منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    السميائيات التأويلية ... عبد الله بريمي

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    السميائيات التأويلية ... عبد الله بريمي Empty السميائيات التأويلية ... عبد الله بريمي

    مُساهمة   الجمعة فبراير 26, 2010 11:03 am

    السميائيات التأويلية ... عبد الله بريمي

    نحو وعي نقدي لتأصيل التأويل وتحيين القيم

    قد يكون الحديث عن تأصيل التأويل أمراً بالغ الصعوبة، لما يثير حوله من جدالات، بل قد يؤدي في كثير من الأحيان إلى سوء الفهم. فالتأصيل هنا هو حالة النضج التي وصل إليها التأويل؛ إذ ساهم على نحو كبير في تجديد الوعي النقدي، من خلال إعادة النظر في طريقة التعاطي مع قضايا المعنى وإشكالاته، وأشكال تصريفه وتداوله وتلقيه.

    إن هذا التأصيل عمل على تهذيب القراءة النقدية، وحاول انتشالها من الرؤية الانطباعية التي ظلت أسيرة زخم هائل من المفاهيم النظرية المتحجرة والانفعالية المنطوية على ذاتها؛ وهي رؤية »تكتفي في أحسن الحالات بوصف النص ومكوناته خارج غاياته الدلالية والجمالية، مما حول الفعل النقدي إلى ممارسة تكنوقراطية تقف عند حدود الوصف والتعيين المباشر لمكونات النص المباشرة»(1).
    تلك هي حالة النقد العربي اليوم الذي حاصر نفسه بالعديد من المفاهيم النظرية المجرّدة من أيّ غطاء فلسفي؛ حيث لم يقم سوى بنقلها واستيرادها دون العمل على تطويرها وتوطينها والتفاعل معها، الأمر الذي جعل هذا النقد لم يجدد آلياته ويغني منطلقاته بأصول نظرية إضافية تعطي للمعرفة النقدية والنظرية على حدّ سواء نقلة نوعية من شأنها إضاءة العمل الأدبي. لكن على النقد الذي يريد أن يضيء جوانب العمل الأدبي، والذي يسعى لطرح تأويل مقنع له، أن يعي الأصول والأسس الفلسفية التي تنهض عليها ممارساته، حتى يكسب هذه الممارسات قدرا من التماسك والإقناع. وبعيدا عن هذه الأصول لا يمكن الحديث عن بناء تصورات نظرية وعملية مهما كان شكلها.

    من هنا، لا يمكن تناول مفهوم التأويل أو السيميائيات التأويلية بعيدا عن أسسها الفلسفية، لأنّ كلّ محاولة لممارسة هذا التأويل، كنسق تامّ له خصوصياته المتفرِّدة دون مراعاة السياق الفلسفي والأساس الإبستمولوجي الذي يتضمنه، يجعلنا عرضة للوقوع في مزالق الاختزال والفهم الناقص، لأنّ كلّ نسق يستند إلى مسلمات فلسفية، وهي مسلمات تختزن داخلها رؤية ما للعالم ولمكانة الإنسان داخله. ويجدر بنا ألاّ نتجاهل هذه الأشياء، خاصة وأن السيميائي الأمريكي شارل ساندرس بورس نفسه أكّد في هذا الإطار، بحسب ما يذكر جيرار دولودال، » أن للذين يهملون الفلسفة نظريات ميتافيزيقية شأنهم في ذلك شأن الآخرين«(2).

    إن الوعي بأهمية هذه الأسس هو الحافز والمبرّر لكتابة هذه الأسطر، وسنتخذ من حالة الناقد المغربي الدكتور سعيد بنكراد نموذجا لتمثّلها واستيعابها باعتباره واحدا من المفكرين الذين سجلوا أسماءهم في المشهد النقدي المغربي والذين سعوا بوعي نقدي حثيث إلى تأصيل التأويل وتجديد النقد العربي من خلال أعماله الفكرية وترجماته(3). وهذا هو سرّ الاهتمام بالتعرف على مسار عملية التأويل وتطورها من ناحية، وعلى أصولها الفكرية والفلسفية من ناحية أخرى. يتعلق الأمر بالمقترحات التي جاءت بها السيميائيات والسيميائيات التأويلية أساسا كما رصد ملامحها وتحققاتها في النص الدكتور سعيد بنكراد.
    من هذا المنطلق سنعمل، في هذا المقال، على إبراز مجموعة من الملاحظات النقدية تخصّ أساسا الأسس المعرفية والفلسفية التي انطلقت منها السيميائيات التأويلية ثم تصورها للنص والقارئ وإنتاج الدلالة وأشكال تأويلها. ولا ندّعي في هذه الصفحات القليلة القيام بعرض وافٍ عن هذه النظرية فذاك طموح آخر ـ يتجاوز على الأقل هذه الصفحات ـ بل سنكتفي بتحديد بعض الأسس الفلسفية التي احتضنتها ثم طريقتها في رصد المعنى بكل غاياته وأبعاده وطرق تصريفه.


    السيميائيات التأويلية: الأساس الإبستمولوجي والمردودية التحليلية:

    تنطلق السميائيات التأويلية باعتبارها نشاطا معرفيا بالغ الأهمية والخصوصية من حيث الأصول والامتدادات من تصورات نظرية دلالية وجمالية، تجد في سيميائيات بورس الظاهراتية والتسنين السردي والثقافي عند كل من أمبرتو إيكو ويوري لوتمان وغريماس ورمزية كاسيرير وسميولوجيا بارث منطلقا لها. لكن الناقد سعيد بنكراد لم يعد حبيس هذه المنطلقات، بل حاول التفاعل معها وجعل مواقفه من التأويل والسميائيات تسكن اللغة العربية متخذا لنفسه نسقا منفردا ومتفرّدا أعطى لتأويلاته استقلالها وطابعها الذاتي خاصة أثناء الممارسة باعتبارها التطبيق المخصوص الذي يُمدّ النظرية بعناصر محلية وتلوينات ثقافية تغنيها(4). ونقصد بالنظرية السيميائية خطابا نظريا حول الظواهر التأويلية حيث تباشر النص بوصفه خزانا من الإمكانات الدلالية، وتهتم بكل مجالات الفعل الإنساني؛ فهي بذلك آلية نقدية لمقاربة كل مظاهر وتجليات السلوك الإنساني بدءا بأبسط الانفعالات وانتهاء بأكبر الأنساق الإيديولوجية، وهي مجموعة من المفاهيم المنظَّمة التي تمكّن من وصف آليات إنتاج الدلالة داخل موضوع ثقافي ما. ولفهم ما تدلّ عليه هذه السيرورة في أبعادها النظرية والعملية، لابد من تحديد المستويات الدلالية التي تحتضنها، حيث لا وجود لمعنى ما إلا من خلال سيرورة تنقله من حدوده المفهومية المجردة والمتصلة والمعزولة عن أي سياق إلى كيانات أو مستويات ملموسة يُستثمَر من خلالها هذا المعنى ويَستحضر كل أشكال التدليل التي تحققه في واقعة ما. إن هذا الانتقال لا يتم بصورة اعتباطية، بل بواسطة أشكال توسطية ثقافية ورمزية تربط بين المجرد والمحسوس أو بين النموذج ونسخته، وهي أشكال تحدد العلاقات وصور التبادل الممكنة بين المستويين »فما بين المحافل الأصلية الأولى حيث تتلقى المادة المضمونية أولى تمفصلاتها وتتشكل باعتبارها شكلا دالا، وبين المحافل النهائية حيث تتجلى الدلالة من خلال لغات متعددة، يمكن إدراج محفل للتوسط تنتظم داخله بنيات سميائية تمتلك وضعا مستقلا«(5).

    إن هذه البنيات لصيقة بالفعل التأويلي، وهو فعل محكوم باستراتيجية تسعى إلى تحديد الطرق التي يتم بها تشكيل المعنى وتنظيمه داخل وقائع مادية قصد تداوله وتصريفه في أفعال وممارسات وسلوكات مخصوصة.
    إن هذه الخاصية تجعل من السيميائيات التأويلية نشاطا معرفيا متكاملا وهو نشاط لا يقتصر على ممارسة محدودة دون غيرها، بل إننا نُلفي داخل هذا النشاط نموذجا تأويليا وتحليليا يأوي إليه كل الوقائع الدالة التي تنتجها الممارسة الإنسانية في أبعادها الفردية والجماعية .
    لهذا تجد السيميائيات التأويلية كما يشغل جهازها المفهومي الدكتور سعيد بنكراد لا تنفرد بموضوع محدّد، فهي تهتمّ بكل الظواهر الثقافية الدّالة وكل ما ينتمي إلى التجربة الإنسانية بدل الاقتصار على ما هو لساني في هذه التجربة فقط ؛ » إن كل مظاهر اليومي للإنسان تشكّل موضوعا للسيميائيات. وبعبارة أخرى فإن كل ما تضعه الثقافة بين أيدينا هو في الأصل والاشتغال علامات تخبر عن هذه الثقافة وتكشف عن هويتها. فالضحك والبكاء والفرح واللباس وطريقة استقبال الضيوف وإشارات المرور والطقوس الاجتماعية والأشياء التي نتداولها فيما بيننا، وكذلك النصوص الأدبية والأعمال الفنية، كلها علامات نستند إليها في التواصل مع محيطنا «(6). ممّا يبيّن أن الأشياء التي يستند إليها هذا الباحث في شرح تصوره النظري هي أشياء تنتسب إلى الحقل الوجداني والعملي والعقلي، متبنيا في ذلك مفهوم السميوزيس كما تصوره وصاغ حدوه السيميائي الأمريكي شارل ساندرس بورس؛ والسميوزيس هي السيرورة التأويلية التي يشتغل من خلالها شيء ما باعتباره علامة، لذلك لا يمكن تصور مفهوم الدلالة خارج مدار سيرورة السميوزيس، فهو مفهوم يتضمن من جهة أولى، القدرة على إنتاج الدلالة استنادا إلى معطيات مباشرة هي ما يشكل الوجود الأصلي للعلامة وجوهرها الحقيقي، كما يتضمن من جهة ثانية، لحظات إضافية تنزاح عن التعيين لتعانق سيرورة التأويل بوصفها إوالية ضمنية داخل أي سيرورة لإنتاج الدلالة وتداولها. وهذا الاستقطاب هو ما أطلق عليه الدكتور سعيد بنكراد الوجود الأصلي للظاهرة، لكي يميزه عن العناصر الإضافية التي تعلق بالفعل ضمن حالات ثقافية بعينها، وهذا ما ينعكس على فعل الوصف والتعيين وكل الأنشطة المنتجة للمعاني المباشرة؛ فداخل هذا الاستقطاب يتم التمييز بين اللحظة الخاصة بالتعيين المرجعي "المحايد"، وبين اللحظة المنتجة لدلالات إضافية تستجيب لحاجات لاعلاقة لها بالجوانب النفعية والغريزية المباشرة.
    وعلى هذا الأساس وجب الفصل بين مستوى دلالي يكتفي بإنتاج وحدات قيمية من طبيعة تعيينية، وبين مستوى ثان يشير إلى قيم مضافة تدرج الفعل الإنساني ضمن وضع ثقافي خاص(7).

    يظهر من خلال ذلك، أن التأويل هو محاولة لفهمٍ لا يكترث ولا يقف عند حدود تعيين الأشياء في دلالاتها المباشرة المنطوية على ذاتها، بل هو انخراط في صلب الرمزي والثقافي انطلاقا من معانٍ إضافية لها القدرة على التدليل والإحالة على قيم دلالية ممكنة خالقة لسياقاتها الخاصة. إن اللحظة الثانية، بوصفها لحظة تأويلية، تحضر في الواقعة على شكل إحالات رمزية، وهي إحالات تثير فينا أسئلة تدفعنا باستمرار إلى رحلة البحث عن الحقيقة، هذا البحث، تكون معه الحاجة إلى التأويل ضرورة ملحة. ولأنّ إدراك أيّ ظاهرة بصورة فعلية، يقتضي استحضار السيرورة التاريخية والقيم الثقافية التي انبثقت منها هذه الظاهرة وتحوّلت عبرها إلى ذاكرة للفعل الإنساني، فإن تجاوز هذه اللحظة المباشرة أمر طبيعي، هذا التجاوز يضعنا على عتبات تأويلات أكثر خصوبة وضبطا للاطلاقية والتسيب في الوقت نفسه.
    إن التأويل، من هذه الزاوية، سيرورة تساهم في تحويل العالم من حالته العديمة الشكل إلى ما يحدد الأشكال المختلفة للإدراك، انطلاقا من تمفصلات الدلالة، إنه يحوّل العالم إلى أشكال وموضوعات ثقافية تلعب دور البرنامج (والسلوك الإنساني ليس سوى تحقيق لهذا البرنامج) وتشتغل باعتبارها تعليمات وآليات تهدف إلى خلق وضعيات جديدة يستطيع من خلالها الفرد بناء عالمه بصورة تجعله قادرا على فهم تجربته وتعميمها وتأويلها وتنظيمها في أشكال وصيغ قابلة للتحقق. إننا بمعنى آخر نصوغ من خلال هذا التأويل الواقع الذي نعيش فيه والعالم الذي نرغب أن نحياه.

    » إن التأويل ـ من هذا المنظور - ليس فعلا مطلقا بل هو رسم لخارطة تتحكم فيها الفرضيات الخاصة بالقراءة، وهي فرضيات تسقط انطلاقا من معطيات النص مسيرات تأويلية تطمئن إليها الذات المتلقية «(Cool، وهو ما يعني أن الممارسة التأويلية ضمن هذا النوع تجنح إلى تثبيت السيرورة داخل نقطة معينة، يمكن النظر إليها بوصفها أفقا غائيا داخل مسير تأويلي ما ينطلق من تحديد معطيات أولى إلى إثارة متوالية من الدلالات المتنوعة والغنية، ليصل في نهاية الأمر إلى تحديد نقطة إرساء دلالية. إنه تأويل ينطلق من "الإدراك" وينتهي عند "الفعل" عبر توسّط الفكر في أبعادها التداولية، لأن الفكر هو العلامة في أبعادها التداولية، إنه قانون وضرورة ودلالة. ويعدّ هذا الأفق صيغة نهائية ستستقر عليها هذه السيرورة، بوصفها حركة تدليلية تقوم على أساس وجود سياق خاص يحدد للتأويل حجمه و مصادره وأبعاده.
    إن السياق، في هذا النسق التدليلي، استراتيجية تأويلية بانية للنص، وتعمل على ترهينه في ظل شروط لسانية وتداولية محددة بمرجعياتها وقوانينها الذاتية الممكنة، إنه بهذه الصورة سياق تأويلي قادر، من جهة، على الإمساك بكل الممكنات الأصلية البانية والمنتجة للنص (المسير التوليدي)، وقادر من جهة أخرى على خلق سياقات وظروف تساهم في تحيين الفعل التأويلي وتقوم بضبط حدود السنن الذي تنتهي عنده كل التسنينات أو التأويلات الممكنة (المسير التأويلي).

    إن ما هو أساس في هذه السيرورة ليس هو طبيعة الدلالة ولا مادتها، بل القانون الذي سيحكمها استقبالا؛ وهو قانون يولد مع السياق ويموت معه، وتلك في اعتقادنا هي الغاية الدلالية والجمالية لكل فعل تأويلي خلافا لما تقول به العديد من الاتجاهات التأويلية المعاصرة التي تجعل من التأويل قراءة حرّة يقوم وفقها المؤولون بنخل النصوص واستعمالها للوصول إلى الصيغة التي ترضي نواياهم، هذه الاتجاهات تلغي كل هوية للسياق والنص والمؤلف وتدعو إلى تبني رؤية تأويلية الأساس فيها ليس هو الحصول على دلالة ما، بل التلذّذ بسيرورة إنتاجها، وهي رؤية تأويلية خطية متحررة بعيدة عن كل غائية وتستند إلى لانهائية الفكر والانتشار السرطاني للدلالة كما هو حال التفكيكية، حيث كل التأويلات صحيحة وتنتج حقائقها حتى ولو كانت متناقضة، وكل الإحالات ممكنة حتى لو أدّت إلى إنتاج مدلولات بعيدة عن المنطق والعقل.
    إن السيميائيات التأويلية، بعيدا عن هذه الاتجاهات، تحمل في ثناياها عناصر التنظيم والتأليف، وهي عناصر متصلة بالمنهجية الخاصة بقراءة أيّ نص؛ »فالمعنى هنا مبدأ للتنظيم، فلا يمكن الحديث عن العلامة إلا باعتبارها أداتنا الرئيسية، إن لم تكن الوحيدة لتنظيم التجربة الإنسانية «(9)، وما ينظم هو نفسه ما يحكم التدليل ويساهم في تطوير وبلورة الفعل التأويلي المتعدد. ويظل هذا الفعل أو الإجراء محكوما بأنساق تحدد للمعنى مجمل تحققاته وترسم له في الوقت نفسه كل إرغاماته. هذه الإرغامات تحصر وتحدّ من غلواء التجاوزات المغرقة في الذاتية؛ لذلك فالإرغامات التأويلية تشتغل داخل النص بوصفها صدّاً يحدد بصورة صريحة المجالات أو السياقات المسموح بها أثناء قراءة هذا النص .

    إن الإمساك بكل الممكنات الدلالية داخل السميوزيس لا يمكن أن يتم إلا من خلال مستويات، وهي مستويات يمكن اختزالها في مظهرين أساسيين حيث يشير كل مظهر إلى تنظيم متفرد وخاص للقيم الدلالية وذلك بتحديد كل الأنماط المتعلقة بإنتاج هذه القيم وأشكال تصريفها واستهلاكها. وضمن هذين المظهرين يمكننا أن نصنف كل العلامات خاصة تلك التي تعود طبعا إلى السلوك الإنساني كما تمّ تجسيده في مجموعة من الممارسات الاجتماعية والثقافية كالعادات والطقوس والاحتفالات والأحكام الاجتماعية.
    ففي الحالة الأولى لا نستطيع الإمساك بهذه القيم لأنها تتحدد من خلال صيغ مجردة تتخذ طابعا لازمنيا، فهي لا تعيّن مرجعا محددا، بل هي في الأصل أفكار وممكنات يشترط فيها أن تكون مبهمة وغامضة فهي قيم لا تحيل على أيّ شيء آخر ولا يستلزمها أي شيء سوى ذاتها. إنها سابقة على أي دلالة أو تركيب فهي قيم متصلة ولا يمكن أن يًفكَّر فيها بصورة متمفصلة، ومع المتصل لا نستطيع إنتاج دلالة ما داخل نسيج هذه القيم.
    أما في الحالة الثانية، فإن هذه القيم تنتقل من طابعها المبهم إلى المجسَّد والمتحقق في وقائع مخصوصة. فكل سلوك ليس سوى تكثيف لسلسلة من القيم أو السلوكات المتشابهة التي تتكرر في زمن أو مكان ما. يستفاد من هذا الكلام أن الانتقال من المظهر الأول إلى المظهر الثاني ليس انتقالا سكونيا موسوما بالثبات أو هو انتقال يكتفي فقط بتحويل ما هو مكثّف ولا زمني داخل المستوى الأول إلى ما هو متمفصل ومحقق داخل المستوى الثاني (من صورة كونية تضم داخلها سلسلة من الثنائيات على شكل قيم عامة إلى أشكال وصيغ تحققها) إنه على العكس من ذلك انتقال دينامي يبرر العلاقة القائمة بين المستويين. فالمضمون الأول يتطور ويغتني من خلال التحققات الخاصة؛ فكل تحقق يضيف أو يعدل بهذه الصيغة أو تلك قيما جديدة أو معدلة إلى المضمون الأول . فمفهوم " الحرية " مثلا كمفهوم في ذاته يتميز بكلية المادة الدلالية ، ولا يمكن أن يدل إلاّ من خلال شبكة التمفصلات والتقطيعات المفهومية ـ سواء على مستوى شكل أو مادة هذا المفهوم ـ التي يشتمل عليها. فصورة الحرية كحدّ داخل مقولة دلالية تامة :
    حرية (م) عبودية. (حرية مقابل عبودية)
    تتغذى وتتطور بفعل إدراج الوضعيات الإنسانية (الحالات والتحولات) المتنوعة كأشكال ثقافية تساهم في بنائها مجموعة من العناصر المتداخلة: السياسية والدينية والإيديولوجية والأسطورية ....(10). بمعنى آخر فإن مفهوم "الحرية" أو أي مفهوم آخر يشتمل على مجمل الإمكانات الدلالية التي تحققه وتجسده. إن هذا المفهوم ينتقي مجمل الصور والأشكال والأبعاد والمظاهر التي يتجسد من خلالها كل ما يمكن أن يدل على "الحرية" في سياق محدد. فالحرية في ذاتها تكون متصلا وشيئا معزولا ومفصولا عن أي مرجع مادي محسوس تتجسد من خلاله، ولكي تملك القدرة على التدليل لا بدّ من ردّها إلى ما يكوّنها حينها تتحول عناصرها الداخلية إلى مسيرات دلالية. وفي هذه الحالة فإننا نكون»أمام مستويين يُصنف ويؤول ضمنهما الفعل الإنساني: مستوى خارج ـ سيميائي ويتضمن مجمل التصنيفات القيمية والمجردة والقارة. إن هذه القيم توجد خارج الممارسة السيميائية لأنها انفصلت عن الفعل الخاص، وهو ما يحدد هويتها المتميزة. ومن جهة أخرى هناك ما ينتمي إلى السميائي بحصر المعنى، ويعين هذا المستوى كل ما يدرك كتحقق محسوس ضمن سياق خاص. إن التفاعل بين المستويين هو ما يضمن استمرارية الحياة ومعقوليتها. فبدون سقف مجرد لا يمكن تصور فعل خاص، كما أن كل فعل خاص لا بد وأن يصنف ـ عاجلا أو آجلا ـ ضمن خانة تبرر وجوده واستمراره « (11). والتأويل في هذه الحالة، وفي كل الحالات هو تحويل المجرد إلى المحسوس، إنه بلغة أخرى منح البعد الدلالي وجها تصويريا مشخصا قابلا للإدراك والمعاينة. من ثمة فإن كل القيم المنتشرة في مجتمع ما لا يمكن أن تدرك فعليا، إلاّ من خلال تحيينها داخل جهاز، أي إسنادها إلى كائنات تعطيها وجها مشخصا في أفعال وصفات. »ولعلّ هذا ما يسمح لنا بالقول إن للقيم نمطين وجوديين مختلفين يقعان ضمن مستويين مختلفين لإدراك هدا الكون:
    ـ نمط يحدد هده القيم على شكل ثنائيات، ومن هذا الموقع فإن هذه القيم تمتلك وجودا مستقلا عن منتجها: أي المجموعة البشرية المنتجة لكل القيم المادية والروحية (الاستقلالية هنا استقلالية نسبية بطبيعة الحال). وهذا يجعلها تشتغل، لحظة تجسدها في سلوك (صفة) أو فعل (وظيفة) كسلطة لا زمنية تمارس على الإنسان.
    ـ ونمط يحدد هذه القيم على شكل ممارسة فعلية (من الفعل) وما نعنيه بالممارسة الفعلية هو استحضار السياق الثقافي (كلحظة زمنية محددة) الذي يقوم بتخصيص هذه القيم زمانيا من خلال إدراجها ضمن تاريخية معينة (تاريخانية القيم الإنسانية) ومضمونا من خلال صبها داخل وعاء نص الثقافة الذي يقوم بتحديد تلوينها «(12).

    إن تكرار هذه القيم يحولها إلى قوالب جاهزة ونسخ محققة لكي تعود من جديد لتمارس سلطتها على القيم الفردية. فالقيم تخضع في تحققها لنموذج عام تثبته التجربة الجماعية لكي تنتج نوعا من التطابق بين الفرد والجماعة، لأن إدراك ما تدلّ عليه هذه القيم، لا يمكن أن يكون إلاّ بعد أن يعاد إنتاجها في شيء مادي؛ لأنّ معنى العلامة، هو ما يمكن ترجمته وتأويله في علامة أخرى. لذا لا نستطيع الاقتراب من علامة ما، إلاّ إذا أنتجنا نسخة وتحققا لهذه العلامة.
    »وبناء عليه، يمكن القول إن ميلاد النص هو عملية تقود من مادة مضمونية عديمة الشكل إلى الوجود الفعلي للقيم. فالنص هو اختراق لمتصل لا حدود له. إنه اختراق يصوغ القيم ويعدل ويحذف ويضيف مستندا في ذلك إلى أهلية المتلقي وأهلية الموسوعة الثقافية التي ينتج ضمنها النص.
    فماذا يعني "الحب" و "الخير" و "الصدق" و "الحقد" و"العدوانية" و "الحرية" وكافة القيم الأخرى خارج حدود النسخ التي تخبر عنها؟ فهذه القيم لا يمكن أن تدل على أي شيء" فالكون الدلالي يتميز بكلية "المادة الدلالية" ولا يمكن أن يدل إلاّ من خلال شبكة التمفصلات التي يشتمل عليها " «(13).

    إن المعنى بكل تمنّعاته الذي يُسنَد لهذه القيم لا يمكن أن يدرك بصورة فعلية إلا من خلال تحقق هذه القيم وتجسيدها في أدوار أو وظائف ومؤسسات تخرج هذه القيم من تجريديتها وتمنحها وجها مشخصا، وذلك بإعطائها مضمونا وصبّها في وعاء يتم من خلاله تحديد السياق أو التلوينات الثقافية التي تخصص هذه القيم وتخرجها من لازمنيتها المطلقة إلى زمن ومكان محددين؛»إن التجسيد هو المدخل الرئيسي نحو خلق سلسلة من الأنساق التي تقوم بتنظيم مجموعة من القيم في أشكال محددة في الزمان وفي المكان. ويسمح هذا التنظيم لهذه القيم ـ تبعا لذلك ـ بالدخول مع بعضها البعض في شبكة من العلاقات التشابهية التقابلية والعكسية. ولعل هذه العلاقات المتنوعة هي ما يحكم نمط إدراكنا للعالم. فنحن لا ندرك إلا الاختلافات« (14).
    ولا يمكن لهذه القيم أن تُحيَّن وتنتج دلالة إلاّ إذا أدرجت ضمن شبكة من العلاقات تمنحها وجها عمليا وإجرائيا وتنظيميا قابلا للإدراك والمعاينة. إن هذه العلاقات تمرّر وتصرّف السياق باعتباره شرطا أساسيا لترويج الدلالة والإمساك بها في الآن نفسه. إن تنظيم هذه القيم داخل وحدات سياقية محددة هو المشكِّل لما نصطلح على تسميته "الإيديولوجيا" أو الصياغة المخصوصة للقيم.
    بذلك تكون الإيديولوجيا هي الوجه المرئي والمشخص لهذه القيم، إنها »التجسيد الفعلي للمادة المضمونية داخل حدود زمنية / فضائية تمنح القيم لونا وطعما وخصوصية. إن التشخيص هنا هو إدراج القيم المجردة ضمن سياقات خاصة. فالفعل الخاص يحتاج إلى سياق خاص يميزه ويستمد منه فرادته«(15). وهذه الإيديولوجيا لا يمكن أن تكون إلاّ من طبيعة المادي والملموس. إذ ليس هناك أيّ معنى لأيّ سلوك أو ممارسة إلاّ في إطار نسيج مركب من المواد المحسوسة. ولا يمكن تصور أي شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي خارج مدار هذا النسيج؛ أي خارج مدار السميوزيس. لهذا فالمطلوب هو إدراك الكيفية التي يتم بها استثمار السميوزيس في كل شكل من أشكال النسيج الاجتماعي. إنها بلغة أخرى تحدد وتهتم بطبيعة الإنتاج الاجتماعي للمعنى باعتبارها رُزما أو أنساقا ثقافية منمذجة ومركبة غايتها في ذلك اختراق الشبكات الاجتماعية للمعنى. لأن هذا المعنى هو وليد ممارسات أو هو حصيلة وخلاصة عمل اجتماعي.

    إن هذه الإيديولوجيا تشتغل بوصفها حصيلة وسنن يكثف داخله كل الأشكال العامة للسلوك الإنساني القابل للتحقق. بمعنى آخر، فلا قيمة للسلوك إلاّ في إدراجه ضمن خانات مركبة تفترض وجود علاقات أو تعاقدات تتخذ شكل استثمارات في كتل من المواد القابلة للإدراك والمعاينة والتي تعطي لهذا السلوك وغيره تحققاته الممكنة داخل سياق محدد، وهو ما يضعنا مباشرة أمام الإرغامات الخطابية أو القواعد المحدِّدة للشروط التي يتم بموجبها إنتاج وتداول شيء ما واستهلاكه (16).
    » إن الأفكار والتمثلات... التي تشكل، فيما يبدو، الإيديولوجيا لا تمتلك وجودا مثاليا أو فكريا أو روحيا، بل تمتلك وجود ماديا. إن الإيديولوجيا لا تظهر إلاّ مجسدة في جهاز وفي ممارسته أو ممارساته. إن هذا الوجود وجود مادي. فكل الممارسات المنتشرة في المجتمع، حفلات الزفاف، مراسيم التأبين، تلقي التهاني، وأيضا طريقة الجلوس والأكل واستقبال الضيوف... تندرج ضمن ما يسميه ألتوسير الإيديولوجيا المجسدة، وهي طريقة أخرى للقول إن القيم المجردة تتخذ من خلال الممارسة وجها مشخصا «(17).
    إن التحول من النظام القيمي العام والمجرد إلى التحقق الخاص لا يمكن أن يتم إلاّ باعتماد سلسلة من القواعد والأنساق التي يتم بها تحيين القيم داخل سياق محدد. إن هذا التحول من العام والمجرد إلى المحقق، هو تحول لا يتم عن طريق الصدفة، بل هو تحول محكوم باستراتيجية تنظر إلى الدلالة بوصفها سيرورة تداولية يتحكم فيها محفِلا الإنتاج والتلقي.
    إن السميائيات التأويلية تنطلق من فرضية وجود مسيرات أو سيرورات لها صلة بالإمكانات التي تتآلف وتنسجم من خلالها وحدات المعنى في نسق محدد. فالمعنى ـ على نحو ما أشرنا إليه سلفا ـ بما هو تسنين وتكثيف لهذا التسنين وتصنيف وتعرّف ونمذجة، هو أداتنا الوحيدة في تنظيم التجربة الإنسانية وتحديد أشكال وطرق تمفصلها وتآلف وانسجام عناصرها. إن التنظيم والانتقاء والحذف والتحجيم والتصنيف... هو ما يعيِّن ويشير إلى الطبيعة الإيديولوجية للمعنى. بذلك نكون أمام عملية تأويلية محكومة باستراتيجية. إنها تتعلق بما هو خطابي، أي بنحوٍ لتوليد المعنى واستثماره في وقائع ملموسة دالة، هذه الاستثمارات هي التي سينظر إليها بوصفها مجموعة من الإرغامات الخطابية المحددة للشروط التي يتم في إطارها أو بمقتضاها إنتاج المعنى وتداوله واستهلاكه.

    بناء على كل ما سبق، يمكن النظر إلى الفعل النقدي بوصفه إجراء فكريا يقتضي تصورا متنوعا يمتد في ثلاثة اتجاهات على الأقل:
    1- إنه إجراء يعود في المقام الأول إلى النص ذاته. فالنص كيان له عمق وامتداد وأطراف. إنه مكونات، ولا يمكن فهمه بدون التعرف على هذه المكونات وتعيينها ووصفها وتحديد العلاقات الممكنة بينها: للنص الشعري هويته الشكلية، وللنص السردي علامات بها يعرف، وكذلك الأمر مع باقي الأنواع الأدبية.
    2- وهو في المقام الثاني معرفة نظرية تعود إلى التصورات التي يملكها الناقد عن الوقائع الخاصة بالدلالة وطرق إنتاجها والمواد الحاملة لها. فلا يمكن أن نتصور قراءة "عفوية" تتم عن طريق الحدس خارج أي سياج نظري، وتكون في الوقت نفسه قادرة على تحديد مواطن المعنى، وقادرة على مطاردته في مظانه، ومن خلال تمنعاته وإغراءاته. فـ"الحدس فكر لا يسنده فكر سابق"، كما كان يقول بورس، فلذلك فهو لا يمكن أن ينتج قراءة منسجمة. فلهذا تحتاج القراءة النقدية إلى معرفة نظرية تشكل صيغة من الصيغ التي تتيحها لنا المعرفة الإنسانية من أجل وصف المعنى. وهي ذاتها ما يشكل السبيل نحو تحديد التجليات الممكنة للقيم الإنسانية كما يصوغها النص ويكشف عن حدودها.
    وعلى الرغم من ذلك، لا يجب التعامل مع هذه المعرفة النظرية باعتبارها فرضيات مسبقة تسقط قسرا على النص. إن التصورالنظري هو سؤال لا يستدعي جوابا جاهزا ولكنه يعد حافزا على خلق أكبر عدد من السيرورات التأويلية الممكنة. فإنتاج نص ما يقتضي اقتطاع جزئية ثقافية لتحويلها إلى كون دلالي يتم تشخيصه من خلال خلق وضعيات إنسانية تأخذ على عاتقها إدراج القيم ضمن مقتضيات السلوك المحسوس، ولن تكون مهمة المحلل هي تفصيل ما يعطيه النص مكثفا، أو تكثيف ما يعطيه النص مفصلا، إن القراءة بناء لسياقات، وخلق لقصديات لم تكن متوقعة من خلال التجلي.
    3- وهو إجراء معرفي يخص في مرحلة ثالثة ما ينتجه الإنسان عبر سلوكه من قيم ومعارف بأبعادها الرمزية والأسطورية والاجتماعية. وهو ما نطلق عليه عادة "ثقافة الناقد" (18). هذه الثقافة تعد إسهاما فعليا في إنتاج وتشييد الدلالات الممكنة للنص، وما يبرر أهلية هذا الناقد، قدرته على الربط بين ما هو معطى بصيغة مباشرة داخل النص بوصفه بنية نصية محدودة لا تحيل على أي شيء آخر سوى ذاتها، وبين المعارف الموسوعية والأشياء القادرة على استحضار نص التاريخ ونص الثقافة؛ أي الأمور التي ليست بادية في التجلي الخطي والمباشر للنص.
    بعبارة أبسط، فالمؤول في ظل هذه المقاربة يعرف كيف يفهم النص أثناء مواجهته، ويعرف الكيفية التي يميز بها بين التأويل الجيد والتأويل الرديء، مما يعني وجود إرغامات تأويلية خطابية تحكم نوع التأويل.

    إن هذه القيود، هي ما يجعل من المعنى معطى موضوعيا من جهة، وهي ما يجعله قادرا على خلق معرفة متطورة وجديدة من جهة أخرى، لأن العلامة، لا توفِّر معرفة فحسب، بل نستطيع بواسطتها التعرّف على معارف جديدة. »إن العلامة في كل لحظة وافد جديد يوجد في عالم جديد« (19). لذا فإن افتراض قواعد وأنساق وتسنينات لعالم المعنى، لا يعني القول إنه عالم قار وثابت، على العكس، إن الأمر يتعلق بالتعرف على الآليات البنيوية التي تحكم وتوجه تحولاته(20).
    تضعنا هذه الأنساق والتسنينات أمام انتقاءات سياقية وأخرى قيمية قادرة على تحديد طبيعة الكون الدلالي للواقعة وتجدر الإشارة إلى أن استراتيجية الانتقاء القيمي هاته تتحدد من خلال عمليتين :
    ـ تناظر أو تناظرات دلالية تشتغل كضبط ذاتي للكون الذي تحيل عليه الواقعة. فالانتقاء ليس تحديدا ذاتيا، بل هو إجراء يتم وفق استراتيجية تهدف إلى بناء كون دلالي منسجم وقابل للاشتغال من خلال حدوده الخاصة.
    - العناصر المستعملة لتسييج الوضعية الإنسانية التي يتم تمثيلها داخل النص. فالاستراتيجية ليست اختيارا دلاليا، أي تحديدا مضمونيا، بل هي نمط في البناء، ولهذا لا يمكن الفصل بين البناء وبين الأداة البانية. ويجب النظر إلى هذه الاستراتيجية باعتبارها طريقة خاصة في تنظيم المعنى. وتنظيم المعنى في طبقات هو ما يحدد الطبيعة "الأيديولوجية للمعنى " « (21).
    إن السيميائيات التأويلية تتميز بشموليتها على مستوى التصور والتحليل، وهي شمولية ذات صلة وثيقة بنص التاريخ ونص الثقافة، كما أن آلياتها وهيكلها العام يمكنانها من التحاور مع عناصر معرفية تنتمي إلى مجالات مغايرة، ويجعلانها تمدّ نطاقها وجسورها لمقاربة خطابات وظواهر نصية بالغة التنوع.
    وغضون أيّ مقاربة، فإن السيميائيات التأويلية لا تسلّم بوجود قراءة "عفوية" ترتكز في بناء مقولاتها على تخمينات أو حدوس غير معرفية لكي تنتج معرفة، بل إنها تستند إلى فرضية مسبقة يمكن بواسطتها قول شيء ما عن الواقعة وهي فرضية متوقفة في طبيعتها على السياق التاريخي والثقافي لأنها معطاة ومحددة بهذا السياق. بمعنى أن الارتباط السياقي لتأويلنا وفهمنا يرجع إلى الارتباط السياقي لفرضياتنا المسبقة. إن هذه الفرضيات كذلك يبررها وجود نص يشيّد معانيه انطلاقا من آليات تعقلن بناءه وتداوله وأشكال التأويل المرتبطة به.

    في النهاية، نقول إن السيميائيات التأويلية تبحث عن المعنى مدركة أنه ليس موحّدا ولا متجانسا، ولا هو »كالزبدة فوق قطعة الخبز «(22)، إنها تكشف وتعرّي وتضيء عالَم حياتنا المعطى وتكشف ما كان فيه متخفيا، نعني معناه المتحجّب وبنيته المخصوصة ومأساته الداخلية والناقد، في إطار السيميائيات التأويلية، هو الذي يتصيّد المنكسر واللامتصل والمتقطع أو هو الذي يزعج المتصل بشرخه كما لعبة القوة والحقيقة في علاقات الجماعات الإنسانية المتصارعة وهو يدعونا إلى البحث »وكأننا وَجدنا ومازال علينا أن نجد لكن وَجدنا وكأنه علينا أن نبحث دائما ونحقق ذواتنا لانهائيا «(23).

    إحالات ببليوغرافية :
    (1) سعيد (بنگراد): "ممكنات النص ومحدودية النموذج النظري" مجلة فكر ونقد العدد 58، أبريل، السنة 2004ص:23.
    (2) GERARD (DELEDALE): THEORIE ET PRATIQUE DU SIGNE Introduction à la sémiotique de C.S. Peirce ,PAYOT , PARIS , 1979 , Page: 9.
    (3) ينظر جميع أعمال الدكتور سعيد بنگراد تأليفا وترجمة أو العودة إلى موقعه الإليكتروني : http://saidbengrad.free.fr
    (4) ينظر بهذا الصدد التطبيقات التي قام بها الناقد سعيد بنگراد حول أعمال الروائي "حنا مينة" خاصة رواية "الشراع واالعاصفة" ثم أعمال الروائي المغربي "محمد برادة "في روايته "الضوء الهارب" وتطبيقات على بعض الوصلات الإشهارية. للمزيد يمكن العودة إلى موقعه الإليكتروني.
    (5) سعيد (بنگراد): "ممكنات النص ومحدودية النموذج النظري، مرجع سابق ص: 26.
    (6) سعيد (بنگراد): السميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها منشورات الزمن مطبعة النجاح الجديدة ـ الدار البيضاء، 2003، ص : 18
    (7) سعيد (بنگراد): المرجع نفسه ص: 175.
    (Cool أمبرتو (إيكو): التأويل بين السميائيات والتفكيكية، ترجمة وتقديم الدكتور سعيد بنكراد المركز الثقافي العربي الطبعة الأولى 2000 الصفحة: 11.
    (9) المرجع نفسه، ص: 148.
    (10) سعيد (بنگراد): شخصيات النص السردي ـ البناء الثقافي ـ منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية مكناس 199، ص:44
    (11) سعيد (بنگراد): "المؤول والعلامة والتأويل"، مجلة فكر ونقد العدد 16 السنة 1993، ص : 59.
    (12) سعيد (بنگراد): شخصيات النص السردي، مرجع سابق، ص: 67.
    (13) سعيد (بنگراد): السميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها، مرجع سابق، ص :157.
    (14) سعيد (بنگراد): شخصيات النص السردي مرجع سابق ص : 67.
    (15) سعيد (بنگراد): السميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها، مرجع سابق، ص :157.
    (16) Eliseo (Veron): "Sémiosis de l'idéologie et du pouvoir"; in Communications ;1978; Page :8 - 28
    (17) سعيد (بنگراد): "عن التسنين السردي والتسنين الإيديولوجي" (الجزء الأول) مجلة علامات العدد 2 السنة الأولى 1994، ص :27
    (18) سعيد (بنگراد): "النص والمعرفة النقدية" ينظر الموقع الإليكتروني السابق.
    (19) جيرار (دولودال): "تنبيه لقراء بورس" ترجمة عبد العلي اليزمي، تقديم سعيد بنگراد، مجلة علامات العدد 8،1997 ص:113.
    (20) Umberto (Eco): Le Signe, Histoire et Analyse d’un concept ED. LABOR, Bruxelle 1988; Page: 133.
    (21) سعيد (بنگراد): السميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها، مرجع مذكور، ص: 159.
    (22) Maurice- Merleau Ponty, Levisible et l’invisible, Gallimard,Paris;1990éd1964,p203 .
    (23) Maurice Blondel, L’être et les êtres, PUF , Paris1963, p.12

    عبد الله بريمي باحث في السميائيات والتأويل / المغرب

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس مارس 28, 2024 2:51 am