منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    المرأة والحداثة: من الاضطهاد إلى الاستلاب

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    المرأة والحداثة: من الاضطهاد إلى الاستلاب Empty المرأة والحداثة: من الاضطهاد إلى الاستلاب

    مُساهمة   الإثنين نوفمبر 08, 2010 10:55 am

    المرأة والحداثة: من الاضطهاد إلى الاستلاب
    مصطفى الولي - باحث في الفكر الاجتماعي السياسي

    "إنإذلال جنس الأنثى هو سمة أساسية للحضارة كما كان سمة أساسية للبربرية.والفارق الوحيد هو أن النظام الحضاري يرجع كل نقيصة كانت البربرية تمارسهابشكل بسيط إلى نمط وجودي مركب. وملتبس ومنافق. فلا أحد يُعاقَبْ على إبقاءالمرأة عبدة أكثر من الرجل نفسه".
    شارل فورييه
    إنهاالقضية الحاضرة أبداً، منذ بدء التاريخ، قبل أكثر من خمسة آلاف عام، وإلىزمن ثقافة «النهايات» ومنها «نهاية التاريخ» في عصر العولمة الأميركية.بيد أن ما اصطلح على تسميته بعصر الحداثة، أو الزمن الحديث، وما بينهما منالوعي والفكر الحديثين، شغلت، قضية المرأة فيه مساحة لا بأس بها، منالاهتمام الفكري والأكاديمي والأيديولوجي. واستمر البحث والاهتمام ملازماًلنشاط المجتمع البشري، ونخبته المفكرة والمثقفة تحديداً، مع انتقال«الحداثة» تالياً إلى «ما بعد الحداثة».
    لكنالرضى عن الإنجازات، مكان لا يزال متواضعاً، خاصةً لدى نساء العالم كلمنهن بحسب درجة تطور مجتمعهن، فضلاً عن مفاعيل الثقافات المتفاوتةوالمتباينة بين الحضارات في أصقاع الأرض.
    قضيةمن هذا الطراز، كان طبيعياً، بل وموضوعياً، أن توشج مفرداتها كل أنواعالعلوم الإنسانية. بدءاً من الفلسفة مروراً بالأنثروبولوجيا والميثولوجيا،ناهيك عن الاجتماع والاقتصاد والأدب وعلم النفس، وتفرعاتهم ومدارسهم، بماتحمله من فتوحات جديدة «حديثة» على مستوى الأفكار والمقاربات. مثل هذاالتواشج وتحولاته، مع ما في أنساقه الفكرية من متغيرات، جعل من قضيةالمرأة، أو كما يوصَّفُها البعض، القضية النسوية، أمراً حاضراً في قلبالسياسة العامة في حياة البشر على اختلاف حضاراتهم أو مجتمعاتهم. وهو ماجرى التعبير عنه، في أوج الحداثة الأوروبية بعبارة لفورييه، تقول: "إنَّالتغيير في مرحلة من مراحل التاريخ يمكن أن يحدده تقدم المرأة نحو الحرية.وأن درجة تحرر المرأة هي المقياس الطبيعي للتحرر العام».
    نحناليوم في مطلع الألفية الثالثة، التي تشهد البشرية فيها أقصى مستوياتالتطور في العلوم والتكنولوجيا وثورة الاتصالات، في إطار ما يُسمى العولمةالاقتصادية. فأين وصل موضوع المرأة في العالم على اختلاف مجتمعاته، ثقافةوتطوراً. وما هي الآفاق المطروحة لتجاوز قضية استغلال المرأة والإشكالياتالمطروحة في هذا السياق؟
    فيهذه الدراسة سوف نحاول تعقب عملية التطور الفكري التي واكبت قضية المرأة،منذ تأسيس المجتمعات الحديثة «الدول» وهي ظاهرة بدأت في الغرب عموماً. ومنثم لنقف حيال أهم الطروحات التي قدمها علماء الاجتماع والمفكرون، لنقارنذلك مع وضعها الراهن بعد أكثر من قرن على نشوء ما يُسمى «الحداثة». وأمابخصوص الحالة المتصلة بمجتمعاتنا العربية والإسلامية، فإننا سنتناول بعضالمقاربات للموضوع النسوي، لنرى إلى مظاهر أزمتها وسياق تطورها معاً، إلىجانب إظهار حقيقة تنوع الآراء والأفكار التي شهدها واقعنا، إذ تحاول مدارسثقافية «غربية» واستشراقية، وضع ثقافتنا في معازل قسرية عن التنوعوالمجادلة الخلاقة، وتُحيل تدني وضع المرأة في بلادنا إلى «أصولية ثابتة»لا يمكنها أن تواكب المجتمع الإنساني المعاصر والحديث.
    ولأنالمادة المتعلقة بالقضية ثرية وغنية وكبيرة في حجمها ونوعها، ترانا نقفعند الأهم منها كما نعتقد، أو عند ما هو متداول بشكل يومي من أنساق فكريةفي الخطابات الثقافية ذات الصلة بالموضوع. وفي ضوء تناولنا لما سبقوذكرناه سنرى إلى أي درجة تجاوز العالم أزمة ما يُدعى «اضطهاد المرأة» أوالمشكلة «النسوية». كما سنرى أين تكمن المعيقات الأساسية في عالم اليوم فيهذا المجال.

    المرأة في غرب ما قبل الحداثة
    يعودمصطلح الحداثة، بامتياز، إلى التطورات التي شهدتها أوروبا ابتداء من نهايةالقرن الثامن عشر، وخصوصاً في امتداد القرن التاسع عشر. السمة الجوهريةالوحيدة التي يتفق عليها المفكرون في تعريف المجتمع الحديث «بأنه مختلفجذرياً عن كل ما جاء قبله (...) وملاحظة النقلة الحادة من الطرق التقليديةفي الحياة إلى الطرق الحديثة. (...) وبشكل عام رأى المفكرون الكلاسيكيونإلى نقلة الحداثة من منظور متزايد التعقيد. وبعبارة أخرى، من حيث ما يقومبه الناس وكيف يقومون به، وكيف يرتبطون ببعضهم، وكيف ينظرون إلى عالمهم،وكيف ينتظم الأفراد كمجموعة، وكيف يتخذ الناس القرارات... »(1)
    فيالقرون التي سبقت ما وُصف بالعصر الحديث، كان ثمة ما أُطلق عليه عصرالنهضة، وقبله العصور الوسطى، أو العصر المسيحي الوسيط. وهو العصر الذيبقيت المرأة على امتداده أسيرة القيود والأغلال، حيث كان الخلط أمراًبديهياً بين الأنوثة والحيوانية. وعلى هذه القاعدة، تغدو المرأة غير جديرةبالاحترام والتبجيل «وكان المثل السائد يقول: إذا أردت الحد الأقصى منامرأة أو كلب أو جوزة، فحسبك أن تلجأ إلى الضرب»(2)
    وتزخرالمؤلفات الأدبية والكنسية بتوصيفات وأحكام جعلت من المرأة في ذلك العصر«حيواناً» أو «شيطاناً» أو منبعاً للرذيلة والفسق. فمن الأفكار الشائعة فيتلك الفترة، فكرة الرياء الطبيعي لدى النساء. فقد كن بنظر المجتمع، قديساتفي الكنيسة، ملائكة في الشارع، أبالسة في المطبخ، قردات في الفراش. وكاننهم النساء الجنسي الموضوع المفضل في دراما القرن السادس عشر. وكان الوعاظيحذرون الرجال من النساء الشابات، وكان الجنس يختلط اختلاطاً خطراً بضروبالكلام الذي ينال من النساء (3). فالتهمة لهن بأنهن نهمات جنسياً بمايُلحق الضرر بصحة الرجل، ويجعل المرأة مصدر خطر على حياته الجسدية، فضلاًعن الشذوذ الذي يمكن أن يندفعن نحوه بسبب «شراهتهن» الجنسية.
    وإذاكان عصر النهضة يعتبر الخطوة الأولى نحو ثورة العالم الحديث على مختلفالمستويات العلمية والاقتصادية والاجتماعية والصناعية، فهو اُعتُبر أيضاًبنظر البعض، حاملاً للمعطيات الأولى لتحرر المرأة. لكن تلك المعطيات بقيتفي حدود النخبة الفكرية الساعية لمعالجة أوضاع المرأة والأسرة. لكنه علىمستوى القوانين، كرس عصر النهضة، الأعراف السائدة حول المرأة ودونيةمكانتها. «في عام 1556 أصدر الملك هنري الثامن قراراً فرض فيه كشرط لا غنىعنه لشرعية الزواج موافقة أهل العريس إذا كان هذا الأخير ما يزال دونالثلاثين وموافقة أهل العروس إذا كانت لا تزال دون الخامسة والعشرين»(4).
    رغمذلك فثمة من رأى «انطلاق النسوية مع ابتداء عصر النهضة وعبادته للمرأة(...) وكان كتاب عصر النهضة يدعون إلى تربية أكثر عمقاً وأكثر إنسانيةلبنات النبالة. وإن كانت هذه التربية لم تطل سوى أقلية يسيرة، لكنها ستصيرالمطلب الرئيس للنسوية»(5).
    لكنالمفارقة التاريخية اللاّفتة هي أن الثورة الإصلاحية الدينية في أوروبابزعامة مارتن لوثر جاءت وبالاً على المرأة، وإن كانت هذه الثورة على مستوىالتمدن والنهضة العامة، ذات مدلول إيجابي ومتطور. فتلك الحركة الإصلاحيةحملت الدعوة أيضاً إلى «تقييد حرية المرأة وإعادتها إلى شؤون المنزل تحتوصاية الرجل. فقال أحدهم في ذلك: " إنها حركة رجعية إلى جهة الدين اليهودي" كما صارت نهضة النساء في عصر التجدد حركة "انعتاق من نير الديناليهودي"»(6).
    وفيمحاولات مبكرة من نساء ذلك العصر «عبرت جماعات منهن في عريضة موجَّهة إلىالبابا جاء فيها: أنه " قد يبدو مستغرباً وغير لائق أن تعبر النساء عنآرائهن في عرائض عامة ولكن المسيح لكي يفدينا دفع الثمن الذي دفعه من أجلالرجال وهو يطلب منا نفس الانصياع لنعمته»(7).
    لميكن الوضع الحقوقي للمرأة أفضل حالاً من مكانتها الاجتماعية والأسريةوالاقتصادية. فهي اُعتبرت «قاصرة في شرائع كل الأمم الأوروبية، وإن عدمالمساواة كان بلغ حداً لم تكن فرنسا فيه وحدها متفردة باحتقار المرأة، بلإن أوروبا كلها كانت منذ غرة هذا التمدن مجمعة على اعتبار الزوجة قاصرة.(...) وكانت الزوجة في أثناء حكم كرومويل في إنكلترا أحط مرتبة منالقاصرة، فإنها كانت بمثابة التابع غير المختار لزوجها لدرجة أنها لواشتركت معه بجريمة أعفتها الشريعة معتبرة إياها مجبرة على ما اقترفته. أماإذا تجرأت على قتل زوجها كان جزاؤها الإحراق»(Cool.
    وفيفرنسا كانت المرأة في القرن السادس عشر محرومة من الحقوق المدنية. وقدأصدر برلمان باريس عام 1592 قراراً يمنع النساء من تولي أية وظيفة فيالدولة لأنه «لا شيء يلحق الضرر بالدول مثل النساء»(9).
    يربطالعدد الأعظم من المفكرين الاجتماعيين بين المعتقدات التي سادت في الغربالمرأة وأفكار الديانة اليهودية التي بُنيت عليها أيضاً «الديانة المسيحيةمن بعد اليهودية على جذور واحدة متشابهة (...) وباستعراض أفكار الديناليهودي نجد أن أساس هذا الدين يقوم على سيادة جنس الذكور على النساء وإنعقل الرجل جزء من الذات الإلهية أما المرأة فهي من سلالة الحيواناتوالشياطين (ولعله السبب) في أن الرجل اليهودي يقول كل صباح حين يصلي:أحمدك يا رب لأنك لم تخلقني امرأة بينما تصلي المرأة اليهودية كل صباحوتقول: أحمدك يا رب لأنك خلقتني وفي مشيئتك وإرادتك»(10).
    تسويةترفض هذه المعتقدات وتسعى إلى تغير بسبب من هذا نشأت تيارات اجتماعيةالسائدة. إلا أن النجاح في التغيير «الجذري» لمكانة المرأة سوف يتوقف علىحدوث التطورات السياسية والاجتماعية الكبرى.
    فيعصر الثورة الفرنسية، تم تدشين ما يمكن تسميته بعصر الأيديولوجيات. ومعمطلع القرن التاسع عشر برزت في أوروبا سمات نسوية تدعو إلى تحرر المرأة.وتنوعت الاتجاهات الفكرية التي حملت تلك الراية. فظهرت الدعوات إلى«الحرية السياسية وحرية العمل وحرية الحب. وتم ربط تحرر المرأة بتحررالمجتمع» (11).. وهو العصر الذي ظهرت فيه الحداثة، بما تشمله من مجالاتاجتماعية واقتصادية وثقافية وصناعية وحقوقية، إطارها العام هو الدولةالحديثة أيضاً.

    المرأة الغربية والحداثة
    لقدشكل القرن التاسع عشر، منذ بداياته، تحولاً نوعياً في الأفكار الاجتماعيةوالحقوقية والسياسية. ومعه راحت تبرز في أوروبا حركات نسوية تدعو إلىتحرير المرأة. واقترنت فكرة الحرية السياسية بحرية العمل وحرية الحب. ومنالمفكرين الإصلاحيين من ربط تحرر المرأة بتحرر المجتمع بكامله من شرورالرأسمالية.
    ومنأبرز المفكرين الإصلاحيين نشير إلى سان سيمون حيث دعا «إلى المساواة بينالجنسين. ولقد تخطى السان سيمونيون فكرة كراهية المسيحي للجسد تمجيدهبوصفه المكمل الحقيقي للروح. ورأى شارل فورييه أن تحديد تغيير عصر تاريخييتوقف على الدوام بتقدم النساء نحو الحرية لأنه في علاقة المرأة بالرجلوالضعيف بالقوي تتوضح معالم انتصار الطبيعة الإنسانية على الحيوانية...ووضع روبرت أدين مخططاً تعاونياً لتخفيف عبء العمل عن النساء... وهاجموليم طومسون مؤسسة الزواج. لكن السلطات حاربت هؤلاء المفكرين ودعواتهمواتهمتهم بمحاربة الملكية الشخصية (الإرث) وبالدعوة إلى حرية الحب لرفضهمالزواج المسيحي. وكان بعضهم قد نادى بالزواج القابل للفسخ كلما رغبتالزوجات في ذلك. وأعلنوا أن ديانة سان سيمون جاءت لكي تضع حداً لتلكالتجارة المخزية وللبغاء المشروع»(12).
    وإبانالثورة الفرنسية برز تلاقي المطالب النسوية بين ذوات الامتيازات من نساءالطبقة الوسطى والميسورة ونساء الشرائح الشعبية «لكن الفئتين كانتا تنظرانإحداهما إلى الأخرى بشعور مركب من الضيق والحرج. وتستنكفان عن توحيدجهودهما. ومع ذلك، كانت الفئتان كلتاهما قد تمثلتا روح التنوير. لكنمفاهيم الحرية والمساواة والإخاء كانت تنطوي ، عند تطبيقها على النساء،على التباسات عديدة. فمفهوم روسو عن حالة طبيعية تتيح للإنسان أن يحيا فيتناغم وانسجام مع العالم المادي كان يستدعي ضمناً عدة ضروب من التحرروالانعتاق. وكان في مقدور الثوريين أن يتخذوا حجة لمعارضة السلطات وللدفاععن الزيجات المعقودة على أساس الحب الجنسي الفردي وللإشادة بالطاقاتالقائمة(13).
    ورغمأن تطور الأفكار الذي حصل مع مجيء الثورة الفرنسية قدم نسقاً جديداً منالأفكار الإصلاحية (أواخر القرن الثامن عشر وفي أوائل القرن التاسع عشر)إلا أن الوضع الحقوقي والقانوني لم يُحدث تلك النقلة الجذرية نحو المساواةالاجتماعية والإنسانية. ولم يكن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 26/8/1789في بنوده السبعة عشر، لينص على بنود هامة تحقق العدالة الاجتماعية للمرأة.
    وإلىجانب البرامج والأفكار الإصلاحية التي شهدتها أوروبا، وتحديداً بشكل خاصفرنسا، ظهرت الأفكار الاشتراكية لتدشن نظرة خاصة للموضوع النسوي، يتناقضفي فلسفتها وسبلها وأهدافها. خصوصاً وأن بزوغ مثل هذه الأفكار تم في غضونتحولات داخل المجتمع وُصفت بأنها ارتداد عن الأهداف السياسية للثورةالفرنسية.
    فقدكان نابليون «يعتبر الأسرة بمثابة معسكر. وللرجل وحده الحق ليس بأن يأمرفقط وإنما بأن يرفع صوته وأن يُعلن إرادته. وما كان ليعترف بالمرأة إلاكخادمة أو آلة ليس لرأيها وزن ولا لشخصيتها نصيب من العدالة. وما عليهاإلا أن تكون ولوداً لتعوض عن الجنود الذين يضحي بهم في سبيل مجده في ساحاتالقتال (...) وكان يعطف على فكرة تعدد الزوجات ويرفض التعليم العموميللنساء لاعتبار أنهن ما خلقن ليعشن بين الجمهور وإنما غايتهن القصوىالزواج (...) وكان يعتقد أيضاً أن المرأة روح المؤامرات. وذُكر على لسانهأنه قال يوماً : لا يوجد شيء غير فرنسي إلا أمر واحد وهو أن تفعل المرأةما تريد. ولما سألته ستايل عن أفضل امرأة بنظره قال: هي الأولد من غيرها(...) المرأة هي ملك يدنا ولسنا نحن لها لأنها تلد لنا الأولاد وأما الرجلفهو لا يلد لها. فكما أن الشجرة المثمرة هي ملك البستاني فإن المرأة أيضاًهي متاع الرجل»(14).
    لعلالتحول النوعي في مرحلة الدولة الحديثة، على صعيد الأفكار المتعلقة بتحررالمرأة، كان قد أومأ إليه نضال الاشتراكيين ضد البرجوازية ونظامهاالرأسمالي. ومع ظهور الماركسية وفلسفتها، كانت المفاهيم النوعية الجديدةفي المجتمع الغربي برمته تزاحم كلا من الفكر الإصلاحي البرجوازي، وكذلكالفكر الاشتراكي ما قبل الماركسي.
    وإذاكان الفكر الإصلاحي الذي بدأ بالظهور منذ القرن الثامن عشر، قد ربط بينحقوق المرأة وتطور المجتمع عموماً، أي أنه جعل المسألة النسوية جزءاً منالقضية العامة للشعب والمجتمع، فإن الأفكار الاشتراكية الأولى قد عمقتمفهوم العلاقة بين شرط تحرر المرأة والشرط الاجتماعي العام. أما الماركسيةحديثة العهد في حينه، فقد ذهبت إلى ربط المسألة النسوية بالطبقة العاملةتحديداً، في صراعها مع البرجوازية، على طريق إسقاط نظام الاقتصادالرأسمالي، ثم السير نحو النظام الاشتراكي. وفي هذا المجال ربط إنجلز بين«أول تناحر طبقي عرفه التاريخ مع تطور التناحر بين الرجل والمرأة فيالزواج الأحادي، توافق أول قمع طبقي مع قمع الجنس المذكر للجنسالمؤنث»(15).. وكانت أفكار ماركس وإنجلز في هذا المجال تنحدر من التراثالذي تخطاه الزمن وهو الذي يعود للثورة الرومانسية والاشتراكية الطوباويةاليوتوبيا. كان ماركس يرى أن تحرر المرأة من التبعية الاقتصادية التي تنوءبعبئها في ظل نظام الملكية الخاصة «سيفتح الطريق أمام علاقات إنسانية حقة(...) والمجتمع الشيوعي هو وحده الذي يستطيع أن يضع حداً للبغاء»(16)..وطالما تعرض ماركس وصديقه إنجلز إلى الاتهام بالعمل على مشاعية النساء،مما اضطرهما إلى الرد على ما وصفاه بالفزاعة البرجوازية حول هذه التهمة،فأكدا في أول بيان رسمي لهما (البيان الشيوعي) بالقول: «إن مشاعية النساءعلاقة لا يعرفها إلا المجتمع البرجوازي، وهي تتمثل حالياً في البغاء. غيرأن البغاء يرتكز إلى الملكية الفردية، ويزول بزوالها. وهذا يعني أنالتنظيم الشيوعي للمجتمع سوف يقضي على مشاعية النساء بدلاً من أن يغذيها(...) ليست امرأة البرجوازي عنده سوى أداة إنتاج، وهو يسمع أن أدواتالإنتاج يجب أن تكون مشتركة، فيستنتج من ذلك بالطبع أن النساء أنفسهن سوفيسري عليهن ذلك. ولا يدخل في وهم البرجوازي أن المسألة هي على العكستماماً، وأننا نريد إعطاء المرأة دوراً غير هذا الدور الذي تقوم به الآنكمجرد وسيلة إنتاج»(17).
    لكنوبالرغم من الإضافات الفلسفية والفكرية التي قدمها ماركس وإنجلز بخصوصاضطهاد المرأة، وتلك اللمحات الهامة عن تحريرها بوصفها كائناً إنسانياً،إلا أن ذلك بقي أقل من طموح بعض دعاة تحرير المرأة وهو ما تلاحظه جولييتميتشل أن تحررها يحتل مكانة ثانوية في النظرية الماركسية، وأنه تابعلتحرير الطبقة العاملة. وقد ترك ماركس وإنجلز عدداً لا بأس به من الأسئلةدون جواب، واعتبرا أفكارهما أكيدة بينما هي تبدو اليوم غير مقبولة. لقدكانا من رجال عصرهما. وما كان بوسعهما توقع التطور الكبير في الثورةالاجتماعية، أو النتائج المثيرة للفضول الشديد التي انتهى إليها علم النفسالبرجوازي(18).
    علىالعموم فإن المواج الفكري الذي احتدم في فرنسا وأوروبا في خلال القرنالتاسع عشر، كان يجري في حقل الحداثة. فالإصلاحية والاشتراكيات المتنوعة،ثم الماركسية، هي جميعها منتجات لحداثة الفكر الذي انبثق من تحديث العلومفي مجال التكنولوجيا والاقتصاد والصناعة، وهي تحديثات كان تجسيدها السياسيبالدولة الحديثة. أي دولة البرجوازية التي دشنت عصر القوميات وحدودها.ولكن الخلاصة الحقيقية لحداثة القرن التاسع عشر ودورها في إنجاز الحقوقالمرأة، جرى التعبير عنها من جانب مثقفي غرب التنوير بالقول: لقد خاب أملفيكتور هوغو الذي صرح يوماً بأنه إذا كان القرن الثامن عشر قرن حقوقالرجل، فلسوف يكون التاسع عشر قرن حقوق المرأة.
    منوجه آخر سوف يكون لواقع الحال الأوروبي نسخته الأميركية أيضاً. وبذلكتكتمل معادلة المصطلح: الغرب، الذي يشمل البلاد الجديدة خلف الأطلسي.وهكذا فقد انبثقت الحركة النسوية في أميركا عن الحملة المعادية للرق،وكانت تضم اتجاهين «أولهما اكتفى بالمطالبة بحق الاقتراع وقبل بمبدأالمساومة والتسوية، ومجموعة ثانية كانت لا تقبل بأي حل وسط في موضوع حقالانتخاب وتدعو في الوقت نفسه إلى تحرر المرأة الكامل، علاوة على تعديلمؤسسة الزواج وطريقة اللبس وتنظيم العمل»(19)..
    وتعرضتالحملة المناهضة للرق في أميركا إلى حملة مضادة، قام بها عدد من رجالالكنيسة، ففي بداية العصر الحديث كان ما يزال للكنيسة ورجال الدين دورهمفي التأثير على الرأي العام. فانبرى رجال الدين للهجوم على الحركةالنسائية ومن على منبر الكنيسة (1827) وُزعت رسالة بجهود من الجمعيةالعامة للأبرشية الأكليركية جاء فيها: "تكمن قوة المرأة في تبعيتها وتنبعمن حسها الحي بضعفها الذي حباها الله به لحمايتها. لكن حين تأخذ مكانالرجل وتدفع بنفسها إلى الحياة العامة، لا تعود هناك من ضرورة لإحاطتهابرعايتنا وحمايتنا»(20)..
    فيالقرن العشرين المنصرم، شهدت الحداثة في الغرب تطوراً في منظومة الأفكاروالمؤسسات المتعلقة بقضايا المرأة. وأخذت الحركة النسوية تكرس وجودهاالمستقل من أجل مطالب وحقوق النساء. فلم تعد تقتصر هذه الحركة على النشاطالمؤطر بمؤسسات المجتمع المدني والسياسي المشتركة. وفي الجزء الذي تغلبتفيه حداثة النسخة الماركسية على الليبرالية والديموقراطية، نقصد أنظمةالاشتراكية في روسيا وأوروبا الشرقية وعدداً آخر من البلدان التي دارت فيفلك النظام السوفياتي، جرت عملية اختزال واضحة المعالم لقضايا المرأة فيشروط النضال ضد الرأسمالية، وتحويل المجتمع مادياً إلى نظام الاشتراكية.
    وإذاكانت الحداثة بنسختها الليبرالية الغربية، قامت بوظيفة إدخال واستيعابالرأسمالية مع شكل استثمارها الخاص(21). وبذلك صُيرت المرأة موضوعاً لتطورشروط المجتمع الرأسمالي، مع ما يقتضيه ذلك من تكيف وتكييف للإنسان عموماً،مع أنظمة وتقنيات توفر تطوراً لحاجات النظام.. إذا كان ذلك كذلك فالنسخةالحداثية «الاشتراكية» طبقت نموذجها الخاص على المجتمع، ونال المرأة مانالها من مظالم جديدة، غُلفت أيديولوجياً بالضرورات الاقتصادية لما سميبسلطة دكتاتورية البروليتاريا، أو لشعار انتصار الاشتراكية.
    ففيالغرب كان التطور في الشطر النسائي، ضمن حدود القانون والحق، والأخلاق،حديث العهد. فحق التصويت للنساء يعود في فرنسا إلى سنة 1945فقط. وبقىتساوي الأجور لعمل متساو مطلباً بعيداً عن التلبية التامة. وأما المشاركةفي الحياة السياسية والنقابية، فقد ظلت أضعف بكثير عند النساء منها عندالرجال، ليس لأن حقوقها موضع خلاف، بل لأن العادات لم تكن لتدمجهابعد»(22)..
    وفيالأيديولوجية اللاَّحقة للماركسية السياسية تم ربط ديمومة العبودية للعملالمأجور باستغلال المرأة جسدياً ودفعها نحو البغاء. وكان عبر عن ذلكالزعيم الروسي فلاديمير لينين بالقول: «إنه مادامت عبودية نظام العملالمأجور قائمة، فسيبقى البغاء محتماً، ولقد اضطرت جميع الطبقات الرازخةتحت نير الاضطهاد والاستغلال على مر التاريخ إلى أن تقدم لمضطهديها عملهاالمجاني أولاً، ثم نساءها كخليلات للسادة»(23)..
    وإذحاولت السلطات السوفياتية استخدام قوة قوانينها لإعطاء المرأة حقها فيالمساواة بالعمل والأجر «وتم منح النساء أجراً متساوياً عن عمل معتاد،كانت النساء يتلقين في العشرينات أقل مما يتلقاه الرجل. وكان الرجاليرفضون مثل هذه القوانين، رغم أنف التعليمات النقابية الساعية إلى العملبنفس تعريفة النساء»(24)..
    فيمجال آخر، حاولت السلطات في روسيا، من خلال التدخل القسري عبر القراراتالبيروقراطية، وبتأثير التعبئة الأيديولوجية، جعل قضية ارتداء الحجاب أونزعه محوراً من محاور المسألة النسوية. ففي 8 آذار يوم (يوم المرأةالعالمي) من سنة 1927 قامت في أكبر مدن آسيا الوسطى طشقند وسمرقند وقوقندمظاهرات شعبية عامة اشتركت فيها عشرات الآلاف من النساء. وانتهت المظاهراتباجتماعات حاشدة خلعت فيها النساء الحجاب وأحرقته بالنيران. وفي ذات اليومتعرض اللواتي أقدمن على السفور للهجمات والإهانة ووقعت حوادث قتل لهن خلالالفترة من تشرين الثاني (نوفمبر) 1927 حتى آذار (مارس) 1928(25).
    بيدأن ما يمكن تسجيله إيجابياً مقارنة بالغرب الرأسمالي «أنه منذ قيام الثورةالاشتراكية في روسيا، لُوحظ انعدام الإثارة الجنسية الناشئة عن الرؤية فلاتوجد أفلام تثير الغرائز الجنسية كما في الغرب. ولا توجد تلك المجلاتالمتداولة في الغرب حول هذا الموضوع»(26).. ولكن تحولات روسيا الأخيرة(1991) وسقوط النظام الشيوعي، أفقدت المجتمع تلك المزية الأخلاقية في نظامالآداب الاجتماعية، وأعادت بلدان الاشتراكية السابقة إلى نسق الانقلابالقيمي الذي يسيمُ الحداثة الغربية بالكامل.

    العرب وقضية المرأة في الحداثة:
    نقلالمثقفون العرب الأوائل، الذين حصَّلوا تعليمهم في الغرب، مفاهيم الإصلاحوالتحديث إلى بلادهم. ومن ضمن تلك المفاهيم والأفكار أخذت قضية المرأةقسطاً مهماً من البحث والنقاش. ذلك وإن بدا هذا النقاش في البداية بسيطاً،قياساً إلى ما تعانيه المرأة في المجتمع العربي الإسلامي. فرفاعة الطهطاويوعلي مبارك دعيا إلى تعليم المرأة العربية. في حين كان الحدث الأول علىصعيد الدعوة الصريحة هي المقولات التي أطلقها قاسم أمين لتحرير المرأةالعربية في كتابه: تحرير المرأة (1898) ثم في كتابه المرأة الجديدة(1900). وبعده شدد مصطفى كامل على خطورة فساد المرأة»(27)..
    لقدلاحظ قاسم أمين الصلة العضوية بين الواقع المصري والعربي عموماً وبينخصوصية الظروف السيئة التي تواجهها المرأة فأرجع «الأصل في ما نشهده إلىتلازم انحطاط المرأة وانحطاط الأمة وتوحشها»(28). ولقد استدرك قاسم أمينفي دعوته تلك الاعتراضات على أفكاره التي توقع ظهورها من بعض علماءالمسلمين في مصر وجعل «الميل إلى تسوية المرأة بالرجل في الحقوق(مساواتها) ظاهرة في الشريعة الإسلامية(حسب رأيه) حتى في مسألة التحلل منعقدة الزواج»(29).. كما وجه نقداً شديداً للوصاية على المرأة، ولسوء الظنبتصرفاتها إن ابتعدت عن رقابة الرجل، وكذلك لظاهرة الطلاق غير المبرر فهذهالظاهرة بنظره تُعدّ «احتقاراً للمرأة، وكذلك تعيين من يحافظ لها علىعرضها، أو سجنها في المنزل، أو إعلان الرجال أن النساء لسن محل ثقة»(30).
    والىذلك لم يجد قاسم أمين مانعاً من انخراط المرأة في العمل، وفي مجالاتالحياة. وإن كان في نظرته لطبيعة المرأة قد وجد مجالات محدودة للعمليمكنها من القيام بها. ومن حيث المبدأ اعتبر أنه «لمن العوامل المؤسسة فيميدان احتقار المرأة هو الحيلولة بينها وبين الحياة العامة والعمل».
    أمامسألة الحجاب وانكشاف جسد النساء أمام الرجال، فلقد سوَّى الموقف بوسطيةرأى من خلالها أن «الغربيين قد توغلوا في التكشف وغالينا في طلب التحجبوالتحرج من ظهور النساء لأعين الرجال حتى صيرنا المرأة أداة من الأدوات أومتاعاً من المقتنيات (...) وهو قد أحال موضوع تاريخ الحجاب إلى اعتبارهدوراًَ من الأدوار التاريخية لحياة المرأة في العالم. فالحجاب ليس خاصاًبنا ولا أن المسلمين هم الذين استحدثوه»(31).. ولاحظ عدد من المفكرين فيالعالم أن أفكار قاسم أمين في كتابيه، قدم أمراً جديداً. وهو ما أشار إليهكارل بروكلمان مبيناً أن صدور كتابي قاسم أمين أدى إلى طرح مشكلة المرأةعلى بساط البحث. وأما الباحثة اللبنانية إلهام كلاب فقد لاحظت بدورها أنبطرس البستاني، ورفاعة الطهطاوي، وقاسم أمين قاموا بتبشير مجزأ، ووقفواموقفاً وسطاً بين تكشف الغرب وتقشف الشرق»(32)..
    ولقدشهدت الفترة التي صدر فيها كتابا قاسم أمين، بدايات الصحافة النسوية فيمصر. ونتيجة لجملة من تطورات مشابهة حققت المرأة العربية أول اتحاد نسائيانعقد مؤتمره في بيروت في العام 1922.
    ومهمايكن شأن النزاعات الفكرية المتعلقة بقضية المرأة فإن المغزى العميق لماشهدته البلدان العربية الإسلامية من نهضة فكرية عامة، ودعوات لمناصرةالمرأة والدفاع عن حقوقها، ثم تحريرها، هو أن تعددية النظرات وغنىالاجتهادات، على ما فيها من نواقص أو سلبيات، شكل دليلاً على حيويةالمجتمع في بلادنا، وقدرة إنسانها على تجديد دور الأمة الحضاري، وتجاوزالفوات والإعاقة الجاثمين على كاهل أبنائها.
    كانتالنهضة النسائية العربية، في مصر كما في بلاد الشام، قد خطت خطوات حثيثةنحو أهدافها في مطلع القرن العشرين ووصولاً إلى الحرب الكونية الأولى، غيرأن أحداث هذه الحرب الطاحنة، وما أعقبها من بداية التطبيق العملي للمبدأالإمبريالي في تقاسم النفوذ (سياسة الانتداب) صرفت اهتمام أهل المشرقالعربي الإسلامي، أو بالأحرى قياداته الفكرية عن قضية النساء ووجهته لحقبةطويلة نسبياً من الزمن نحو العمل السياسي المباشر(33).
    إنالدول والمجتمعات التي أنتجت الحرب الكونية الأولى كانت بعمومها تنتمي إلىميدان الحداثة. وبالحرب سعت تلك الدول إلى حل أزمة رأس المال حيث جرىبعضها على حساب بعض، مثلما جرى على حساب سائر الشعوب والدول في أفريقياوآسيا. ولقد بات معروفاً أن نصيب العرب من نتائج الحرب كان تقسيماًسياسياً واحتلالات عسكرية وهيمنة على المقدرات؛ على نحو ارتدت مفاعليهاعلى أوجه الحياة كافة. لكن المذبحة الكونية الأولى لم تقدم حلاً للدولالكبرى التي خاضتها؛ إذ ما لبثت أن تفاقمت الأزمة الاقتصادية الكبرى سنة1929 فعادت مشكلة عمل المرأة في الغرب تطرح نفسها بحدة لم يسبق لها مثيل،وعلت أصوات المحافظين والمعارضين في حملة شعواء على المرأة، منكرين عليهامزاحمتها للرجال ومحملين هذه المزاحمة مسؤولية البطالة. وكانت نكسة خطيرةمُنيت بها قضية تحرر المرأة بقيام الديكتاتوريات الفاشية: إذ أعلن هتلر أنالسبيل القويم لمحاربة البطالة هو أن تعود المرأة إلى منزلها لتخلي سوقالعمل للرجال (...) كما جارى موسوليني معلمه الألماني في هذا السبيل،فاستبعد النساء من مجال العمل السياسي، وحظر على الطالبات درس العلومالفلسفية(34). وبالنتيجة نشبت الحرب الكونية الثانية، وهي هذه المرة جاءتكحرب حداثية بامتياز، حيث غابت عنها أعظم إمبراطوريتان هما: الإمبراطوريةالعثمانية والقيصرية الروسية.
    وإذنشير إلى التطورات العالمية الإجمالية، فإننا نعتقد أن آثارها المباشرةوغير المباشرة على تطور مجتمعاتنا العربية والإسلامية، كانت تلحق الضرربعوامل التقدم والتحرر في المجالات المتعددة. ولعل أخطر ما نتج عن تلكالحرب أنه جاء ليهدد الهوية والوجود العربيين من خلال قيام النموذجالصهيوني كنسخة حديثة بعنصريتها بلعب الدور الأخطر في تمثيل مصالح الغربالاستعماري.
    لقدأثبت الغرب في علاقته ببلادنا أنه لا يريد لنا الحداثة (...) فمشاكلناوحاجاتنا والتحديات التي تواجهنا هي جزء لا يتجزأ من مواجهة الغرب والدخولفي صراع متكافئ معه(35).
    ويبدوأن الغرب في أنساق ثقافته الاستعلائية التي تتمحور حول «المركزيةالأوروبية» أو بما يصطلح عليه بـ «الاستشراق» يرفض غالباً ملاحظة حقيقةموضوعية في سياق تطور الثقافة الإسلامية فيما يخص التوازن والمساواة بينالرجال والنساء ومؤداها أن ذلك التيار التاريخي المتأصل في تعصبه ضدالمرأة ظل موجوداً يتنازعه اتجاه آخر يجنح إلى العدل والمساواة(36).
    فيمساجلات لإدوارد سعيد مع مفكرين غربيين سوف يقارب ما كنا أشرنا إليه أعلاهقائلاً لهم «من المحتمل أنكم لا تستطيعون النظر إلى "الإمبريالية" أوبالتأكيد لنقل "الاستشراق" من دون أن تلحظوا المكانة البارزة التي تشغلهاالنساء فيه، هي مكانة بارزة بالنظر إلى خضوعها ومركزيتها في الوقت ذاته،فدور المرأة الشرقية في هذا الخطاب، وفي التصور العام للشرق، هو مركزي علىنحو مطلق، ومن الطريف أنه لم يكد يتغير، بمعنى أنه نادراً ما يمضي إلى ماوراء الوظائف الأساسية المنوطة بالنساء: الخضوع وتمجيد الذكر وكل الصورالحسية، وإشباع الرغبة، وما إلى ذلك، وهذا ما نجده في كل مكان، عند أسوأالكتاب وأفضلهم جميعاً»(37)..
    إنالغرب على العموم، وخصوصاً في سياق نظام الهيمنة السياسية والثقافيةوالاقتصادية، يلعب دوراً معيقاً ومعرقلاً لتطور مجتمعاتنا، ويضع العقباتفي طريق الحلول المناسبة لقضايانا. وفي الموضوع المسمى بالحداثة، فإنالغرب يدفع بالاتجاه الذي يراد فيه أن نسلك الطريق المؤدي إلى توطيد دعائمسيطرته وتأبيد تخلفنا، وليس العكس، كما تدعي الخطابات الثقافية الموجهةإلى شعوبنا.
    إلىهذا فإن إنكار حقيقة تخلف أبنيتنا الاجتماعية واضطراب مشاريعنا الثقافيةالنهضوية، وقصورها حتى اللحظة عن وضع أساسات راسخة لاستعادة موقعناالحضاري، إنما هو ضرب من ادعائية مكابرة، لا تخلو من نرجسية وثبات علىالماضي في أركانه الأشد ظلاماً وتظليماً.
    بيدأن ما يقدمه النموذج الحداثي الغربي لتحرير المرأة، يبقى قاصراً ومشوهاًلا يصلح ليكون مثلاً يُقتدى. ولا نقصد هنا الانتقاص من قيمة التغييراتالتي حققها الغرب اقتصادياً واجتماعياً وحقوقياً للنساء في مجتمعاته،وإنما لنشير إلى حقيقة الاستلاب الذي يعصف بالإنسان كإنسان في حضارة الغربالحديث وما بعد الحديث.
    يدعمالغرب منذ بداية تشكل دولنا «الحديثة» أسوأ ما في البناء السياسيالاجتماعي الاقتصادي في مجتمعاتنا، وهمه وهدفه مصالحه الاستراتيجية، وحينيأتي خطابه الدعائي على مشكلاتنا، تجده يحيلها إلى «خصوصية» راسخة فيواقعنا حاضراً وماضياً. فهو لا يستطيع أن يكشف بوضوح عن آليات التأثيرالناجمة عن استعماره أو هيمنته.
    نموذجالتحرر للمرأة الذي يقدمه الغرب اليوم، يُختزل إلى قضية الجنس وحريةالمرأة في سياق عملية التسليع التي تقودها "عولمة" الشركات الكبرى. هذاعلى الأقل ما هو بارز للعيان. ولن يكون في مثل هذا التوصيف أي افتراء علىالمجتمعات الغربية ونحن نشير إلى ذلك. «لقد شجعت النساء في أوروبا وأميركابصورة خاصة، على ممارسة نشاطهن الجسدي، ما دام ذلك يفيد الوضع القائم. ومنأجل تنشيط هذا الجانب، وحتى يتحول الجسد الأنثوي، عبر نشاطه الجنسي إلىسلعة، ضمن شبكة كبيرة ذات صيت عالمي، شبكة تمثلها شركات عابرة للقارات،فوق قومية، متعددة الجنسيات(...) وفرت عروض أزياء لتُظهر مفاتن الجسد...ودعايات مصورة بالألوان الجذابة... مجلات وجرائد تعرض مشاهد مختلفة تأسرالحواس... وأفلام سينمائية وأشرطة فيديو. إنها إمبريالية الفيلمالجنسي»(38).
    هذاالنسق الموظف لمصلحة سيرورة الاستغلال، يعطي مردوداً خطيراً على المرأة فيبلادنا. فهو أولاً يدفعها إلى السقوط في براثن التشوه القِيَمي الأخلاقي،ويغريها بالاستهلاك، وحملها على بيع الجسد للدعاية التجارية. كما يفضي إلىردة فعل سلبية على المحاولات الجادة لرفع الظلم عن النساء، أقله مايستتبعه من انبثاق أشد النزعات تطرفاً ضد الحرية وحقوق المرأة. وتصبحالمرأة «أولاً وآخراً جسداً يُصان أو يُخبأ أو يُعرض (..) إن الثقافةالاستهلاكية تولَّد حاجات مادية مبنية على الجنس في مختلف صوره فتتحولالمرأة إلى جسد. وأما التحرر الجنسي في الغرب عموماً، فإنه لا يختلف عنالتقييد الجنسي الذي تنادي به السلفية والأصولية في المجتمع العربي.كلاهما يحولان المرأة إلى جسد»(39).. أبعد ما يكون عن الروح الإنسانيةالخالصة والمعطاءة.
    إنالمشكلات التي تعاني منها المرأة العربية والإسلامية كثيرة وخطيرة. من دونشك فهي لم تأخذ بعد قسطاً يسيراً من حقوقها السياسية من مثل «حق الترشيحفي البرلمان في بعض البلدان. بالإضافة إلى الحقوق الأخرى كالتزويجبالإكراه، والحرمان من التعليم والعمل، وتتعرض في كثير من الأحيان إلىالعنف الجسدي»(40).. إلا أن الضغوط والصراعات التي جلبها التغيير «تعمقتبشكل أكبر فهناك بحث واضح عن حداثة تختلف عن تلك الموجودة في الغرب»(41)..كما شهدت السبعينات والثمانينات، أبحاثاً وكتباً ودراسات سلمت تماماً بحقالمرأة في الاستقلال الذاتي، وأقرت بوجودها كقوة سياسية اقتصاديةفاعلة(...) إن موضوع المرأة في الوطن العربي يُعد قضية هامة بحيث تمثلحلقة تطور حقوق مشاركة المرأة في مسؤولية التنمية(42).
    يبدومن الضروري، في زمن "العولمة"، التأكيد على جملة قضايانا المعطلة وتلكالتي أصابها خلل مريع. فلا بد من إحداث نقلة في ثقافتنا تستمد من التراثما هو متجدد ومواكب لحاجات التطور وتتجاوز كل ما هو قاصر ومعيق. فنحن لناحداثتنا أيضاً هذا ما يجب تأكيده في ميدان الإنتاج الفكري الحر والطليقوالمتعدد. ذلك أن الحداثة بما هي منجز إنساني شامل فهي ليست حكراً علىالغرب؛ لكن الانبهار بالحداثة، وما بعدها من دون النقد والتعمق بحقيقةأنساقها المتشكلة حديثاً، سوف يعيد إنتاج القهر الذاتي والدونية في سياقصراع الحضارات والثقافات الأخرى.
    فيزمن العولمة، ثمة ما يثير السخرية من بعض طروحات المستشرقين الاستعماريينحول مكانة المرأة في بلادنا. فباسم التحرر والديموقراطية ومناصرة المرأة،والمساعدة على بناء «مستقبل جديد» للشرق الأوسط، ألغى برنارد لويس إنسانيةالرجل العربي المسلم، وأفرغه من طاقاته للتغيير والتقدم، وراح يربط مصيربلادنا بدور المرأة في مجتمعاتنا ليس على النسق الفكري المعروف: المرأةنصف المجتمع وتحرره وتقدمه يرتبط بدورها فيه، بل بجعل بلادنا «أنثى» أمامذكورة قوية ومسيطرة هي الغرب – أميركا تحديداً. «فالنساء العربياتوالمسلمات إلى جانب إسرائيل وتركيا يمكن بهم تحويل الشرق الأوسط. ومن بينالعوامل الثلاثة، تكتسب النساء أهمية خاصة، فهن، لو سمح لهن، للعبن دوراًرئيسياً في إدخال الشرق الأوسط في عصر جديد من التطور المادي والتقدمالعلمي. فمن بين جميع سكان الشرق الأوسط، تملك النساء أكبر مصلحة فيالتحرر الاجتماعي والسياسي. وقد يكون تحقيق الحرية الشاملة علىأيديهن»(43).. أي نموذج للنساء يريده لويس*؟
    وليسمن شك في أن العقلية التي يتحدث بها لويس نسخة متطورة من الاستشراقالاستعماري. فالربط بين إسرائيل ونساء العرب والمسلمين من أجل بناء الشرقالأوسط الجديد، يثير السخرية ويكشف عن خطر الدعاية الأميركيةوالاستعمارية. وأغلب الظن أن كل امرأة عربية أو مسلمة تقرأ ما كتبه لويس،أو تسمع به، سوف ترتد ضد نفسها، وحقوقها لتجنب مشاركتها إسرائيل في بناءالشرق الأوسط ذي السمعة الأمريكية الإسرائيلية المعولمة.

    الحداثة والاستهلاك الإنساني للمرأة
    أفضتالحداثة من بين ما أنتجته ثقافياً، إلى دعوات للتحرر الجنسي باعتبار أنالمرأة تتعرض لاضطهاد الجنس الآخر «الجنسانية» في كل مجالات الحياة.فأصبحت المرأة الجديدة تشعر بأنها مكبلة في الزواج حتى عندما لا يكون هذاالزواج شرعياً. فعقلية الرجل القديم، التي ما تزال حية، تخلق قيوداً نفسيةلا تقل متانة أو صلابة (قسوة) عن الأغلال الخارجية»(44).. بهذه العبارةلخصت المفكرة الإصلاحية الكسندرا كولنتاي هموم المرأة الجديدة على الصعيدالجنسي. ولكن النسخة الغربية الرأسمالية لرفض الاضطهاد الجنسي للنساء جرىالتعبير عنه بالثورة الجنسية (حرية العلاقات والممارسات الجنسية). ومعها(ثورة الحرية الجنسية) أخذت « تُباع (الواقيات الذكرية) التي تحمي الذكورةمن حمل غير مرغوب فيه و/ أو مرض فقدان المناعة المكتسبة والأكياس الواقيةمن الحمل، والمحارم المخصصة لذلك، والموسيقى المثيرة للغدد الجنسية،والأضواء الباعثة على تهييج ثقافة المخدع، والألبسة المضاعفة لشهوة النظر،والأغذية المخصصة لمضاعفة النشاط الجنسي»(45).. وبقيت المرأة هي بائعةالهوى عداً ونقداً، فتحولت إلى سلعة إلى شيء، يُستخدم لمن يدفع، أو لمنيخدع، فالأمر سيان، يبقى فيهما الرجل صاحب المتعة والامتياز والسيطرةمادياً وجسدياً، كل ذلك في إطار عالم لمجتمع تطورت فيه التكنولوجياوالصناعة، لتجعل الإنسان عموماً، والمرأة على وجه الخصوص، في معاناةواضطهاد أعلى، وأكثر تعقيداً مما عاشته النساء في العهود السابقة، إذا ماقُورن العصر بخطاباته وادعاءاته حول مفاهيم التحرر والديموقراطية وحقوقالإنسان وتحرر المرأة الاجتماعي والجنسي مع بساطة وسذاجة خطابات العصورالقديمة. ويمكن تلخيص الواقع النسائي بالقول: «إنه لم يسبق للمرأة أن كانتمسحوقة ومنهارة ومستعمرة وخامدة مثلما هي عليه الآن ويمثل عصرنا أكثرالعمليات دناءة في تاريخ المرأة»(46).. فهي بما تقدمه لها مجتمعاتالتكنولوجيا الحديثة، والتطور الاقتصادي، والحقوقي، انخرطت في لعبةمضطهديها، فولجت إلى التمتع بمهارتها في استعراض رأسمالها الجسدي، وفيردها على ما يُوصف باضطهاد الذكورة، وبعد إشباع جنسي ميكانيكي لجسدها،شرعت تبحث عن الجنسية المثلية نكاية بالرجل، أو بالاستعاضة عنه بالمنتجاتالبلاستيكية تمارس معها علاقة الانتقام من الرجل، بينما هي في الواقع تحطمن قدر نفسها. لقد اندفعت النساء إلى «الإسترجال» وكلما أردن أن يكنَّكالرجال ابتعدن عن أنوثتهن، فإنهن عاجزات عن تصور أن الأنوثة – والمرأة –يمكن أن تكونا مزيتين. إنهن رجال خائبون ونساء فاشلات ويتعرضن إلى خطر أنيصرن يائسات ودون هدف، في متاهات الشعور بالدونية»(47)..
    وفيالغرب الذي هو أبو «الحداثة» يتعادل إتقان الصناعة وتطوير التكنولوجيا معإدخال كل التحسينات الضرورية لتسليع المرأة فعلى هذا النحو تجري الأمورعلى طريقتين: الأولى: عبر دفعها إلى العمل وفق شروط لم تحددها هي برغبتهاواختيارها، والثانية من خلال توظيف منتجات التجميل والألبسة والإعلام وحتىالطب وطب التجميل لجعل الجسد الأنثوي قادراً على دخول سوق المزاحمة فيالبيع والشراء للجنس المبتذل. وتصبح «النساء الغربيات، نماذج هذه الحداثة،المعتبرات حرات ومستقلات، قلما يتمتعن بسمعة حسنة. وإن الأزمة الأخلاقيةوالمعنوية التي يعرفها المجتمع الغربي في الساعة الراهنة، لم تستطع أيةأيديولوجية أخرى إنضاج معايير أخرى للحداثة»(48).. لتخرجه منها نحوإنسانية أفضل ومكانة للمرأة بعيدة عن الابتذال. حقيقة إن المرأة باتت«ضحية للعالم التكنولوجي الجديد المجرد من الإنسانية. وهن يبحثن اليوم عنالطمأنينة، عن جواب أنهن كُنَّ مخدوعات في جميع العصور وما زلن في أيامناهذه مسحوقات أكثر من أي وقت مضى، وهن يحسسن بذلك على الرغم من الهداياالمذهبة التي تُقدم إليهن»(49)..
    ورغمتطور الاقتصاد العالمي، وفي البلدان الصناعية الكبرى تحديداً، ومع أنالمرأة منخرطة بعملية الإنتاج بشكل كبير إلا أن مردود عملها يبقى هزيلاًقياساً بجهدها. وفي إحصائية أُجريت عام 1980 أشارت إلى أن 70% من ساعاتالعمل في العالم تتعلق بالمرأة إلا أن 10% فقط من الواردات تعود إليها.ولا زالت نسبة الأميات في النساء تشكل ضعف عدد الرجال وبالتالي فإن 1% فقطمن ممتلكات العالم هي بيد النساء(50). والبارز من النسب والأرقام التيوردت في تقرير هيئة الأمم المتحدة (أعلاه) أنه على الرغم من كل الدعوات«العالمية لوقف التمييز ضد المرأة والمساواة مع الرجل والدفاع عن حقوقها،إلا أن المرأة لا زالت تتعرض للظلم والاضطهاد في مناطق عديدة من العالم.ولا زالت تعاني من الأفكار الدونية والنفعية التي يُنظر من خلالها إليهاوالتي تستتبع سوء طريقة المعاملة وبؤس الحياة التي تعيشها»(51). معالتحولات التي يشهدها عالم ما بعد الحداثة، لا يبدو أن تطوراً ثورياًسيحصل في المدى المنظور في مجال الحقوق السياسية والاجتماعية للمرأة.الأمر الذي يعيد الاعتبار لمراجعة كل الأطروحات الحداثوية التي ظهرت منذالتنوير وإلى اليوم.
    فيأي حال لا ينبغي أن يُنظر إلى الملاحظات التي أوردناها عن وضع المرأةالعالمية في أزمة الحداثة، كدعوة إلى العودة إلى الوراء نحو ثقافات أبعدغوراً في تاريخ الحضارات العالمية. إنما أردناه من إبدائها هو التأكيد علىمادية واستلاب المجتمع العالمي الذي تتمركز فيه السلطة بيد الدول الطامعةأبداً بالثروات دون اعتبار لمصائر البشر، ليس في أنحاء العالم المسمى«ثالثاً» بل وحتى مصائر الإنسان في مجتمعاتها. وتؤكد البحوث والدراساتالدولية على وجود نشاطات فعالة وواعية لنساء عالميات من أجل تغيير وضعيتهنحسب رؤيتهن الخاصة. إذ يفضلن العمل بأنفسهن عوضاً عن دعم الرجال أوالمساهمة في عملهم. فهل يع

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد مايو 19, 2024 10:45 am