منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    أسلوبية الانزياح في النص القرآني

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    أسلوبية الانزياح في النص القرآني Empty أسلوبية الانزياح في النص القرآني

    مُساهمة   الأربعاء سبتمبر 19, 2012 8:42 am

    أسلوبية الانزياح في النص القرآني
    محمد تحريشي
    [b]أسلوبية الانزياح في النص القرآني
    من خلال مجاز القرآن لأبي عُبيَدة:
    [/b]
    [b]لقد
    أسهمت ثقافة أبي عبيدة في تشكل رؤيته النقدية، وهي رؤية تعتمد على الكشف
    عن خصوصية النص القرآني الفنية والجمالية، وهي التي وجهت طريقة تحليل هذا
    التركيب المقدس، بالإضافة إلى استغلاق هذا النص على أفهام الكثير من
    الناس، ولاسيما الأعجام منهم، وظهور قضية اللحن في نطاق القرآن الكريم.
    لقد حارب العلماء هذه الظاهرة فـ"كانوا وهم يلحظون هذا التطور في اللغة لا
    يهمهم أن يسجلوه ويقارنوا بينه وبين أصله، بقدر ماكان يعنيهم أن يقفوا في
    وجهه، ويعيبونه ويحاولون إرجاع الناس إلى القديم"(1). وألفوا في ذلك
    كتباً، ككتاب الفصيح لثعلب (2)، تدرس الخطأ في الأصوات والأبنية والإعراب
    متناسين أن اللحن ـ في جوهره ـ ماهو إلا شكل من أشكال التطور الدلالي في
    عصر من العصور، ومن هنا نجد أن هؤلاء الدارسين، وبخاصة المفسرين قد
    تجاوزوا التعامل العاطفي مع النص إلى التعامل الفعلي الذي يقوم على معالجة
    النص من زاوية التركيب والوقوف عند المستويات الدلالية للألفاظ في سياقها
    الجديد، وعلاقة كل ذلك بالكلام العربي، كما خاضوا في مباحث بلاغية
    وأسلوبية، "وإذا كانت الدراسات الأسلوبية المعاصرة لا تفصل بين اللغة
    والبلاغة وتدخل في صميم عملها جنباً إلى جنب دراسة: موقع اللفظ، التكرار،
    الوسائل الإيقاعية، والموسيقية، والاستعارة والرمز والصورة"(3).
    ويبدو أن أبا عبيدة ربط النحو بالأساليب والتراكيب "والنحو بالمعنى الذي
    عناه المتقدمون هو الذي مثله أبو عبيدة معمر بن المثنى بالمجاز عندما سمى
    كتابه "المجاز في القرآن"، وهو طريق العرب في التعبير عن مقاصدهم وأغراضهم
    وبيان ما طرأ على الجملة العربية من تقديم وتأخير أو حذف أو نحو ذلك"(4).
    وهو يسعى إلى التأكيد على صواب العبارة القرآنية انطلاقاً من هذا الأساس؛
    ليكشف عن الدلالة الدقيقة لصيغ القرآن الكريم من ذلك أنه وقف عند الآية
    الكريمة (كما بدأكم تعودون فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة)
    (5)، ليقول: "نصبها جميعاً على إعمال الفعل فيهما أي هدى فريقاً ثم أشرك
    الآخر في نصب الأول، وإن لم يدخل في معناه، والعرب تدخل الآخر المشترك
    بنصب ماقبله على الجوار، وإن لم يكن في معناه، وفي آية أخرى "يدخل من يشاء
    في رحمته والظالمين أعدّ لهم عذاباً أليماً"(6).
    وخرج فعل الضلالة مذكراً والعرب تفعل ذلك إذا فرّقوا بين الفعل وبين المؤنثة لقولهم مضى من الشهر ليلة"(7).
    إنه يسعى إلى إخراج النص مخرجاً لا يتعارض وصواب المنطق القرآني، ويوظف
    لذلك طريقة العرب في التعبير، وهو حريص على تبيان معاني الآيات، وهذا
    مايدفعنا إلى القول إن كتاب مجاز القرآن هو قراءة متميزة للنص القرآني.
    إنه قراءة جديدة تتماشى والطرق التعبيرية لهذا النص. وقد تنبه القدماء إلى
    هذا كابن تيمية الذي يقول:
    "أول من عرف أنه تكلم بلفظ المجاز أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه، ولكن
    لم يعن بالمجاز ماهو قسيم الحقيقة، وإنما عنى بمجاز الآية مايعبر به عن
    الآية"(Cool.ولخدمة هذا الهدف؛ فإنه كان حريصاً على التنويع وقفاته عند
    نماذج النص القرآني، والتي تمثل ألواناً متنوعة في الصياغة والدلالة،
    وتشمل دراسة الأساليب، ودفعه هذا إلى الكشف عما في الآيات من استعارة
    وتشبيه وكناية وتقديم وتأخير وحذف وتكرار وإضمار، للوصول إلى الخصائص
    الأسلوبية للقرآن الكريم خصوصاً، وللغة العربية عموماً، عن طريق الاستشهاد
    والتمثيل من نصوص هذه اللغة، وقد لمسنا حضوراً قوياً للنصوص الشعرية في
    هذا المؤلف، حتى إنه لا تخلو صفحة من صفحاته من نص شعري أو قول مأثور.
    ويبدو أن الحاجة هي التي دفعت بأبي عبيدة إلى وضع كتابه هذا، حاجة الجمهور
    إلى من يكشف عن خصوصية التعبير القرآني، وخاصة أولئك الأعاجم الذين دخلوا
    الإسلام، فكاتب الفضل بن ربيع "هو في الغالب من الفرس المتعربين الذين لا
    يدركون أسرار التركيب العربي وإن عرفوا مفرداته، وأساليبه الشائعة، ومثل
    هذا يتوقف أمام التركيب اللغوي الذي لا يتفق والقواعد التي درس على أساسها
    اللغة".
    لقد اهتم أبو عبيدة بأهم الانحرافات المميزة للنص المقدس، وقد كان في تتبعه
    دقيقاً للكشف عن أسلوبية الانزياح في هذا النص، والتي "تقيم على أساس
    المعيار النحوي (الذي هو، على العموم، اللغة المعيارStandard أو اليومية)،
    نحواً ثانوياً مكوناً من صورة الانزياح. ويمكن أن تكون هذه الصورة من
    طبيعتين: فهي خرق للمعيار النحوي، من جهة، وتقييد لهذا المعيار بالاستعانة
    بقواعد إضافية من جهة ثانية"(9)..
    ويبدو أن "مجاز القرآن" جاء ليجسد هذه الخاصية الأسلوبية المهمة، وليقف عند
    مستويات هذه السمة في نماذج متعددة. ولعل هذا المؤلف هو الذي فتح آفاق
    هذه المعالجة، والتي تلقفها الدارسون فيما بعد وخاصة البلاغيون ليطوروا
    هذا المبحث بالإسهام النظري والإجراء التطبيقي. فلقد أدرك البلاغيون مافي
    هذه المغايرات من انحراف عن القواعد المثالية عند النحاة قصداً لغايات
    أسلوبية، ونبهوا إلى انتشارها وكثرة حالاتها في كلامهم". ذلك أن الانحراف
    الذي كشف عنه هذا الناقد كان لأغراض أسلوبية إبلاغية غرضها الإقناع،
    وهدفها التوكيد على الإعجاز والتحدي.
    ويمثل عدم التناسب بين العدد والمعدود سمة من سمات الانحراف وقد وقف أبو
    عبيدة عند الآية الكريمة (تولوا وأعينهم تفيض من الدّمع)(10)، ليقول:
    "والعرب إذا بدأت بالأسماء قبل الفعل جعلت أفعالها على العدد فهذا
    المستعمل، وقد يجوز أن يكون الفعل على لفظ واحد، كأنه مقدّم ومؤخر كقولك:
    وتفيض أعينهم كما قال الأعشى:
    فإن الحوادث أودى بها


    فإن تَعْهَديني ولي لمة

    ووجه الكلام أن يقول: أو دين بها، فلما توسع للقافية جاز على النكس،
    كأنه قال: فإنه أودى الحوادث بها"(11)، ويكشف هذا التحليل على النحو
    المعياري للغة، والنحو الخارج عن المعيار، والموازي له، والمتمثل في النص
    المبدع؛ لأن الإبداع هو توكيد لهذا الخروج، فقد "لاحظ اللغويون أثر
    الاستخدامات اللغوية في الانحراف عن المطابقة التي يوجبها نحو العربية"
    (12)، ولعل أبا عبيدة كان من الأوائل الذين نبهوا على هذه القضية من خلال
    كتابه هذا في مواضع عديدة منه تحت عناوين متباينة كقوله: "مجاز ما جاء
    لفظه لفظ واحد والذي له جماع منه ووقع معنى هذا الواحد على الجميع. قال
    تعالى: (يخرجكم طفلاً)(13)، في موضع أطفالاً (14). أو كقوله: "مجاز ماجاء
    لفظ خبر الجميع على لفظ الواحد. قال تعالى: (والملائكة بعد ذلك ظهير)(15)،
    في موضع "ظهراء". وهذا وقد عالج القضية نفسها ابن جني في كتابه الخصائص،
    فقد تحدث عن إفراد الجمع وجمع المفرد وتثنيته، وقد عدّها ضروب الحمل على
    المعنى (16). واهتم بالموضوع ذاته ابن فارس(17).
    وقد أرجع العرب أسباب العدول إلى الاتساع والتوكيد والتشبيه، قال ابن جني
    في الخصائص "الحقيقة ما أقرّ في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة،
    والمجاز: ماكان ضد ذلك، وإنما يقع المجاز يعدل إليه عن الحقيقة لمعان
    ثلاثة وهي الاتساع والتوكيد والتشبيه، فإن عدمت الثلاثة تعينت الحقيقة؛
    فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الفرس هو بحر، فالمعاني الثلاثة
    موجودة فيه، أما الاتساع، فلأنه زاد في أسماء الفرس، التي هي: فرس، وطرف،
    وجواد.. ونحوها ـ البحر، حتى إنه احتيج إليه في شعر أو سجع أو اتساع
    استعمل استعمال بقية تلك الأسماء، ولكن لا يقضي إلى ذلك إلا بقرينة تسقط
    الشبهة، وذلك كأن يقول الشاعر:
    وقد ثمد الجياد فكان بحرا


    عَلوت مَطا جوادك يوم يوم

    وكأن يقول الساجع: فرسك هذا إذا سما بغرّته كان فجراً، وإذا جرى إلى
    غايته كان بحراً، فإن عري من دليل فلا؛ لئلا يكون إلباساً وإلغازاً ـ وأما
    التشبيه فلأن جريه يجري في الكثرة مجرى مائة ـ وأما التوكيد، فلأنه شبه
    العرض بالجوهر، وهو أثبت في النفوس منه وكذلك قوله تعالى: (وأدخلنه في
    رحمتنا)، وهو مجاز، وفي المعاني الثلاثة ـ أما السعة، كأنه زاد في اسم
    الجهات والمحال اسماً هو الرحمة، أما التشبيه، فلأنه شبّه الرحمة ـ وإن لم
    يصح دخولها ـ بما يجوز دخوله فلذلك وضعها موضعه. أما التوكيد، لأنه أخبر
    عن المعنى بما يخبر عن الذات"(18).
    وتولد هذه الممارسة الإجرائية إشكالاً عند الدارسين المحدثين، لأن خصوم
    أسلوبية الانزياح يأخذون على هذه "الأخيرة عدم تحديدها لمعيار الانحياز
    تحديداً مباشراً دقيقاً، وإهمالها لمقولتي الكاتب والقارئ، وعدم أخذها
    بعين الاعتبار لاحتمال وجود انزياحات غير ذات أثر أسلوبي بالنسبة للقارئ
    دون وجود انزياح(19)، وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لهؤلاء، فإنّ أبا عبيدة
    قد ابتعد عن مثل هذا المأخذ، لأنه خصّ المقولتين بحضور قوي من خلال الحيز
    الذي أفرده لهما في كتابه.
    وقد أكّد أبو عبيدة على أن الانحراف في القرآن الكريم هو من جنس الانحراف
    عند العرب، وذلك من خلال وقفاته العديدة (20). إلا أنه لم يلتفت إلى تلك
    الانزياحات غير ذات أثر أسلوبي؛ لأنها لا توجد فيما تعامل معه من النصوص
    سواء أكانت من الكتاب المقدس، أم من القول المأثور، فقد تعامل مع النص من
    منظور أثره الأسلوبي الذي يحقق التواصل والتفاعل بين هذا النص والمتلقي،
    على أساس توافق القرآن الكريم وكلام العرب في النحو المعياري أو النحو
    الموازي الذي يجسد مراوغة اللغة تجسيداً فنياً جمالياً، فيعطي للنص
    خصوصيته الإبلاغية والإقناعية. فقد وقف عند الآية الكريمة "ولله ملك
    السموات والأرض ومابينهما"، وقال: "السموات جماع والارض واحد". فقال:
    مابينهما. فذهب إلى لفظ الاثنين، والعرب إذا وحّدوا جماعة في كلمة، ثم
    أشركوا بينهما وبين واحد جعلوا لفظ الكلمة التي وقع معناها على الجميع
    كالكلمة الواحدة، كما قال الراعي:
    قنصا لوّاقِحَ كالقسي وحُولا


    طرقا فتلك هُماهمِي أقريهما

    وقد فرغنا منه في موضع قبل هذا (22).
    ويؤكد هذا الناقد على أن التوجه التعبيري كان لغرض أسلوبي، ويكشف بذلك عن
    حضور المتلقي في هذه المعالجة، ولهذا يحرص على مثل هذا التخرج الذي يعكس
    طواعية اللغة العربية ومرونتها التي تسمح بمثل هذا الانحراف الذي قد لا
    يتماشى والنحو المعياري، ولكنه يعبّر عن أوضاع دلالية لا يمكن الوصول
    إليها إلا بمثل هذا التعديل التركيبي.
    ثم إن هذا الدارس كان حريصاً على تتبع هذه الظاهرة بوعي وإدراك كاملين، فقد
    أشار في نهاية المعالجة إلى ذلك حيث قال: "وقد فرغنا منه في موضع قبل
    هذا"، ويعني هذا أيضاً أنه كان يستحضر هذه القضية ليكشف عن توافق النص
    المقدس والنص البشري.
    ويبدو أن النظرة ذاتها جاءت لتؤكد على أن "انشقاق صورة البحث اللغوي
    والبلاغي في تراثنا العربي إلى شقين، يأخذ فيها البلاغيون عن اللغويين
    ويتلقون قواعدهم المعيارية للغة القياسية بالتأسيس عليها في عرض صورة عن
    البلاغة والبيان في اللغة الأدبية الفنية. وتبقى الصورة هكذا، لا يكاد
    يتقدم أحد من النحاة أو اللغويين باختيار قواعده أو مسائله اللغوية من
    خلال النصوص الأدبية ذاتها، وتكاد هذه الصورة تلتئم في تراثنا، إلا على
    أيدي طائفة من المفسرين الذين انطلقوا من منطلق لغوي تسانده المعرفة
    البلاغية الواسعة والذوق السليم والحس المرهف"(23).
    ثم إن تفاعل علوم اللغة العربية، وتداخل حقولها الإجرائية هما اللذان جعلا
    ذلك ممكن الوقوع والحدوث، والكشف عنه من خلال ممارسة نقدية رائدة، بفعل
    الأثر الأسلوبي القرآني، وكان أبو عبيدة يريد الوصول إلى أن هذا الكتاب
    المقدس هو من جنس كلام العرب، وفي الوقت ذاته يتصف
    بخصوصية تجعله منفرداً ومتميزاً له أثر قوي على المتلقين، ولهذا اعتنى هذا
    الناقد باللفظ ومدلوله استناداً إلى الاستخدام المعياري، والانحراف
    والعدول كالانتقال من الضمير الغائب إلى الضمير المخاطب. فقد قال في الآية
    الكريمة: "براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم"(24)، ثم خاطب شاهداً
    فقال: "فسيحوا في الأرض"(24)، مجازه: سيروا وأقبلوا وأدبروا، والعرب تفعل
    هذا، قال عنتر:
    عسيراً علي طلابك ابنة مخرم(25).


    شطت مزار العاشقين فأصبحتْ

    ويبدو أن مثل هذا الانتقال يكشف عن طاقة تعبيرية للغة، وعن وسيلة إبداعية مساعدة لتجاوز حالات فكرية قد يمرّ بها المتكلم.
    ويبدو أيضاً أن في جنس مثل هذا الكلام مايوحي إلى أنه قد وقع انحراف، وفي
    هذا الكلام كذلك، مايدل على المقصود ـ ذلك أنه من يقرأ بيت عنترة يصل إلى
    حقيقة هذا الأمر، ويبقى السياق وحده عاملاً هاماً في سبيل توجيه الفهم،
    والكشف عن هذا المستوى من الالتفات.
    وتقوم هذه الظاهرة على أنها مستوى من مستويات خروج الكلام على خلاف مقتضى
    الحال والظاهر، و"الالتفات نقل الكلام من حالة التكلم أو الخطاب أو الغيبة
    إلى حالة أخرى، وهو نوع من الخروج على المطالبة في الضمائر"(26). وقد ظهر
    عند الدارسين العرب القدماء اهتمام كبير بهذه القضية، ولاسيما الفراء
    (27) والمبرد (27) وابن فارس (28) والثعالبي (29). وكان ابن رشيق من أهم
    الذين وقفوا عند الالتفات، فعرفه بقوله: "وهو الاعتراض عند قوم، وسماه
    آخرون الاستدراك، وسبيله أن يكون الشاعر آخذاً في معنى ثم يعرض له غيره
    فيعدل عن الأول إلى الثاني فيأتي به، ثم يعود إلى الأول من غير أن يخلّ في
    شيء مما يشدُّ الأول… لأن الالتفات تأتي به عفواً وانتهازاً، ولم يكن لك
    في خلد فتقطع كلامك، ثم تصل بعد إن شئت"(30)، ثم يستوضح كلامه هذا بتعريف
    ابن المعتز للالتفات، يقول: "وقد أحسن ابن المعتز في العبارة عن الالتفات
    بقوله. وهو انصراف المتكلم من الإخبار إلى المخاطبة، ومن المخاطبة إلى
    الإخبار"(31).
    إن مثل هذا التحديد يعكس أهمية هذا الموضوع بالنسبة إلى القراءة بحماسة، أو
    المعالجة النصية، ويعكس أيضاً خصوصية التعبير الذي يعتمد على الانحراف
    والعدول للوصول إلى حقائق تواصلية لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق هذا
    المنحى.
    وقد اهتم أبو عبيدة بمظاهر انحراف أخرى تتعلق بعلاقة الدال بالمدلول في
    استخدام الأدبي والفني متمثلة في ظواهر المجاز والاستعارة والتشبيه، وهي
    من ظواهر الانحراف بالدلالة الحقيقية إلى دلالات أخرى مجازية"(32)، ويمثل
    هذا الجانب قمة العدول، وتكمن اللغة وطواعية الاستعمال، كما يعدمعياراً
    للتمييز بين الوضع والاستعمال، أو بين اللغة اليومية، واللغة الإبداعية
    العالية، والواقع أنه كان "للغويين إشارات مبكرة تعد بذوراً للبحث في هذه
    المسألة، ومن هؤلاء أبو عبيدة وابن فارس اللذان بحثا مسألة المجاز من باب
    الإسناد والتقدير، وباعتبار المجاز ـ كما يفهم من كلام أبي عبيدة ـ
    أسلوباً أو استخداماً مختلفاً عن المألوف من كلامهم"(33).
    لقد أشار الناقد أبو عبيدة في مواضع عديدة من كتابه (34) إلى هذا الاستخدام
    فقال عن الآية الكريمة: "وأرسلنا السماء عليهم مدراراً"(35)، "مجاز
    السماء هاهنا مجاز المطر، يقال: مازلنا في سماء، أي في مطر، ومازلنا نطأ
    السماء، أي أثر المطر، وأنى أخذتكم هذه السماء؟ مجاز، "أرسلنا أنزلنا
    وأمطرنا"(36)، وبذلك كشف لنا عن عدول في الاستعمال من خلال نقل المعنى
    وتوسيعه ليشمل المعنى الذي أرادته الآية الكريمة.
    وقد نتساءل عن العبرة من مثل هذه الإشارات؟ ولماذا هذا التخيّر؟ ولعل السبب
    هو أن أبو عبيدة تخيّر هذه المستويات لأنها تمثل أعلى مستويات البناء
    اللغوي، وفي الوقوف عليها كشف للقدرات التعبيرية لهذا البناء، ثم إن دراسة
    اللغة المجازية "هي أعلى مرتبة لاستخراج قدرات البناء اللغوي من تغيير
    المعنى ونقله، أو تحريكه في اتجاهات يتسع في بعض منها ويضيق في بعض
    آخر"(37). ويعكس هذا التغيير العلاقة الحميمية بين الفكر واللغة التي تتسع
    وتتطور وتنحرف لتشمل مساحات الفكر، وقد تعطى لذلك عدة تفسيرات قد تكون
    نفسية أو اجتماعية أو أسلوبية فنية جمالية.
    إن الاستعمال المجازي هو شكل من أشكال التطور الدلالي للغة، والذي يأتي عن
    طريق توسيع المعنى أو تضييقه أو نقله (38)، "ولاشك أن تضييق المعنى أو
    توسيعه يعد ضرباً من المجاز"(39). وقد استفاد القرآن الكريم كثيراً من هذه
    الطرائق، والتي بوساطتها طوّر الطاقة الدلالية للغة العربية، عندما
    أمدّها بأوضاع جديدة تعكس النقلة النوعية التي حدثت للعرب بمجيء الإسلام.
    وقد أرجع العرب القدماء أسباب العدول عن الحقيقة إلى الاتساع والتوكيد
    والتشبيه (كما سبقت الإشارة إليه)، وأمكن لهم هذا الحصر؛ لأنهم تعاملوا مع
    نصوص محدودة مقيّدة بزمان ومكان معينين، وكذا فعل أبو عبيدة، إذ تعامل مع
    النص القرآني ضمن إطار زماني ومكاني لم يتعدَّه، كاشفاً عن الجوانب
    الخفية لهذا النص. كقوله تعالى:"فمنهم من يمشي على بطنه"(40): فقال فيه
    "فهذا من التشبيه؛ لأن المشي لا يكون على البطن إنما يكون لمن له قوائم،
    فإذا خلطوا ماله قوائم بما لا قوائم له جاز ذلك، كما يقولون: أكلت خبزاً
    ولبناً، ولا يقال: أكلتُ لبناً، ولكن يقال أكلتُ الخبز…"(41).
    إن هذا النقل أو التحويل الذي كشف عنه أبو عبيدة ماكان ليحصل لولا التطور
    الدلالي الذي أصاب اللغة، وماكان ذلك ممكناً لولا المجاورة التي وقعت بين
    المعاني، بين ماله قوائم، ومالا قوائم له على سبيل التشابه، والذي يعني
    التداني لا المطابقة التامة، ويأتي هذا على سبيل اقتراض معنى لمعنى لضرورة
    تعبيرية تواصلية، وانطلاقاً من مثل هذا التحليل وضع هذا الناقد تصوراً
    عاماً لكثير من علوم البلاغة، فقد "تحدث عن جملة مجازات"، ولم يعطها
    الأسماء الاصطلاحية، وإنما أدرك الطريقة التعبيرية والنوعية البلاغية،
    فشرحها ممثلاً لها.
    والمجازات التي درسها أبو عبيدة، وأشار إليها في المقدمة تبلغ تسعاً
    وثلاثين حالة تتنوع على علوم البلاغة، المعاني والبيان والبديع وعلم
    النحو"
    (42).
    إن هذا الناقد، وهو يبحث في هذه التبديلات، كان يؤسس لنمط إجرائي، ويقنن
    لتناول النص القرآني بالدراسة والتحليل، لقد كان يتجه نحو التقعيد ووضع
    الأسس، ومع هذا كله فقد لقي كتابه "معارضات شديدة"؛ لأنه وضع تصورات
    المجاز في القرآن الكريم واتسم بالجرأة على التأويل، فاعتبره العلماء من
    قبيل التفسير بالرأي"(43).
    لقدكان لأبي عبيدة رؤية واضحة، في معالجة النص القرآني وقراءته وتحليله من
    مستوى فني جمالي يعتمد على التأويل، وقدرة كبيرة على التخريج، ولعل هذا هو
    الذي أزعج بعض العلماء؛ لأنه قد تجاوز، حسب زعمهم، حدوداً لا يمكن
    تجاوزها، فأظهره هؤلاء في صورة شخصية غريبة في أصلها ومعتقدها وثقافتها
    وعطائها العلمي، مدخول الدين، مدخول النسب(44). بل أكثر من ذلك فقد نسب
    إليه التعصب الشعوبي، واللحن المتعمد في اللغة، وكسر أوزان الشعر، وكذا
    الخطأ في قراءة القرآن نظراً(45).
    ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل وصل إلى حدّ عدّ عمله هذا تجرؤاً على كتاب
    الله، فقد تمنى الفراء أن يضرب أبا عبيدة لمسلكه في هذا التفسير(46)،
    وحرّم أبو حاتم السجستاني كتابه "المجاز" وقراءته. كما قال بذلك الزجاج
    والنحاس والأزهري(47)، وهؤلاء كلهم من كبار العلماء الذين بذلوا جهوداً في
    سبيل الكشف عن خبايا النص وخدمة لغة الكتاب المقدس.
    إن ما قدّمه أبو عبيدة يشكّل، في حد ذاته نظرة تطورية تكشف عن المد الدلالي
    للنص القرآني، ويكشف في الوقت نفسه عن مستوى من التحليل يتعامل مع النص
    تعاملاً واقعياً يبتعد فيه عن التعامل العاطفي، بذلك كانت دراسته فتحاً
    جديداً في مجال الدراسة العربية للنصوص؛ لأنها قدمت تصوراً عاماً للخصائص
    التعبيرية لدلالة اللفظ في مجالات الاستعمال المتعددة، والتي يمثل القرآن
    الكريم أرقى هذه المستويات الاستعمالية.
    ولقد تحرر هذا الناقد من تلك القراءة السابقة للنص المقدس، وانطلق في فهم
    هذا النص من منطلق يعتمد فيه على تخير للعبارات التي تحفز على التحليل،
    وتستدعي الوقوف، وترتكز على المجاز، وقد استعان "بمخزون ثقافته من الشعر
    العربي لدعم آرائه، وحشد سيلاً من الأبيات الشعرية، مما يؤكد غزارة
    محفوظاته. وهذا المنهج صرفه عن الاشتغال بالقصص القرآني، وتفصيل القول
    فيه، كما صرفه عن تتبع أسباب النزول باستثناء إشارات عابرة ونادرة يقتضيها
    فهم النص، وأهمل أقوال السلف وملاحظاتهم وشروحاتهم وكان يعمل برأيه في
    تخريج المعاني(48). ولا أحد ينكر قيمة السياق في تحديد معنى أي نص، الذي
    لا يمكن قراءته إلا ضمن سياقه، وتعدّ أسباب النزول من أهم عناصر سياق
    القرآن الكريم، كما تشكل القصص القرآني إطاراً موجهاً لفهم الكثير من
    الآيات القرآنية.
    وعلى الرغم من هذا كله، فإن أبا عبيدة قد وفق في قراءة النصوص التي وقف
    عندها إذ ربطها بسياقات تعكس التوجه الذي يقوم على إعمال الرأي في تخريج
    المعاني، وكان بحق، منهلاً للكثير من الدارسين (49) كالبخاري 255 هـ، وابن
    قتيبة 276 هـ، والطبري 310هـ، وابن دريد 321 هـ، وابن النحاس 370 هـ ،
    والجوهري 391 هـ وابن حجر العسقلاني، وبهذا كان الرجل نموذج القارئ المثقف
    المعاصر الفردي، والذي ينطلق من الخصائص الداخلية للنص.
    ويقوم أحد الدارسين المحدثين جهد كل من أبي عبيدة والفراء، إذ يقول: "ومع
    أن أبا عبيدة والفراء وغيرهما من رواد الدراسات البيانية اللغوية والنحوية
    قد أبرزوا كثيراً من خصائص التعبير البياني في القرآن خاصة، وكلام العرب
    عامة؛ فإن أياً منهم لم يرتفع بعملية وضع قوانين لتفسير الخطاب ـ البيان
    القرآني ـ إلى المستوى الذي قفز إليه بها معاصرهم محمد بن إدريس الشافعي
    المتوفى سنة 204 هـ لقد كان الإمام الشافعي على معرفة دقيقة باللغة
    العربية وأساليبها التعبيرية، كما كان على اطلاع على المجادلات الكلامية
    العقدية التي عرفها عصره، وكان فوق ذلك فقيهاً تشغله قضايا التشريع
    والتقنين، أكثر مما يشغله شيء آخر ـ ولذلك لم يحصر اهتمامه في الجوانب
    البيانية البلاغية في القرآن"(50).
    إن الحقل الإجرائي مختلف بين هؤلاء الدارسين، فأبو عبيدة والفراء كانا
    يسعيان إلىممارسة إجرائية تكشف عن خصائص الأساليب القرآنية الجمالية
    والفنية، وتحدد عناصر التركيب القرآني، وتنهل من نظرة حديثة للنص المقدس
    لتصل إلى مواطن الإعجاز فيه من خلال الوقوف عند فصاحته وبلاغته وبيانه،
    فالدراسة هي دراسة جمالية فنية ـ في حين انطلق الشافعي من أساس شرعي ديني
    ليكشف عن الأحكام الشرعية، وكيف استطاع القرآن الإبانة عن هذه الأحكام.
    ومن هنا كان الكتاب، وفق هذا المنظور نصاً يبين عن أحكام ونواه وأوامر.





    هوامش
    1 ـ رمضان عبد التواب 1967: لحن العامة والتطور اللغوي 32 ط/1 ـ دار المعارف القاهرة.
    2 ـ ثعلب أبو العباس 1985: الفصيح تح: صبحي التميمي ـ دار الشهاب الجزائر.
    3 ـ نصر حامد أبو زيد 1982: الاتجاه العقلي في التفسير100/ط/1، دار التنوير، بيروت.
    4 ـ أحمد مصطفى المراغي 1950: تاريخ علوم البلاغة العربية 49ط/1، مصطفى البابي الحلبي.
    5 ـ الأعراف: 30.
    6 ـ الإنسان: 31.
    7 ـ مجاز القرآن: 231.
    8 ـ شوقي ضيف البلاغة تطور وتاريخ 29 ط/4، دار المعارف مصر، عن ابن تيمية كتاب الإيمان 35.
    مكرر ـ الاتجاه العقلي في التفسير 855.
    9 ـ هنريش بليت 1989 البلاغة والأسلوبية 36 ط/1، تر: محمد العمري ـ منشورات مجلة دراسات سيمائية أدبية لسانية ـ الدار البيضاء.
    10 ـ التوبة: 92.
    11 ـ مجاز القرآن: 1: 267 ، 268.
    12 ـ اللغة والإبداع الأدبي 16 .
    13 ـ غافر: 67.
    14 ـ مجاز القرآن: 1 : 9.
    15 ـ التحريم : 4.
    16 ـ الخصائص 2 : 419 ومابعدها حتى 423.
    17 ـ الصاحبي في فقه اللغة 349 ـ 355 ـ 351.
    18 ـ السيوطي، عبد الرحمن جلال الدين، المزهر في علوم اللغة وأنواعها: 1.
    19 ـ هنري بليت البلاغة والأسلوبية 37.
    20 ـ من ذلك ماذكرناه في كتابه 1 : 237.
    21ـ الزخرف : 85.
    22-المصدر نفسه 1: 159، 160.
    23-اللغة والإبداع الأدبي 17.
    24-التوبة: 1. 2.
    25-المصدر السابق 1: 252.
    26-اللغة والإبداع الأدبي 15.
    27-معاني القرآن 1: 54، 165 تح: أحمد يوسف نجاتي، محمد علي النجاز مطبعة دار الكتب المصرية.
    27-الكامل في اللغة والأدب 2: 30 المكتبة التجارية بمصر.
    28-الصاحبي في فقه اللغة 356-360 المكتبة السلفية القاهرة 1322هـ.
    29-1938 فقه اللغة وسر العربية، 337، 338 ط/ 1 تح: مصطفى السقا وآخرين، مصطفى البابي بمصر.
    30- 1981 العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده 2: 45، 46 ط/ 5 تح: محمد محيي الدين عبد الحميد دار الجيل.
    31-المرجع نفسه 2: 46.
    32- اللغة والإبداع الأدبي 14.
    33-المرجع نفسه 15.
    34-من ذلك ما ذكرناه في 1: 73، 79، 128، 174، 368.. الخ من كتابه.
    35-الأنعام: 6.
    36-المصدر نفسه 1: 186.
    37-فايز الداية-علم الدلالة العربي 378. ط1 دار الفكر دمشق.
    38-ينظر فندريس –ج- 1950 اللغة 256، 258- تر: محمد القصاص عبد الحميد الدواخلي مكتبة الأنجلو مصرية.
    39-أحمد مختار عمر 1988: علم الدلالة 126 ط/ 11 معالم الكتب القاهرة.
    40-النور: 35.
    41-مجاز القرآن 2: 68.
    42-حسن عباس نصر الله مجاز القرآن ولادة علوم البلاغة 141، مجلة الفكر
    العربي عدد خاص "بالبلاغة العربية والبلاغيون" العدد 46 يونيو 1987.
    43-مجاز القرآن ولادة علوم البلاغة 139.
    44-ينظر ابن النديم الفهرست 79، 80.
    45-ينظر ابن خلكان وفيات الأعيان5: 238 والفهرست 79.
    46-ينظر تاريخ بغداد 13: 255.
    47- ينظر الزبيدي 125-126.
    48-ولادة علوم البلاغة 143.
    49-ينظر مجاز القرآن، مقدمة المحقق 17.
    50-محمد عابد الجابري 1986، بنية العقل العربي- نقد العقل العربي 17 ط/1 المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب.
    [/b]

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس مارس 28, 2024 7:03 pm