منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    البنية اللغوية والأسلوبية في النص الشعري

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    البنية اللغوية والأسلوبية في النص الشعري Empty البنية اللغوية والأسلوبية في النص الشعري

    مُساهمة   السبت فبراير 20, 2010 12:22 pm



    البنية اللغوية والأسلوبية في النص الشعري

    مجموعة" سيدة الرمال" نموذجاً

    1- الشعر والتواصل:

    تعد القصيدة المجموعة " سيدة الرمال" المحاولة الثالثة في تجربة الشاعر حمزة رستناوي بعد مجموعتيه " طريق بلا أقدام" و" ملكوت النرجس", وتنتمي هذه المجموعة إلى اتجاه بدأ يظهر وينتشر في عقد التسعينيات حتى الآن، وهو اتجاه القصيدة الطويلة التي ظهرت لدى شعراء رواد كمحمود درويش في الجدارية، ولدى شعراء سوريين أمثال عبد الكريم الناعم في مجموعته " ذاكرة النهر " وأديب حسن محمد في مجموعته " مللك العراء", والحق أن هذا الاتجاه ينطوي على ايجابيات وسلبيات كثيرة أيضا قد نعرض لبعضها، لكن الشيء الذي لا بدَّ من الإشارة إليه هنا أن هذا الاتجاه لدى الشعراء الذين ذكرناهم قد أخذ طابعا سيرياً, أي التأسيس للسيرة الذاتية للشاعر، شعريا، وهذا نجده إضافة لما ذكرنا أيضا عند الشاعر جوزيف حرب الذي أزعم أنه رائد في هذا المجال, فمحمود درويش حاول أن يتحدث عن لحظة زمنية معينة هي لحظة مرضه وعراكه مع الموت التي تحولت شعريا إلى خطاب فني متفرع الأبعاد يجسِّد علاقة الشاعر بالموت ، وعبد الكريم الناعم حاول أن يوسع الدائرة في " ذاكرة النهر " ليتحدث لنا عن سيرة حياته، وكذلك فعل أديب حسن محمد الذي حاول أن يتحدث عما يشبه السيرة الذاتية – قبل الأوان- في مجموعته ملك العراء ، من خلال الحديث عن الذات والذكريات، ومن هنا يمكن القول إن " سيدة الرمال" تمتاز عن كل ذلك بأنها حاولت أن تجسد سيرة الطغيان في لحظة تاريخية ما، ومن هنا فهي تختلف عن الاتجاه السابق بأنها تأخذ موضوعها من خارج الذات التي هي منبع السيرة الذاتية، لأنها تجسد حالة إنسانية تماهى الشاعر معها, فولدت هذا النص الطويل.

    والأمر الآخر الذي لا بد من الإشارة إليه على صعيد التجربة الفنية للشاعر رستناوي، هوأنه مخلص لتجربته الفنية، وهذا يعبِّر عن أصالة، فالشاعر مخلص لاتجاه يمكن أن نسميه بالغالب بالاتجاه التجريدي، وأقول بالغالب، لأنه لا مطلق في عالم الأدب فهوعالم الذات الإنسانية التي تتمازج بداخلها كل الاتجاهات بعيدا عن التقسيمات، هذا الاتجاه نجده بارزا في مجموعتي الشاعر رستناوي الأولى والثانية، ولكنه هنا قد بدأ بالخفوت، وأقول الخفوت، لأن الشاعر حاول جاهدا أن يبقى منحازا إلى هذا الاتجاه الأثير لديه على ما يبدو، وقد خفت هذا الاتجاه هنا لأسباب عدة أهمها:

    - طول النص الذي حرفه إلى التقريرية في أحيان كثيرة.

    - نزعة رومانسية برزت في مقاطع كثيرة وخفتت في مقاطع أخرى.

    - وجود مقاطع نثرية كان الشاعر يضمنها على شكل اختزالات دلالية وشعرية كانت ترفع من قيمة البناء الفني للقصيدة لما تضمنته هذه الطريقة من ومضات فنية عالية المستوى، وربما هذه التضمينات كانت متأثرة على صعيد الشكل الفني بأسلوب "الكتاب" لأدونيس، وفي كل هذه الأحوال يطرح هذا الاتجاه الفني الذي يميز أسلوب الشاعر، وهوالأسلوب التجريدي الفني أسئلة عديدة على صعيد التواصل، وإن كنا،هنا، لسنا بصدد التنظير لذلك، إلا أنه يمكن تلخيص الأسئلة المطروحة حول هذا الاتجاه الفني بما يلي:

    ما مدى قدرة مثل هذه النصوص على تحقيق التواصل مع القارئ؟

    وبالتالي ما مدى قدرتها على تحقيق وظيفتها الفكرية والجمالية، إذا انطلقنا من أن هاتين الناحيتين تشكلان الوظيفتين الرئيستين للأدب!

    وإذا كنا سنترك الإجابة ليلحظها القارئ من خلال الحديث عن السمات اللغوية والأسلوبية المميزة لهذه المجموعة القصيدة، إلا إنه يمكن القول إن هذه المجموعة شكلت انحرافا ً كبيرا في تجربة الشاعر نحوتحقيق التواصل مع القارئ بشكل أكبر من الأعمال السابقة له.

    2- الملامح الفنية العامة:

    تقوم المجموعة الشعرية – القصيدة على مقولة أساسية هي مقولة القمع التي تضافرت بؤر دلالية كثيرة في تشكيلها أهمها بؤر الموت، والاستسلام، والخنوع، من خلال تجسيد علاقة غير متكافئة بين طرفين, حاكم قمعي مستبد، ومحكوم ضعيف مستسلم لا خيار أمامه .

    وقد اعتمد الشاعر على تقنيات فنية كثيرة في تجسيد هذه المقولات كما سنلاحظ، ولكن ذلك لم يمنع من وقوع النص عند تجسيد هذه المقولات بعلل تنقص من فنية النص ولعل من أهمها:

    - الرتوب الموسيقي الذي تجلى مثلا في تكرار القافية الواحدة كثيرا، كتكرار روي هاء السكت، مثلا.

    - داء الخطابية، وأقول داء لأن الخطابية تبعد النص الشعري عن شاعريته، وهذه السمه برزت في مواقع كثيرة من النص المدروس، وهي ناتجة عن رغبة عميقة من الشاعر في التعبير عن الحالة القمعية بكل تفاصيلها, أي أن الشاعر قد وقع تحت غواية اللغة والحالة الشعرية المعبَّر عنها، وهنا يتجلى عدم الانضباط في النص، فالشاعر لا يقسو على لغته, لذلك يذكر كل ما يدور في خلده دون إخضاعه لضابط الحذف الذي يخلِّص النص من السردية السلبية, أي السردية التي لا تخدم النص والتي تقرِّبه من لغة الخطاب السياسي , وهو بذلك يبتعد عن إطار اللغة الشعرية التي تميز النص الشعري, دون أن يعني ذلك رفضا ً للجزئي الذي قد يكون شاعريا ً بامتياز لكن في غير هذا الموضع الذي نتحدث عنه هنا، وربما لو اعتمد الشاعر تقنية الحذف لقدَّم لنا نصا ً أكثر انضباطا ً, وكشاهد على النزعة الخطابية يمكن الوقوف عند الصفحة 21 مثلا ً التي يخاطب بها الطاغية وانقياد الناس / القطيع خلفه ، كذلك يمكن ملاحظة الخطابية في مواقع أخرى منها قوله:

    // ذبحوا نعاج الرمل

    واغتصبوا الأيائل

    والتوابل

    والقوافل

    واشتقا قات القضاءْ

    نفخوا بآلهة العشائر

    والطوائف

    والطرائق

    والحقيقة...//

    فهذه النزعة الخطابية مثلا في هذا المقطع توحي بالنزق والغضب عبر تكرار دلالات هي أقرب إلى لغة الخطاب السياسي منها إلى لغة الشعر، كما أن مثل هذا المقطع أسهم في إضعاف مقاطع فنية عالية سبقته، فمثلا المقطع الذي سبق المقطع السابق يتمتع بفنية رومانسية عالية أذهبت بريقه النزعة الخطابية الواردة في الشاهد المذكور.

    يقول في تتمة المقطع السابق:

    // مازلتُ يا أمِّي أعدُّ أصابعي

    لكأننيْ برقٌ على شفة الألوهة ينطفيْ

    ما زلتُ يا أمي أزنِّر وحدتي

    أستشرف المهد البعيدْ

    وحضنك ِ البريُّ يا أمّي

    تأنسنَ من جديدْ // ص48-49

    الإبهام وإغلاق التركيب دلاليا، وهذه باتتْ سمة يعتمدها الشاعر رستناوي كثيرا في شعره، وهي تقوم على توليد علاقات لغوية لا تؤدي إلى دلالة, كما نجد،مثلا، في قوله:// الحرف يفتعل الهلامْ //

    وقوله:// تناسل في الضريح المستهامْ //

    وكلا الشاهدين المذكورين من صفحة واحدة هي ص13، فالعلاقة اللغوية بين الفعل " يفتعل" والاسم " الهلام"، وكذلك العلاقة اللغوية بين " الضريح" و"المستهام"هي علاقة مفقودة, فهذا الإسناد هوإسناد غرائبي يقطع التواصل مع هذه التراكيب، ومثل هذا كثير الورود في تجربة الشاعر.

    ذكرتُ فيما سبق سمات عامة أرى أنها تضعف من فنية النص هي، الرتوب الموسيقي، والخطابية، ضعف الضبط الفني،والإبهام، وهي سمات كان يمكن للشاعر تجاوزها، ولكن هذا لا يعني أن النص المدروس لا يحوي على تقنيات أسلوبية عالية ومميزة، يأتي في مقدِّمتها التمكن العالي من التعامل مع اللغة، فالذي لا شكَّ فيه أنَّ الشعر هوعمل في اللغة أولاً وأخيرا ً، وهوتجربة لغوية تمثل علاقة الشاعر بذاته وبالكون عبر هذه الوسيلة، ويتمثل التمكن اللغوي من خلال الجرأة اللغوية التي تتمثل في محاولة الشاعر استنباط معجمه الخاص عبر الاستفادة من تقنيات عده أهمها تقنية الاشتقاق لذلك نرى الشاعر يعتمد الاشتقاقات الجديدة, منها مثلا ً ألفاظ: تحايثَ, مركزوا , تشرنقوا: وهي اشتقاق من الاسم الجامد " شرنقة"، وكذلك استخدام اشتقاقات غير واردة لغويا مثل "الرهبوت" قياسا على اللاهوت، "غرغرينات"/ ص39/ وهي مصطلح طبي على ما أعتقد، كما استخدم مفردات قليلة الورود شعريا ًاستطاع توظيفها في نصه مثل ناوشتْ /ص47/، سقسقتي /ص17/, وهذه الاشتقاقات وارتياد الألفاظ الجديدة المستمدة من التجربة الحياتية والبيئة المحلية، واشتقاق المفردات من ألفاظ لا يشتق منها عادة هوانزياح من الشاعر ودأب للبحث عن لغة مميزة تسم تجربته بطابع خاص، يضاف إلى ذلك أن التشكيلات الدلالية والبنيات الأسلوبية التي اعتمدها الشاعر على صعيد التركيب والتشكيل اللغوي للشعرية لا تقل جرأة وفنية عن الجرأة اللغوية على صعيد المفردة، إذ إن الشاعر اعتمد في بناء نصه وتقديم مقولاته الدلالية على تقنيات أسلوبية كثيرة تظهر قدرة الشاعر على صهر معارفه وثقافته لخدمة بناء نصه، وسنخصص لهذه التقنيات الفنية حيزا خاصا بها.

    3- التقنيات اللغوية والشعرية في بناء النص:

    اعتمد الشاعر على تقنيات تعبيرية أسلوبية ولغوية ,وعندما أقول تقنيات أسلوبية ولغوية هذا يعني أننا نتحدث عن الخصوصية المتعلقة بهما على صعيد التجربة الشعرية، لأنهما يشكلان بصمة الشاعر الخاصة التي تميز تجربته عن تجربة غيره من الشعراء، وتحتفظ له بحقه في تبريز وسائله الدلالية الخاصة به، وهنا نتحدث عن تقنيات أسلوبية تعبيرية يتبعها تقنيات لغوية ، وهما مترابطان والفصل بينهما هنا، هوفصل منهجي تقتضيه طبيعة هذه القراءة.

    على صعيد التقنيات الشعرية التعبيرية للغة الشاعر يمكن أن نتحدث عن :

    1 - الاستفادة من الرمز وتشفير اللفظة: فالشاعر في سبيل تعبيره عن مقولة القمع يعتمد على الإسقاط من خلال استخدام الرموز القمعية التاريخية وفي مقدمتها الرمز " هولاكو" الذي تكرر مرات عدة " انظر الصفحات: ص7 ص17 ص18 ص27 ص29 ص30" فاستخدم الشاعر هنا تقنية القناع من خلال الاستفادة من قيمة الرمز الدلالية ، فهولاكورمز لاستمرار القمع, وهذا ما نلحظه من خلال التشكيل الدلالي الآتي:

    " هولاكوتكاثر

    خلف سلسلة الجبال التدمريَّة

    مارس الإشتاء....// ص7

    والدلالة نفسها تتكرر مرة أخرى, ولكنها مقترنة بدلالة سرقة الحاكم القامع للأعمار, وتحويلها إلى تراب يُداس للتعبير عن انتهاك حقوق الإنسان، والتأكيد على استمرار سلالة هولاكو:

    "...قد عاش هولاكوربيع حياتنا

    ومشى على أعشابها

    وزهورها

    وبنى قصوراً في محطة وعدنا

    وارتدَّنحوالسفح مشتاقا

    ما مات هولاكو

    ولكنَّا

    نعيش على فتات جليده

    ونعانق الوثن المُّجندَل

    بالجنون وبالأضاحي // ص29

    نلاحظ أن لفظة هولاكوفي التشكيل الدلالي السابق تساوي:

    اختطاف الشباب + انتهاك الإنسان +استنزاف الحقوق" نعيش على فتات" +القتل "معبرا عنها بلفظة الأضاحي".

    وعلى ذلك يمكن ملاحظة دلالات مترادفة لهذا الرمز الدلالي في الأسيقة الأخرى التي ورد فيها.

    وقد يعبِّر الشاعر عن الطاغية القامع باستخدام رمز قام بتركيبه لغوياً هو تركيب " أسود الخصيان" وهوتعبير ربما يكون أكثر حدة في التعبير عن النقمة، وهو يذكرنا بأسلوب المتنبي عندما خاطب "كافور" هاجيا حتى بات هذا التركيب رمزا لمخاطبة الطغاة : يقول الشاعر رستناوي في ذلك:

    " يا أسود الخصيان برجكَ داثرٌ

    وخرابُ قلبك َ سابق ٌ ..." ص 20

    وفي هذا السياق يمكن أن نلاحظ استفادة الشاعر من الموروث الدلالي الشعبي للألفاظ في تركيبها في سياق يركِّب تشكيلا ً دلاليا ً لا يخلومن قسوة في التعبير عن الحالة القمعية، وهذا ما نلحظه في لفظة " المرياع" التي دخلت في تشكيل دلالي قائم على ثنائية العلاقة بين المحكوم "القطيع " والحاكم " المرياع" يقول الشاعر:

    "طوعا ً يسيرُ الركبُ

    والمرياع يصرخ : كلنا أحرار

    بنسائنا ودمائنا نفديكْ.." ص 22

    فالركب في هذا التشكيل يمثل الجماهير، والمرياع يمثل القائد الذي يقود الجماهير، ولفظة المرياع هنا تحمل دلالات سلبية، لاسيما إذا عرفنا أنَّ المرياع هوذكر مخصي طويل الصوف تتبعه الأغنام، وبالتالي فالسياق يعبِّر عن دلالات الانقياد السلبي القطيعي الذي يحول الإنسان إلى مرتبة الحيوان.

    وقد يعمد الشاعر إلى المشهد الكاريكاتوري في توظيف الدلالات مستفيدا من قيمة الرموز القمعية الدلالية، ومن أسلوب السخرية الذي يعبر في مكمنه عن نقمة، وهذا ما نلاحظه في قوله:

    //ما ماتَ " هولاكو"

    ولكنَّ القبابَ فريضة

    أوصى بها

    سبعون صنفا ً من حجارتنا

    وأوصوا تيسنا بالخير ِ

    الأوحدُ

    المتوحدُ

    الوحدانْ

    القائدُ

    المتوقدُ

    الوقدانْ

    والفذ ُّ ابن الله

    يفدينا بروح الخلِّ والخلانْ // ص30-31

    فالشاعر يعتمد الأسلوب الكاريكاتوري في تصوير الطاغية من خلال استخدام ألفاظ التيس، وأسلوب الإتباع اللغوي" الأوحدُ المتوحدُ الوحدانْ – القائدُ المتوقدُ الوقدانْ – الخلِّ والخلانْ "، فالشاعر في نعته للحاكم الذي بات يوازي الإله على مستوى الصفات، أراد السخرية من واقع مرير يستعصي على الفهم من منظور العقل الفلسفي والعلمي، ولكنه مقبول, بل مبارك من منظور العقل الديني السائد والمهيمن على أفهامنا، وهذا ما نلاحظه في تتمة الشاهد السابق الذي يعتمد على تكرار صيغة الفعل المضارع: " يغشانا, ينشرنا ,يبدؤنا, ينهينا،يفدينا,يخلقنا, يخنقنا, يحشرنا, يعمينا...."/ص31-32/

    نلاحظ أن الدلالات السابقة لتلك الأفعال تدل على أفعال مقترنة بالإله، ولكنها أسقطتْ دلالتها على السلطان القمعي الذي بات خليفة الله على الأرض، ولكن بالمعنى السلبي للخليفة, وهذه الدلالة يمكن قراءتها في استخدام الشاعر لرموز كثيرة مستفيداً من إمكانياتها الدلالية مثل "الديدان"ص20-65 " الجراد"ص66 "العناكب" ص67 والاستفادة من دلالات أسماء العلم مثل دلالة لفظة "قانا" الدالة على المجزرة المعروفة ومعجزة المسيح في قانا الجليل.

    4- أسلوب التكرار والتناص:

    يؤدي التكرار في المجموعة المدروسة وظائف عدة، موسيقية، ودلالية، وقد برزت تقنية التكرار في نص رستناوي بشكل واضح وصريح، مما يوحي بقصديَّة أحياناً من الشاعر لتوظيف هذه التقنية في بناء النص، وقد برزت أنواع التكرار المختلفة في النص سواء بتكرار الكلمة الواحدة أوتكرار الجملة،أوالتكرار البنائي النحوي، وعلى صعيد تكرار الكلمة تبرز لفظة " تدمر" التي تحولت إلى رمز للدلالة الحاملة للنص كاملا، وقد وردت في كل مرة مقترنة بدلالة جديدة مما أسهم بتحويل هذه اللفظة إلى أسطورة للحزن والموت، ويمكن عرض بعض الدلالات التي اقترنت بهذه اللفظة التي كانت تأتي دائما في بداية الجملة لتأخذ موقفا متوهجا ً دلاليا ً على النحو التالي:

    تدمر (مركز الدلالة):

    الدلالات الفرعية المرتبطة بها:

    1- ديوان الملوك الجائعين ص11

    2 - المأساة والملهاة ص11

    3 - ربْعة ذلنا ص11

    4 - الأمجاد والأجساد والأسلاك والجدث ص12

    5 - لها تقرع الأجراس ص5

    6 - ظلُّ مقبرة ص5

    7 - أصدقاء أدعياء ص5

    8 - فسحة للقتل ص 6

    9- تصدق السكين ص8

    10 - شوكة – قنينة مقطوعة الأيدي ص39

    11 - حاوية من الآثام ص39

    12 - عليق تنامى في زنازنها ص 40

    13 - غرفة البوح القديم ص 47

    14 - غرفة التحقيق ص47

    فقد شكلت كلمة " تدمر" شبكة من العلاقات الدلالية التي كونت مقولة النص، فالنص يقدم مقولة القمع /الموت المرتبطة بالمكان" تدمر" و نلاحظ أن تدمر استحالت إلى مركز تفرعت عنه كل دلالات الموت والقتل فصارت تدمر ديوان الملوك الجائعين، وصارت تقرع لها الأحزان...الخ، ومن هنا فقد فقدت تدمر القيمة التاريخية الجميلة التي يرويها التاريخ لتصبح مقترنة بألفاظ وتشكيلات دلالية قمعية توحي بالموت, كربعة الذل , وتقرع الأحزان , وبأصدقاء أدعياء, وبفسحة للقتل، قنينة مقطوعة الأيدي, حاوية من الآثام والمعنى , وبغرفة التحقيق...الخ، كما يتضح من الدلالات السابقة التي باتت مرتبطة بها. وقد ينوب عن اللفظة الصريحة " تدمر" ضمائر الغائب التي تعود إليها مقترنة بدلالات قمعية متعددة.

    ومن الألفاظ التي تكررت نجد لفظة " أين" الدالة على الاستفهام، وتكرارها أتى موظفا , كما نلحظ في قوله:

    " قالت الصحراء يوما

    للذي سلك المتاهة :

    أين قدرت العباءة

    أين قدرت الخروج من العباءة

    أين بئرك يا سقيم " ص8

    فالتكرار الاستفهامي في هذا التشكيل الدلالي يوحي بنقمة، وقد يكرر الشاعر الصيغة الأمرية المرتبطة عادة بخطاب الإله كما نجد في لفظة " كن " التي تكررت في تشكيل واحد إحدى عشرة مرة مرتبطة في كل مرة بلفظة أخرى لتشِّكل تفرعا دلاليا يقول:

    " ساهما ً مرَّتْ على مُلك البوادي ريحه ُ

    وسماؤه ُ جاستْ خشونة َ خدِّه ِ

    لا، لا تصعرْ أيَّ شيء ٍ

    كنْ ضبابا ً خافتا ً

    كنْ نصابا ً زائدا ً

    أوكنْ ذبابا ً

    كنْ نجوما ً

    كنْ نسورا ً

    كنْ زعيما ً

    خلفَ طاولة ٍ بدينه

    ما قالتْ الصحراءُ يوما ً

    بلْ قالت ِ الصحراءُ كفرا ً

    للذي سلكَ البداية:

    كنْ منيرا خلف تابوت البواقي

    كنْ لزوم الصمت

    كنْ ترنيمة الصدق المغلف كالمحار

    وكنْ لعابا ً قارئا ً

    أوكنْ صفيرَ الريح في خزف المدينة" ص9-10

    فالصيغة الأمريَّة " كنْ " جاءت مقترنة بألفاظ متعددة" الضباب الخافت، النصاب الزائد – الذباب – النجوم – النسور – السيوف – الزعيم ..." وهذا الفعل لا تخفى دلالته التحويلية للدلالة القمعية التي يتخفى وراءها المقطع.

    يعتمد الشاعر على تقنيات أسلوبية متعددة للتكرار, منها ما يُعلي من الصخب اللغوي للنص ويولد موسيقية عالية ,ومنها ما يوِّلد دلالات تضيف للموسيقية العالية في النص مزيداً من الغنى ، ويمكن أن نتوقف عند الأنواع التكرارية الآتية:

    آ – العطف التكراري: وهذه ميزه أسلوبيه في المجموعة / النص لأن النص يهدف إلى تفصيل كل ما يتعلق بالحاكم القمعي لذلك نرى الشاعر يجنح إلى نوع من التعداد

    "هي تدمر الأحجار

    والأجساد

    والأسلاك

    والأسرار

    والجدث الدليل" ص12

    ويقول في مقطع آخر:

    ".... لتسقط الأفلاك

    والأبراج

    والأعمار

    فوق موائد الجلاد" ص15

    فهذا النوع من التكرار العطفي , وهوعطف غير تجانسي يفيد تنويع الدلالة ويولد موسيقيه صاخبة، ولكنه يوقع النص بداء التقريرية والمباشرة.

    ب- التكرار التركيبي: وهوتكرار يغني الجانب الموسيقي للنص، وتأتي قيمة هذا النمط وأمثاله في أنها تخفف من رتوب النص، كون الشاعر يقدم نصا واحدا على شكل مجموعة مما يعني أن عليه أن يلتفت إلى جوانب موسيقية متعددة لتخفف من وطأة النغمة الواحدة, ومن أمثلة التكرار التركيبي قوله:

    " .. في البحر متسع لأبكي

    في العمر متسع لنبكي

    في القبر متسع لبحري.." ص19

    نلاحظ التكرار التركيبي من خلال اعتماد الشاعر على بنية نحوية واحدة في الجمل الثلاث" حرف جر + اسم مجرور + مبتدأ + لام..."

    ومن أمثلة التكرار التركيبي" أي تكرار بنية نحوية" أيضا قوله

    " في الطريق إلى حليبك ِ

    في الطريق إلى حريقك ِ

    في الطريق إلى رحيقك ِ.."ص72

    وهذا النمط الإيقاعي نجده لدى شعراء كثر وظفوا هذه التقنية لتوليد الموسيقية العالية, وفي مقدمتهم محمود درويش في مجموعاته المختلفة.

    ج- تكرار صيغة صرفية: وهذا النوع يعتمد على تكرار صيغة صرفية معينة" اسم فاعل , اسم مفعول..."ولكن خطورة هذا النوع من التكرار أنه يوقع غالبا بداء الخطابية, وهذا ما وقع به الشاعر رستناوي عندما أخذته الحماسة والنقمة على السلطان القمعي فأسلم نفسه لصيغة اسم الفاعل التي جاءت على صيغة جمع المذكر السالم فكررها بشكل خطابي واضح, يقول مخاطبا السلطان القمعي " سأجتزئ الشاهد فقط":

    " يا مالكَ الملكوت ِ

    ......

    .....

    دعهم ْ يكونوا حيث كانوا

    عذركَ السنة المريضة

    الذاهبون الراجعون الذاهلون المترفون َ

    القائمون َ

    الخانعون القابضونَ

    القابعون وراء مغلاق الفريضة

    الباحثون عن النموذج والنهايات الأكيدة" ص42

    فتكرار صيغة " الذاهبون, الراجعون, الذاهلون,...." تسع مرات بشكل متلاحق أوقع المقطع بداء الخطابية , وإن كانت تخفي ورائها نزقاً شديدا, ولكن ذلك لا يكفي لرفع القيمة الشعرية للمقطع.

    د- التكرار الاشتقاقي: وهذا النمط يعتمد على مصاحبة الألفاظ ذات الاشتقاق الواحد, ومن ذلك قوله:

    "سنركب هودجاً للثأر

    يرمينا على شفة المزارْ

    الثائرُ

    المأثورُ

    يثأرُ

    من حصيرتنا

    فترتدُّ الكرامة..." ص70

    لا تخفى النغمة الموسيقية الجميلة التي يولدها هذا الاشتقاق للمصدر" ثأر" إضافة إلى النزعة الساخرة التي ولدَّها التشكيل الدلالي كاملا.

    بقي أن نشير في هذه الفقرة إلى تقنية التناص التي تتضح بشكل واضح في بعض الأساليب البنائية في لغة الشاعر متأثرة بلغة القرآن الكريم والحديث النبوي والكتاب المقدس, ولقد استطاع الشاعر توظيف هذه التناصات بطريقة فنية رفيعة توحي بهضم وتمثل وبوعي لطريقة توظيف هذه التناصات في بناء نصه.

    ومن أمثلة التأثر بلغة القرآن الكريم قوله مخاطباً تدمر:" هي صوت خناس النذير" ص11

    وقوله في مقطع آخر:

    " ليتني ولدٌ

    ولمْ أولدْ أحدْ" ص24

    ومن تأثره بأسلوب الكتاب المقدس قوله في مقطع نثري" من أراد بناء السماء على برقة الأرض/ فليتبعني خلف هذا النحيب" ص12

    وليس بخاف إن ذلك يوحي بمنابع متعددة ينهل منها الشاعر في بناء نصه, وهذه ميزة لغوية.

    5- أسلوب الانزياح:

    يقوم الانزياح على المصاحبة اللغوية بشكل أساسي, وهويعتمد الخرق الدلالي عبر تركيب مفردات لا تلتقي في العرف اللغوي , كتلوين غير الملون, أواتباع كلمة بأخرى لا تتصاحب معها في العرف اللغوي العادي لا الشعري، وهذه التقنيات تبرز في النص المدروس عبر تقنيات اللون, والنعت, والتركيب الإضافي.

    أ – الانزياح اللوني:

    يعتمد الشاعر على الألوان في تشكيل الصورة الشعرية, ويركز بشكل رئيسي على اللون الأزرق الذي جاء في مقدمة الألوان, التي وردت في النص, وقد جاء هذا اللون في تراكيب انزياحية, كما في قوله:

    "الرعشة الزرقاء بكماء" ص17

    "هل خندق الضحكات تاريخ

    أم التابوت وجه حقيقتي الأزرق" ص16

    نلاحظ أن الشاعر صاحب لفظة " الرعشة" مع النعت اللوني" الزرقاء" وهذا غير مألوف في عرف اللغة, وهذا ما ينطبق أيضا على قوله" وجه حقيقتي الأزرق" من خلال مصاحبة تركيب "وجه حقيقتي" مع النعت اللوني "الأزرق" وهوانزياح إبهامي, وهوما ينطبق على بقية التشكيلات الدلالية لانزياحات هذا اللون, فالشاعر يشكل اللون في أسيقة وتراكيب عصية على التواصل, يقول محوِّلا اللون إلى صيغة المنعوت: "الزرقة البكماء تنغل بالهياج الملحمي" ص59

    وقوله:" وأرسل نائحاتي صوب زرقتي الكتيمة" ص25

    ويلاحظ أن الانزياحات الدلالية لهذا اللون تجنح نحوالتجريد والبعد في الدلالة إلى دائرة الإبهام, وهذا ما نجده مع ألوان أخرى استخدمها الشاعر في انزياحات أكثر شعرية كما نلاحظ مع اللون " الأسمر" في قوله:

    "في الواحة السمراء

    جلمود وقلب يخفق" ص13

    فدلالة اللون " سمراء" مقترن بإيحاءات هذا اللون المقترنة بدلالات مرتبطة بزنوبيا السمراء, فتنتقل الصفات الدلالية المقترنة بهذا اللون إلى الواحة, فالذين يعيشون في الواحة ينقلون صفاتهم إلى المكان فتسبغ عليه.

    وهذا ما نلاحظه مع اللونين " الأحمر" و" الأسود" كما في قوله

    " والأحمر المقدود ينتش"ص18

    وقوله:

    " كانت هويتنا بداية انتماء

    ومشانق سوداء في فرج السماء" ص22

    فلا تخفى دلالة الأحمر في التشكيل الدلالي الأول, فقد وردت في سياق يوحي بالموت لأنه لون الدم المنسفك من أجساد القتلى, وكذلك دلالة الأسود في التشكيل الدلالي الثاني الموحية بحزن متولد عن الموت الذي تحدثه المشانق.

    وبذلك نرى أن الشاعر يوظف اللون ولكنه غالباً ما يبتعد به إلى دلالات قصية بعيدة مما يعني أن تركيز الاشتغال على هذه التقنية بحاجة إلى اختمار أكثر- من وجهة نظري - مع احتفاظ الشاعر بحق تقديم رؤيته الخاصة لهذه التقنية.

    ب-الانزياح التركيبي غير اللوني:

    وهنا نتحدث عن انزياحات فعلية وانزياحات اسمية.

    فقد أجاد الشاعر في هذه التقنية أكثر من إجادته في تقنية اللون, إذ ولد انزياحات مبتكره ذات شعرية عالية

    ونورد فيما يلي أمثلة على هذه الانزياحات الفعلية:

    1- لتدمر تقرع الأحزان ص5

    2- فار درب الله بالكلمات

    قافلة كما اليخضور تزهو

    لا شراع سوى الرصاص المخمليِّ ص6

    3- هي تدمر الكابوس

    هرَّت في قميص النوم ِ ص 10

    4- هي " تدمر" خندق خطته أيدي المجرمين

    وساحة طردتْ حدائقها النخيلْ ص12

    5- جلمود وقلب يخفقُ ص13

    فالشعرية في هذه التشكيلات أتت من إسناد الفعل إلى غير فاعله الحقيقي, فأسند الفعل " تقرع" في التشكيل الدلالي الأول إلى الفاعل" الأحزان" وهذا ما ولد دلالة طقسية للأحزان وهي دلالة متجددة لأن الفعل " تقرع" جاء على صيغة المضارع, وكذلك في التشكيل الدلالي الثاني أسند الفعل " فار" إلى غير ما يسند إليه قي المألوف اللغوي وهولفظتا " درب الله , والكلمات" مما ولد إيحاءات دلالية جميلة. وهذا ينطبق على التشكيلات الدلالية الباقية على النحوالآتي:

    * إسناد الفعل "هرت" إلى عبارة في "قميص النوم"

    * إسناد الفعل " طردت" إلى لفظة " الحدائق" ولفظة " النخيل"

    * إسناد الفعل "يخفق" إلى لفظتي " جلمود" و" قلب" وهي هنا دلالة تقليدية

    وقد وردت هذه الانزياحات جميعها في سياق الحديث عن تفصيلات القمع والموت.

    وأما الانزياحات الاسمية وهي بارزة في المجموعة بشكل واضح فقد اعتمد الشاعر على توليد التراكيب الشعرية من خلال تقنيتي المضاف والمضاف إليه, والنعت والمنعوت, فمن أمثلة الأول نجد- سوف نجتزئ الشواهد من سياقها اختصاراً- قوله مثلاً:

    * فجر الدمعة ص5
    * آبار العشق ص6
    * طواحين العذاب ص6
    * بحة الفقر ص9
    * شوق مرآتي إليك ص18
    * هديل بئري ص18
    * مروج حقدي ص22
    * شبق الحقيقة ص27
    * صدف المآتم ص28
    * خبز أحداقي ص33
    * ثمار الوقت ص35
    * بئر نسيان ص49
    * بادية الكلام ص62
    * غراب أيامي ص78... الخ

    نلاحظ سيطرة النزعة الرومانسية على هذه التراكيب وقد التقت بغموض شفاف رفع من شعرية التشكيل التي وردت فيه, وقد كانت هذه الانزياحات مبتكرة في أحيان كثيرة تحسب للشاعر, ولكن هذه التقنية" تقنية المضاف إليه" تنحومنحى إغلاق الدلالة عندما كانت تميل إلى التجريد كما ألمحنا إلى ذلك في حديثنا عن اللون سابقا ً, والكلام عن تقنية الإضافة ينطبق على تقنية النعت, إذ ولَّد الشاعر دلالات جديدة عبر مصاحبة النعت مع منعوت لا يقترن به في العرف اللغوي ومن أمثلة ذلك نورد:

    * العظم المهاجر ص8
    * المهج الصدوقة ص8
    * الملح الرضيع ص27
    * نافذتي الضريرة ص40
    * جذع الحنين المريميّ ص41
    * جواهري الثكلى ص64
    * يابستي الندية ص78

    وقد يعتمد الشاعر على تقنية التضاد في هذه الانزياحات عبر ذكر اللفظ ونقيضه , من ذلك على صعيد التركيب الإضافي قوله:

    " لتدمر ظل مقبرة البقاء..." ص5

    فالمقبرة دالة على الموت, والبقاء دال على الحياة, وهذا التضاد الذي يومئ بسيطرة للموت عبر تركيب إضافي طريف. ومن أمثلة ذلك على صعيد التركيب الفني قوله:

    " حاملين غراب أيامي ويابستي الندية.." ص78

    فالمنعوت" يابستي" يوحي بجفاف, والنعت" الندية" أزال هذا التجفاف, فالتضاد عند الشاعر طريف يولد شعرية مثيرة للمتلقي ولحسِّه الجمالي.

    5. الثنائيات الدلالية في النص:
    تسيطر مقولة القمع المرتبطة بالموت على النص كاملاً, وتعزز هذه المقولة ثنائيات كثيرة, تنقل النص من حالة الموت المسيطر إلى حالة الموت المقترن بنزعة رومانسية عالية عبر مقاطع تشكل توهجا ً شعرياً وانحرافا ً جمالياً.

    وهنا سأتوقف فقط عند ثنائية "الابن/ الأم " وثنائية "اليأس/ الأمل"

    أ- ثنائية الابن/ الأم:

    صيغت المجموعة بضمير الأنا/ النحن, فالشاعر ينطق باسم المقموعين جميعا ً, وتارة بضميره الشخصي , هذا الضمير درامي يحول القارئ إلى مشارك للمبدع عند القراءة, وتتضح الصياغة والكلام كأنهما ضمير القارئ أيضاً ,وإذا توقفنا عند المقطع الخامس من النص المدروس فسنجد الشاعر يفضِّل في تدمر المكان الذي تحول إلى سجن ضيق وغرفة تحقيق يكلؤها اليباس النازف, ويتدفق الحراس فيه كالأشجار ليبدأ احتفالات السيادة والتعذيب فيقلعون أظافر الموتى, ويحتلبون أعضاء الحياة, ويبولون على جذع الحياة, عندها تتدخل الذات الشاعرة في لحظة شاردة من داخل السجن الذي تعمِّر فيه مكامن الخوف، لينقل البوح إلى أقرب الأشخاص الذين يشعرون بمأساته وهي الأم, واختيار لفظة " الأم" تضفي على النص بعداً درامياً لأن الأم هي أكثر الناس إحساساً ومشاركة لأبنائها البائسين وأكثر حساسية ودموعاً في التعامل مع قضاياهم ومآسيهم فنرى الشاعر في هذه اللحظة الحاسمة والشاردة يخاطبها:

    " ما زلت يا أمي أعدُّ أصابعي

    لكأنني برق على شفة الألوهة ينطفي

    ما زلت يا أمي أزنِّر وحدتي

    أستشرف المهد البعيد

    وحضنك البري يا أمي

    تأنسن من جديد" ص48-49

    ثم تحضر الأم في مقطع سردي آخر مرتبط بالحكاية , إذ يبدأ المقطع بفعل القص " كان" الذي يحول ما يأتي بعده إلى الماضي مما يضفي على النص نزعة درامية حزينة يستشف منها أن الأم ليست حاضرة في الراهن بفعل " الهجر" والهجر هنا ليس فعلا إراديا وإنما هوفعل قسري ناتج عن الطاغية , وسبب هذا الهجر ليس إلى وطن آخر يمكن أن تؤمل عودة المسافر منه , وإنما إلى العالم الآخر عالم الموت.

    يقول:

    " كان لي أمٌ

    وشاء الهجر أن تبكي

    على قمر توسَّده الترابْ

    أمي تفلّي سفح رأس الغير

    تنساني

    فأبكي

    كان يا أمي

    صقيع زاحف

    يجتاح ألسنتي

    ولم أعثر على لغة

    تزاول مسقط الصئبان ِ

    في لغة الكتابْ" ص61

    فبعد حالة الحسرة على غياب أفعال جزئية مستقاة من الطفولة, واعتناء الأم بولدها ,والحسرة على ذهاب الذكريات التي حضرت في مخيلة الشاعر بفعل الحالة القمعية والاغترابية التي يعانيها في سجنه, بعد كل ذلك تأتي لحظة البوح عن الذات" صقيع زاحف يجتاح ألسنتي..." ليعود بعد ذلك فيقول:

    " أمي تقص مشاغلي

    وتغوص في أعماق أيامي

    تعد أصابعي

    كانت تزيد وتنقص

    وسريري الممسوح يستلقي

    على وعد الحكايا

    مرهقا ً يتملَّص" ص61-62

    فالأفعال الطفولية التي ترد هنا تأتي لتعميق البناء الدرامي للنص عبر سرد مستمد من الذاكرة البعيدة ذاكرة الطفولة وعلاقة الأم " تداعب طفلها, تفلي رأسه, تقص عليه الحكايا.." ثم ينقلب الشاعر بعد هذه الحالة مباشرة ليسرد لنا علاقته مع الطغاة القامعين الذين " نكن في أعماقنا موتاً لهم" ثم يسرد علينا المشاهد القمعية " إقليم بادية الكلام محاصر / والفارس المفقود/ لم يعثر على أوراقنا/ قد مل تأكله الرياح الآدمية/ والمحاجر.." ص62

    ب- اليأس/ الأمل:

    الحديث عن القمع الذي يعانيه المعتقل أوالمخطوف أوالمفقود في سجون الطغاة حديث يقفل كل أبواب الأمل نظرا ً لتماهي الطاغية القمعي بسمات ألوهية تحيلنا إلى صفات: القدير, العليم, القاهر, المتجبِّر, المتكبر, الماكر, لا يُسأل عن ما يفعل وهم يسألون , وكذلك تحول الشعب/ القطيع إلى أداة لا وظيفة لها إلا التصفيق والتلميع والتقديس, وهذا الكلام يقفل أبواب الأمل في نص الشاعر لذلك تراه يقول:

    " لا تنتظرْ أحدا ً

    يضمِّد حزنكَ المشتقَّ

    من عبق المضيقْ

    لا تنتظر قبرا ً

    ينصَّب في قدومكَ

    أو سماوات ٍ سيشغلها غيابكَ

    أو مروجا ً تبتهجْ لغياب ِ شنقك َ

    أو صبايا في المفارق

    قد يقفن لبعض شأنكَ

    أنت لا تعني سواكَ

    ولستَ تعني مطلقا ً

    أو لست تعني ما تقولُ

    تنهال من صدع الصباح

    إلى مجنزرة

    وأشلاء ندميها بأعقاب البنادق." ص82

    نلاحظ أن الإنسان في ظل القمع يتحول إلى رقم أو كائن لا يعني حضوره أو غيابه , حياته أو موته أحد, فلا حبيبة تهيم على المفارق تنتظر رجوعه, ولا مروج تبتهج لعودته إلى الحياة.

    وعلى ذلك نلاحظ الشاعر يبرز يأسه, ولكنه اليأس المحفوف بخوف وبنقمة وبثورة داخلية عارمة فيقول:

    " لا تملأ المصباح ذكرى

    يا إلهي

    نحن لا نخشاكَ

    نخشاهم

    ونعبد كل آلهة الطغاة

    لا تجعل التنور

    في غدنا يفور

    فنحن إرهاصات ما قبل التبني

    نحن أضحية تقدس مالكيها

    نسل قصاب يقدمنا

    سبيل الأضحية " ص88

    وهذا الموت القمعي الذي يلفُّ نص الشاعر رستناوي والذي يبرر حالات النقمة والثورة والغليان الداخلي الذي يعتمل في داخل الشاعر هو الذي يولد الأمل, فمواجهة القمع توحي بأمل في الانتصار عليه, والإشارة إلى الممارسات اللاإنسانية الناجمة عن قتل المستبد للإنسان دون رادع أخلاقي أو إنساني بحد ذاتها هي التي تجعلنا نشعر أن الماء قد ينفجر من عمق الصخر, وهذا الأمل الوحيد الذي تزرعه المجموعة في داخل قارئها عبر تأريخها للقمع، وربما هذا كاف ٍ لجعل مقولة الأمل حاضرة، وهي بمثابة المسكوت عنه في عمق المجموعة/ القصيدة وإن لم ترد ألفاظها صراحة.

    ـ هامش: سيدة الرمال، حمزة رستناوي، دار بعل، دمشق، 2005.



    د. هايل محمد الطالب - كاتب وناقد من سوريا
    Embarassed

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة أبريل 19, 2024 5:49 am