منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    رنين المطر . وفعل التداعي ... زيد الشهيد

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    رنين المطر . وفعل التداعي ... زيد الشهيد Empty رنين المطر . وفعل التداعي ... زيد الشهيد

    مُساهمة   السبت فبراير 27, 2010 11:22 am


    قراءة في قصص الكاتب اليمني سمير عبد الفتاح

    ينحو النص القصص باتجاه تأكيد وجوده على اعتبار أنه مؤسس للذات وباعث على استقلاليةٍ تنأى عن هيمنة المؤلف؛ مُستشفّاً سلطة تتحرك خلال تجسده فى عملية القراءة وفعل التلقيّ سلطة تبعد خشية المؤلف على نفسه فيجترح - أى النص- إذّاك مكاناً له يمارس فيه الغواية. غواية يتفاوت فهمها وفك شيفرتها من متلقِّ لآخر فتتعدد القراءات حينها وتغدو الكتابة فى تواصل تواجدي مستمر …

    والنص فى مجموعة "رنين المطر" يحـاول خلق هذه الممارسة كي يبقى فى تعالق متوالاً والتلقيّ عبر اتخاذه اتجاهاً تداولياً لشخصيات قلقـة تجسد وجودهــا فى الظل مستعينة بالحلم ونادهة ببارقة أملية بغية تحقيقات هى فى الواقع من عداد اللهاث السرابى الخادع. أما الموضوعة فيتجه النص لجعلها تحايث وجودها من أراضٍ منسيّة لا تتسلط عليها الأضواء اليوميّة؛ يبحث عنها الناص بمجهر التفرّد يوؤمها متفحصّاً ومنقّباً سعياً للعرض الذي يبغى من ورائه متعة التلقّي وتمرير الأهداف؛ في حين تعرض اللغة الساردة مقدرتَها في ملامسة الشعر، تستعير منه أجنحة التحليق حين التقرب منه إنسلاخاً من الرتابة المتداولة / نأياً عن الصياغات المألوفة وهي إستجابة واعية لطرق أبواب الحداثة .

    يُطلعك مبتدأ نص "حفّار القبور" أول نصوص المجموعة علىَ شاب ألفى نفسه مُقاداً بكفّ الحظ التعيس والبطالة التي لم تسلمّه إلاّ للعمل في مقبرة مع عجوزٍ صرف عمره حفاراً للقبور، قادته قديماً ذات المؤثرات التي ساقت الشاب الآن لكأن عجلة الزمن تدور لتعيد الأحداث فتتناسخ المهنة في نفوس تتعاقب، وأجساد تتراتب.

    والدخول في غمار النص والخروج منه يضعنا على ناصيةٍ استنتاج حيادّية الشاب وفاعلية الرجل العجوز، إذا نرىَ الأول مستمعاً كما التلميذ بينما تمثل الثاني أستاذاً يعرض خبرته ويفصّل تاريخه.. يتوقف في المفاصل التي تستدعى التوقف إسداءً للنصائح، فهو راوية يملأ فضاء النص من لحظة انتظار ميتٍ سيؤتىَ به، حتىَ سماع صوت القدوم.. راوية من خبر الأيام ومارس مهنة لا يدنو منها المتطيرون، والاستهلال يكشف أولىَ النصائح: "ليس سهلاً عليك أن تصبح حفّار قبور" تتلوها النصيحة الثانية المستلّة من طوايا الفلسفة وثنايا الرؤية الصوفية إذْ الموتىَ جميعاً (يرتدون أسمالا واحدة ويتركون أجسادهم لنفس الدود، ولا أحد منهم يستطيع أن يقول أنه الأفضل أو أن يعترض علىَ رطوبة قبره؛ أو علىَ حقارة الدود الذي يأكله) ص(11) … ويتولى السرد علىَ لسان العجوز مهمة الإفصاح فيعرض رؤية الناس له كحفّار تعامله المهني مع الموتى الصامتين صمتاً سرمدياً. وهي رؤية تشاؤمية / تهجّسيّة / أزلية مارسها السومريون في بلاد وادي الرافدين إذْ كانوا يتطيرون من مشاهدة حفّار القبور، بل وينبذونه، فلم يكن يسكن بينهم إنما هُم طاردوه.. أشاروا عليه بمكان منعزل لا يبغون شمَّ رائحة له، ولا يرمون سماع صوتٍ ينم عنه، تماماً كما الموت لذا ترىَ هذا الحفار – حفّار نصنّا – المستنسخ عن الأجداد البعاد يردد علىَ مسمع الشاب كأنه يفضي بالنصيحة الثالثة الداعية إلى عدم إتمان البشر فهمُ العقاة / الجناة على أنفسهم / الضعاف وإن بطشوا / الهلعون وأن أظهروا جبروتاً (لم أجد أحداً أتصادق معه إلاّ الموت). عبارة شفهية أحالتها الذات الساردة إلى مدّونة يخطها الناص ليعبر عن مكنونات دفينة استطاع القلم جرّها لتتجلّىَ كياناً يفضح وجودية الإنسان وفناءه معاً، وحالة توحد بين الزمان والمكان والوعي، هذه الثلاثية المتلازمة على ثرى البسيطة ترسخ فعلها المازوشي في النفوس التعبى وتكرس لذتها في جلد الذات المتواصلة .

    إن بطل نص "حفار القبور" المتقهقر يعيدنا إلى نقيض سانتياغو بطل رواية "الشيخ والبحر" لهمنغواي، ذلك الشيخ المحمل بأثقال الأعوام وأحمال المخاطر، وتهافت المغامرات لكنه ظلّ يختزن في دروب ذاكرته المتعبة مصل الإصرار على البقاء والتحدّى، واستمر يردد على لسان المؤلف عبارته الخالدة "قد يتحطم الإنسان لكنه لا يُهزم" ..

    "Man can be destroyed but not defeated"

    مع أنَّ الموت كان قاب نظرتين أو أقرب للشيخين. وفي الوقت الذي ترك "سانتياغو" مشهد السمكة الهائلة التي أصطادها من أعماق المحيط عند الشاطئ لتكون مثالاً على التحدّي وتحقيق المُراد ليراها الشبــاب الذين هزءوا به يوم خرج للصيد مبتعداً، كونه رجل عجوز فقد مقومات المجابهة انهالت عبارات اليأس والتدهور من فم "حفـــــــار القبور" لتبذر بذار الهزيمة والاندحار في قلب الشاب، ولتشيع غمامات الكدر واللاجدوى في فضاء إرادته .

    وفي عديد نصوص "رنين المطر" يرتكب القاص سمير عبد الفتاح فعل التداعي فيترك للذاكرة مهمة العوم في هلام الأحداث الفائتة. يجعل بطله محكوماً بالعودة إلى ماضٍ لأنه يتوازن وتفاصيل الحاضر .. إن الحاضر لديه نفق لا يريد الولوج إلى أعماقه المشحونة بالأسرار والإبهام، وربما أيقن أن القادم قد ينتصب بسوءات تفوق الحاضر لذا يكون التشبث بالماضي عامل قبض على بقايا لذة هاربة من أسوار الذاكرة المتهالكة . والعودة إلى الماضي في نــــص "راشيل" تستدعيه حالة الفقد التي حدثت لزوج "راشيل"، البّحار الذي تولى خدمة المحرومين والانتصار لتطلعاتهم وقضاياهم فآلت أفَعاله إلى طرده ونبذه من قبل المتضررين بدوافعه تاركاً ابنه الباعث طفلاً ظلّ يردد طيلة سنوات نهــوضه سؤالاً عن عودة أبيه.. السؤال الباعث على تأجيج الذكرىَ لدىَ "راشيل"، الزوجة والأم وهي تناجي زوجهــــــا الغائب وتدعوه إلى العودة، أو إلى ملاقاة ابنه الذي كبر وأنطلق يقتفى خطى أبيه في مساعدة الفقراء وإنقاذ الغرقىَ في البحر … إن القاص في هذا النص وفي نصوص عديدة حوتها المجموعة يتداول الشعرية في مجريات النص ليحـــقق أعلى مستوى من التقبل، مهيئاً الأجواء لتعاطف المتلقي مع شخوص اشتغالاتــه .

    في "رنين المطر" النص الذي تحمل المجموعة عنوانه نتلمس البطل عائماً في هُلام السرد وقد انتفى المكان الذي يشكل أساساً مهماً في أبجدية النص، فبدا النص كما لو كان تداعياً لاغير يتكئ على جدار الخاطرة.. لقد أبقى السارد نفسه في منأى عن الكشف الضروري الذي يستدعي إلقاء ولو حزمة من الضوء الإيضاحي لفحوى الشخصية.. إن الرقيب الداخلي كثيراً ما يستحوذ على مقدرتنا الإبداعية فيرفع صوت التحذير ويسمعنا صوت السياط التي ستنهال على ظهور انطلاقتنا في الكتابة، مهدداَ، متوعداً ولقد غدا مبدعنا في هذا الزمن الرهابي بلا اتزان، متأرجحاً بين الاقصاء والإخصاء؛ لذا جاء بطل نص "رنين المطر" متعثراً / ضامراً بلاهوية ولا ملامح .

    يتولىَ نص "الممثل الفاشل" حالة ممثل نحس الحظ يحاول إرضاء مخرجهِ كيلا يطرده، وقد أوكل إليه مهمة أداء دور "المهرج" الذي غاب صاحبه لذلك اليوم، فيسعى جاهداً، متأرجحاً بين محاولة إرضــاء المخرج من جهة وإضحاك الجمهور من جهة أخرى، لكن ولكونه لا يتقن فن التهريج ولم تجد تضرعاته واستجدائه في تحريك هذا الجمهور وإضحاكه فقد سقط في براثن الفشل واستدعى أحد الأصوات لأن ينطلق ساخراً: "نحن لا نضحك على الموتى" فتطعن هذه الصرخة صميم أمله الذي ينتظره .

    وتتوحد بعض الأفكار في أكثر من نص فتبدو الهموم مشتركة وأن تفاوتت الصور، تتوازىَ التطلعات مع توازي الخيبات حيث النوايا الطيبة من يقيمهّا والإبداع لا يلتقي بمن يحتفي به فتفضي النداءات الصادقة إلى مهاوي الإهمال؛ فالعازف في نص "عازف الكمان" جهد كثيراً علىَ المسرح من أجل اصطياد قبضه من رضاء المستمعين، وحيث يفشل ينفجر بالبكاء، يتشارك مع هذا النص نصٍ آخر يحمل عنوان "تقف وحيدة" يعالج حالة فنانة تشكيلية تقيم معرضاً لنتاجاتها الإبداعية فلم تحظ بمن يأتي للمشاهدة والتقييم … كذلك يتشارك نصا "الطريق" و "صندوق فارغ" بفكرة واحدة وهي الشعور الذي يتلبس بطليّ النصّيين وهما يعيشان الاغتراب، فكل ما حولهما لا يشي بإلفة ولا توجد ثمّة أواصر وحميمية تربطهما بالأشياء والناس.. وحتى الجسد الذي يضم كيانهما يستهجنانه، ويرفضان مهمته… وإذا ولجنا نص "الجزيرة الحزينة" وجدناه يتكئ على أسطورة أشـار إليها النص دون التعريف بمصدرها؛ لكن الظن ينحو باتجاه احتسابها أسطورة صينية إذْ يشير المــتن إلى أنّ "هناك قانون في جزيرة (أوسكاو أشين) يمنع أكل السمك إلا في حالة اصطياد نفس السمكة مرتين.. وهذا القانون يعتمد أسطورة قديمـــــة نشأت مع خروج الجزيرة من البحر" وعلىَ هذا اعتمد/ النص تبرير فحواه فعرض شخصية "توكاسو" الذي يمـــــر ولده الطفل بحالة مرضية ستؤدي إلى موته ما لم يأكل سمكاً.. والسمك الذي سيأكله وينفذه لا بد أن يكون قد اصطيد مرة وأعيد إلى الماء، اصطيد ثانية حتىَ يؤدي فعله الطبي وفقاً للاعتقاد.. تحت سطوة هذا التقليد الميثي كان الابن يتألم تحت جبروت المرض وقلبا الأم والأب ينسحقان برحى الاعتقاد ورهبة خشية التجاوز .. وعندما تحاول أمُّ الصغير إقناع الأب بتخطيّ الحال وإطعام الطفل المتألم أية سمكة تجابه بالرفض من قبل الأب لأنَّ الجزيرة ستغوص إلى يم البحر إن هم تجاوزوا الأعراف، (ستغرق الجزيرة في البحر.. كلنا يعلم هذا.. إنه عهد أجدادنا وثمن صعود جزيرتنا للأعلى) ص76 .. ولقد جرت الأحداث في النص دون أن ينكسر المألوف إذْ استمر التشبث بالاعتقاد وانتهى بالخضوع للعرف.. وهنا تظهر محاكاة النص للواقع وسيره التوافقي مع أبطال نصّه فلم يمنحهم صولجان القفز على الموروث ضماناً لسلامة الصغير الذي هو شيفرة دالة على الجيل الحاضر الذي بحاجة لتخطي أبجدية سلوكيات وأعراف متوارثة لا تمت إلى الموضوعية، ولا تحايث ثوابت الحاضر ومفاصله .

    رنين المطر : قصص
    المؤلـف : سمير عبد الفتاح
    إصـدار : مركز عبادي للدراسات والنشر


    * زيد الشهيد : قاص عراقي

      الوقت/التاريخ الآن هو السبت أبريل 27, 2024 4:39 am