منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    قراءة.......................................

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    قراءة....................................... Empty قراءة.......................................

    مُساهمة   السبت فبراير 27, 2010 11:25 am


    محاولة في قراءة بعض نصوص ديوان "مثل الماء لا يمكن كسرها"
    للشاعرة السورية فرات اسبر

    تأبى الشاعرة السورية فرات اسبر التي تعيش في المهجر بنيوزيلندا إلا أن تجعل لديوانها الشعري "مثل الماء لا يمكن كسرها" الصادر عن دار التكوين بدمشق السنة 2004 عنوانا مفعما بالحركية والانسياب حيث الرمز إلى الماء من الناحية الفلسفية والأسطورية والدينية يحبل بدلالات وحمولات تحيل على الصيرورة والحركية والتغير في الكون والإنسان.

    لذا فعنوان الديوان يعيش انسيابيته وصيرورته الوجودية الحركية والنصوص المكونة له وعددها تقريبا 30 نصا إبداعيا تتحرك كالماء وتنساب لتمارس صيرورتها الكينونية الأنثوية في زمانها وفضائها وعوالمها الصوفية والشدراتية لتؤرخ للدات الشاعرة في قلقها وانفعالها وسؤالها الأنثوي الوجودي في صيرورته عبر الحاضر والماضي والمستقبل.

    إن عناوين الديوان تنكتب بالماء تتشكل وتتروحن وتتصوف لتضيء الفراغات ولتمارس جنونها عبر تأملات شعرية وصوفية فلسفية.
    فالكون الشعري الأنثوي للشاعرة في هدا الديوان كله يخضع للسؤال في ديناميكيته وتمرحلاته.
    والغلاف المنتقى للديوان بدوره يتحرك وتتماوج تشكيلاته الإبداعية الفنية لتمنح للبصر والبصيرة على حد سواء كل الطاقات الصوفية للإدراك والمشاهدة والمجاوزة أمام سؤال الماء كرمز للخصب والتغير في تناصه وتعالقه مع الأنثى في دلالاتها الإنسانية والجسدية والزمكانية.
    فغلاف الديوان باستطيقيته وشعريته يتعالق ويتناص كذلك مع العنوان في تناغم وفق ما أفرزته المخيلة الخصبة للشاعرة حيث صورته ببساطته الإبداعية أضفت على العنوان نوعا من الإغراء والفتنة والحركة.

    هل يمكن القول بأن صورة الغلاف لديوان فرات تصبح شرطا من شروط تحقق الصدمة البصرية والشعرية التي رغبت الشاعرة في ممارستها على القارئ الإدراكي لاستجلاء الدلالات الصوفية المتروحنة لهدا المنجز الإبداعي.

    من خلال عناوين النصوص يمكن للقارئ الإدراكي اذا صح التعبير أن ينفد إلى السؤال الأنثوي / الهاجس/ الذي يسكن الشاعرة فرات ويستطيع كذلك أن ينفد إلى الحمولة اللغوية المؤطرة للديوان والمحملة بالدفق الشعري الصوفي والسريالي الجميل أحيانا والذي يبعث في القارئ لذة النص بمفهومها "البارتي" نسبة إلى "رولان بارت".
    إن حمولة الديوان الشعرية والخيالية تتوكأ على مداميك رؤيوية فلسفية صوفية لشاعرة تعيش قلقها الفلسفي الأنثوي بروحانية تساؤلية عنيفة انفعالية أحيانا وصراعية قلقة أحيانا أخرى تضرب في جذور التاريخ الإنساني الأسطوري في أبعاده الثنائية المتناقضة الغامضة.
    إن هده التساؤلات الواردة في ثنايا بعض مقاطع النصوص وعناوينها يحمل الشاعرة إلى الغوص في عوالم ومسارات متشعبة يصعب على القارئ الإمساك بتاريخيتها وجذورها وتلابيبها.
    كما أن هدا الحضور المكثف للسؤال الأنثوي يرمي بدون شك إلى الرغبة العارمة للذات الشاعرة للتأسيس إلى تجربة خاصة بها من حيت مقاربتها وإثارتها للمسالة الأنثوية بعيدا عن الفجاجة والضحالة التي تميز الكثير من الكتابات الإبداعية النسوانية النزواتية.

    إن ما يبهج القارئ في هدا الاحتفاء بالأنثى من طرف الشاعرة فرات في نصوصها يكمن في الخصوصية "الأوريجينالية" التي تعطيها لهذه النصوص عندما تستقرئ مخزونها الثقافي وتمنح نوعا من المناعة الصوفية والروحية الشعرية لإشكالية الأنثى بالجمع في نفس اللحظة بين التراث والحداثة والتجريب ضمن بنية لغوية قوية حيوية وشدرية تخترق المألوف والسائد وطقوس الكتابة المرعية في هذا الخصوص.
    وللدلالة على ذلك سنحاول مقاربة بعض من نصوص الديوان التي رأينا أنها قمينة إلى حد ما بأن تعكس القصيدة الفراتية في بعدها الأنثوي الفلسفي الصوفي وفي العلاقة مع السؤال والبلاغ المتغيى تمريره عبر الديوان.
    فالعناوين تتأسس على مرجعيات فلسفية وصوفية وطفولية تتلامح فيها الذكريات وتتقعد على فضاءات لغوية وموضوعاتية ذات أبعاد تأويلية وأحيانا تكرارية تتقصدها الشعرية المؤسسة للنصوص.

    فأول ما يصادفه القارئ هو هيمنة وطغيان موضوعة الأنثى حيث تكررت في عناوين وثنايا نصوص الديوان عدة مرات علاوة على تيمات موضوعاتية أخرى محببة وحميمية للشاعرة . منها على سبيل المثال لا الحصر :
    الطبيعة/ الجسد/ العشق/ الآخر/ الضوء/ الجنون/ الموت أو الرحيل ... الخ.
    ما هي إذن البواعث الثاوية وراء هذه التيمات وتكرارها المتقصد في المنظور الشعري والفلسفي للشاعرة فرات.

    من المؤكد أن الشاعرة بتكرارها ملفوظات معينة بعينها تتغيا من خلالها بالاستناد على مرجعياتها المعرفية والفكرية والفلسفية إعادة تشكيل عالمها الأنثوي والكينوني والأنطلوجي لأنه لا ينبغي أن ننسى أن الوظيفة الجوهرية الصوفية للشعر هي إعادة تشكيل وقولبة هذا العالم لإعادة ترتيبه وترميمه لتفادي تصدعات وتشققات الإنسانية في معاناتها وتناقضاتها ومفارقاتها وآلامها والثنائية الغامضة التي تكتنف هذا الكون برمته.
    إن الشاعرة من خلال قراءة عناوين الديوان تجعل من الأنثى والماء عنصرين يتناصان ويتعالقان ويثحايثان ويتحركان في تناغم انسيابي فيصبح القول الشعري غير قابل للانمحاء والاندثار والخراب.

    إن عناوين الديوان تصبح جزءا لا يتجزأ من مملكة الشاعرة فرات حيث من خلال تيمة المرأة تسبغ على الأشياء الصيرورة والكينونة وتسخر الحمولات اللغوية العادية لتضفي عليها توهجا صوفيا وتقوم بإخراج اللغة من حمولاتها الثبوتية الجامدة المجمدة للأشياء. وهذا ما تعكسه عناوين الديوان للشاعرة فرات التالية:

    - امرأة متصوفة
    - المرأة التي لم يقرأها أحد
    - مثل الماء لا يمكن كسرها
    - نساء
    - موتنا الأخير
    - مدينة في البياض
    - أنت
    - فصول الجنون
    - إضاءات الفراغ
    - تشكيل
    - غيوم الرماد
    - بيتنا
    - كل يوم
    - لا أحد
    - رحيل
    - امرأة الأيام
    - البيت الذي اسمه الخوف
    - كل الأضواء مطفأة إلا ضوء قلبي إليك
    - أوراق من دفتر الورد
    - تأملات امرأة
    - حالة موت لم تثبت
    - قراءة في دفتر الزمن
    - رسائل لم يستلمها أحد
    - نص يتيم
    - مرثية 2003
    - هي التي أخذت كل شيء
    - جغرافية
    - عاشقان
    - قبيلة الحواس
    - ضمائر

    فالعناوين تنطبق على ذات الشاعرة الطموحة لتكسير الطابوهات المليئة بالمفارقات والمتناقضات التي يعج بها هذا الكون والعالم.
    إنها عناوين مفتوحة وتناصية ومتعالقة مع ذات الشاعرة.

    لذا يمكن القول إن معظم نصوص الديوان في ترابطها مع العناوين تطرح صعوبة مقاربة مداخلها الصوفية الفلسفية العرفانية والرمزية والأنثوية لأنها نصوص تحبل بالمعنى الذي أنتجته ذات الشاعرة إزاء تموقفها الفلسفي تجاه الشيء الأنثوي في ترابطاته مع الزمن والمكان والآخر والكون والفضاء.
    لذا ولإبراز بعض هذه الملامح الشعرية لتجربة فرات سنحاول مقاربة بعض من نصوص ديوان "مثل الماء لا يمكن كسرها" وقد انصب اختيارنا الحالي على النصوص التالية
    - امرأة متصوفة
    - المرأة التي لم يقرأها أحد
    - مثل الماء لا يمكن كسرها
    - نساء.

    يبدأ الديوان بقصيدة معنونة بـ "امرأة متصوفة" وإضفاء صفة التصوف على المراة يعكس المصدر المعرفي والفلسفي الذي تغترف منه الشاعرة فرات ولعله من نافلة القول إن الحالة الصوفية هذه التي أضفتها على أنثاها تتقصد منها بعدها الجوهري والمجاوزة للمألوف والحالات العادية السائدة.
    فأنثى الشاعرة من الصنف المتميز ومن الصنف كذلك العاشق للتيه الطامح إلى المطلق في الحب الذي لم يدنس بعد وهي والطبيعة جسدان هائمان.
    لنقرا المقاطع التالية:

    "امرأة في انبهار الروح في خلق الجسد
    في عشقها للتيه
    لتراتيل حبٍّ لم يقلها عاشقٌ بعد
    هي والطبيعة جسدان هائمان"

    فالشاعرة قامت بتفعيل مختبرها الخيالي الشعري الإبداعي لتستحضر من أدبيات الموروث الصوفي العربي شهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية ولتحول سؤال هذه المرأة المتصوفة إلى مشغل صوفي عشقي لإدانة الزيف الذي يحبل به التاريخ والمتواضعات السائدة التي كبلت الأنثى عبر التاريخ والزمن ضمن تصورات منوية مغلوطة باسم التراث والتصورات اللاهوتية الزائفة المهترئة.

    لنقرأ هذه المقاطع المتدفقة بالانفعال والبوح والقلق للشاعرة:

    " هتفوا لنا وشاهدونَ زوراً وقعوا على ورقة
    ختموها بخاتم الحاكم بأمر الله على الأرض
    زينوا لنا الفرح
    والموتَ والحب
    وكنا في الهيام بأثير أجسادنا على سريره
    ولكن وحدها / حلقت عالياً / عالياً /
    لم يلحقها أحد
    في سرير القمر نامت
    وتحت جناحيه أشعلت قناديلَ حزنها
    رابعة العدوية امرأةٌ كانت تنام تحت عباءةِ الرغبة
    وتصرخ: في جلد الرجل.. شهوة
    وفي جسدِ المرأة.. شهوات
    كنتَ النهرَ وأنا ضِفتيه
    والعابرون هم الحصى في جسدي "

    أما القصيدة الثانية المعنونة بـ "المرأة التي لم يقرأها أحد" فهي كافية للدلالة على الأطر المعرفية والفكرية التي تنطلق منها الشاعرة فرات.
    إنها ذات أطر شعرية مسكونة بقدسية السؤال الصراعي حيال الآخر والذي يتجسد أحيانا في الغربان.

    إن الحوارية التي تطبع المقاطع كافية للقول بأن القصيدة مسكونة بالقلق الأنثوي في تلاوينه المتعددة والمتباينة الفضاءات المفعمة بسؤال المفارقات التي لم يتم بعد تفكيك وفك شفرات الغموض الذي يتلبس الأنثى في هذا الكون.
    إنها كما تقول الشاعرة :

    " المرأة المجنونة لم تكن محفورةً في كتاب / كانت تمر في بُحةِ الحلم/
    تشهد الأحلام أني كنتُ توأمها / وأنني انقطعتُ كما ينقطعُ القمرُ عن الشمس /
    الظل عن الجسد"

    لنقرا كذلك هذه المقاطع المكونة للقصيدة للقبض على قدسية السؤال الذي يؤرق الشاعرة:
    " من وراءِ عين القلب نظرتْ المرأة إلى كلِّ هذا السواد
    قالت: ماذا أفعل بهذا الأبيض الشاسع
    بأي عصا أرمي ذلك الشبحَ الذي تحوم حوله الغربان
    هكذا لم يكن من عادةِ المرأة التي تلمع من بعيد على امتدادِ أحلامها المبتورة
    كانت تلبس أساورَ الخيبةِ بيديها المتعبتين
    كانت تخفي يديها لأنَّ لا بياضَ ناصعاً بهما / خرائط بلا حدود /
    وحدها الأحلام كانت تركض
    يا هذه المرأة الملونة / لوحة برية أنتِ معجونة بطيب الوقت / بماءِ الرغبة
    الرغبة التي تفتح أبواب الجحيم
    أساورُ الخيبة تلفُّ القلب المتعب
    خفقانه النهر الجاري في الأبدية المزدحمة / معصوم الخطيئة متقن فن الأسئلة
    مجاوراً أنهراً مبتلة الضفاف / ندية شتلة القلب نبتتْ في عروق الدم الغامق
    من وراء شباك المدينة الغائمة نظرت المرأة / في المدينة الغائمة مطر يتساقط حزيناً
    دروبٌ واسعة تنتظر / هي التي اختارت تغيير الأماكن ربما كان قدرها مع تلك العابرة / قارئة الكف الأزلية /
    في هذه المدينة الغائمة حبٌ وأمطارٌ وجنون/
    وامرأة تعشق الضوء كالفراشات سقطت / عاشق الليل انطفأ / ما عادت قناديله تضيء /
    في الظلمات في سترةِ الليل يختبئ
    يهمس للقمر السكران كامرأةٍ تركض في العراء / حبُّه خيوط الأبدية /
    المرأة التي لم يقرأها أحد / المرأة التي كُتبت بكل الأحوال /
    أي تعبٍ تحمل يا قلبَ المرأة / موزعة عروقك / تنوء تحت الخفقات /
    أنت المجنون بين الأضلاع / يذوي بك الحنين /
    لا الشمس تصلك يا قلب / والصمت لا يزينه الكلام
    تقول المرأة : يدلفُ الحزن من سقف القلب / يدلفُ من العتبات / تعبُ القلب الراكض /
    أغرقُ في عتمة صمتك / أعدُّ الأطياف /
    بعيدة المسافة التي تفصل قلبي عن ساكنيه /
    أيتها العرافة اتركي أصابع اليد تغتال الحلم ودعي وَدعكِ الملعون يرسمنا
    تقول المرأة:
    وداعاً لهذه المدينة / لطرقاتها / لشرفاتها التي تطلُ على الروح
    سأذهب إلى إيقاع أقل صخباً / أنا المجنونة بالسؤال المتدثرة بالتضاد/
    أنا مَنْ ولدت مِن جميع الرغبات وجاءت إلى العالم مِن طريقين /
    ومع ذلك لا أستطيع أن أعتق آخرَ رغبةٍ في حياتي /
    دخلت المرأة في طقس الغرابة /
    المرأة المجنونة لم تكن محفورةً في كتاب / كانت تمر في بُحةِ الحلم/
    تشهد الأحلام أني كنتُ توأمها / وأنني انقطعتُ كما ينقطعُ القمرُ عن الشمس /
    الظل عن الجسد
    تعِبَ القلبُ الراكضُ وراء العمر / وراء الماضي
    القلبُ الراكضُ إلى المستقبل
    ماذا ستجني ؟
    كلمات أهمسها.. ألا تصغي إليَّ أيها المتعب ؟ "

    النص الآخر الموسوم: " مثل الماء لا يمكن كسرها " عنوان الديوان يتداخل فيه النثري والشعري ويمكن القول إن هذا النص هو مبتدأ ديوان الشاعرة فرات وخبره ويتبدى من مطالع النص أن الأنثى الصديقة للشاعرة متميزة بل تكشف للقارئ عن خصوصية وتميزية هذه الهوية الأنثوية التي لا تشبه أحدا لها لونها وطبيعتها وخصيصتها الإنسانية الكونية.
    إنه التماهي الجواني الصوفي بين الذات الشاعرة ونفسها في قلقها الأنطلوجي وفي وعيها الحاد بأنوثتها المتفردة وفي انفعالها.
    إن الشاعرة عبر هذه الأنثى/ الإنسان تنفد إلى كل الفضاءات والمسافات لتختبر الحقيقة والطبيعة وتخترق كليشيهات الحياة والسائد فقد جربت كل مجريات وطقوس الحياة.
    وفي هذا النص تتوسل الشاعرة بلغة بسيطة للتعبير عن القلق الأنثوي الذي يسكنها. لذلك يمكن القول إن هذا النص تسعى من خلاله الشاعرة فرات إلى التاريخ لذاتيتها الهوياتية الأنثوية المغايرة.

    ولنقرا هذه المقاطع التي تنبجس وتتفجر عبرها ينابيع الحزن الأنثوي للشاعرة لاستشراف أبعاد وآفاق المسكوت عنه في النص:

    " صديقتي التي ماتت لا تشبه النساء، مخلوقة عجيبة، لا تشبه أحداً إلا أنا، قادمة من البرية، يداها قاسيتان وبشرتها جافة تشبه الغبار، إنها غبارية اللون، لا تحب العطور، ذات يوم حلمت بأنها تسبح في بحيرةِ الورد ولكنها استيقظت فجـأة لترى نفسها في كومة من الغبار.
    صديقتي تشبهني فقط، هي لا تحب أحداً ولا تكره أحداًَ، ولكنها تحاول دائماً أنْ تمسك بالمسافة التي تفصلها عني، حَاوَلتْ مراتٍ ومرات أنْ تقتربَ مني ولكنها كلما اقتربت مني أبتعد أنا، ولكن للحقيقة، الحقيقة هي تشبهني تماماً.
    في البرية كانت تنام، تحت الشجر كانت تتعرى، يمر الهواء بقربها، يرطبُ جسدها ولكنها لم تنجب يوماً منه.
    صديقتي التي تشبهني مثلَ الماءِ لا يمكن كسرها، هي تشبه الينابيع، كانت تحلم ببنتٍ وصبي ولكنها أنجبت لا شيء.
    صديقتي التي تشبهني لم تعرف الحكايات الرومانسية، كانت تغني مع الذئاب في البرية، البرية التي ولدت فيها، صديقتي كانت تشبه القهوة التي أنا أحبها، كانت مثلي مدمنةً على الحزن والقهوة.
    ذات يوم جَرَّبت عطرَ النساء، لكنها لم تحبه، رفضته وألقت بالزجاجةِ بعيداً، زجاجة العطر حزنت من صديقتي التي تشبهني لأنها مثلي لا تحب العطور، هي في كومة الغبار ولدت، ظهرها تقوَّس من التعب، أسمتها البرية (سيدة التعب) أعجبها هذا الإسم، هي تشبهها فعلاً، تجاعيدها، يداها، انحناءة ظهرها تشبه البرية.
    ذات مرة وهي كانت تتمشى بجانب الشجر والحجر صادفها حلمٌ عطشان، قتلته ومات إلى الأبد.
    صديقتي البرية التي تشبهني وأنا لست مثلها، تجيء كل يوم من البرية محملةً بعطر الغبار، ذات يوم ماتت بين يديّ، حملتها ورميتها فوق ظهري، كانت وصيتها، عندما رميتها، أنْ أرمي بنفسي، صديقتي التي ماتت كانت أنا، ومنذ ذلك اليوم لم ألتقِ نفسي وقررتُ أنْ أغيبَ في الغبار."

    النص الآخر المعنون بـ " نساء " تستلهم فيه الشاعرة فرات العلامة الصوفي الفلسفي العرفاني "ابن عربي" لإثارة السؤال الأنثوي بطريقة صوفية .
    ولعل استلهام ابن عربي في هذا النص له ما يسوغه بالنظر إلى الطروحات الفلسفية الصوفية التي طرحها ابن عربي بعيدا عن النظرة الثنائية الساذجة والسطحية للتجربة الروحية الإنسانية.
    إن هذا الاستلهام الذي توسلت إليه الشاعرة في حد ذاته هو رغبة لإعادة تشكيل كل التراث الإنساني في مشكلية الأنثى في أبعادها الوجودية والسوسيولوجية والانتربلوجية
    بهذا النص ترتاد الشاعرة فرات جملة من الآفاق الفلسفية والكونية تنفد من خلالها إلى جوهر الإشكالية الفلسفية للأنثى في أبعادها النسائية والأمومية والأنطلوجية .

    لنقرا هذه المقاطع من القصيدة " نساء"
    " سلامٌ.. ابن عربي
    نحن نساءُ الأنوثة
    في الطبيعة / في عري الكلام / وإشاراتِ التأويل
    نحييك بتاءِ التأنيث
    ونون النسوة......
    عانس:
    دخلَ عليها الشجرُ والنهرُ والوردُ والندى
    قالوا لها: جئنا لكِ لننام في سريرك / لنعلن الولاءَ لكِ، وأقسمنا جميعاً أمام الطبيعة أنْ يكون ماؤنا إليكِ
    هاتِ جسدكِ / ها هو ماؤنا / لنعلن البداية / ونكتب جسدَ الأرض من جديد /
    غنـَّت لها الأقمارُ / الطيورُ هاجرت إليها / الجبالُ ركعت عند قدميها وهتفوا لها بريءٌ رحمك / لم يمسسه الرجال.
    عاقـر:
    خرجت البذورُ جميعاً من بطن الأرض، وأعْلِنَ الحدادُ في جميع الفصول، وكل أنثى من الطير والوردِ والشوكِ والحجر / وكل أنثى من النباتِ والجمادِ / وكل أنثى الحيوان،
    جميعُها خلعت أثوابها وأقسمت أنْ لا تعود إلى الخضرةِ ثانيةً
    وعاهدها النهرُ بأنْ لا يقرب أنثاه وأنْ لا يجري في رحمها بعد، وبكى الجميعُ في حضرتها.
    مُطلـَّقة:
    وقالت الراوية: وحين سألوها عنه
    قالت: كنتُ أنسه وجنه
    كنت عبده وهواه / كنتُ بيته وسقفه
    أشعلُ النارَ وأحترق.
    أرملـة:
    جاءت إليها امرأة اللغة وفي بلاغةٍ وفصاحةٍ وحكمة،
    قالت: لا تحزني / لن يعيد إليكِ العطورَ التي سرقها منكِ ،
    والتجاعيد التي في جسدك هو الذي أسس لها / والطفولة التي هربت إلى غير رجعة ،
    وجاءوا إليها وقالوا:
    لم تعودِ متاعنا / مات بعلك / أخرجوها من الميراث /
    وشحذوا السكاكين وصرخوا بها عودي من حيث جئتِ، أنت فألُ شرٍ علينا /
    عندها هبطت الريح إليها وركعت وأعلنت ولاءَها
    وقالت: سأضربُ بجنوني الشجر / ولما رجعت الريح والشجر أصبح عارياً / فرحت الأرملة يكفيني هذا، إنها الطبيعة مثلي عارية.
    أمومة:
    وحين جاءها المخاض وقفت الملائكة عند بابها والنجوم هبطت إليها وانحنت لها / وما من شيء إلا خرج من بطن الأرض / الأنهار عادت مياهها / والورق عاد إلى بيتهِ الشجر / واخضَرَ وجه الأرض من جديد /
    اجتمعت نساء الطبيعة إليها / جاءت إليها العانسُ والعاقرُ والمطلقة والأرملة واتخذنَ مكاناً في حضنها وهتفّن منكِ خرجنا واليكِ نعود أيتها الأمومة
    عندها نهضت الأمومة بجبروتها وصرخت:
    أولادي
    خرجوا من رحمي
    شربوا من دمي
    إنني أراهم يتخبطون
    لا أنا منهم ولا هم مني
    امرأةٌ من بعدها قالت:
    قديماً كان الإنسان
    وقبله كان الإله
    وقبلهما كانت المرأة
    ولأنَّ الجميعَ خرجَ من رحمها لذلك يرجمونها بالح

    ملخص القول إن بعض هذه النصوص الإبداعية للديوان يمكن توصيفها بالنصوص المفتوحة فهي تتعالق مع الذات الشاعرة وعناوينها كافية للدلالة على هوية الشاعرة فرات وكذا القضية التي تروم تبليغها بلغتها الشعرية الشذرية.
    فالشاعرة تقبض على السؤال الأنثوي لتتماهى معه ولتفجر المسكوت عنه عبر الزمان والمكان لتخترق المألوف والسائد وتلامس بالتالي مجموعة من القضايا ترتبط بالمرأة وباللغة والجسد والكون والطبيعة في ثنائيتها ومفارقاتها.

    ومن المؤكد أن هذا الديوان يمكن أن يفيد ليس فقط الشعراء بل كل المهتمين بالراهن الأنثوي في العالم العربي وكذلك الباحثين في مجال سوسيولوجيا المرأة وفي الشأن النسائي لوضع اليد على عمق وجذر الاختلال في كل أسبابه التاريخية والانتربلوجية والدينية والإنسانية.

    من دون شك كذلك أن الناقد الراغب في مقاربة نصوص الديوان لا مناص له من التوسل إلى كل مرجعياته المعرفية من أطر نظرية أدبية رمزية وبنيوية وسميائية وتفكيكية وتجريبية وحداثية وصوفية لسبر أغوار دلالات هذه النصوص التي تتكئ على نوع من الشعرية العرفانية الفلسفية النسائية المتميزة.

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد أبريل 28, 2024 2:24 am