منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    البنية السردية الصوفية...3

    أروى55
    أروى55


    عدد المساهمات : 235
    تاريخ التسجيل : 07/10/2009
    العمر : 31

    البنية السردية الصوفية...3 Empty البنية السردية الصوفية...3

    مُساهمة  أروى55 الأربعاء مارس 10, 2010 8:04 am

    في فحص متنها الحكائي وبنيته ومكوناتها، فثمة حاجة لتحديد الجنس الذي ينتمي إليه المتون الحكائية الصوفية، على أن الباحثة تشعر بضرورة تأخير الكلام في هذه المسألة إلى ما بعد الفحص النقدي البنائي للمتون الذي يستغرق فصول الدراسة كلها، بافتراض أن الحديث على (الأجناس) يتبع تحصيل صورة مكثفة لسمات النوع ومكوناته وأنساقه البنائية والهيكلية، إلا أني وجدت تقديمه هنا في المدخل أكثر جدوى لدواع منها:

    أولاً ـ أن المدخل مخصص لتقديم صورة مكثفة لثوابت المنهج ومنطلقات الرؤية النقدية في بعدها النظري، وهذا من شأنه تمهيد الأرض أمام الفحص النقدي، وتنقية المادة الأساس من الاختلاف في هويتها.

    ثانياً ـ إن مقولتي (الشكل والجنس) متلازمتان في المنهج الشكلاني البنيوي لنقد القصة.

    ثالثاً ـ إرساء أساس منهجي واضح تتجلى فيه صلاحية المادة المدروسة للبحث والمعاينة.

    فإلى أي مدى يمكن وضع الحدود الجامعة المانعة ـ على لغة المناطقة ـ بين نمط (الحكاية) ونمط (القصة) لننتهي إلى تقرير تصنيفي عن جنس المتن الذي تشتغل عليه الدراسة الحالية، والمآل في هذه المسألة يحدو الركاب إلى مقترح (خلدون الشمعة)( )، حين صنف الأنماط الأدبية التسعة بحسب أركان الرسالة الأدبية الثلاثة المبدع والمتلقي بين الحضور والاحتجاب، نجتزئ من المخطط الأجناس التي تجد أن المتن الحكائي الصوفي متحير بينها:

    أركان الرسالة الأدبية ـ الأجناس الحكاية القصة القصيرة

    المبدع حاضر محتجب

    المبدع تتلى أو تقرأ تقرأ

    المتلقي جمهور أو قارئ منفرد قارئ منفرد

    جدول رقم (1).

    موقع أركان الرسالة الأدبية بين الحكاية والقصة القصيرة.

    الملاحظ من خلال الجدول، أن نمط (الحكاية) جعل المبدع فيه (حاضراً) أي (حكواتي) يقص على مستمعين حاضرين بمعنى أن (الحكاية) في نظر (الشمعة) هي في حدها (الشفاهي) سواء على المستوى الارتجالي (التلاوة) أو (القراءة) أي أنه حاضر صوتاً وعياناً. وأجده أميل إلى أن تكون (الحكاية) مروية شفاهياً بدليل حضور المبدع على عكس (احتجاب) المبدع في نمط (القصة) التي يراها (الشمعة) نمطاً (كتابياً) بدليل احتجاب مبدعها، وتلقيها يكون بـ (القراءة) فقط لا بالاستماع. إذن، أين يقع المتن الحكائي الصوفي ضمن هذا التصنيف؟ الذي وقفتُ عليه من نماذج من القصص الصوفي تنبئ عن أن نوع المروي الصوفي هو نمط حكائي شفاهي ابتداءً من القطب أو الشيخ إلى المريد أو الطالب يبتغي منه توجيه أخلاقي ومذهبي معين خاص بالمذهب والطريقة الصوفية، ثم بعد ذلك دوّنت، أي ثبتت في صيغة كتابية أوقفت صيرورتها المستمرة والمتغيرة مع كل رواية شفاهية، فكانت التدوين هو آخر مرحلة تطورية وصلت إليها الحكاية في مراحلها الشفاهية، والتي بالتدوين أصبحت ذات وجود معين ثابت محدد. هنا نجد أن الحكاية الصوفية لم تتوفر على العناصر الثلاثة التي اقترحها (الشمعة) في تصنيفه؛ فوجد هنا عنصراً رابعاً هو (السارد) أي (المدون) الذي استقرت على يديه صورة الحكائية النهائية، فما دام النقد يتناول بالدرس الشكل اللساني المدوَّن ـ وهو الأصح منهجياً ويقيم عليه فحصه ومعاينته النقدية والتحليلية وليس أصولها الشفاهية الضاربة في أذهان الناس،..أمكن أن نطمئن إلى عدِّ المتن الحكائي الصوفي من نمط (القصة) الذي لم يرق إلى تقنية القصة القصيرة الحديثة، لكنه يبقى منجزاً أدبياً أتقن سارده وظيفتي التسجيل (التدوين)، والتفنّن (التشكيل).

    4 ـ تبيئة المناهج الغربية لدراسة الأدب العربي:

    ـ يطرح المنهج الشكلاني في نقد القصة، قضية سهر لها المتشيعون ضد المناهج الحديثة والفكر الغربي، جراها واختصموا.. مفادها مدى صلاحية المناهج الغربية لدراسة نص عربي على اعتبار ذلك الاختلاف الجنسي والقومي والحضاري واللغوي ممّا يجعل تناسب القوالب مع المادة المدروسة، أمراً يشي بـ(التجوّز) والهجنة إن لم يكن تبعية إيديولوجية محسوبة...

    بدءاً، ثمة قناعة سارت على هديها فلسفة العلوم المختلفة أنواعها وأشكالها وهي أن طبيعة الموضوع تفرض نوع المنهج المتبع في دراستها، وليس المنهج سوى: (طريقة في البحث، ومبادئ تلتزم خلاله، ومفاهيم توظف فيه) ( )، ويشرح د.الجابري الأركان الثلاثة للمنهج؛ فـ(الطريقة) هي مجمل عمليات الاستقراء والاستنتاج والمقارنة التي يقوم بها الباحث لاختبار مادته العلمية، و(المبادئ) جملة أسس لها طابع أخلاقي علمي منها التزام الموضوعية واعتبار العلاقات السببية وغيرها، أما (المفاهيم) فهي المعاني الكلية التي يتم بها تحويل موضوع البحث من مادة خام أولية إلى كيان له معقوليته في أحداث علاقات تناسبية في نظامه تستخلص منه آفاقه وتجلياته الدلالية والمفاهيم تتغير من نص إلى آخر، أما الطريقة والمبادئ فهي ثوابت عقلية منهجية يصلح تطبيقها مع كل الموضوعات لأنها تختص بنظام التفكير العقلي، الذي في مكنته أن يؤطر أي موضوع ضمن أي مشرب معرفي كان.

    استنتاج:

    تأسيساً على ذلك، فإن المنهج الشكلاني البنيوي بتكامل طروحاته المتنوعة، يشكل بالنسبة لموضوع الدراسة الحالية، طريقة ومبادئ منهجية لدراسة المفاهيم الصوفية التي عرضتها أو تعرضت إليها أنواع القصص الصوفي ضمن المدة الزمنية التي تأطر بها البحث غير متشاغلين بالشكل عن الأبعاد الدلالية والرمزية في النص الصوفي ومنها سنشتق جوهر القيمة الدلالية التي تفجر بها النص الصوفي منطلقين من قناعة ترى أن الكلام الصوفي طرح مفاهيمي مغاير بالدرجة الأساس، يتشكل على أنماط مختلفة من الأداء مع وجود روح من التشابه تسري في مفاصل نصوص متعددة، فـ(البنيوية تسعى إلى تحديد أشكال متكررة في الأعمال الأدبية،... وليس هناك منهج أكثر ملائمة من البنيوية للتحقق من مدى اعتماد الأعمال المختلفة على أشكال متشابهة) ( )، عليه يمكن إيجاز المميزات التي تفصح عن صلاحية البنيوية لدراسة التراث العربي القديم في الإشارات الآتية:

    أولاً ـ أن البنيوية نظام من الرؤى النظرية مهمته الكشف عن البناءات التي يتمفصل منها جوهر النص، وعموده الفقري، (فيؤدي هذا بدوره ـ إلى تناسب المنهج في مجال تحليل نصوص أدبية لم تفهم أو أسيء فهمها... فملائمة النسق البنيوي لنقد النص العربي التراثي ليست مسألة عشوائية( )..... [بدليل استناد البنيوية أ ساساً إلى الأدب الشعبي والأساطير والخرافات]، الأمر الذي يجعل البنيوية ذات مصداقية في التعامل مع النصوص التي تشكل إرث الذاكرة الجمعية لمجتمع ما.

    ثانياً ـ البنيوية في مراحل تطورها وارتقائها نحو تكامل الرؤية للنص الأدبي، إنما تحقق لها ذلك بعد ذلك الاحتكاك الذي حدث بين التراث العلمي الغربي، مع مظاهر حضارية وثقافية لشعوب أخرى، خرجت بها البنيوية بوصايا لها من الشمولية قدر ما فيها منه العمق، من هنا، جاءت ملاءمة الدرس البنيوي لفحص التراث الأدبي العربي، على الرغم من الاعتراضات الكثيرة الموجهة ضدها( ).
    ثالثاً ـ تأسيساً على النقطتين السالفتين، لوحظ حفاظ البنيوية على جوهر النص الأدبي من حيث المفاهيم والدلالات، قائماً، معنى هذا "الاعتبار للسياقات اللا نصية الفاعلة في بناء أنساقه وتشكيل معماره اللساني، فأعلنت البنيوية حضور البيئة عاملاً مؤثراً في الصياغة الأدبية، لكن المشكل يكمن في أ يهما الأولى بالتقديم عند الدراسة التحليلية؟ الشكل أم سياقه اللا نصي...؟ و بافتراض (التحليل يبتدئ بالنص نفسه يمكن بالتالي أن نتناول مسألة علاقة النص ببيئته بمعنى أن سياق العمل الأدبي يعقب تحليل النص نفسه)( ).
    من خلال ما سبق، إن العمل البنيوي في رؤيته الشكلانية، قائم على نسق تكاملي؛تنهض الدراسة الوظائفية بتحليل المتشابه في الأحداث والوقائع، ومن جهة أخرى فالترابط بين الشكل والوظيفة ليس عارضاً ولا تعسفاً فيمكن دراسة الشكل في مستوى آخر هو مستوى اللغة، وبالنتيجة فإن دراسة الأشكال تسمح بمعرفة العلاقات الوظيفية)( ). واستجماعاً لجملة الخصائص والمميزات التي اضطلع بها الدرس البنيوي، تجعل من الممكن تبيئة المنهج الغربي ويتسع لاستيعابها وليس العكس لأن الهدف هو جعل المنهج قادراً على التعبير عن المضامين الحقيقية التي هي أقرب تصوراً إلى قصد المؤلف ونيته.

    الفصل الأول
    مكونات البنية السردية للقصة الصوفية

    توطئة:

    لكي ما تتحصل صورة جلية عن هيكل البناء السردي لمنظومة حكائية ما، لابد من أن يتم ذلك من خلال البحث في مكونات هذا الهيكل البنائي، بدءاً من متونه الحكائية وصولاً إلى بناه الحكائية، فالهيكل السردي قائم على بنية خطاب سردي مُنْتَج ومقصود يتوافر على أركان الخطاب الأدبي الثلاثة الأساس (المخِاطب ـ الخطاب ـ المخاطَب)، من هنا كانت (السردية تبحث في مكونات البنية السردية للخطاب من راوٍ ومروي ومروي إليه، ولئن كانت بنية الخطاب السردي نسيجاً قوامه تفاعل تلك المكونات، أمكن التأكيد: أن السردية هي العلم الذي يُعْنى بمظاهر الخطاب السردي؛ أسلوباً وبناءً ودلالة) ( )، فلا تتشكل البنية السردية لمنجز حكائي ما إلا بتضافر العناصر المكونة الثلاثة، و الدراسات السردية بدءاً من (فلاديمير بروب) في مصنفه (موروفولوجيا الخرافة)، حتى (جيرار جينيت) صاحب المصنف الذي تأصل على يديه مفهوم السرد وحدوده المنهجية والإجرائية، (خطاب السرد)، إنما عنيت بهذه العناصر ـ وأولتها الاهتمام الذي تستحق، على اختلاف توجهاتهم في النظر والمعالجة؛ بين ممعنٍ في تقصي الجانب، الوظيفي والدلالي في السرد، بين معْني بمظاهر الخطاب اللساني، وبين الاثنين ثمة رؤية توفيقية تؤمن بتفاعل الجانبين وانسجامهما لتحصيل أبعاد التجسد الإبداعي للصيغ التعبيرية والمضامين البلاغية والسيميائية، فالقصة (لا تتحدد فقط بمضمونها ولكن أيضاً بالشكل والطريقة التي يقدم بها ذلك المضمون)( )، من هنا برزت أهمية (الشكل) للمادة الأدبية، فهو الطريقة التي تقدم بها القصة المحكية وهو مجموع ما يختاره الراوي من وسائل وحيل لكي تقدم القصة للمروي له)( ) فالشكل والمضمون هما أسس بنية أي خطاب سردي أو أدبي، ولا يمكن فحص بناه الزمنية والمكانية والشخصية والسيميائية، مالم يتم تبيان الأسس التي قامت عليها واستندت إليها بوصفها وجوداً لسانياً ظهرت أشكاله الأسلوبية والأدائية في خلال أنساق سردية معينة يختارها السارد على وفق مقصدية تحقق أهدافها الاستقبالية المرجوة.
    وإذ تتحرك الدراسة الحالية على وفق هذه الرؤية التكاملية في محاولة فحص المنجز الحكائي الصوفي في العصر العباسي، لابد من استيفاء جانبي السرد المهمين: اللساني والدلالي، وذلك للخصوصية التي يتوفر عليها المتن الحكائي الصوفي بوصفه منجزاً أدبياً توافرت فيه عناصر الاتصال "الاجتماعي والفكري وسياقات الثقافة العربية التي يتماهى فيها الأديب مع المجموع، وكذلك هو غير خلو من العناصر الجمالية التأثيرية والتي يقف فيها دور المتلقي واستقباله للنص محوراً مهماً في إبداع النص، وتلك حقيقة توفر عليها الفن القصصي عند العرب؛ فهو يقوم على أساسيين: (الأول اجتماعي والثاني جمالي، وهذه خاصية ينفرد بها القص من بين أجناس الأدب، ولئن كان تمييز الاجتماعي من الجمالي، ضرباً من المستحيل، وكذلك من المستحيل أ ن ينفرد الجمالي بالقص تماماً كما من غير المعقول أن ينفرد الاجتماعي به ويظل فناً)( )، فلا يمكن القول مثلاً، على القص الصوفي أن الغاية هيمنت على الشكل، حتى صار الشكل التعبيري (معبراً) فقط (لإيصال) غاية وعظية أو أخلاقية، نعم، إن الهدف الإقناعي عنصر مهم وأساس في القول الصوفي بوصف الأخير محاولة لضبط اللا متناهي (الفكرة الصوفية) في صيغ متناهية (أساليب أدبية شعر، قص، أخبار...)، وإلا لما احتاج الصوفي إلى تسطير تجربته الصوفية في هذا المتعدد من الأشكال الأدبية، وكان اكتفى بشكل واحد...، فمحاولة الصوفي (الأديب) هي فعل اختيار الخط الدلالي المراد توجيهه إلى المتلقي من خلال زج هذه الدلالة في (أشكال) جميلة، هذا الاختيار من ضمن المتعدد، يشخص قيمة أسلوبية، وهل يقوم الأسلوب الأدبي إلا على الاختيار والتوزيع والاتساع( )، أما عد الخطاب الأدبي صيغة أدبية لنقل الواقع فهذا فهم محرف لنظرية (غولدمان) التي تنفي مفهوم (الانعكاس الآلي) للواقع في المضمون الأدبي، فـ(غولدمان) يهتم بالنص بنيةً متكاملةً شكلاً ومضموناً بالمفهوم البنيوي مما جعله يسمي اتجاهه بـ(البنيوية التكوينية)( )، إذن العمل الأدبي ينظر إليه نقدياً من منظار استيفاء جميع محددات النص وبواعثه وكذلك انعكاساته وتجلياته، ولا يتحول الناقد إلى عالم اجتماع أو نفس أو تاريخ... تأسيساً على ذلك، فإن فحص القصة الصوفية لابد أن يستوعب مجمل هذه الرؤى لكونها ثرية بجانبها الدلالي فضلاً عن تنوعها في الأشكال والصيغ والأساليب، وقبل ذلك نجد حاجة إلى تصنيف أنماط القصة الصوفية، لحضور دواع نصية بدت للباحثة القصة الصوفية ليست نمطاً واحداً وتيسيراً للفحص المنهجي لابد وأن تكون المادة المدروسة على قدر مناسب من التلاؤم لكي تنضح السبل لتشخيص خصائص النوع.
    أنماط القصة الصوفية:

    توفر المنجز الحكائي الصوفي على تنوع في الرؤية، وفنية في الطرح، لذلك وجدت ضرورة أن نصنف هذا المنجز تمهيداً لدراسته وتحليله على وفق المنهج المختار، ولولا هذا التصنيف لاكتسب البحث صفة الإعمام التي لا تتساوق مع النظر العلمي الموثق الذي تنماز به من سواها.

    بناء على ذلك، بدت القصة الصوفية مؤسسة في ضوء موقع الراوي وصوته، على نمطين:

    1 ـ قصص ذاتي: مروي بلسان البطل نفسه عن نفسه فهو البطل والراوي معاً، أو مروي عن شيوخ البطل يكون الراوي فيه شاهداً على حدث أو مشاركاً فيه أو مخبراً عن مضمونه, وتدخل ضمن (الذاتي) قصص (الكرامات) التي أجد أنها على كونها تشمل فعلاً خارقاً إلا أنها ذات طابع فردي ذاتي أو منقولاً عن ذوات.

    2 ـ قصص موضوعي: قصص يرويها راوٍ مفارق لمرويه تماماً، فهو يصف ويسرد ويستخلص الحكمة.

    ثم بدا لنا نمط آخر من القصص الراوي فيه إما يخبر عن نفسه أو يرى لغيره أو يخبر عن رؤية غيره لغيره، لحدث يخلقه عالم (اللاوعي) في الأحلام والرؤى والمنامات ما كان منها يخص الأحداث الماضية للإنسان أم الأحداث المستقبلية ذات السمة التنبؤية من خلال رؤيتها في المنامات، ونظراً لكونها تشغل حيزاً مهماً من المنجز الحكائي الصوفي، وتوفرها على تقنيات القص الأدبي، أمكن إضافتها نمطاً ثالثاً مقترحين له تسمية.

    3 ـ قصص استرجاعي: وهو قصص صوفي تخيلي يقوم على استرجاع أحداث جرت تفاصيلها في عالم الرؤى والأحلام لشخوص وأفكار لها تجسداتها في عالم الحس( ).

    هذه الأنماط الحكائية الثلاثة ستغطي نماذجها التطبيقية رقعة البحث وعلى وفق ما يتجلى في عيناتها، يتم فحص القصة الصوفية بنائياً، ونظراً لضخامة المنجز الحكائي الصوفي وسعته وثرائه وتنوعه... اعتمد البحث على عنصر انتقاء النماذج الأدبية المتميزة التي تطرح الفكر الصوفي أولاً ثم جمالها في الشكل والأسلوب، والأداء، من دون إغفال الجانب الكمي الذي سيشار إليه في الهوامش المرفقة بمباحث الرسالة التي تشير إلى وجود الظاهرة في نماذجها التي لم يتسن للباحثة الاستشهاد بها جميعاً لأن تلك غاية يتعذر على هذه الدراسة المتواضعة استيفاؤها.

    المبحث الأول بنية الاستهلال في القصص الصوفي

    تقف موضوعة (الاستهلال) في القصة، عنصراً له تأثيره الذي يتوزع على مدارين: الأول: نفسي استقبالي، على اعتبار القص الأدبي رسالة (مروياً) صادرة عن مرسل (راوٍ) قاصدة (مستقبلاً) مروياً له، وهذه هي أركان الرسالة الأدبية فمن منظور الاتصال يتحتم النظر إلى أدبية القص أو شعريته (من خلال أركان الرسالة) وبين كل من المرسل والمستقبل سياق مشترك تقع الرسالة على مسافة منه، المسافة تشغل آليات تحويلية من السياق إلى المرسلة فيما يخص المرسل إبداعياً، ومن المرسلة إلى النص، عبر السياق فيما يخص المستقبل تأويلياً) ( ).

    وتوضحه الخطاطة الآتية

    من خلال هذا، تبرز أهمية الاستهلال ودوره في الجذب، والاستقطاب اللذين يمارسهما تأثيراً في ذات المتلقي ووعيه وإدراكه وذوقه.

    المدار الثاني: بنيوي أسلوبي، يتمثل في البعد البؤري الذي ينهض به الاستهلال في إضاءة دلالات القصة ومضامينها وسياقاتها وما سيأتي من أحداث وما ستكون عليه الوظائف الرئيسة في القصة، كما يبين الاستهلال عنصر التغليب فالقصة التي عنصرها الحدثي الأساس، زمني تبتدئ بإشارة لفظية زمنية وكذلك إذا كانت مكانية أو شخصية. لأجل هذا جعل (جينت) عملية تحليل النص القصصي أو الحكائية المقصوصة، لابد أن تنطلق مستوعبة ثلاثة أبعاد هي:

    أ ـ الحكاية: أي صلة الأحداث التي تدور في إطار زمني ومكاني ما ـ وتعلق بشخصيات من نسج خيال السارد تدخل في تحليل الوظائف.

    ب ـ السرد: وهي العملية التي يقوم بها السارد أو الحاكي أو الراوي وينتج عنها النص القصصي المشتمل على اللفظ (الخطاب) القصصي والحكاية.

    ج ـ الخطاب القصصي أو (النص): وهو العناصر اللغوية التي يستعملها السارد مورداً حكايته في صلبها( ).

    فثمة علاقة قائمة بين الحكاية التي تسردها نصاً والحكاية المروية، أو بين ما يطلق عليه اختصاراً الخطاب السردي أو الحكاية( ). من هنا كان ارتباط القول (الحكي) بـ(طريقة القول أو الحكي) قضية تلازمية ضروري توافرها في عملية تحليل القصة نقدياً ولا سيما إننا سنجد أن هذه القضية التلازمية سيكون لها الأثر الفاعل في توجيه (وجهات نظر) السارد في السرد حين تدرس طرائق السرد وآلياته في مباحث الرسالة القابلة، إذن كل مفصل من مفاصل البناء الهيكلي للقصة يوفر قيمة بنائية مهمة لإجمالي قيمة العمل الأدبي واستقراء دور وأهمية كل مفصل تؤتي أكلها في فهم العمل الأدبي بأكمله.
    يأتي مفصل (الاستهلال) مفصلاً مهماً من مفاصل الخطاب القصصي، فكما أن (النهاية) لها أهمية تستأثر باللحظة الحاسمة التي ينفك فيها الصراع بين البنية الشكلية من جانب، وبنية الموضوع التي تنعكس خواص السياق الاجتماعي فيه من جانب آخر( ) وبما تحمله الخاتمة من عناصر إثارة تخيلية للمتلقي وتحصيل متعة الاكتشاف وانفراج الأزمة وتحصيل الغاية، هذا فضلاً عن النهايات المفتوحة وهي تفتح أفقاً متجدداً للاحتمالات والتدعيم المتكرر للظاهرة (مضمون القصة)... كان للاستهلال أهمية منفردة من ناحية تأديته. وظيفة (جلب انتباه القارئ أو السامع أو المشاهد وشده إلى الموضوع، فبضياع انتباهه تضيع الغاية)( ). من القص، فالاستهلال يحمل (ضمناً تاريخياً وتقليداً ما، وله بعد ذلك، أعراف بناء وطريقة قول، وقد يكون أقرب في حالات ما، إلى المبدأ الشفاهي في القول وفي العمل)( )، وكثيرة هي إشارات القدماء البلاغيين والنقاد العرب إلى الاهتمام بالابتداءات( ) والطوالع، وكان أكثر اشتغالهم على قوة التأثير النفسي التي تنهض بها الابتداءات الجيدة ولهذا عدها (أسامة بن منقذ) دلائل البيان حيث قال (أحسنوا الابتداءات فإنها دلائل البيان)( )، ومتى ما توجه النظر إلى النص الأدبي على أنه وحدة نسيجية مترابطة تتناسب فيها العلاقات العضوية لتكون كلاً موحداً يشد بعضه بعضاً ويؤول بعضه إلى بعض... أمكن أن ندرك القيمة التي ينهض بها الاستهلال في الإيذان والتلميح بالقابل من الوظائف والأحداث، بناءً على ذلك، بدت ضرورة اشتمال الاستهلال من ناحية بنيته الداخلية على جملة مظاهر ومقومات؛ يقف في مقدمتها (ثراء الكلمة، و الصورة وقابلية إثارة التأويل والتداعي؛ فالنص ليس جملاً متراصفة يقولها راوٍ أو متكلم، وإنما هو نسيج يرتبط بالبداية الاستهلالية بخيوط ممتدة مشدود إليها) ( )، من هنا، كان الاستهلال مسباراً مهماً لتشخيص براعة الراوي أو الأديب في إنجاز استهلال قوي الوشيجة بمفاصل النص من خلال بنيته السردية التي يقف منها فعل الزمان والمكان والشخوص، مكونات أساساً لبنية أي نص سردي، فمن خلال التحرك الحر والمتمكن داخل هذه المكونات، أمكن إنجاز تشكيلات أسلوبية متطورة تشكل بمجملها فنية الخطاب الأدبي بأكمله( ).

    إن التطور الحاصل في بنية الاستهلال القصصي في العصر الحديث، في مجال القصة والرواية، واحدة من أهم سمات الفن الروائي والقصصي الحديث بفعل التطور الهائل لتقنيات الكتابة الروائية ا لحديثة، وقد لا ينطبق الأمر نفسه مع القصص التراثي بسبب احتكامه إلى الارتجالية والشفاهية التي توجز الحدث كي تصل إلى استخلاص الحكمة من القص، وتعنى بالوظائف أكثر من تشكيل لغة موحية ذات تقنيات خاصة، وهذا لا يعني أن القصة الصوفية قصة حدث فقط إنما يشتمل نظامها العلامي على مراعاة (كيفية) الإيصال بمقدار مراعاة (ماذا) يوصل للمتلقي، فالعلاقة بين (الكيف) والـ(ماذا) علاقة وجودية متكاملة لا تظهر (المادة) إلا في (شكل) معين يختاره الأديب لها عملاً بهذا التكامل فإن احتلال (الاستهلال) موقعاً متميزاً في بنية القصة الصوفية دالاً على الوظيفة التي ينهض بها في عملية السرد فهو يحمل مؤشرات تنبئ عما سيكون وكيف يكون داخل النص نفسه، ومؤشرات أخرى يدرك منها القارئ كيفية بناء النص؛ فاشتغال الاستهلال على هذه المؤشرات يمنحه قيمة نصية ودلالية مهمة يجعله ركناً لا يمكن الاستغناء عن وظيفته المؤداة في جسد النص القصصي ولهذا كانت (الفقرة الأولى بالطبع تنطوي على أهمية كبيرة وهذه هي النقطة التي تأسر عند القارئ تفقده إلى الأبد)( ) بحكم ما توحي به المقدمة الاستهلالية أو إيقاظ لملكة ا لتوقع والحدس بـ القابل من الأحداث.

    والاستهلال مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمكونات البنية السردية، الأخرى للقصة، وخاصة عنصري الزمان والمكان، ولهذا فإن كانت بنية النص مكانية، رأيت تفوق المكان على الزمان في الاستهلال، وإذا كانت زمانية، رأيت تفوق الزمان على المكان فيه( ) توافقاً مع استراتيجية القص وموضع الراوي والمروي له.
    ويوفر الاستهلال فضاءاً متاحاً لتشكيل الشفرة التأويلية التي يعدها (بارت) العنصر الخالق للأسئلة داخل النص والموجد الحلول لها أيضاً( ) فإذا ما كان الاستهلال متقناً ذكياً موحياً، أمكن أن يقود إلى شفرة سرد القصة التي تثير الحكاية بموجبها الأسئلة، وتخلق التشويق والغموض قبل حلها، فمن يتقن الابتداء؛ يحسن المعالجة والاختتام، فبهذا يخلق الاستهلال عنصراً استقبالياً عالي الكفاءة وهو (إطار لا غنى عنه، ينظم عملية الرواية والتلقي معاً) ( ) فيتشارك المؤلف و المتلقي في خلق النص وتلك مزية العمل الأصيل؛ الذي يصل بالنص المبدع عبر مستويات السيميولوجيا والإشارات... والإيقونات ثم الرموز( ) التي تتنوع فيها الدلالة وتتكشف، وتصبح العلاقة بين الدال والمدلول افتراضية تأويلية مفتوحة.

    وفي نصوصنا العربية التراثية، يعنى بالاستهلال أو صدر الحكاية الذي يقابل الآن في القص الحديث (العنوان) في النص القصصي، فالبحث في كيفية انبثاقه قبل أو بعد إنجاز العمل، عنصر الإيجاز والكثافة فيه، مقدار ما يحمل من إشارة إلى أحداث القصة مستوى بلاغته الأسلوبية... وأمور أخرى يشتمل عليها العنوان، تعطي صورة جلية عن دور العنوان في تأدية وظيفته على المنحيين الدلالي والاستقبالي، وتتحكم بـ(العنوان) ثلاثة مؤشرات مهمة هي المؤشر (الأيديولوجي، الجمالي، الدلالي( )) فضلاً عن القيمة السياقية التي يمثلها العنوان فلا يمكن حذفه أو فصله عن النص حتماً.

    من هنا، برزت أهمية دراسة الاستهلال في القصص الصوفي، انطلاقاً من القيمة التي يمثلها في مجمل الحدث القصصي في السرد وسيُدرس الاستهلال هنا على وفق أنماط القصة الصوفية التي سبق تصنيفها إلى ثلاثة أنماط: الذاتي والموضوعي والاسترجاعي.

    1 ـ الاستهلال في القصص الصوفي الذاتي:

    تتجلى قيمة الاستهلال في هذا النمط من القصص الصوفي الذي ينبني على حكاية حدث أو أحداث للراوي عن نفسه أو منقولاً عن شيوخه ممن رأى أو سمع أو أخبر عنه من قبل عيان... في جملة من الصيغ سيقف المبحث على تقصي أنواعها من خلال النصوص وفحص غايتها الدلالية في تطور الحدث القصصي من خلال رؤية سياقية ثم ما يمكن أن تؤسسه هذه الدلالة من بعد تذوقي استقبالي من لدن متلقي القصة بدءاً أشير إلى حقيقة منهجية تفيد أن أي استنتاج علمي موضوعي لظاهرة ما يتوقف على مقدار (كمّي) توزعت عليه تلك الظاهرة لكي يصح أن يطلق عليها (نظرية) لها بواعثها السابقة، وتجلياتها اللاحقة، معنى ذلك أن النظرية لا تكون نظرية إلا إذا استندت إلى ظواهر متكررة.

    والاستخدامات، ومن دون إغفال الاستثناءات يشار إليها في معرض الحديث عن حرية التأليف وتنوعه واستجابته لوعي اللحظة الإبداعية وسياقاتها المؤثرة، فمن غير الموضوعي أن ندعي قيام نموذج لساني محسوب الصيغ والعبارات ينبغي توافره في المنجز الأدبي، فهذا نظر معياري يتقاطع تماماً مع الرؤية الوصفية للفعل الأدبي التي تشتق النظرية من تجلياتها النصية المطروحة.

    من الصعوبات التي تواجه الباحث في هذا اللون من القصص هي مسألة (الرواية) الحدث القصصي نقلاً عن (السارد) الأول، وكلما كثرت حلقات الرواية، تضعف الثقة في صحة النقل وتمام الحدث؛ فانتقال رواية عبر أزمان معينة، وأشخاص متباينين في المشارب والثقافة والانتماء والأخلاق، يجعل المهمة عسيرة أمام الباحث حين يقارب نصاً إبداعياً تشوب صحته شكوك ومزاعم كثيرة قد يكون الفاعل فيها محباً تنطلق (تغييراته) للنص الأصل من منطلق (عين الرضا...)، فهذا ليس أقل تشويهاً وتخريباً.

    وحتى تصل الرواية إلى آخر حلقة ساردة حيث تنتهي على يديها المرحلة الشفاهية للقصة لتستقر في شكل كتابي له سمة الثبوت من هنا، نجد أن القصة التي وصلت إلينا، إنما وصلت (مقروءة) من لدن أشخاص ومواقف وأزمان نتوقع أجراء بعض التغيرات على وظائف القص، أو شخوصه، ونمط الحوار، هنا يمارس الراوي عملية السرد من خلال (وجهة نظر) انتقلت إليه بمحتواها السردي ثم يبثها مطبوعة بميسمه الخاص، المفترض فيه أنه حلقة ناقلة لا فاعلة( ).
    هنا، نعد (سارد) القصة هو (المؤلف) أو الناقل، وعليه سيكون الكلام على بلاغة القص مشوباً بالتحفظ لغياب صورة المؤلف الأول أو على الأقل ضبابيتها.. والذي يهم هذه الفقرة من البحث اكتشاف العلاقة الرابطة التي اصطنعها ذكاء السارد في تشكيل بنية الاستهلال بما يتلاءم مع تطور الحدث في نهاية القصة.

    2 ـ صيغ الاستهلال:

    تجلت طائفة من الصيغ الاستهلالية المُنْبية عن وعي السارد أو الراوي ـ سيتم تشخص مزية الاثنين في عملية السرد ـ بقيمة جملة الاستهلال الأولى في تكثيف الحدث القادم والإيذان به، الأمر الذي يؤدي إلى (اقتصاد) في المفردات الذي لابد وأن يستند إلى (اختيار) واعٍ لوقع الكلمة ودلالتها المؤدية للغرض المقصود ومن هذه الصيغ التي تكاد تشيع في القصص الصوفي بنمطه الذاتي والمحكي عن الذات (صيغة الإسناد)، أو العنعنة؛ التي تمنح النص المروي والراوي مزيتين:


    الأولى: قيمة الحدث المروي تكتسب مصداقيتها حين تعرف الجهة المنقولة عنها وتذكر بالاسم، ذلك دليل على (أمانة) السارد الذي نقل القصة عن (الراوي) فيقترب بذلك، نمط القصة من نمط الأخبار والمرويات والأحاديث التي يعتبر فيها التوثق والإسناد وسلسلة الرواة.


    الثانية: إن السارد حين يصرح بمصادره، إنما يعلن عن (براءة) غير متحققة، من مضمون القصة، أو سمات أبطالها أو أسلوب السرد.

    على الرغم من ذلك، فإننا نقارب القص الصوفي الذي بين أيدينا بصورته التأليفية المكتوبة واصفين لا مقننين.

    من خلال ما تم الاطلاع عليه من مظان القص الصوفي، تبين شيوع صيغة (قال فلان...)، رواية عن شخص يذكر بالاسم وفي الغالب تكون هذه الشخصية معروفة ضمن إطار الطائفة أو البلاد الإسلامية، وكلما كانت الشخصية معروفة ومشهوداً لها بالخلق والصلاح والعلم والمنزلة الحسنة... كان ذلك أدعى لصدق الرواية، وتكاد توازيها صيغة (سمعت) ( ) أو (حدثني)( ) أو ذكر بعض (صحابنا)( )، فسرد الرواية يتم بعد سماعها مباشرة من راويها وعن طريق وسائط من الأصحاب الذين سمعوا عن آخرين ولعل هذا التوثيق وتوخي الدقة من مصادر الرواية، يعد محاولة لتأسيس رؤية أكثر رصانة تجاه الفن القصصي، كي لا يكون فن تسلية وتزجية أوقات الفراغ، بعد أن استأثر (الشعر) بامتياز من المراتب لا يدانيه فن آخر في ذائقة العربي واختياره فقرن القصة بوسائل تدعيم الثقة في مضامينها يعني نفي الاعتباطية أو التخريف أو الوضع عن القص الصوفي، فالحكايات (جند من جنود الله) كما وصفها الجنيد تتقوى بها قلوب المريدين، وتناقلها العلماء لبثها إلى تلامذتهم تهديهم إلى معالم الطريق في الرحلة الصوفية الشاقة، فللحكاية قيمة وفائدة وحاجة.

    وانبناء هذه الغائية المفيدة، لابد أن يقام على أساس نظام متكامل توخى فيه حيازة اهتمام السامع، وتفتيح ملكته الذهنية في التوقع والترقب واستشفاف النتائج من خلال المقدمات وهذا مبتغانا في هذا المبحث ونظرة في الأمثلة التطبيقية تتوضح هذه الدلالة:


    عن أبي يزيد البسطامي، قال: (كنت جالساً يوماً وعندي أربعة من الصالحين، فأتى بطاس فيه عسل، وإذا فيه شعره فوُضعَ بين أيدينا....).( ) فقال كل منهم قولاً فيها حتى انتهى الأمر إلى البسطامي فأحسن في الوصف. ابتداء الحكاية عن الذات أردفها بجملة (وعندي أربعة من الصالحين) صدر بها الحكاية أعلاماً لما سينهض به هؤلاء من وظيفة خلال السرد إلا وهي إثبات (الأستاذية) للبسطامي في المعرفة واكتناه الرموز والعلم بالباطن، وفي قصص الأحوال والمقامات إنه (قد حكي أن ذا النون المصري بعث إنساناً من أصحابه إلى أبي يزيد لينقل له صفة أبي يزيد....) ( )، هذه الجملة الاستعلالية تُشعر ضمناً بأستذة البسطامي في الطريقة الصوفية، وذو النون يعترف بذلك فيوفد عليه من ينقل إليه صفته، وسياق الحكاية يثبت ذلك، فحين يصل الموفد ويسأل عن دار البسطامي، فيدخل عليه ويقول له أبو يزيد: ما تريد؟... فقال: أريد أبا يزيد، فقال: من أبو يزيد؟ أنا في طلب أبي يزيد...فخرج الرجل وهو ظان بأبي يزيد شراً، وقفل راجعاً إلى ذي النون ليخبر الأخير بما شهد فيبكي ذو النون ويقول: (أخي أبو يزيد ذهب في الذاهبين إلى الله)، يقصد أنه دخل في حال (الحضور)، فتقف الجملة الاستهلالية عنصراً بنائياً يسهم في تنمية الحدث وتطوره وصياغته غايته، فوجود شخصية معينة في الجملة الاستهلالية يوحي بأن لهذه الشخصية دوراً في تشكيل الحدث الرئيس للقصة، كما في قصة (الجنيد والشبلي) حين (كان الجنيد قاعداً وعنده امرأته) ( )، فدخل الشبلي فهمت امرأة الجنيد بالنهوض لتستتر، فقال لها الجنيد (لا خبر للشبلي عنك فاقعدي)، فذكر (المرأة) هنا دليل على دور مهم ستكون هي واسطته لكشف حالة صوفية متفوقة عند الشبلي، ألا وهي حال (الغيبة) غيبته عن عالم الحس، والمرأة، وتكمن رمزية، والمرأة هنا في كونها عنصر الجمال، والحياة والإثارة وحب البقاء وديمومة الوجود البشري؛ فهي محصل لمجمل معاني الحياة الدنيا القوية التأثير في النفس البشرية، على الرغم من ذلك تقول الحكاية فلم يزل يكلمة (الجنيد) حتى بكى الشبلي، فلما أخذ الشبلي بالبكاء، قال (الجنيد) لامرأته: استتري فقد أفاق من غيبته).


    وتتجلى قيمة الاستهلال ومكانته، في قصص (الكرامات) الصوفية التي تعكس حدثاً خارقاً للعادة مشتملاً على عنصر المفاجأة التي تنتهي في الغالب بصدمة (الواقف) (على الكرامة) والرائي لحدثها وهو ذاته الراوي لنا عنها... بأن تُسْتَهل القصة بوصف مغرق في الضعة والهوان والاستكانة لينفي أي بارقة فكر تتولد في أفق توقع المتلقي في حدوث العكس، وإذا به في نهاية القصة يقلب هذا التوقع ويعكس حالة ضدية تماماً تشخص في صورة ـ (الكرامة) التي يهبها الله تعالى لبعض أوليائه، (قال صاحب اللمع، سمعت أن الحسن البصري رحمه الله، يقول: كان بعبدان، رجل أسود فقير، يأوي الخرابات...)( ) بعد هذا الوصف التمهيدي الذي بشكل طبيعي تتهيأ ذهنية المتلقي لتوقع أي شيء عدا أن هذا الرجل الأسود الفقير آوى الخرابات يمكن أن يجلس على أرض من ذهب!!!!... ويستكمل الرواية فيقول: فحملت معي شيئاً وطلبته، فلما وقعت عينه عليَّ تبسم، وأشار بيده إلى الأرض، فرأيت كلها ذهباً يلمع، ثم قال لي: هات ما معك، فناولته ما كان معي، وهربت منه فهالني أمره.


    فتصدير القصة بوصف الشخصية الرئيسة فيها بلون معين من النعوت يخلق أفق توقع للمتلقي لكي تكون المفاجأة أكبر، والصدمة أوقع، فظاهرة (قلب التوقع) وإيراد الضد في الاستهلال والاختتام سمة أسلوبية اتبعها الأديب الصوفي كي يضخم من فعل الكرامة ويجعله أمراً فائقاً للتصور أو المنطق أو المألوف.
    ويستثمر هنا، الأديب الصوفي مرجعيات المتلقي بوصفها مناخاً لتوليد شفرات النص التي هي بمثابة سياق مشترك بين الأديب والمتلقي، وهذه المرجعيات تتجسد في العناصر الثقافية والدينية والاجتماعية والأخلاقية التي لها سمة تداولية في مجتمع ما( )، في (أدب الكرامات) نلحظ هذه (المغازلة) لمرجعيات المتلقي، واحداً من أساليب الوصول إلى ما دعوناه بـ(قلب التوقع)، سنورد مثالاً على ذلك، قيل (حكي عن إبراهيم الآجري، قال: جاءني (يهودي) يتقاضى علي في دين كان له، وأنا قاعد عند الآتون أوقد تحت الآجر...)( ). فبدأ بـ عبارة (جاءني يهودي) ليخلق مناخاً لتوقعات هي أبعد ما تكون عن قيم الرحمة والتعاطف والتكافل والمساعدة ورقة القلب... فالرجل يهودي، واليهود معروفون بـ"الربا"، وهم القوم الأشد عداوة للمسلمين... فبعد أن تخلق هذا المناخ المرجعي في ذهن المتلقي يجيء فعل (الكرامة) ليكسر هذا المناخ (الموغل في ماديته ودنيويته وحسيته) إلى مناخ آخر يجعل فيه اليهودي إنساناً باحثاً عن الحقيقة... الحقيقة التي يستعد للتخلي عن دينه وانتماءاته لأجلها هذا فضلاً عن رمزية ما يحمله اسم إبراهيم من مرجعية دينية لاسم النبي (ع) الذي ألقي في النار فكانت برداً وسلاماً عليه بإذن الله. إذا هي مثلت أمامه شاخصة جلية... ولكي نستوضح هذا التطور الدلالي في وظائف القصة نكمل ما جرى فيها: (فقال اليهودي: يا إبراهيم أرني آية أسلم عليها، فقلت له: تفعل؟ قال:نعم، فقلت: انزع ثوبك، فنزع فلففته ولففت على ثوبه ثوبي فطرحته في النار، ثم دخلت الآتون وأخرجت الثوب من وسط النار، وخرجت من الباب الآخر،.. فإذا ثيابي بحالها لم يصيبها شيء، وثيابه في وسطها صارت حراقة.. فأسلم اليهودي...). فيلحظ من هذا الاستعراض، أن جميع محاور النص الدلالية قد أرسي لها أساس تمهيدي مكثف هو الجملة الاستهلالية، ومقدار وعي الأديب بأهمية الاستهلال ووظيفته في سياق العمل الأدبي، ويكون ذلك مقياس جودة العمل وأدبيته.

    3 ـ الاستهلال في القصص الصوفي الموضوعي:

    تبدو في هذا النمط من القصص الصوفي، الحكاية عن مغيب ضاربة أحداثه في عمق الزمن البعيد. من هنا، اكتسبت هذه القصص قيمتها الحكمية مكن خلال استمدادها قيمتها وجدواها من مزية (القدم) فيها، وللقدم دلالة شمولية تجريدية فضلاً عن الدلالة الزمنية.

    تتصدر هذه القصص عبارة (وقد حكى...)، أو (يحكى أن...)، فالراوي هنا، مفارق لمروية تماماً، فتتحد شخصية الراوي، والسارد بفعل مجهولية السارد الأصل، ويكتفي الراوي أن يكون الوسيط الناقل مع عدم تجريده من الإبداع؛ لكون الراوي هنا غير ملتزم بأمانة نقل تجربة حدثت فعلاً ـ كما هي الحال في القصص الذاتي السابق ذكره ـ فمجال الحرية يكون أوسع، وإمكانية التحرك على أرض النص تكون مفتوحة، من هنا، لا نجد كبير عناية بالإسناد والعنعنة وذكر سلسلة روائية إنما هنا تتركز قيمة النص فيما يترشح عنه من حكمة بالغة أو عظة حميدة، معنى ذلك أن قيمة النص ليست في (النص)... بل في (ما وراء النص)... باعتبار الهدف التقبلي من لدن السامع أو القارئ.

    ولا نعدم في هذا الضرب، الذي يشتمل على قصص الوعظ على لسان الملوك الغابرين وعلى ألسنة الحيوانات، وقصص ذات طابع فلسفي تشير إلى تطور مفهوم التصوف وشموليته حتى استوعب مجمل تفكير الإنسان بالقيم الثابتة للوجود البشري... استثماراً لبنية الاستهلال السردي في خلق وتهيأة الأجواء الروائية لتشكيل حدث القصة وغايتها فيتجلى عنصر الشد والإثارة في هذه القصص بـ(مفاتيح) جمل استهلالية تشير إلى جملة أغراض سردية، ونصية، كما يحدث في قصة الملك المسلم وابنه التي مطلعها: (وقد حكي أن بعض ملوك الهند لما دنت وفاته، وكان مسلماً قدأحضر ولداً له قد كان أهلاً للملك بعده..) ( )، فصدر بعبارة (حكي) إعلاناً عن مفارقة الراوي لمرويه ثم لها من وسائل التأثير التي منها:

    1 ـ (ملك) من بلد بعيد هي الهند بلد الأساطير والفنون والأجواء الخرافية.

    2 ـ (وقت وفاته) المحضر هنا محضر وصية، وخلاصة تجربة انتهت، وتدشين تجربة جديدة.

    3 ـ (كان مسلماً) يعني بيان لمرجعية الملك الأخلاقية والانتمائية.

    ثم يوصي بعشر وصايا، (وقد علّمه شيئاً من الحكمة وعرّفه شيئاً من سياسة الملك)، إذن ثمة تهيأة سابقة، ثم يُردفها بعشر خصال تنفع للدنيا، وعشر أخرى يصلح الله تعالى بها الملك والسلطان، ثم توجه إلى علماء مملكته وأولى الفضل والشرف فيها وأهل المنازل والرتب ونصحهم وأوصاهم، ثم لحقته سكرة الموت واعتقل لسانه، وحزن عليه أهل المملكة.


    وتختتم القصة بقول الراوي: (ثم قضى الله فيمن بعده بما أحبه، وتصرفت بهم الأحوال) ( ).

    فعلاقة التصدير أو جملة الاستهلال بسياق القصة وختامها، ليست علاقة وظيفة أو حدث يجسد أخلاق الملك، إنما هي علاقة لسانية (النصائح)، لم ترتق إلى مرتبة التجسد الوظيفي الذي (يشير) إلى المضمون الأخلاقي فعلياً، وليس يكتفي بالنصح والوصية التي تمثل البعد التجريدي للفعل الأخلاقي.

    بينما نجد في قصة (اليهودي المجوسي) ( )، استثماراً ذكياً لبنية الاستهلال لتحقيق هدفين:

    الأول: إرسال الرواية من خلال تغييب الراوي بعبارة (ما جاء في الخبر)...

    الثاني: تشخيص ثيمة القصة، ومحور الحدث الرئيس في القصة، في كون خلاف الرجلين هو رمزاً لخلاف العقيدتين بما تحملان من قيم وأخلاق وأعراف، أملتها طبيعة كل مذهب، وطبيعة متمذهبيه وأخلاقهم، فجاءت جملة استهلال على النحو الآتي: (ما جاء في الخبر، أن رجلين اصطحبا في بعض الأسفار، أحدهما مجوسي من أهل كرمان، والآخر يهودي من أهل أصفهان...)، ليعلم من سياق القصة أن التصدير يقوم مقام (العنوان) فلو شئنا عنونة هذه القصة، لكان العنوان: قصة (المجوسي واليهودي)؛ وذلك لأن محور صراع القصة قائم على مستوى وعي لكلا البطلين فكل مثل مذهبه (أو ما صار عُرْفاً في أذهان الناس عامة من أخلاقية المجوسي أو اليهودي) لكي تصل في النهاية إلى تفوق الديانة المجوسية (العُرْف المجوسي).

    وربما كان المؤلف مجوسياً لذلك مالت كفة الصراع صوب المجوسي ـ على اليهودية، وتحيلنا نهاية القصة إلى شيء آخر يتجسد في (عمق) إيمان المجوسي بقدرة الخالق عز وجل وبقدرته على الاقتصاص ممن ظلمه، وفي هذا بعض المغالطة المحسوبة من قبل (واضع) القصة وليس راويها (أخوان الصفاء)، فالمجوسية هم عبدة النار، ولا يؤمنون بإله له هذه المواصفات التي رسخها القرآن الكريم والرسالة المحمدية السمحاء، يتضح من ذلك أن (واضع) القصة فارسي ومسلم انتماؤه الأول للمجوسية التي تعد دين آبائه وأجداده قبل إعلان الفرس إسلامهم.

    والذي دعا إلى هذا الاستطراد، إلحاح الاستهلال في القصة على ذكر الرجلين بصفتهما (الدينية) وليس بأي صفة أخرى يمكن أن يتسم بها بطلا القصة غير انتمائها الديني.

    والحق، أن هذا اللون من القصص الموضوعي، إنما ظهرت العناية به وبتدوينه في مراحل متقدمة من تاريخ التصوف ما بين القرن الرابع الهجري حتى السابع الهجري والمدة التي تليه، حين بدأ التصوف من حيث المفهوم ـ يتسع ويتطور ويلتمس طابعاً فلسفياً شمولي الرؤية فضلاً عن طرائق عرضه لأفكاره التي لا تؤلب ضده أحداً إذا ما عرضت بأسلوب أدبي فني رمزي، كما تجد ذلك في تصانيف متصوفة العرب كـ: ابن سينا وابن رشد وابن طفيل وإخوان الصفاء، في تأليفهم القصة الفلسفية وقصص الطير، وفي متصوفة الفرس: فريد الدين العطار (ت627هـ) وجلال الدين الرومي (ت671هـ) وسعدي الشيرازي (ت691هـ) الذين كتبوا القصة الشعرية الصوفية كالمثنوي ومنطق الطير والبوستان وغيرها.

    فنما وزها هذا اللون من الأدب القصصي الرمزي الحكمي في غضون هذه المدة، وقد أسهمت في تطوره جملة مقومات وبواعث أعانت على شيوعه وتدوينه منها:

    أولاً: تشيّع نفر كبير من الفلاسفة والمتصوفين( )، الأمر الذي حدا إلى انطباع أدبهم وتأليفهم بطابع التقيّة المبدأ المعروف عند الشيعة الذين استمدوه من القرآن الكريم ومن اشتماله على الطابع الرمزي الذي يحتمل أكثر من تأويل، يجعل الصوفي في منأى عن سوء الفهم أو العقاب. فكان خلق هذا (المعادل الموضوعي) والتكلم بلسانه، أسلوباً أدبياً ذا أكثر من نفع.


    ثانياً: الإزجاء المباشر للفكرة يخل بالقيمة التأثيرية للحكمة أو الإرشاد أو النصيحة القيمية. وكلما تقدم العقل البشري فهو يحتاج إلى وسائل اتصال عقلية وذهنية وأدبية أعلى مستوى، وأكثر ذكاءً وأعمق تفكيراً؛ فمستوى خطاب الطفل يختلف عن مستوى خطاب البالغ أو المثقف أو الشيخ الكبير.
    وبالفعل، أفاد هذا التطور في القصص الصوفي، الفن القصصي والأدب الصوفي بشكل عام، سعة في الرؤية، وشمولية في التناول الموضوعي لمشكلات الدين والمجتمع والأخلاق في صيغ طرح جديدة غير الوعظ المباشر أو الطرح الخطابي أو التأليف الديني. فالقصة أوقع في النفس وأجلب للانتباه، وأكثر إقناعاً ولا سيما إذا اقترن القص بمجهولية الراوي الأصلي والذي تمتد أحداثه السردية إلى أزمان سالفة وفي أماكن بعيدة، تجعل إقبال النفس عليها كبيراً، فكل قديم أثير على النفس يوقظ مشاعر يختزنها اللاوعي عن ماضٍ ذهبي حالم... ولكي تتم تهيأة هذا الطقس الاستقبالي للمتلقي، نلحظ حضور (صيغة المبني للمجهول) في الجمل الاستهلالية في القصص الموضوعي، من أمثال: (حُكي...)( )، و (ذُكر أن...)( )، وقصة (بيراست الحكيم)، تبدأ بالفعل: (ولي على بني الجان ملك منها...)( ) و(عُلق أحد الرجال وهو مكبل بالقيد والأصفاد في يديه)( )...، وتستمر حكايات (منطق الطير) جميعها على هذه الشاكلة، تبدأ بفعل ماض تتحدث عن أحد الطيور وموقفه إزاء مسألة البحث عن (السيمرغ) الملك الذي تريد الطير تنصيبه ملكاً عليها، ولعل انتماء جمل الاستهلال لزمن ماض يجعل النص الحكائي يطرح أكثر من مستوى زمني لعملية القص:


    ـ زمن الحدث: وهو الأسبق، وهو زمن وقوع الأفعال.

    ـ زمن الحكاية: وهو زمن استيلاد الصورة اللسانية عن الحدث (واقعياً كان أم تخيلياً).

    وارتباط صيغة الأخبار عن الحدث بالماضي، بظاهرة مجهولية الراوي، يجعل من طقس التأثير قوياً على المتلقي الذي تأسره عملية السرد ذاتها، بمكنونها الموضوعي، وخلاصتها القيمة، ولا يعنيه صدق الراوي أو واقعية أحداث القصة. فالجانب الإمتاعي (اللذّي) في القص من وجهة نظر المتلقي يعلو على الجانب التوثيقي وكلما كانت بعض التفصيلات غائمة، أمكن جذب ذهنية المتلقي وتهيأته لأحداث لا معقولة أو خرافية فضلاً عن الحرية التي يوفرها هذا الإطلاق للراوي في إحداث بعض التغييرات في النص المسرود والحدث والشخصيات أو النتائج... حتى يصل الفعل الحكائي إلى صيغته الثابتة (التدوين) فيخرج من طور الشفاهية المتغير والقابل للزيادة والنقصان إلى كيان لساني له سمة الثبات. والملاحظ أن طريقة السرد على لسان الحيوان، تخلق وعياً تناسبياً بين ما يمكن أن يتكون من تصور كم كينونة ذلك الحيوان مثلاً والفعل القصصي الذي أصبح هذا الحيوان معادلاً موضوعياً لفاعل بشري مختف عن الأنظار، وبين الثيمة الخاصة التي يحاول المؤلف (الراوي، إزجاءها للمتلقي، بحيث لا يذهب ذهن المتلقي بعيداً في تأويلات هي خارج المقدار الذي يريده الراوي من علاقة مخصوصة بين الرمز والمرموز إليه، فهو حين يشفر مادته اللسانية، فهو في الوقت ذاته يحد أفق التأويل وكأنه يمنح للمتلقي منظاره الخاص يبصر به الحقيقة التي يريدها له...

    ولعل محدودية الهدف الإقناعي التوجيهي( ) قد ألقى بظلاله على جغرافية الفعل الأدبي... ولكي لا يمضي بنا الكلام كثيراً في هذه المفردة في البحث؛ فقد خصص لها مبحث خاص يبحث العلاقة بين الراوي ومرويه والمروي له.
    نعود إلى بعض الأمثلة الإجرائية، لنستكشف منها موضوعية البحث في علاقة الاستهلال بسياق النص، فنجد أن القصص الموضوعي الوارد مثلاً على ألسنة الحيوانات، يتضح فيه ذكاء الراوي في جعل جملة التصدير عنصراً فاعلاً في توجيه ذهن المروي له إلى القابل من الأحداث مع فتح كوة صغيرة على الخاتمة، ففي قصة (الأسد والذئب، والثعلب) التي يرويها شاعر الصوفية (جلال الدين الرومي)، تأتي جملة التصدير كالآتي:
    (توجه أسد وذئب وثعلب إلى الجبال في طلب الصيد...) نقف عند هذا الترتيب في ذكر أبطال القصة، فاستهل بالأسد ثم الذئب، ثم الثعلب، فيشير بذلك إلى مرتبة كل من هذه الحيوانات الثلاثة في عالم الغاب، الأسد الملك ثم بعده قوة الذئب في الضراوة ثم الثعلب الذي يتمتع بشجاعة غير صريحة وإنما ماكرة... الحقيقة أن هذا التسلسل تحقق مصداقيته في سياق الأحداث في القصة، حين يستأثر الأسد

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد أبريل 28, 2024 8:40 pm