منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    تجليات الجمال في الفصل والوصل

    أروى55
    أروى55


    عدد المساهمات : 235
    تاريخ التسجيل : 07/10/2009
    العمر : 31

    تجليات الجمال في الفصل والوصل Empty تجليات الجمال في الفصل والوصل

    مُساهمة  أروى55 الخميس يناير 07, 2010 4:59 am

    تجليات الجمال في الفصل والوصل (1)

    الدكتور عبد الرحيم الهبيل


    ماهية الفصل والوصل:
    على الرغم من أن معظم معاني الفصل والوصل تدور في المعاجم اللغوية على معنى القطع والضم([1])، وعلى الرغم من أن الوصل ضم ظاهر قوي للأشياء، فإن الفصل وصل، لكنه وصل خفي، لأن العرب قالت (فواصل) عن نهايات الآيات القرآنية، ولأنهم قالوا أيضاً حكم فاصل أي ماضٍ غير معطل، ولقولهم مفاصل عما يربط أعضاء الجسم بقوة([2]).
    وعلى الرغم من ارتباط مصطلح الفصل والوصل بالنص القرآني، وعلى الرغم من معرفة العرب لبعض صوره، وبعض مصطلحاته([3])، فإن المصطلح لم يستقر بلاغياً إلا على يدي الإمام عبد القاهر الجرجاني في القرن الخامس الهجري بتأثير من الاستعمال اللغوي والبيئي؛ فقوله عن الوصل بأنه عطف بعض الجمل على بعض بالواو، وعن الفصل بأنه ترك العاطف بين الجمل والمجيء بها منثورة تستأنف الواحدة منها بعد الأخرى([4])، يبين أن الوصل يجمع جملاً لكل منها معنى تام كتمام الأعضاء التي تجمعها المفاصل القوية، وأن الفصل أو استئناف الجمل في إثر بعضها لا يكون جزافاً لتتابع الجمل وإلحاحها إلى بعضها لتتميم المعنى وتكميله، ولعل مقولة أبي العباس السفاح لكاتبه "قف عند مقاطع الكلام وحدوده، وإياك أن تخلط المرعي بالمهمل"([5]) ما يؤكد تأثير البيئة في الفن (البلاغة)، وإجمالاً فإن باب الفصل والوصل قد فتح الباب على مصراعيه للقياس" على منطق النظر العقلي، والتعويل على العرف الجاري بين الناس"([6]) لصلة الفن بالمجتمع أو بشكل أكثر تعميماً لصلة الفن بالبيئة وثقافتها.
    ( 1)
    التشاكل والتباين:
    تسيطر جدلية التشاكل والتباين على البنى السطحية والعميقة لجميع احتمالات الفصل والوصل المتعارف عليها، فالمعاني في حال قصد إشراك الجملتين في الحكم الإعرابي تتباين في المستوى الباطن، رغم تشاكل صيغ تلك المعاني، ففي قوله تعالى "والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون"([7]) تتباين جملة (يقبض) مع جملة (يبسط) في المعنى، وتتفق الجملتان في الخبرية، فينشأ توتر بين البنيتين الظاهرة والباطنة نتيجة لما بينهما من تباين أو تضاد؛ بين الاتفاق الظاهري والتباين الباطني، هذا بالإضافة إلى ما في الجملتين من مغايرة ومناسبة؛ فالتغاير أو التباين ليس القوة الوحيدة النشطة في الباطن؛ لأن "التناسب المعنوي"([8]) يمثل قوة أخرى تلازم التباين، وتنشط بفاعليته، ولهذا ذهب ابن يعقوب المغربي إلى أن العطف "يقتضي مغايرة من جهة ومناسبة من جهة"([9])، ويقابل هذه القوة المتعاكسة في باطن البنية، قوة أخرى في البنية السطحية يبرز فيها التغاير ولكن على المستوى المكاني للجمل، حيث إن كل جملة تقع في اتجاه مغاير للجملة الثانية بالنظر إلى توسط "الواو" بينهما، لكن هذا التغاير المكاني بالنسبة "للواو" يلزم بتلاصق الجمل "للواو" بحيث لا تنفصل عنها ليتحقق معنى الوصل.
    وفي حال التوسط بين الكمالين تتشاكل الصيغ على المستوى الظاهر لاتفاق الجملتين في الخبرية أو الإنشائية لفظاً ومعنى أو معنى فقط، ولكن تتباين المعاني على المستوى الباطن رغم ما بين الجمل من تناسب؛ ففي قوله تعالى "إن الأبرار لفي نعيم، وإن الفجار لفي جحيم"([10]) تتفق الأساليب في النوع (فهي خبرية)، وتتباين المعاني رغم ما بينها من تناسب نشط في داخل أعماق البنية، وتتغاير مواقع الجمل بالنسبة "للواو" دون أن يفصلها فاصل، لتلاصق الجمل.
    وبهذا فإن التباين سمة جمالية بارزة في مواضع الوصل، ولهذا جعل السكاكي من محاسن الوصل أن يقصد التجدد في إحدى الجملتين، والثبات في الأخرى، كما في قولهم أقام محمد وأخوه مسافر([11]).
    وتبقى سيطرة التشاكل والتباين بارزة في مواضع الفصل؛ ففي حال كمال الاتصال تتشاكل الصيغ والمعاني على المستويين الظاهر والباطن، فتتحد الجملتان اتحاداً تاماً بلا أداة، لأن الثانية ترتبط بالأولى من خلال تشاكل المعنى، لكن التباين يبرز بين الجملتين من خلال تفاوت قوى المعاني، فعلاقة التوكيد تُظهر أن الجملة الثانية أقوى في الدلالة على المعنى من الجملة الأولى رغم تشاكل المعاني وشدة ارتباطها ببعضها، ففي قوله تعالى "وإذا تتلى عليه آياتنا ولّى مستكبرا كأنْ لم يسمعها كأنّ في أذنيه وقراً"([12]) لم يأت قوله "كأنّ في أذنيه وقراً" معطوفاً على ما قبله "لأن المقصود من التشبيه بمن في أذنيه وقرٌ، هو بعينه المقصود من التشبيه بمن لم يسمع، إلا أنّ الثاني أبلغ وآكد في الذي أريد"([13]).
    وفي علاقة البيان أيضاً تتفجر قوة الدلالة على المعنى في الجملة الثانية بشكل أوضح لما هي عليه في الجملة الأولى، كما في قوله تعالى "فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى"([14]).
    ولا يختلف الأمر عن ذلك في علاقة البدل؛ لأن الحالة المقتضية للإبدال هي "أن يكون الكلام السابق غير واف بتمام مراده وإيراده أو كغير الوافي والمقام مقام امتناع بشأنه، إما لكونه مطلوباً في نفسه، أو لكونه غريباً، أو فظيعاً أو عجيباً، أو لطيفاً أو غير ذلك مما له جهة استدعاء للاعتناء بشأنه، فيعيده المتكلم بنظم أوفى منه على نية استئناف القصد إلى المراد، ليظهر بمجموع القصدين إليه في الأول والثاني، أعني المبدل منه أو البدل مريد الاعتناء بالشأن"([15])، ففي قوله تعالى "أمدكم بما تعلمون، أمدكم بأنعام، وبنين، وجنات وعيون"([16]) كأن قوله "أمدكم بأنعام، وبنين، وجنات، وعيون" أوفى بتأدية المعنى مما قبله؛ لدلالته عليه بالتفصيل بعد الإجمال([17])، وفي هذا حسن يبرزه الخليفة المأمون في تناوله لجمال الكتاب، فقد ذهب إلى أن حسنه في "إيقاع الفصل موقعه، وشحذ الفكرة وإجالتها في لطف التخلص من المعقود إلى المحلول"([18]) لأن الإطالة في المعقود تورث النسيان([19]).
    وفي حال كمال الانقطاع (الاستئناف) يسيطر التباين أيضاً على أساليب الجمل، فأحياناً تختلف الجمل اختلافاً بيّناً على المستوى السطحي، ففي قوله تعالى "وصلّ عليهم، إنّ صلاتك سكن لهم"([20])، نجد أن جملة "صل" إنشائية لفظاً ومعنى، وجملة "إن صلاتك" خبرية لفظاّ ومعنى، وأحياناّ تختلف الجمل في المستوى الباطن كما في قولك: "مات فلان رحمه الله" نجد أن جملة "مات" خبرية لفظاً ومعنى، لكن جملة "رحمه الله" وإن كانت خبرية لفظاً، فإنها إنشائية معنى لأنها جملة دعائية.
    هذا التباين الذي يبرز تارة على المستوى السطحي، وتارة أخرى في المستوى الباطن يوّلد توتراً حاداً في جميع الأحوال، حيث تزداد الحاجة إلى إدراك المستوى العميق لمعرفة نوع الترابط ونوعيته([21])، أو بمعنى آخر تزداد الحاجة إلى التأمل أو الجمال إذ "كلما تباعد الشيئان المقترنان كان التوتر الناجم أعظم، هذا التوتر هو قوة مرونة القوس"([22]) أو هو الإدهاش والغرابة والتأثير؛ لأن في هذا النوع يستحيل ما يبدو ارتباطه محالاً إلى كلام ميسور متلائم بل متماسك([23]).
    ولا ينفك التباين عن شبه كمال الاتصال أو "الاستئناف البياني"، ففي قوله تعالى "وما أُبرّئ نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء"([24]) حيث نجد أن قوله تعالى "وما أبرئ نفسي" يحمل في أعماقه سؤالاً تحدد طبيعة الجملة الثانية الواقعة جواباً للسؤال المقدر في الجملة الأولى، أي أن الجملة الأولى تتردد باستمرار ما بين الإنشائية والخبرية بتأثير من قوله تعالى "إن النفس لأمارة بالسوء".
    ويتخذ التباين صفة مكانية في حال شبه كمال الانقطاع، فيترك العطف بين الجملتين اللتين يفترض عطفهما على بعض لسيطرة جملة ثالثة على موضع "الواو"، ففي قول الشاعر:

    وتظُنُّ سلمى أنني أبغي بها بدلا، أراها في الضّلال تهيمُ

    "لم يعطف "أراها" على "تظن" لئلا يتوهم السامع أنه معطوف على "أبغي" لقربه منه، مع أنه ليس بمراد"([25])، إذ إن "الواو" لا تأخذ إلا بالجملتين المتغايرتين المتجاورتين لها. وهكذا، فإن التباين يسيطر على مواضع الفصل والوصل مكانيا ومعنويا وصياغة، والوصل في كل هذا لا يحدث إلا إذا كان التباين معنويا أو في البنية العميقة، إذ يشترط فيه كما يبدو تلاصق الجمل "للواو"، وتوافق الصيغ. فما الآثار الجمالية التي يعززها التشاكل والتباين على المستوى الحسي؟ وكيف تفسر العدول عن الوصل إلى الفصل أو بالعكس في ضوء هذه الآثار الجمالية؟

    ([1]) انظر: القاموس المحيط 4/30-31، 4/66.

    ([2]) انظر: الفصل والوصل في القرآن الكريم، دراسة في الأسلوب 13-49.

    ([3]) انظر: دلائل الإعجاز 222.

    ([4]) انظر: القاموس المحيط 4/30.

    ([5]) الصناعتين 497.

    ([6]) د. شفيع السيد، البحث البلاغي عند العرب تأصيل وتقييم 258، دار الفكر العربي، القاهرة، الطبعة الثانية 1996.

    ([7]) البقرة 245.

    ([8]) عروس الأفراح 3/6.

    ([9]) ابن يعقوب المغربي، مواهب الفتاح في شرح تلخيص المفتاح ضمن شروح التلخيص 3/24.

    ([10]) الانفطار 13-14.

    ([11]) انظر: مفتاح العلوم 271.

    ([12]) لقمان 7.

    ([13]) دلائل الإعجاز 229.

    ([14]) طه 120.

    ([15]) مفتاح العلوم 253.

    ([16]) الشعراء 132-133.

    ([17]) انظر: الإيضاح في علوم البلاغة 152، والكشاف 1/448-449، 3/122.

    ([18]) الصناعتين 500.

    ([19]) انظر: الصناعتين 501.

    ([20]) التوبة 103.

    ([21]) انظر: البلاغة العربية قراءة أخرى 314-315.

    ([22]) د. مصطفى ناصف، اللغة بين البلاغة والأسلوبية 515، النادي الأدبي الثقافي، جدة، 1989م.

    ([23]) انظر: المرجع نفسه 515، 520.

    ([24]) يوسف 53.

    ([25]) الإيضاح في علوم البلاغة 155، وانظر: عروس الأفراح 3/50.
    __________________

    أَعَـــزُّ مـَكَـــانٍ فِي الـدُّنــَى سَـرْجُ سَـابِــحٍ ** وَخَيـــرُ جَـلِيسٍ فِـي الـزّمَـانِ كِتَـــابُ
    إبراهيم براهيمي متواجد حالياً رد مع اقتباس
    إبراهيم براهيمي
    مشاهدة ملفه الشخصي
    إرسال رسالة خاصة إلى إبراهيم براهيمي
    زيارة موقع إبراهيم براهيمي المفضل
    البحث عن المشاركات التي كتبها إبراهيم براهيمي
    قديم 27-11-2009, 12:37 AM #2
    إبراهيم براهيمي
    مشرف

    تاريخ التسجيل: Dec 2008
    المشاركات: 9,144
    المواضيع: 2095
    مشاركات: 7049
    من مواضيعي

    0 الملتقى الوطني الأول " علمية المناهج و النظريات النقدية المعاصرة"
    0 المعجم الموحد لمصطلحات الجغرافيا
    0 الأسلوبية النصية
    0 في الصداقة
    0 الإقناع والتأثير دراسة تأصيلية


    افتراضي رد: تجليات الجمال في الفصل والوصل

    تجليات الجمال في الفصل والوصل (2)

    ***************
    التعادل والانسجام:
    يبدو أن التشاكل والتباين أثر واضح من آثار ثنائية الجمل في التركيب، لذلك فإن تقارب الجمل من "الواو" وتشاكلها في الأسلوب، واتحاد المسند والمسند إليه في كل من جملتي الوصل، يبرز توازياً وتعادلاً محساً بين الصيغتين لما فيهما من تساوِ في عدد الكلمات بل وفي عدد الحروف أحياناً كثيرة، ففي قوله تعالى "يقبض ويبسط"([1]) تساوت الجملتان في الكم العددي للحروف حتى غدت الجملتان كأنهما جناحي طائر قلبه "الواو".
    وفي قوله تعالى "إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم"([2]) نحس بالاستواء والتعادل فيما بين الجملتين، وبترتيب قلب المعاني، فالتشاكل والتماثل قد تعدى التساوي في عدد الحروف والكلمات، إلى التماثل في الحرفية والاسمية، وإلى إعادة بعض الألفاظ مع قلب معناها، فاكتسب التركيب طابعاً جمالياً تأثيرياً إلى جانب ما فيه من تباين معنوي جذاب([3])، يثير التوتر والدافعية نحو معرفة أسباب الجمال.
    وكذلك الأمر في الجمل الإنشائية لفظاً ومعنى، إذ يبرز فيهما التماثل والتوازي أيضاً، ففي قوله تعالى "فادع واستقم كما أمرت"([4]) تتقارب الجمل في عدد الألفاظ وتتحد في المسند والمسند إليه، وتتماثل في نوع الأساليب، وتتوازى لاختلافهما في المعنى، ويحيط كل أسلوب بالواو من جهة مغايرة لجهة الآخر على نحو يصعد حدّة التباين، وفي قوله تعالى "وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا"([5]) تتماثل الأساليب في النوع، وتتساوى الألفاظ في عدد الحروف، وتتوازى الجمل لما فيها من تباين بين الخالق والمخلوق، وتلتصق الجمل بالواو من جهتين متغايرتين، ولا يكاد الأمر أن يختلف كثيرا في قوله تعالى "ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا"([6]). ولهذه الرؤية الجمالية التي تعتمد على التماثل والتوازي ذكر السكاكي أن من محسنات الوصل أن تتفق فيه الجمل في الاسمية أو الفعلية؛ لتحقيق التناسب([7])، لذلك فإن قوله تعالى "يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل"([8]) من أحسن أنواع الوصل تناسقاً وتلاؤماً([9])، لتماثل الجمل في عدد الكلمات، وللتباين بين الاسمية في كل جملة، ولثبات موقع الفعل في كلِّ، ولتكراره مع اختلاف معناه، ولتبادل مواقع الأسماء في الجملة الثانية دون إخلال بتعريف الأسماء في كل جملة، ولتلاحم الأضداد سواء على مستوى الجملتين أو على مستوى الجملة الواحدة، وبخاصة لوجود حرف الجر بين كل متضادين في الجملة الواحدة.
    هذا على مستوى الوصل أما على مستوى الفصل، فالتماثل والتوازي لم يتحقق بين جمل الفصل لطبيعة الجملة الثانية فهي عادة ما تكون أطول من الجملة الأولى لما في الثانية من تفسير وبيان وتوكيد أو إجابة أو غير ذلك، لهذا استعاض أسلوب الفصل بميزات جمالية أخرى استطاع من خلالها تشكيل وحدة نفسية متكاملة قادرة على تبليغ الرسالة في وسط مفعم بالانسجام، لاعتماد هذا اللون التعبيري على التكرار والإعادة([10])، والقوة والجزالة والفخامة التي لا تضاهيها قوة لشدة التماسك والترابط، بل للوحدة القائمة بين الجمل([11]).
    ( 3)


    العدول من الوصل إلى الفصل وبالعكس:
    لقد ذهب كثير من البلاغيين إلى أن الوصل يكون بين الجملتين اللتين يفترض فيهما الفصل لدفع إيهام غير مراد، ففي قولهم "لا ونصرك الله" لمن سأل "هل انتصر زيد" قالوا بأن الوصل وقع بين الجملتين الأولى التي تعرضت للحذف "لا" والثانية "ونصرك الله" لئلا ينقلب معنى الكلام من الدعاء للمخاطب إلى الدعاء عليه([12])، إلا أن هذا التفسير حسب ظني لا يُدخل هذا النوع في الوصل، لأن قولهم "لا ونصرك الله" يفتقر إلى التعادل والتوازن، ولأنه يفتقر إلى التوافق في الأساليب؛ لتعرضه إلى الحذف فعدد الحروف أو عدد الكلمات في كل جملة لا يتماثل مع الجملة الأخرى، كما أن الجملة الأولى خبرية والثانية إنشائية لفظاً خبرية معنى "دعاء"([13])، لذلك يبدو أنه من الأفضل أن يقال عن "الواو" في هذه الجملة بأنها ليست للوصل، وإنما للتوكيد حسبما ذهب السبكي لأن الظاهر "أنها زائدة وليست عاطفة، بل زيدت لدفع توهم النفي لما بعدها، فهي في الحقيقة دخلت زائدة لتأكيد عودها لما قبلها، وذلك شأن الزائد يؤتى به للتأكيد، والتأكيد أكثر ما يأتي لدفع إيهام غير المراد"([14]).
    ويبرز في هذا السياق إشكالية عطف الجملة الخبرية على الإنشائية وبالعكس، وبخاصة في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى "ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق"([15]) حيث إن البلاغيين منعوا عطف الخبرية على الإنشائية رغم أن أئمة النحو قد جوّزوا هذا العطف وبخاصة أنه ظاهرة واضحة في القرآن الكريم، فقد عدّد الدكتور محمد عبد الخالق عضيمة اثني عشر موضعاً في القرآن الكريم عطفت فيها الخبرية على الإنشائية والعكس([16])، فكيف يفسر موقف البلاغيين من هذه المسألة ؟ وبخاصة أن قبولهم للعطف في حال "لا وعافاك الله" يعتبر دليلاً على عطف الإنشائية على الخبرية"([17]).
    يبدو أن السبكي قد أوجز هذا الخلاف حينما ذهب إلى أنه "ولا خلاف بين الفريقين، لأنه عند من جوزه يجوز لغة ولا يجوز بلاغة"([18]) لكنه لم يوضح أسباب منع البلاغيين، وإن كنت أحسب أن منع البلاغيين قد بني على أمرين: أولهما: أن الإمام الجرجاني قد منع عطف الخبر على الاستفهام لأن الخبر لا يؤكده إلا الخبر([19])، ولأن الاستفهام لا يحتاج للتوكيد لما فيه من مفاجأة وإدهاش. وثانيهما: أن عطف الخبرية على الإنشائية أو العكس يفقد الكلام التماثل والتوازي والتعادل هذا بالإضافة إلى أنه يغيّب التناسب الذي اشترطه البلاغيون في كل وصل وبخاصة "بالواو".
    أما بالنسبة لبعض الآيات في هذا الصدد، فقد قدّم العلوي منهجا واضحا لتفسير طبيعتها؛ منهج أساسه استبطان البنية العميقة "إذ إن هذا المستوى يدخل البنية في دائرة الاحتمالات، وهي دائرة موغلة في الجمالية"([20]) ففي قوله تعالى "يسألونك عن الأهلة، قل هي مواقيت للناس والحج، وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها"([21]) فقد قدّم العلوي ثلاثة احتمالات تبرز ارتباط قوله تعالى "وليس البر …" بما قبله، أولها: أن الخطاب القرآني لما ذكر أن الأهلة مواقيت للحج على مستوى السطح واستحضر في العمق عادات العرب الذين إذا أحرموا لم يدخل أحدهم بيتاً ولا خيمة، ولا خباء من باب، بل إن كان من أهل المدر نقب نقباً من ظاهر البيت يدخل منه، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة أو الخباء. كان الاستحضار لكل ذلك مسوغاً للوصل في بنية السطح، لأن التقدير أنه قيل لهم ليس البر تحرجكم من دخول البيت، ولكن البر من اتقى محارم الله. ثانيها: أن يكون في بنية السطح حذف سوغه ما في البنية العميقة، كأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الأهلة: معلوم أنّ كل ما يفعله الله تعالى فيه حكمة عظيمة، ومصلحة ظاهرة في الأهلة وغيرها، فدعوا هذا السؤال، وانظروا في خصلة تفعلونها أنتم مما ليس من البر في ورد ولا صدر، وهي إتيان البيوت من ظهورها فليست برا، ولكن البر هو تقوى الله تعالى والتجنب لمحارمه ومناهيه. وثالثها: يعتمد التأويل في التعامل مع بنية السطح، حيث تكون الصياغة على جهة التمثيل لما هم عليه من تعكيس الأسئلة ولما هم بصدده من التعنّت، وأن مثالهم في سؤالاتهم المتعنتة، كمثل من ترك باب الدار ودخل من ظهر البيت فقيل لهم ليس البر ما أنتم عليه، ولكن البر هو التقوى([22]).
    بهذه الاحتمالات التي طرحها العلوي متابعاً فيها الزمخشري([23])، يعيد العلوي والزمخشري من قبله "لبنية السطح انتظامها، برغم ما توهمه العلاقة الدلالية من كمال الانقطاع الذي يحتم الفصل"([24])، كما يؤكد كل منهما بمجموع هذه الاحتمالات أيضاً أن "تذوق الجمال ليس مجرد إدراك حسي وإنما هو إدراك لقيمة أو اكتشاف لدلالة جمالية هيهات لأي مظهر حسي أن يستوعبها بتمامها"([25]) وبخاصة حينما يعرض في النسيج اللغوي ما يدهش المتلقي لخروج سياق المقاطع عن المألوف([26])، كما في الآية السابقة، إذ إن حرف العطف "الواو" فجّر كثيراً من القيم والدلالات الجمالية لحاجتها إلى التأمل.
    ويذهب كثير من البلاغيين إلى أن العدول عن الوصل إلى الفصل في حال التوسط بين الكمالين يكون محافظة على المعنى، ففي قوله تعالى "وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون، الله يستهزئ بهم"([27]) ذهبوا إلى أن قوله "الله يستهزئ بهم" لم يعطف على قوله "‘إنما نحن مستهزئون" مع أن الجمل تتفق في الخبرية، وتربطها ببعضها رابطة قوية لأن قوله تعالى "إنما نحن مستهزئون" حكاية عن المنافقين وليس بخبر من الله تعالى، وقوله تعالى "الله يستهزئ بهم" خبر من الله تعالى أنه يجازيهم على كفرهم واستهزائهم، لهذا امتنع العطف ولم يكن مستساغا لاستحالة عطف قوله تعالى على قولهم، إذ لو تم العطف لأصبح قوله تعالى حكاية عنهم، وهذا محال لأنهم لن يعترفوا بأن الله يستهزئ بهم، وأنه معاقبهم([28])، ومع صحة هذه الآراء إلا أنه يتبيّن أن الوصل بين الجمل لا يكفي فيه التماثل والتوازي والتوازن وإنما يتطلب شيئا آخر لعله يبرز من خلال جمالية التناسق والتلاحم.


    ([1]) البقرة 245.

    ([2]) الانفطار 13-14.

    ([3]) انظر: تحليل الخطاب الشعري (استراتيجية التناص) 21،26،27.

    ([4]) الشورى 15.

    ([5]) البقرة 83.

    ([6]) الإسراء 23.

    ([7]) انظر: مفتاح العلوم 271.

    ([8]) الحج 61.

    ([9]) انظر: دلالات التراكيب ـ دراسة بلاغية 330.

    ([10]) انظر: تحليل الخطاب الشعري (استراتيجية التناص) 39.

    ([11]) انظر: الكشاف 1/187-188، وعروس الأفراح 3/24.

    ([12]) انظر على سبيل المثال: الإيضاح في علوم البلاغة 159، عروس الأفراح 3/68، والفصل والوصل في القرآن الكريم دراسة في الأسلوب 166.

    ([13]) انظر: الفصل والوصل في القرآن الكريم دراسة في الأسلوب 168.

    ([14]) عروس الأفراح 3/68.

    ([15]) الأنعام 121.

    ([16]) انظر: الفصل والوصل في القرآن الكريم دراسة في الأسلوب 167.

    ([17]) المرجع نفسه 186.

    ([18]) عروس الأفراح 3/27.

    ([19]) انظر: دلائل الإعجاز 227، 233.

    ([20]) البلاغة العربية. قراءة أخرى 316.

    ([21]) البقرة 189.

    ([22]) انظر: الطراز 2/49-50، والبلاغة العربية قراءة أخرى 316-317.

    ([23]) انظر: البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري 706-707.

    ([24]) البلاغة العربية قراءة أخرى 317.

    ([25]) فلسفة الفن 76.

    ([26]) انظر: مبادئ النقد الأدبي 192.

    ([27]) البقرة 14-15.

    ([28]) انظر: دلائل الإعجاز 232.
    إبراهيم براهيمي متواجد حالياً رد مع اقتباس[b]

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس مارس 28, 2024 11:54 pm