منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول Empty البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول

    مُساهمة   الثلاثاء مايو 04, 2010 10:01 am




    mohamed-el-omari

    محمد العمـري

    تقديـم

    قال حازم القرطاجني: "وكيف يظن إنسان أن صناعة البلاغة يتاتي تحصيلها في الزمن القريب، وهي البحر الذي لم يصل أحد إلى نهايته مع استنفاد الأعمار". (منهاج البلغاء. 88).

    وكان حازم قد شبَّه حال من يظن إمكان تحصيل البلاغة والاستفادة منها، في وقت وجيز، بحال الصديق الذي قضى ليلته في تصفح كتب الطب، ثم أصبح وهو يحرر وصفة طبية لإسعاف صديقه المريض، فعجل بنهايته. إن بوسع إنسان ذكي، كما قال، أن يحصل بالاجتهاد في علم من العلوم خلال شهر أو عام، شيئا يعتد به في ذلك العلم، وليس ذلك ممكنا في علم البلاغة، "إذ أكثر ما يستحسن ويستقبح في علم البلاغة له اعتبارات شتى بحسب المواضع". (نفسه).

    فالبلاغة كما قال في موضع آخر علم كلي يقتضي ضبطه الإحاطة بعلوم اللسان وعلوم الإنسان المختلفة المتدخلة في تكوين الذات المنتجة للخطاب.

    وها نحن، بعد عمر من البحث ـ حسب الطاقة ـ في قضايا الشعرية وقضايا الخطابية، ومعاناة أسئلتهما القديمة والحديثة تحت راية البلاغة، نعود إلى البداية لنتساءل: ما هي البلاغة؟ أو، عى الأقل: أين توجد البلاغة؟ هل هناك بلاغة واحدة، أم بلاغات متعددة؟ وإذا كانت هناك بلاغات متعددة، هل هنا: مشروعية لقيام بلاغة عامة تنسق هذه البلاغات الخاصة وتتحدث باسمها في نادي العلوم المحيطة بها؟

    هذه هي الأسئلة التي يعالجها هذا الكتاب مباشرة كما في الفصل والأول، وعبر الاستكشاف التاريخي، كما في الفصل الثاني، وعبر النموذج كما في الفصل الثالث، وبالحفر في أعماق اللغة والفكر ـ لإبراز فعالية المكون الجوهري في البلاغة، أي المجازـ كما في الفصل الرابع.

    ركزنا في الفصل الأول على المنطقة التي يتقاطع فيها التخييل والتداول، وهي منطقة الاحتمال. انطلاقا من أن البلاغة هي علم الخطاب الاحتمالي الهادف إلى التأثير أو الإقناع أو هما معا، إيهاما أو تصديقا. وقدمنا وجهتي نظر حديثتين متعارضتين في الموضوع: إحداهما ترجح الفصل بين الشعرية والخطابية، والثانية ترجح الوصل موسعة منطقة التقاطع بما يمسح بجعلها عاصمة لبلاغةٍ العامة. وقد دعمنا الاتجاه الثاني بالمناقشة من جهة وبتقديم وجهة نظر البلاغة العربية من جهة ثانية.

    وتتبعنا في الفصل الثاني تاريخ الحوار بين التخييل والتداول في البلاغتين العربية والغربية وما أفرزه من توجهات نحو التعميم والتخصيص. وهو تاريخ يشهد بوجود بلاغات خاصة، بقدر ما يؤكد النزوع الدائم إلى بلورة بلاغة عامة لكل الخطاب الاحتمالي التخييلي والتداولي. كما يبين كيف تتدخل النهضات العلمية في الجوار اللساني والمنطقي خاصة من أجل هيمنة بلاغات جزئية تدعي التعميم، مما دعاه جيرار جينيت البلاغات المعممة: بلاغة الشعر وبلاغة الحجاج. وهي في نظرنا بلاغات فرعية تفتقر إلى ما تقدمه لها البلاغة العامة. وتقوم بداخل هذه البلاغات الفرعية، بلاغات جزئية ملتبسة بين التخييل والإقناع. وقد ضربنا مثالا للبلاغات الجزئية ببلاغة السخرية وبلاغة السيرة الذاتية. وهذا هو موضوع الفصل الثالث.

    لقد بذلنا في مبحث السخرية جهدا تنظيريا استمر سنوات، بل هو عصارة كتاب حالت الظروف دون إتمام شكليات إخراجه. لقد حاولنا إبراز الأبعاد المعرفية والحجاجية التي جعلت السخرية مبحثا فلسفيا حجاجيا أثيرا، من جهة، والأبعاد التي جعلتها مبحثا أدبيا تعبيريا أو أسلوبيا من جهة ثانية. وقد تعمدنا جر السخرية نحو الأدبية موسعين مفهوم الأدب تحاشيا للمعني الأخلاقي الديني والوجودي العدمي.

    أما السيرة الذاتية فالذي أثار الاتنباه في بنائها، وسمح بإلحاقها بهذا الكتاب هو تأرجحها بين التخييل الروائي و"التصديق" التاريخي. فقارئ السيرة الذاتية المثالية، أي الواقعة في مركز التقاطع بين التخييل والتاريخ، يظل في تنازع بين التاريخ والخيال. ومن الأكيد أنه حين يتيقن أنه أمام تخييل محض أو تاريخ محض سيغير برنامج تلقيه، وسيطالب بشروط أخرى في البناء: الانسجام الداخلي أو الخارجي أولا.

    ولمزيد من الحفر في منطقة التقاطع تناولنا في الفصل الرابع الآلية البلاغية المركزية: المجاز. تناولنا المجاز في تأرجحه بين البعد المعرفي الإقناعي والبعد التخييلي الإبداعي. تتبعنا هذه القضية عبر مسار الفكر اللغوي والديني العربي في مرحلة تشكلهما، حيث لعب المجاز والتأويل المتعلق به دور المليِّن بفضل طبيعته الاحتمالية، أي البلاغية.

    وقد عملنا على تكميل الرؤية وفتح طرق التوسع في الموضوع بإضافة ملحقات وحواش موسعة وإحالات كثيرة.

    وسيصادف القارئ مجموعة من المصطلحات الجديدة التي لا مندوحة عنها للخروج من الخلط والاضطراب في بناء النسق. مثل لفظ الخطابية ترجمة لريطورية أرسطو، والمستَمَع، على وزن مجتمع، ترجمة للكلمة الجوهرية في التداول الحجاجي auditoire، وكلمة صورة مقابلا لكلمة figure، وحجة لكلمة argument، وغيرها مما عرَّفناه في مكان وروده، أو عبر سياقه. فالمرجو ألا يلتقطها بمنقار طائر جوال لا يغادر كبد سمائه. فالمحنة محنة نسق وليست جولة ألفاظ. وقد اقتضي السياق أحيانا مقايضة بعض المصطلحات المنتمية لحقل واحد، إما لتأكيد خصوصية، مثل حلول الحجاج محل التداول في سياق بلاغة الإقناع الجديدة، وحلول كلمة بيان في نفس المحل في سياق الحديث بمفاهيم الجاحظ.

    المحمدية. في 2ماي 2004



    الفصل الأول

    تقاطع التخييل والتداول

    توضيحات أولية

    ربما لا تطرح كلمة بلاغة في السياق العربي إشكالاً في كونها علم الخطاب الاحتمالي بنوعيه التخييلي والتداولي، وذلك نتيجة الدمج الذي مارسه، في المرحلة الثانية من تاريخها، كل من عبد القاهر الجرجاني وابن سنان الخفاجي ثم السكاكي وحازم القرطاجني، وذلك بعد المحاولة التلفيقية التي قام بها العسكري تحت عنوان: الصناعتين. فبرغم ما أدت إليه هذه العملية من إقصاء واختزال أحيانا، ومن تحويل المركز أحيانا أخرى (من التخييل إلى التداول خاصة) فقد ظل شعار الوحدة البلاغية مرفوعاً، وسنعود لبيان ذلك.

    أما في الثقافة الغربية فإن الكلمة المقابلة لكلمة "بلاغة" العربية، حاليا، أي ريطوريك (rhétorique, rhetoric)، تتردد بين ثلاثة مفاهيم كبرى:

    1ـ المفهوم الأرسطي الذي يُخصِّصها لمجال الإقناع وآلياته، حيث تشتغل على النص الخطابي في المقامات الثلاثة المعروفة (المشاورة والمشاجرة والمفاضلة). وهي بهذا المفهوم تقابل بويتيك (poétique,poetics) التي تُعنَى بالخطاب المحاكي المخيل أي الشعر حصراً. وهذا هو المفهوم الذي أعاد بيرلمان وآخرون صياغته في اتجاه بناء نموذج منطقي للإقناع.

    2 ـ المفهوم الأدبي الذي يجعلها بحثا في صور الأسلوب، هذا المفهوم الذي استقر لها عبر تاريخ من الانكماش رسم بارت خطوطه العامة في محاضراته المشهورة عن تاريخ البلاغة القديمة. وقد أعيدت صياغة هذا الاتجاه حديثا باعتباره بلاغة عامة أحيانا، كما هو الحال في الدراسة المشهورة لجماعة مي، تحت عنوان: البلاغة العامة.

    3 ـ المفهوم النسقي الذي يسعى لجعل البلاغة علما أعلى يشمل التخييل والحجاج معاً. أي يستوعب المفهومين الأولين من خلال المنطقة التي يتقاطعان فيها موسعا لهذه المنطقة أقصى ما يمكنه التوسيع. فقد حدث خلال التاريخ أن تقلص البعد الفلسفي التداولي للبلاغة وتوسع البعد الأسلوبي حتى صار الموضوعَ الوحيد لها، فكانت نهضة البلاغة حديثا منصبة على استرجاع البعد المفقود في تجاذب بين المجال الأدبي (حيث يهيمن التخييل) والمجال الفلسفي المنطقي من جهة، واللساني التداولي من جهة ثانية.

    وقد يفقد هذا المفهوم الثالث طابعه الإشكالي النسقي سعيا للدمج الكلي للبعدين التخييلي والتداولي فيشرف على حدود التلفيق، كما هو الحال في الكثير من النماذج المنتمية إلى السميائيات وعلم النص.

    وقبل أن نخوض في الإشكالات التي يثيرها المفهوم العام النسقي للبلاغة ـ وهو الذي يهمنا هنا ـ نشير إلى أن المفاهيم المذكورة (لكلمة ريطوريك) كثيراً ما خرجت عن سياقها الغربي، أو أُُخرجت منه، بفعل الترجمة إلى العربية بكلمة "بلاغة" دون تقييد، فأدى ذلك إلى الخلط والتشويش على القراء. ويقال نفس الشيء عن ترجمة الريطورية الأرسطية بكلمة خطابة، على الإطلاق، في بعض الأعمال التي حاولت تلافي الخلط. ولذلك نقترح ترجمة الريطورية الأرسطية بكلمةِ "خطابية" قياساً على كلمةِ "شعرية" التي بسطت سلطتها في مجال التخييل؛ موضوع الأولى الخطابة بمعناها العام، وموضوعُ الثانية الشعر بمعناه العام([1]).

    وتبعا لذلك نقترح كلمة صورة مقابلا لكلمة figure، وكلمة حجة مقابلا لكلمة argument باعتبارهما الآليتين الأساسيتين في التخييل (الشعري)، من جهة، والحجاج (الخطابي)، من جهة ثانية. وسنورد نموذجاً لفحص العلاقة بين الصورة والحجة ومدى التداخل بينهما.

    وتراودني رغبة في إزاحة كلمة "إنشاء" قليلا عن المعنى الذي استقر لها في الكتب المتأخرة لتدل على كل خطابٍ يحمل جهداً تخييليا أو حجاجيا، أي الخطاب الذي فيه "صنعة" قصدية للتأثير والإقناع، الخطاب الذي يوجد بين البرهنة والاعتباط كما سيعبر بول ريكور لاحقـا.

    ولعل القارئ يلتقي لأول مرة بكلمة مُستَمَع، وقد دأبتُ على استعمالها مقابلا لكلمة auditoire، وهي تعني المقام الخطابي بمكوناته الثقافية والزمانية والمكانية. فبدون التفاهم حول هذه المصطلحات سيتعذر التخاطب في هذا الموضوع.

    من المفارقات التي قد تثير المتتبع لحركة تجديد البلاغة وتشميلها العودةُ إلى خطابية أرسطو (أي الريطوريك) لتكون عنواناً للبلاغة العامة، والحال أن أرسطو هو أول من شطر علم الخطاب الإنشائي إلى شعرية وخطابية (أو بويتيك وريطوريك)، وذلك عوضاً عن كلمة شعريـة poesis التي تقتسِم، في أحـد تصنيفاته، المجالَ المعرفي مع العلوم النظرية والتطبيقية. فالشعرية تعني، في هذا السياق العلمي التصنيفي، الإنتاج([2])La production، أو الإنشاء حسب المفهوم الذي اقترحناه آنفا.

    ويرجع ذلك، في نظري، إلى كون خطابيته قد تضمنت عناصر حجاجية وأسلوبية قابلة للتنمية والتوسيع، كما أن أجناسها الثلاثة قابلة لاحتواء أصناف من الخطاب الاحتمالي المؤثر، بخلاف ما أنجز من شعريته التي وقفت عند المحاكاة عن طريق الحكاية ممثلة على الخشبة، أي عند جنس واحد من الشعر. يضاف إلى ذلك بروز البعد التداولي في الشعر الكلاسيكي.

    أساس النسق البلاغي

    الحديث عن علمٍ للتخييل والتداول باعتبارهما خطابين يتجهان نحو قطبين متباعدين يقتضي بيان العنصر الجوهري الذي يجمعهما، ومدى الإنتاجية الإضافية المترتبة عن الجمع، فضلا عن الحاجة إلى ضبط الحدود مع الجوار المعرفي (المنطق والفلسفة واللسانيات).

    لا يختلف المدافعون عن النسق البلاغي العام مع المرتابين في إمكانية قيامه في أن التخييل والتداول (أو الحجاج بشكل أدق) يلتقيان في أنهما خطابان قائمان على الاحتمال؛ الاحتمال توهيماً أو ترجيحاً، التوهيم في التخييل والترجيح في التداول الحجاجي، فحتى تفريق أرسطو لا يَعدُو جهةَ الاحتمال وجودا وعدماً: فخطاب الشاعر "كذب" محتمل الصدق، وكلام الخطيب صدق محتمل الكذب. ومع ذلك فمن الدارسين من رجح الخصوصيات النوعية لكل جنس ففصل، ومنهم من رأى أن منطقة الاتصال واسعة بشكل يجعلها كافية لقيام علم عام للشعرية والخطابية هو علم البلاغة.

    الفصل بين الشعرية والخطابية

    في سياق الفصل بين الخطابية والشعرية فحص بول ريكور بعمق عناصر الالتقاء وعناصر الافتراق بين الشعرية والخطابية، في مقال مركز تحت عنوان: الخطابية، الشعري، التأويلية. وهو مقال يتيح لنا عرضُه ومناقشتُه أمرين: أولهما تبين عناصر التداخل وتدعيمها بمعطيات أخرى من المجال العربي، كما سيرد في آخر هذا الاستعراض مع حازم القرطاجني، والثاني مناقشة المستندات المعتمدة في الا حتجاج لعدم إمكان قيام بلاغة عامة.

    رجع الباحث بالبلاغة إلى مهدها الغربي عند اليونان باحثا عن نواة الشعرية والخطابية. فلاحظ أن نواة الخطابية في أجناسها الثلاثة هي فض نزاع. لا يُستثنى من ذلك حتى الجنس المحفلي (المفاضلة). إذ يتم الحسم عن طريق معاقلة توجد في منتصف الطريق بين الاضطرار البرهاني والاعتباطية، أي داخل الخطاب الإنشائي كما أشرنا. "ففي منتصف الطريق بين الخطاب البرهاني والعنف المستتر وراء الخطاب الإغوائي الخالص يوجد معقول مناسب للمقامات الخطابية عند أرسطو"([3]). والأساس في هذا الخطاب هو الحوار؛ فالحوار هو مدخل نظرية الحجاج الخطابي لغزوِ مجال العقل التطبيقي حيث يقتضي اختيارُ الأحسن اللجوءَ إلى المتداول, سواء تعلق الأمر بالأخلاق أو القانون أو السياسة. وقد يصل انتشار البلاغة إلى مداه فتدعي تغطية المجال الفلسفي، أو حيزا واسعا منه، كما الحال عند بيرلمان.

    غير أن هذا الطموح يصطدم بأمر جوهري في الخطابية الأرسطية وبلاغة الحجاج عامة وهو الاحتكام إلى المُستمعات (auditoires)، إذ يظل هدف الحجاج هو الإقناع، أي الحصول على موافقة المستَمع ودفعه للفعل، فالخطابية هي فن الخطاب الفاعل. أضف إلى ذلك أن اعتبار حال المستَمع في بناء الخطاب يطرح مدى صلابة المنطلقات الحجاجية، "فالتوجه نحو مستَمع يستتبع انطلاق الخطيب من الأفكار المقبولة التي يتقاسمها معه".

    والنتيجة أن على الخطيب أن يتلاءم مع المستمع قبل أن يسحبه (نحو قضيته، في حين أن المتوقع من ال

      الوقت/التاريخ الآن هو الإثنين أبريل 29, 2024 5:53 am