة (موسيقى عراقية): مقاربة إيقاعية .. أ.م.د. محمد جواد حبيب البدراني



    نال الشعر النسوي قسطاً وافراً من الاهتمام في أدبنا
    العربي المعاصر بعد ظهور نخبة من الشواعر اللائي استطعن الخروج من شرنقة
    القيود المفروضة حول إبداع المرأة , وتشكل الشاعرة بشرى البستاني انعطافة
    بارزة في الشعر النسوي المعاصر في العراق لمكانتها المتميزة في خارطة الشعر
    الموصلي , فلشعرها طعمه الخاص الذي يغري الباحث باقتفاء لذته والبحث عن
    معطيات ثرائه الدلالي والأسلوبي ولعل ذلك يعود لمزاوجتها الواعية بين
    التجربة الإبداعية والتخصص الأكاديمي وعلو كعبها في التراث الأدبي ومعطيات
    الحداثة مما ترك أثره في تشكل جماليات الإيقاع في بنية قصيدتها .


    يشكل ديوان ( مكابدات الشجر ) وهو أخر ما نشر من منجزها
    الشعري ذروة تجربها الإبداعية عبر نجاحه باستنطاق اللغة بالإيقاع والإيقاع
    باللغة واشتغاله على منظومة من العلاقات الأسلوبية والبنائية بحثاً عن
    مفاتن موسيقية تتبع من بنية النص ولا تكتفي باليات الوزن والقافية المعروفة
    بل تشابك هذه الآليات بحشد من التوافقات غير المعلنة بين الصوت والدلالة
    وهارمونيا الإيقاع والفكرة على نحو يجعل من شعرها نصاً ذا خاصية إيقاعية لا
    يمكن الكشف عن ملامحها بيسر بل تحتاج إلى إدراك جمالي متمعن يتهجس جمالية
    التعالق الدلالي الإيقاعي بكل عمقه وثرائه وتعقيده , ولعل قصيدة ( موسيقى
    عراقية ) واحدة من أغنى قصائد الديوان إيقاعياً بل من انضج منجز الشاعرة
    فهي لا تعتمد على انسياب زمنية الوزن والقافية بشكل ودود شجي فحسب بل يتعدى
    ذلك إلى توظيف مهيمنات صوتية تضبط الإيقاع وتغني نبرته الدلالية كما أنها
    تعتمد التجريب الموسيقي والتداخل والتناوب الإيقاعي والارتفاع والانخفاض
    الهارموني وتوظيف علاقات التزاوج والتراوح بين تفعيلات الشعر العربي بطريقة
    مدروسة تجعل الانزلاق بينها لا يشكل تعتعة إيقاعية أو فوضى موسيقية فضلاً
    عن جماليات التقفية فيها التي اعتمدت بنية خاصة مزجت بين الالتزام بالقافية
    والتحرر منها بشعرية عالية وظفت تقانات التماهي بين الموسيقى الداخلية
    والخارجية ( الإطار ) بلعبة ذكية خلقت نصاً يؤازر بعضه بعضاً لينهض بشعرية
    عالية , وهذا ما دفعنا إلى مقاربة القصيدة إيقاعياً بغية الكشف عن جماليات
    بنيتها النصية .


    إن عملنا يبتدئ بمحاولة الوقوف عند عتبات القصيدة النصية وهي ”
    كل ما يمت بصلة إلى النص المدروس بعلاقة خفية بعيدة مع نصوص أخرى زائداً
    ما يمت إليه بعلاقة مباشرة قريبة كالعنوان والهوامش ” ([1])
    والتي أضحت في الدراسات المعاصرة ” تشكل نظاماً اشاريا ومعرفيا لا يقل
    أهمية عن المتن … بل انه يلعب دوراً هاماً في عملية القراءة ” ([2]) وصولاً إلى استكناه بنى النص واستبطان أفاقه المعرفية .


    إن عنوان القصيدة يشتغل على موجه قرائي يجعلنا ملزمين بالوقوف
    عنده فقد حظيت الموجهات القرائية ” بأهمية قرائية خاصة في مواجهة نصوص
    المبدعين واقتحامها لذا فان وضعها يستلزم وعياً مركباً في استيعاب حجم
    الموجه وإشعاعاته العلامية على النحو الذي يناسب مشروع النص الإبداعي
    وحمولاته الدلالية “([3]) فهو يميل ذهنياً إلى قصيدة موسيقى عربية للشاعر الفلسطيني محمود درويش وهي إحدى قصائد ديوان ” حصار لمدائح البحر ” ([4]) ,
    والعنوان في ضوء نظرية التواصل رسالة مسننة ومشفرة من المرسل ( المبدع )
    إلى المرسل إليه ( المتلقي ) محكومة بسياق وترسل عبر قناة وظيفتها المحافظة
    على الاتصال بين المرسل والمرسل إليه ([5])
    , بيد إن قراءة العنوان لا يحقق اكتفاء دلالياً بل تشكل قراءة مرحلية للنص
    تميل إلى قراءة اكبر هي قراءة النص بأكمله , ويتألف عنوان القصيدة من
    دالين احدهما موسيقى التي تخصص بأنها عراقية وتحيل دلالات الموسيقى إلى
    مفاهيم إيقاعية واضحة ذلك أن مفهوم الإيقاع تداخل في تراثنا العربي بين
    ثلاثة علوم هي الفلسفة والموسيقى والعروض([6])
    وإذا حاولت مقاربتنا استقراء المعطيات النصية المتعالقة دلالياً مع
    العنوان نجد أن بنية العنوان تحيل على التعضيد الموسيقي التجريبي في إيقاع
    القصيدة من خلال التزام جملة من المؤثرات الموسيقية التي توحي بتعمد اختيار
    هذه التسمية التي توحي أن حضور الدال ( موسيقى ) له ما يبرره إذ أن ” ثمة
    بديهية تقوم عليها فلسفة العنونة الأدبية بعامة والعنونة الشعرية بشكل خاص
    مفادها أن العنوان يوازي نصه جمالياً ودلالياً ” ([7])
    ويبرر ذلك أن الموسيقى محاولة عراقية تقابل الموسيقى العربية التي كتبها
    محمود درويش بعلاقة تناصية ذلك أن التناص هو ” تداخل النصوص وتعالقها أو
    علاقة نصوص لاحقة بنصوص سابقة ” ([8]) ولعل
    ما يربط بين هاتين التجربتين الاتكاء على التجريب الإيقاعي بمحاولة إدخال
    البحر البسيط في الشعر الحر وهو ما اكتفت به قصيدة درويش في حين تجاوزت
    قصيدة البستاني ذلك بالتنويع الموسيقي المتعدد – كما سنلاحظ – فلقد جاءت
    قصيدة ( موسيقى عربية ) على اشطر كاملة من البحر البسيط أو نصف شطر من
    البسيط لكل سطر شعري , والحق إن محاولات الكتابة على البحور المركبة
    والممزوجة ليست جديدة إذ أشارت نازك الملائكة إلى انه ” يمكن نظم الشعر
    بتكرار أية تفعيلة مكررة في الشطر العربي المعروف سواء أكان هذا البحر
    صافياً أم ممزوجاً ” ([9])
    ويبدو أن د. علي جعفر العلاق وهم بزعمه أن الواقع الموسيقي اخرج ”
    البحور المركبة أو البحور الممزوجة , كما تسميها نازك الملائكة من دائرة
    الفعالية والتأثير بشكل يكاد يكون تاماً واقتصر التشكيل الموسيقي في معظم
    الكتابات الشعرية على البحور المفردة ” ([10]) , إذ أن محاولات الكتابة على البحور الممزوجة بدأ مع السياب فقد كتب قصائد حرة على تفعيلات الطويل والخفيف وغيرها ([11])
    , كما أن أول قصيدة تفعيلة على وزن البسيط واشطره كانت قصيدة ( افياء
    جيكور ) وإذا كانت قصيدتا درويش والبستاني تشتركان في مطلع واحد ( ليت
    الفتى حجرٌ يا ليتني حجر ) فهما يحيلان إلى بيت تميم بن مقبل :


    ما أطيب العيش لو أن الفتى حجرٌ



    تنبو الحوادث عنه وهو ملمومُ

    وهو من البحر البسيط عروضه مخبونه وضربه مقطوع ويمثل هذا
    البيت أمنية لدى الشاعر عدها ادونيس صالحة لان تكون مفتاحاً ” لفهم الشعر
    الجاهلي … تكشف هذه الأمنية عن شعور العربي بان الحياة هشة سريعة الانكسار
    وتكشف ايجابياً عن التغلب على الهشاشة والموت ” ([12])
    , ويرى حاتم الصكر أن هذه الأمنية لا يولدها الخوف من الموت بقدر ما
    يسببها حب الحياة ذاتها فكان الشاعر لا يريد أن يرى ما ستؤول إليه الأشياء
    التي أحبها بعد أن تنالها يد القدر بل يريد أن يظل راسخاً كالأثر شامخا بلا
    مبالاة ” ([13])
    , ولعل مما يميز بين القصيدتين أن درويش ” يقف عند الأمنية وحدها مغيراً
    أداة الامتناع ( لو ) في بيت تميم بأداة التمني ( ليت ) … حتى لتغدو
    الأمنية اقتراحا تمويهياً لا يريد منا الشاعر أن نفعله فهو يرينا ما تصنع
    الحوادث وإذا بصنيعها كله من فعل البشر … فالحياة نفسها ميدان الصراع بين
    الإنسان وعدوه “([14]) , أما بشرى البستاني فتتمنى أن تكون حجراً كي لا ترى ما حولها من مآسٍ ومحن يجر بعضها بعضاً في مسار لا مفر منه ولا خلاص ولا مهرب .


    ليت الفتى حجرٌ يا ليتني حجرٌ



    ألتم حين شظايا الدهر تنهمرُ

    ألتمُ حين تلوحُ الأرضُ ساقيةً



    شوهاء يتشج في أطرافها الشجرُ

    هل يعرف الشوق إلا من يكابده



    ويعرف الجوع إلا جائعٌ وعرُ

    أو يعرف الجرح إلا نازفٌ عبرت



    على جراحهِ نارٌ وقدها حجرُ ([15])

    إن القصيدة يمكن أن يكتب مقطعها الأول بصورة الشطرين في أبياته الأولى :

    تتكئ الشاعرة على التراث عبر تجربتها الشعرية فبحكم
    تخصصها الأكاديمي وإطلاعها الواسع على المنجز الشعري العربي تناصت القصيدة
    مع التراث الشعري العربي فالتناص ” مجموع العلاقات التي تربط نصاً ما
    بمجموعة من النصوص الأخرى وتتجلى من خلاله “ ([16]) وهكذا تتعالق النصوص عبر عمليات الامتصاص والتحويل والتكثيف لتبني نصاً جديداً أفاد من معطيات سابقيه .


    لقد تناص المطلع مع قول تميم بن مقبل

    ما أطيب العيش لو أن الفتى حجرٌ



    تنبو الحوادث عنه وهو ملمومُ([17])(17)

    كما يتناص مع بيت الشعر العربي القديم :

    لا يعرف الشوق إلا من يكابده



    ولا الصبابة الا من يعانيها



    ولعل ما يميز التناص انه لم يكن تناصاً دلالياً فقط
    بل تواشج معه تناص إيقاعي فالأبيات هنا من البحر البسيط أيضاً , ولعل
    الشاعرة أفادت من معطيات التناص مع الآية الكريمة ( فَاتَّقُوا النَّارَ
    الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) ([18])
    التي أفادت في التعبير عن معاناة العراقيين أمام جور الحصار الذي اهلك
    الزرع والضرع وجعلهم يعيشون ناراً تشبه الجحيم والتي أسقطت كسفها على الذات
    الشاعرة عذاباً جارحاً .


    تنتقل الشاعرة بعد ذلك إلى اشطر من البسيط :

    فوت الحبيب الذي أوجعتهُ ظفرٌ


    في روعه ندمٌ … في صدره سقرٌ

    عرار ريا وما في ربعها سطروا

    ودار ميةً مذبوح بها الأثرُ

    …. ….

    غيلان غيلانُ هل يجدي الفتى حذرُ ([19])

    من جديد تلجا الشاعرة للتناص فتقلب بيت المتنبي الشهير في مدح سيف الدولة :

    فوت العدو الذي يممته ظفرٌ



    في طيه اسفٌ في طيه نعمُ ([20])

    كما تفيد من بيت الصمة القشيري في قوله :

    تمتع من شميم عرار نجدٍ



    فما بعد العشيةِ من عرارِ ([21])

    وقوله :

    حننت إلى ريا ونفسك باعدت



    مزارك من ريا وشعباكما معا ([22])

    وأفادت من الإشارة إلى قصة الحب الشهيرة في التراث العربي بين
    الشاعر ذي الرمة ( غيلان بن عقبة العدوي ) ومية وقد وظفت الشاعرة جميع
    هذه الدلالات التراثية لتصف عمق معاناة الإنسان العراقي الذي عانى ما جعله
    يتمنى أن يكون حجراً لا يشعر بالعذابات التي حوله والتي اختصت به واختص بها
    فلا يشعر بها الأخوة والأصدقاء من العرب وغيرهم فقد تفرق الأحبة ولم يعد
    يجدي الندم وانفكت عرى الأواصر ولم يعد للحذر من مكان .


    إن الشاعرة وظفت ذاكرتها الشعرية لإعادة نتاج
    النصوص المتلاقحة في نص جديد ساح في أزمنة وأمكنة تراثية لتعبر عن تعلقها
    بالوطن وتعالقها مع ذاكرته الشعرية فهي ترى معاناة العراقيين امتداداً
    لمعاناة أجيال عاشت على تربته وتجد في هذا التراب المعذب وأهله المصطلين
    بنار المعاناة امتداداً لإرثها الحضاري وجذورها موغلة الامتداد في عروق
    الوطن .


    تفيد الشاعرة من تقانة التناوب والتنوع فبعد أن
    تناوب بين إيقاع البسيط العمودي ( الشطرين ) والشعر الحر على البسيط تستخدم
    تقنية إيقاعية جديدة هي التنوع * فتنتقل إلى إيقاع فعولن ( نواة المتقارب )
    مفيدة من تقانة إيقاعية تعتمد ” التدرج الواعي … في الانتقال من مقطع
    يتأسس على تفعيلة إلى مقطع جديد يكون بداية لتفعيلة أخرى بديلة تستدعي
    تغيراً في الموقف الشعري ” ([23])
    ومع أن العلاقة بين الوزن والمضامين غير واضحة المعالم ولا يمكن اعتماد
    قوانين علمية بشأنها , لكن من المؤكد أن غرضاً دلالياً ألجأ الشاعرة إلى
    الانتقال من البسيط في المقطع الأول إلى نواة المتقارب , فبعد أن كانت
    الشاعرة في المقطع الأول تمهد بأسلوب وصفي غلب عليه سرد الحدث وتوصيفه
    وتصوير أجوائه انتقلت إلى صورة أخرى تعتمد البوح الهادئ والحديث الملغم
    بالشجون المفعم بالحزن فتقول :


    على مقعد من يقين


    تستريح الحمامات

    مطفئة نارها

    البرتقال يفجر أشجانه في النوار الحزين

    على مقعد من شجون

    يستريح الفتى حجراً … يستريح غباراً

    بأغنية ظل ينشدها العابرون ([24])





    لقد كانت الانتقالة الإيقاعية مبررة دلالياً فإيقاع المتقارب
    يمتاز بتدفقه ورتابته الناجمة عن تكرار إيقاعه وانسيابيته لسرعة التفعيلة
    وقصرها ولذلك فهو يوائم تدفق المشاعر ولذلك كان موفقاً في التعبير عن
    الحالة السيئة للذات الشاعرة وهي تعيش الاغتراب في مجتمع محاصر يعيش مرارة
    العوز والضياع والإحساس بالمرارة مما ترك أثره في بنية القصيدة إيقاعاً
    ودلالة . ولعل مما يتميز به النص لغته الشعرية العالية فقد اختارت الشاعرة
    كلمات مثلت انحرافاً ” تتجاور فيه الكلمات ويضبط بعضها على الأخر في تركيب
    غير مألوف , فإذا كانت اللغة العادية هي الاتصال بين ما يمكن إدراكه وشيء
    أخر يمكن إدراكه , فان الشعر هو الاتصال بين ما يمكن إدراكه ولا يمكن
    إدراكه ” ([25])
    ولذلك تستعين الشاعرة باللغة السردية موظفةً إياها في التعبير عن معاناة
    شخصيتها التي هي ذاتها الشاعرة نفسها , فالحمامات بكل ما تحمله من رمزية
    للمحبة والسلام والأمان في الموروث الإنساني بعامة ورمزية للحزن والبوح في
    التراث العربي وهي تحاول إطفاء النار – نار الحصار – التي تتشظى في جسد هذا
    الوطن الجريح وقد حقق هذا الرمز الذي تواشج مع الصورة المجازية للبرتقال
    الموصلي الذي يفجر أشجانه نواراً حزيناً مبتغاة , ولعل دقة استخدام لفظة (
    يفجر ) بدفقتها الإيقاعية والدلالية وما تحمله من معاني الولادة والموت في
    آن واحد أضفت على النص قدرة على الانفلات من كل ما يكبل الذات الشاعرة من
    معاني القهر والهزيمة , وهذه اللفظة تذكرنا بقول السياب ” صوتٌ تفجر في
    قرارة نفسي الثكلى عراق “ فالشاعرة تواصل التوهج بذاكرتها الشعرية التي
    تشتعل لا شعورياً في جميع أرجاء القصيدة فـ ( أغنية ظل ينشدها
    العابرون ) تحيل إلى قول السياب في المومس العمياء :


    والعابرون إلى القرارة … مثل أغنية حزينة ([26])

    فكأن الشاعرة تريد الإيحاء بان العالم أضحى مبغى كبيراً يديره
    السماسرة الذين لا يتاجرون بأجساد البشر بل بمصائرهم وحيواتهم , وبعد أن
    تصرح الشاعرة بمعاناة وطنها تجرد صورة رجل تحاوره لكن أي رجل ؟! انه الرجل
    الرمز الذي يمثل ذات العراق ويتعاطى مع الوطن ليكونا حالة واحدة .


    ثم تلجأ الشاعرة إلى تنويع إيقاعها فتنتقل سطرياً من إيقاع ( فعولن ) إلى ( فاعلن ) ثم تعاود ( فعولن ) مرة أخرى فتقول :

    وليلَكةٍ تسأل الشام عن ومضةٍ في عيون البطاحْ


    قالت الأرض لا تستفق يا هواي الأخير

    قلت كل الزمان …

    صالح للتشرد كل المكانْ

    صالح للتوحد … كل المدى صالح للحُلُمْ

    وكل المواعيد شاحبة غير موعد قلبي ([27])

    ومقفرة غير موعد حبي ..



    إذا نلاحظ أن الشاعرة تنتقل من إيقاع ( فعولن ) في بداية النص
    إلى ( فاعلن ) في السطر التالي ثم تعاود إلى ( فعولن ) في السطر الأخير,
    وانتقلت الشاعرة من إيقاع ( فعولن ) نواة المتقارب إلى ( فاعلن ) نواة
    المتدارك وهما المنتميان إلى الدائرة نفسها ( المتفق ) والمكونان من بنيتين
    متشابهتين فعولن ( وتد مجموع + سبب خفيف ) وفاعلن عكسها ( سبب خفيف + وتد
    مجموع ) وهذا ما يجعل الانتقال من واحدة إلى أخرى سلساً متيسراً ويلاحظ أن
    الشاعرة جاءت بفاعلن بصيغها التامة اغلب الأحيان أو بالمذالة في نهاية
    الأسطر فضلاً عن الإكثار من حروف المد مما منح النص امتداداً إيقاعياً كما
    إن فاعلن الصحيحة لو لم تعززها الشاعرة بالتذييل والخبن تتسم بالرتابة
    ويعود ذلك لتعاقب ضرباتها وبطئها وتبدو موائمة للسرد والاقتراب من لغة
    الحديث اليومية لان ( فاعلن ) بطبيعتها تساعد على الاسترسال وتتابع المعاني
    ([28])
    وتلائم البطء الذي عززه التذييل كما أسهمت بنية التوازي والتكرار الواضحة
    في النص فضلاً عن الإفادة من التقفية الداخلية في تقوية إيقاع النص .


    تنتقل الشاعرة بعد ذلك إلى تقانة الانتقال المقطعي إذ نجد
    نجيمات تشير إلى بداية مقطع جديد , وقد بني المقطع على نظام التفعيلتين وهي
    أوزان عدتها بعض الدراسات رجزية أو تجمع بين الرجز والسريع وهي كما يبدو
    لنا أوزان جديدة تستخدم تفعيلتين الأولى متكررة في عموم السطر والثانية لا
    تأتي إلا في نهاية السطر ([29]) وقد استخدمت الشاعرة وزن ( مستفعلن – مفعولات ) فقالت :


    آهٍ لو الصدور تستطيع أن تبوح


    مستفعلن متفعلن متفعلن معولْ

    بشهقة في الروح

    مستفعلن مفعول

    اركضُ في عتامة الضبابْ

    مستعلن متفعلن معولْ

    أخترق السحابْ

    مستعلن معولْ

    وأضرب الترابْ([30])

    متفعلن معولْ

    انتقلت الشاعرة من لغة الحوار الى لغة المناجاة والمونولوج
    الداخلي لذلك كانت الانتقالة الايقاعية مبررة دلاليا تبعا لتحولات الموقف
    والانفعالات النفسية التي قادت الشاعرة الى هذا التنوع فقد وصلت الشاعرة
    الى حالة اليأس المطلق (فقد وقع المحذور) كما تقول في نهاية المقطع وجاء
    الوزن متوائما مع الحركة النفسية وتسارع الاحداث في مأساة هذا الوطن .


    تنتقل الشاعرة بعد ذلك الى الوزن الكامل (متفاعلن ) وهي
    تفعيلة تتسم بالبطئ النسبي كما تمتاز بتعدد انماط زحافاتها وعللها مما يجعل
    ايقاعها متنوعا يمتلك امكانية وزنية متباينة كما يمتاز بانه من اكثر
    الاوزان (غنائية ولينا وانسيابية وتنغيما
    واضحا) ([31]) فتقول :


    الجرح لا يعطي لواعجه ولا يعطي زنابقه

    ولا باع المناديل التي نزفت على شرف الاماسي المترعة

    والبحر تقطعه النميمة والهزيمة والشراك المغرضة


    والبحر تقطعه الليالي

    والبحر … يالي من رجالي ([b][32]) .[/b]

    لقد افادت الشاعرة من التشكيلات الايقاعية التي تتولد من
    التفعيلة الاساسية لتنوع امكانات الوحدة الزمانية صعودا وهبوطا وسرعة وبطئا
    ، فقد قادت سرعة الانفعال في البداية الى الاكثار من التفعيلات المضمرة
    التي تمنح النص سرعة وعندما بدأ الانفعال بالهبوط ظهرت علة الترفيل التي
    تطيل التفعيلة وتبطئها لتكون القافية محطة استراحة تهدئ الدفقة الانفعالية ،
    فعندما تتحدث الشاعرة عن جرح الوطن المحاصر المعتدى عليه تلجأ الى انحراف
    دلالي في غاية الاتقان باستخدام (زنابق الجرح) فهي ترمز باللون الابيض
    للطهر والعفاف وبخاصة اذا ربطنا ذلك مع المنديل الابيض رمز العفة والبكارة
    والشرف في المجتمعات الشرقية الذي اضحى حقل مساومة في زمن النميمة والهزيمة
    والانكسار والصمت العربي المتجاهل الذي اضاع الارض والعرض ، ولعل الحاح
    الشاعرة على تكرار كلمة البحر يشي بملامح العدوان الهمجي المستمر على وطنها
    والقادم من البحر الذي لم يعد رمزا للخير والعطاء بل صار رمزا للشر
    والعدوان فهو (يشعلها ضحى ولظاه يغمرها دجى) وتستمر الشاعرة في الحاحها على
    الامنية الحجرية وعدائها للبحر الذي تصفه باللدود ، وعندما تعاود المناجاة
    مع الحبيب تعاود اللجوء الى موسيقى شعرية جديدة فعولن (نواة المتقارب) :


    حبيبي لماذا الجسور تلم معابرها في الغروبْ

    لماذا البلابل كانت تلوب

    على كتفيك … اذا الشيح غرد او هدل العندليب([b][33])[/b]

    أي حبيب هذا الذي تناجيه الشاعرة انه الوطن الذي تناجيه
    بتراتيل مقدسة وتتلذذ باسمه بحبٍ منقطع النظير وبحميمية غير مألوفة فيغدو
    الحبيب هو الوطن والوطن هو الحبيب بتحاهٍ وتوحد واضحين ، ولعل مما يلفت
    الانتباه هنا ان الشاعرة تلجأ الى تغيير ايقاعي متعمد فتقول :


    لماذا اذا غنت الارض أغنية العائدين

    وكلمت الارض اشجارها من حنين

    وماجت جبالا وفاضت بحارا وسالت انين

    قال هذا الفؤاد

    مالها …؟!!

    حبيبي ….

    لماذا تلم المباهج فتنتها اذ تغيب([b][34])[/b]

    الشاعرة تعتمد بنية التساؤل وايقاع (فعولن) وايقاع (فاعلن) في جوابه الذي جاء جملة خارقة لبنية النص (قال هذا الفؤاد مالها) .

    لقد استجمعت الشاعرة مجموعة من الصور المشتتة ووظفتها في بنية
    النسيج الشعري مستفيدة من تداعي العناصر الدالة لتتراكم بطريقة عضوية خاصة
    ومؤلفة نسقا ايقاعيا محركا ما حوله حين تتساءل ويظل هذا التساؤل قائما دون
    ان تجد الجواب المقنع حين يغدو الواقع كابوسا ، فجاء تكرار التساؤل (ليؤدي
    وظيفة دلالية مهمة تتجاوز مجرد دورها اللغوي المباشر … لكونها تتصل بجملة
    الوظائف الشعرية التي اصبحت محصلة للبنية الموسيقية والميكانزم التصويري) ([35])
    . وقد جاءت بنية التساؤل داعمة النص ومعززة لحالة الخوف والترقب التي
    تعيشها الشاعرة لان النص الشعري الناجح هو الاقرب الى عالم الاسئلة) ([36]) .


    وتختتم الشاعرة القصيدة بمقطعها الاخير الذي تقول فيه :

    لم يكن من خيارْ


    فاعلن فاعلان


    عراقية كانت السعفة الشاردة

    فعولن فعولن فعولن فعولن فعو

    عراقية كانت الريح واللاعجة

    فعولن فعولن فعولن فعولن فعو

    فسلام على الارض في وجدها

    فعلاتن فعولن فعولن فعو

    وسلام على وجعي

    فعلاتن فعولن فعو

    وسلام على وتر لا ينام([37])

    فعلاتن فعول فعولن فعول

    لقد ابتدأت الشاعرة المقطع الختامي بسطر من (فاعلن) ثم انتقلت
    الى فعولن وعاودت مرة اخرى الى التلاعب الايقاعي فادخلت (فعلاتن) في سياق
    (فعولن) بحرفية عالية – والقصيدة موسيقى عراقية – أي تجربة ايقاعية جديدة
    ويبدو لي ان الشاعرة تقصدت ذلك لكسر افق التوقع الموسيقي والخروج على رتابة
    المألوف اذ كان بامكان الشاعرة ان تحذف حروف العطف من بدايات الاسطر
    الثلاثة الاخيرة لكنها تقصدت ذلك ايماناً منها بأن القصيدة هي التي تبدع
    عروضها وتخلق موسيقاها ولعل المتلقي لا يشعر لاية تعتعة موسيقية في دخول
    (فعلاتن) في سياق (فعولن) ومع ان سياقات كهذه لها تشابهات نوعا ما مع ما
    كان يعرف بالخزم في العروض العربي ، الا اننا نزعم ان الشاعرة تعمدت كسر
    افق التوقع ليصطدم المتلقي بموسيقى خاصة في نهاية القصيدة وقد عزز من ايقاع
    القصيدة التعويض عن هذا الخرق العروضي بايراد بنى ايقاعية جديدة قائمة على
    التكرار التوازي الذين يحفل بهما المقطع ويشكلان سواه ولحمته .


    اما اذا انتقلنا الى ايقاع القافية فهي – كما معروف – لم تكن
    في الشعر واجهة تزيينية او حلية مضافة بل لا مندوحة عن وظيفتها الدلالية
    فهي في القصائد الجيدة غير ممكنة الاستبدال باية كلمة اخرى لانها تربط بين
    اجزاء القصيدة التي قد تتشتت وتتباعد بدونها فالقافية (قد تكون عند الشاعر
    المجيد منطلقا لابداع جديد فهي لا تقيد ابداعه – كما يدعي البعض – بل
    تقوده الى السير بالقصيدة في ركب جديد ) ([38]) . يجعل من القافية بحق (موقعا مركزيا في ايقاع القصيدة … ومفتاحا للحنها) ([39]) .


    ان الشاعرة بشرى البستاني في المقطع الاول من القصيدة المكتوب
    بايقاع الشطرين من بحر البسيط وان جاء كاليغرافيا على طريقة التفعيلة –
    تلتزم قافية مبنية على روي الراء المضمومة والراء من الاصوات المجهورة فضلا
    عن ما يحمله بوصفه احد الاصوات التي يشكل نطقها اهتزازا وترجيعا فهو صوت
    يفيد التكرار بطبيعته فكأن الشاعرة تريد الايحاء باستمرارية الحدث وتدفقه
    وتجدده على شكل موجات متعاقبة تلتحم في بنية تركيبية وصوتية متصاعدة تضع
    المتلقي في توتر جمالي ناجم عن استمرار حركة المشهد المأساوي المحيط ببلدها
    .


    تنتقل الشاعرة في المقطع الثاني الى القافية المتتابعة نونية الروي (يقين ،
    حزين ، شجون ، العابرون ، ظنون ، الزمان ، المكان ، الامان) فهي وان جاءت
    على نظام (أ أ ب ب ج ج ج ) الا انها اعتمدت النون روياً والنون من الاصوات
    التي تحمل غنة وتشيع فيها نبرة الحزن والشجن كما ان المقطع يمتاز بشيوع
    حروف المد في قوافيه بل وفي السطر الشعري باكمله ومن المعروف ان شيوع اصوات
    المد تكسب النص (نوعا من البطء الموسيقي او ما يمكن ان يوصف بالتراخي
    الموسيقي) ([40])
    . وقد تآزرت حروف المد مع ايقاع القافية في خلق ايقاع بطيء يوحي بالتصدع
    والتهالك ويثير في نفس المتلقي احساسا عميقا بالحزن لمآسي هذا الوطن فجاء
    ايقاع القافية ملائما للتأمل الحزين لمآسي بلدها بعد ان كانت في المقطع
    الاول تتحدث عن امنياتها وهذا ما اسهمت اصوات المد وشجى النون في تأجيجه
    عبر مط النص ومنحه مزيدا من البطء الملائم للاحساس المأساوي مما جعل من
    التكرار اشبه بايقاع انيني منبجس من شعور باليأس يخيم على نفس الشاعرة .


    تستمر الشاعرة في تنويع قوافيها عبر القصيدة فتقول في احد المقاطع :

    اهٍ لو الصدور تستطيع ان تبوح

    بشهقة في الروح

    اركض في عتامة الضباب

    أخترق السحاب

    وأضرب التراب([b][41]) .[/b]

    ان الالم يعتمل في صدر الشاعرة لذلك لجأت الى القافية المقيدة
    اذ يلاحظ ان الشاعرة افادت من التوأمة بين حرفي الروي الساكن وما يسبقه من
    مد لاعطاء النص مزيدا من الاطالة الموسيقية قبل الوقفة ، اذ ان النقد
    الحديث يولي عناية كبرى لايحاءات الاصوات التي تعطي للنص ابعاده الجمالية
    الخاصة لان (اية محاولة لتجاهل البنية الصوتية في حل شفرة النص وايقاعه
    عاجزة عن كشف مكنوناته وعلائقه
    اللسانية) ([42]) . وقد نجحت الشاعرة في ادخال الحاء رويا فنحن نتفق مع ما قررته دراسات سابقة من (ان تكرار الحاء يتصل بالطرب ان فرحا او حزنا) ([43]) . وان (تكرار الحاء يشي بالتوقع المهموس لتبريح الحب) ([44])
    . فالشاعرة هنا تغالب حزنا يعتمل في صدرها لكنه يخرج نفثات مصدور يرى وطنه
    يمتهن وتكتم حبا برى جسدها لهذا الوطن الذي اضحى رمزا لكل م هو محبب .


    وقد تلجأ الشاعرة الى الخروج على القافية فالقافية في القصيدة
    المعاصرة لم تعد تمتح من المعجم اللغوي بل من المعجم التعبيري ولم يعد
    الشاعر المعاصر يعتمد نظاما ثابتا للقافية ففي المقطع التالي لا نلاحظ وجود
    قافية متعالقة مع تاليتها :




    يا ايها البحر ابتلعني

    اذ أتوق واذ الوب

    واذ تمور النار في نبض الجذور

    يا ايها البحر الذي يغري

    رخام الموج بي

    اطلق دهاليز الكلام

    عبئ مخاوفه بالغامي

    ولا تأخذ اليه

    قلقي([b][45]) .[/b]

    ان الشاعرة هنا تعتمد نظام القوافي الحرة (باستخدام الكثير من
    القوافي … دونما انتظام محدد في استخدامها وقد تتشابك القوافي بحيث
    يستعمل الشاعر القافية ثم
    يتركها ) ([46])
    … وهكذا يحل النظام العفوي المعتمد على الدلالة فقط محل القافية وقد عوضت
    الشاعرة عن غياب القافية بالقوافي الداخلية مثل (غور ، الجذور ) وتكرار
    (اين البحر ) (اذ) وافعال الامر . وبعامة فان قوافي القصيدة بحاجة الى وقفة
    متأنية بيد ان خشية الاطالة تدفعنا الى القول ان الشاعرة عمدت الى القافية
    المطلقة فقط في المقطع الاول القريب من شعر الشطرين واختارت الراء رويا
    مضموما في نص يفيض حزنا واسى وحسرات والذات الشاعرة تتمنى ان لا يكون
    الزمان هو الزمان ولا ترى الواقع المرير بل تلجأ للهرب الى الماضي وتعيش مع
    التراث حزنا على الحاضر المأساوي ونحن لا نتفق مع ما قاله د. علي عباس
    علوان (بعد تأمل ودراسة لحركات الروي في قصيدة الشعر العربي بعامة ان توالي
    الكسرات في البيت او في مجموع القوافي ،
    يعني … حزنا شديدا او حال انكسار نفسي ) ([47])
    . فالشاعرة كانت تذوب حزنا واسى وكتبت على روي مضموم ، ويبدو لي ان
    الشاعرة في هذه القصيدة جاءت قافية المترادف التي يسبق رويها غالبا حروف مد
    تناسب حالة الحزن والايقاع النائح .


    لقد وظفت الشاعرة الاصوات في بنية القصيدة توظيفا اوحى
    بالافكار التي تريد ان تعبر عنها ذلك لان (الصوت ليس له معنى في ذاته وانما
    تكون له قيمة تعبيرية مرتبطة بخصائصه ) ([48])
    . فالصوت وحده لا يملك اية طاقة تعبيرية مباشرة ، وان امتلكت بعض الاصوات
    ايحاءاتها الرامزة … ما لم تصاحبه اصوات اخرى (تخلق الصلة بين الرامز
    والمرموز وتعطي للعمل الادبي ميلاده الحقيقي ) ([49]) . وقد نجحت الشاعرة في الافادة من التراكمات الصوتية في بنية قصيدتها فهي تقول :


    يا ايها الورد العراقي المصون

    يا ايها الفجر المخضب عنفوان

    ضاعوا وفي عينيّ تنبض من بقاياهم سنابل

    ويلوب صمتك والحروف لها انامل([b][50]) .[/b]

    لقد تكررت اصوات الذلاقة (35) مرة وهي من اخف الاصوات وايسرها نطقا واكثرها سهولة على اللسان([51]) ، فجاءت متساوقة مع حدة الانفعال في زمن
    انهيار وتحطم الاشياء الجميلة وانهيار العنفوان العراقي امام هجمات همجية لا تبقي ولا تذر .


    وتقول :

    سيدتي … في وجهك المغلوبْ

    قافلة مسبيةٌ وقمر مسلوب

    فأنصتي للريح ان تبعثرت

    واختبأت في السور

    لن نحنيَ الرأس لدى مرورها

    قد وقع المحذور([b][52]) .[/b]

    لقد تكررت اصوات الصفير في النص متجاوبة مع ما حولها وهي من
    الاصوات الرخوة المرققة وتدخل في الاعم في كلمات تتصل بمعنى الخوف والتجسس ([53])
    ، والترقب ولذلك جاءت متسقة مع الدلالة النصية التي تعج خوفا ويأسا مطبقا
    امام الاستلاب الحضاري الذي عاناه العراق المحاصر وانسانه الذي فقد كل شيء
    فلم يخشَ على شيء .


    ومن التكرار الصوتي ما يكون في الكلمات التي تتشابه الى حد
    القرب من التجانس الصوتي في معظم اصواتها مشكلة علاقة تؤدي الى تجاوب
    الاصوات بحيث يغدو احداهما صدى للاخر مما يخلق تجانساً صوتياً جميلاً إذ ان
    (( أجمل الايقاع ذلك الذي يكون خليطاً من عناصر تتقابل فيما بينها تبعاً
    لنسبة معينة وهذه النسبة تمتّ بطبيعتها الى النظام المستحب)) ([54]) ومن ذلك قولها :-


    حجرٌ أنا انكفأت لواعجهُ

    وخانته الهواجر والمهاجرُ

    ايها البحر العذول ([b][55])[/b]

    ومن التكرار تكرار الالفاظ ومنه تكرار البدايات وهو (( عبارة
    عن وحدتين معجميتين او اكثر تتجسد بشكل متواتر في بداية كل سطر على وفق هذا
    النسق أ….. , أ……)) ([56]) مثل قولها :-


    غريبين … صوتك كان الدثار الوحيد

    غريبين كنا… العراق بعيدْ

    غريبين …..

    كل الجبال تصلي على جرحنا والمرايا شهود ([b][57])[/b]

    لقد تكررت كلمة (غريبين) في بداية الاسطر الشعرية ,
    فالشاعرة تعاني الام اغتراب نفسي يجعل ما حولها كله خواءً فيرتفع التوتر
    والقلق في الذات الشاعرة مما يدفع الى تداعيات سريعة فالغربة في النفوس
    والبرودة تعم كل شيء فلأن العراق بعيد والبعد هنا ليس بعداً نفسياً فلم يعد
    العراق عراقاً يدفئ ابناءه ويدثرهم بل اضحى يئن تحت وطأه جراحه وتكالب
    اعدائه , فجاء هذا التكرار ليحقق نوعاً من التراكم النفسي , كما حقق
    التكرار تدرجاً في الدلالة تتنامى تدريجياً وتعلو حتى تصل عمق الجرح .


    ان التكرار يؤدي احياناً وظيفة رابطة بالاضافة الى
    وظيفته الايقاعية حين يتكرر لفظ معين في بنية القصيدة كتكرار كلمة ((ايها
    البحر)) التي وردت (17) مرة في القصيدة , وقد يكون التكرار لعبارة معينة
    تشكل بؤرة ايقاعية ودلالية في النص مشكلة لازمة ايقاعية كررها الشاعر بين
    فترة واخرى مشكلة تكثيفاً شعرياً عالياً يضفي على النص طاقة ايقاعية عالية
    وقد كررت الشاعرة الأمنية الحجرية (ياليتني حجر) التي تكررت في جميع مقاطع
    النصف الاول من القصيدة ثم تحولت في نصفها الثاني الى ((حجرٌ انا)) التي
    جاء تكرارها ليعزز تكرار الأنا في النص ولم تكن أنا الشاعرة ذاتاً فردية بل
    جسدت أحساساً جمعياً وشعوراً انسانياً فاذا كانت قصيدتا ابن مقبل و درويش
    اكتفتا بالأمنية الحجرية فان قصيدة البستاني حققت التحول الى حجر أي التحول
    الجمعي فقد اضحى الوطن في عيون الشاعرة حجراً كله بل حتى الذات الجمعية
    متحجرة بسبب الظروف السيئة المحيطة بالمجتمع والتي هدمت كل معاني الحياة
    ويبدو لي ان ذلك كله يحيل على قصيدة السياب (لاني غريب) التي يقول فيها


    حجارُ

    حجارٌ وما من ثمار

    وحتى العيون

    حجارٌ وحتى الهواء الرطيبْ

    حجارٌ يندّيه بعض الدم

    حجارٌ ندائي وصخرٌ فمي ([b][58])[/b]

    فاذا كان السياب يعاني اغترابا مكانياً جعل كل ما
    حوله متحجراً فان البستاني تعاني اغترابا نفسياً حجرّ كل الاشياء الجميلة
    وحولّ الذات الجمعية الى حجر يتحمل كل عوامل الزمن التي ينوء بها .


    ومن التكرارات التي وظفت توظيفاً جميلاً في القصيدة تكرار العراق في قول الشاعرة :

    وهْوَ العراقْ

    منفاي في كفيه خلف ضباب أغنيتي

    وفي فزع العيون المرهقة

    وهو العراق

    هو العراق

    تبسمت كفاه في وجع السنابل

    وهو العراق


    ضحكت جداوله على زبد الضفاف المالحة([b][59])[/b]

    لقد كررت الشاعرة العراق متشبثة ومنتشية باسمه فقد
    تماهى الوطن مع الذات وغدا (العراقُ) تعبيراً عن الشجى المتصاعد في ذات
    الشاعرة آخذا ابعد امتداد ممكن ليرسم لنا ايقاعاً نادباً تمتح منه الشاعرة
    ماشاءت لترسم لنا اعلى حالات التوحد بين الايقاعين النفسي والشعري وكانها
    تصل ذروة انتشائها بذكرى العراق – ولعلنا لا نبالغ – اذا قلنا ان العراق
    المتكررة هنا نجحت في استكناه الدلالة الرمزية لاسم الوطن الذي أضفت عليه
    الشاعرة من الدلالات ما تجاوز معناه الاصلي الى خلق حزمة من المؤشرات
    السياقية المصاحبة باثاً فيها هالة تخييلية غنية بايحاءات متنوعة غدا معها
    رمزاً لكل ماهو جميل محبب فالشاعرة تلتحم بالوطن الذي غدا هو الحبيب والاخ
    كما لو انها تكتشفه لاول مرة فتنتشي لذكره بما يشبه الحلول الصوفي .


    ولعل الحاح الشاعرة على التكرار في القصيدة يجعلنا –
    غير هيابين – من القول ان بنية التكرار في هذه القصيدة تكفي لدارسة مستقلة
    , ولعل الحديث عن التكرار يقودنا للحديث عن التوازي وهو (( عنصر بنائي في
    الشعر يقوم على تكرار اجزاء
    متساوية )) ([60])
    ويعد من التقانات البارزة في الشعر إذ يقول ياكوبسون (( ان المسالة
    الاساسية للشعر تكمن في التوازي … وقد لا نخطئ حين نقول ان بنية الشعر هي
    بنية التوازي المستمر )) ([61])


    فقد يجيىء التوازي نحوياً صرفياً قائماً على توالي الصور النحوية نفسها التي تنتظم في صيغ متوازنة ومنها قول الشاعرة :-

    ياأيها الوطن المكابرْ

    أشرقْ فهذا الليل كافرْ

    أشرقْ فهذا الصدُ كافرْ ([b][62])[/b]

    لقد جاء التوازي محققاً تعادلاً عروضياً وتركيبياً
    في آنٍ واحد فهو عروضياً (متفاعلن متفاعلاتن ) ونح

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس مارس 28, 2024 12:59 pm