منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    المكون الميتاقصي في رواية يوسف المحيميد "القارورة"

    خنساء محبة السماء
    خنساء محبة السماء


    عدد المساهمات : 96
    تاريخ التسجيل : 02/11/2009
    العمر : 34

    المكون الميتاقصي في رواية يوسف المحيميد "القارورة" Empty المكون الميتاقصي في رواية يوسف المحيميد "القارورة"

    مُساهمة  خنساء محبة السماء الأحد ديسمبر 12, 2010 12:12 pm

    المكون الميتاقصي في رواية يوسف المحيميد "القارورة" 31
    <table class="dcitbce" align="center" border="0" cellpadding="0" width="98%"><tr><td><table style="border-collapse: collapse;" border="0" cellpadding="4" width="98%"><tr><td valign="top">اقتفاء خيوط العنكبوت:
    المكون الميتاقصي في رواية يوسف المحيميد "القارورة"

    د. مبارك الخالدي


    لما ترفع منيرة الساهي الشخصية المركزية في رواية يوسف المحيميد(القارورة) وسادتها ليلة 13 يوليو 1990 يقع بصرها على عنكبوت يبدو أنهاتخذ من الوسادة ملاذا يحتمي به، أو يبث الدفء في أوصاله الباردة والوقتصيف. ليس في الرواية من البداية إلى النهاية ما قد يطفئ فضول القارئلمعرفة كيف انتهى المطاف بالعنكبوت إلى تحت وسادة امرأة تعيش في جناح خاصبها ، في فيلا تشتغل على نظافتها خادمة أجنبية وربما يساعدها السائقالأجنبي. لكنني أعتقد أن معرفة الطريقة التي وصل بها العنكبوت إلى الوسادةليست بذات أهمية، ولن يطول تساؤل القارئ عنها إلا إذا نسي أنه يقرأ عملاتخيليا يتطلب الاستمتاع بقراءته إيقاف ما يعرف منذ صاموئيل كوليريدجبــ(إيقاف عدم التصديق). فإذا ما تشبث القارئ بموقف النافي لمنطقية وجودالعنكبوت في غرفة على درجة عالية من النظافة فأنه يشيد حينئذ محكمةلمحاكمة الرواية حتى بدون وعي بمعايير ومنطق العالم خارجها ، وليس انطلاقامن معايير ومنطق العالم التخيلي الذي تعرضه.
    في هذه الحال ، يكون ممكنا طرح التساؤل نفسه عن السارد بضمير الغائب الذييطوف بشوارع الرياض المتخيلة، في الصباح الباكر، ليرسم فيما يشبه لقطةالتأسيس (establishing shot) صورة لفظية بانورامية للمكان وللشوارع وهيتمتلئ بهدير حافلات خط البلدة ، وتستقبل مجموعات العمال الأجانب ، ثميتسلل إلى داخل البيوت ليصور العاملات الأجنبيات وهن يؤدين القسط الصباحيمن أعبائهن اليومية ، ثم يغادرهن ليتلصص على الجدات النجديات وهن يسبحنمنتظرات تسلل رائحة القهوة المبهرة بالهيل (9). ثم يغادر السارد الجداتليتسلل إلى غرفة نوم منيرة الساهي ليقدمها بلقطة عن قرب close-up وهيمستلقية في فراشها الوثير(10). ، ليتوغل في تسلله إلى داخل رأسها ليتلصصوينقل أفكارها وتساؤلاتها عن الفضيحة التي حدثت الليلة الفائتة.
    لا يوجد عمل سردي خال من التسلل والتلصص والتنصت لأنه بدونها لن تكونهنالك أعمال سردية، كما أن قراءة اي نص سردي تورط في التلصص والتنصت ،والسارد بضمير الغائب في (القارورة) هو أول متسلل على مستوى الخطاب، لاعلى مستوى القصة. فإذا ما أعتبر وجود العنكبوت تحت الوسادة مفتعلا وغيرمنطقي، فان لا منطقيته أقل بدرجات من لا منطقية قدرة الراوي ، والرواةعموما، على التسلل والتلصص والتنصت والانتقال من مكان الى آخر، والنفاذالى الأغوار العميقة لدواخل الشخصيات. تسلل العنكبوت إلى غرفة الشخصيةالمركزية في (القارورة) منطقي وفق المنطق العام الذي تنتظم به اللعبةالسردية في الرواية ويتحقق بواسطته وحدة وتماسك البنية السردية. إن إخفاءتسلل العنكبوت هو جزء من اللعبة السردية التي يلعبها المؤلف الضمنيلـ(القارورة) ، وعبر لعبته هذه يأخذ الخطاب السردي شكله ومعماريته.
    يقول روبرت ديتويلر:كل الفن (لعب) في خلقه عوالم رمزية أخرى؛ والقص فيالمقام الأول طريقة للتظاهر, والتظاهر عنصر أساسي في اللعب والألعاب
    (باتريشيا وو ،Metafiction 34)، و اللعبة السردية في (القارورة) يمثلالتسلل ثيمة رئيسة فيها، والعنكبوت بتعالقاته مع مفاهيم التسلل والمخاتلةيحتل المركز من هذه اللعبة. إن الوظيفة الترميزية والمجازية للعنكبوت تفيضخارج أطر تأويل تسلله على انه استباق أو نذير أو معادل لتسلل الرجلالعنكبوت حسن العاصي إلى عالم منيرة الساهي، فوظيفته تنداح في اتجاهاتمختلفة وعلى مستويات عدة في الرواية؛ فهوالمؤلف المجهول الفردي أو الجمعيالذي نسج الحكايات الشعبية الثلاث التي تحكيها بنات الساهي الثلاث لجدتهنفي منافسة القص التي تنظمها الأخيرة وهو صدام حسين بتأليفه/تلفيقه قصةالكويت ، الفرع الذي افترق عن الأصل؛ وهو منيرة الساهي حين تكتب قصةانخداعها بحسن العاصي، وهو أخيرا، المؤلف الضمني الذي غزل كل الخيوطوالوحدات السردية التي يتخلق منها العالم المتخيل في الرواية. واستطرادابهذه الفكرة، إن كل حكواتي وقاص وروائي هو عنكبوت-وكل مؤرخ أيضا-ابتداء منشهرزاد، أم العناكب البشرية ،ذكور وإناث، التي تنسج طوال ألف ليلة وليلةشبكة عنكبوتية خرافية، من حكاية تتلوها حكاية، في سعيها لدفع السيف عنرقبتها، وانتهاء ،في هذه القراءة، بالمؤلف الضمني لـ(القارورة).
    ليس في معاجم اللغة العربية ما يدل إلى الجذر/الأصل الذي اشتق منه الاسمعنكبوت؛ أما في الإنجليزية ، فالكلمة عنكبوت (spider) ترتبط ايتيمولوجيابالغزل والنسج لاشتقاقها من الفعل (spinnan) في الإنجليزية القديمة، أي(spin)في الإنجليزية الحديثة، بمعنى يغزل وينسج ويلفق قصة ويغزل شرنقة أوشبكة. لكن بإخراج المفردة من نطاق معانيها المعجمية ثم موضعتها في سياقالموروث الديني والميثولوجي والفوكلوري العالمي ، يتسع المدى الدلاليوالرامز للعنكبوت لارتباطها بتصورات عن إمكانات الحماية والخلق والاحتيالوالتحول وصد الأذى. إن العنكبوت حامية الأنبياء كما في قصتي النبيين داودومحمد عليهما الصلاة والسلام ؛ وفي فكلور هنود(توبا) في أمريكا الجنوبية،العنكبوت أول ناسج وحائك؛ ويرتبط بالقدرة على الخلق في فكلور العديد منالسكان الأصليين(الهنود الحمر) في الولايات المتحدة ؛ العنكبوت (أنانسي)هو خالق العالم في أساطير ساحل الذهب، وهو البطل والمحتال(trickster) فيمعظم فكلور غرب أفريقيا والاميركان الأفارقة؛ ويعلق (الهنود الحمر) منقبيلة (تشيبوا) شبكات عناكب فوق أسرة الأطفال لتمسك (تصطاد)الأذى الطافيفي الهواء.
    على ضوء هذا قد يتضح لماذا جعلت اقتفاء خيوط العنكبوت محور اهتمامي في هذهالقراءة لرواية المحيميد. فبإحالة العنكبوت إلى هذا الإطار المرجعي منالموروث الثقافي الذي تشكل حولها في مجتمعات متعددة ومتباعدة، تغدوإمكانات ترميزيته اكثر عمقا واتساعا وتعددية، مما يتيح مدى رحبا لممارسةعملية أو لعبة تحليل وتأويل النص وفك مغاليقه بهدف إنتاج قدر من المعرفةبه. هنا أخلص إلى طرح المجادلة أن المؤلف الضمني لـ(القارورة) يلعب لعبةسردية يتخلق بها نسيج خطاب سردي تذوب فيه الحدود والفواصل بين التقاليدوالمواضعات السردية الفرع- نوعية و تنجدل فيه خيوط الميتاقصي (ما بعدالحداثي) بالحداثي بالواقعي بطريقة تؤدي إلى تخفي الميتاقصي، ومروره أمامناظري القارئ متسللا مثل العنكبوت في حال عدم انتباهه. بكلمات أخرى ،(القارورة) رواية ميتاقصية/ميتا رواية ، بيد أنها لا تنتمي إلى النوع الذييعري ميتاقصيته ، لا تعلن أنها قص عن القص، إنها ،من وجهة نظري، من ذلكالنوع الميتاقصي الذي تسميه ليندا هتشيون بالسرد النرجسي الميتاقصي الخفي/المقنع ((Narcissistic Narrative, 23 .
    (القارورة) لا تصرح بميتاقصيتها، أو بتعبير أكثر دقة ، لا تفصح عن المكونالميتاقصي فيها . وتبعا لهذا الإخفاء تتضاعف مسئولية القارئ تجاه النص .فبالإضافة إلى مسئولية المشاركة في تشكيل العالم المتخيل فيها عبر مراكمةإحالاته ، فان (القارورة) بمخاتلتها القارئ بتمويه الميتاقصي تضعه اماممسئولية أخرى تتمثل في تقصي واستكشاف الميتاقصي المضمر واستجلاء دوره فيتشكل بنية الخطاب السردي وتأسيس جمالياته وقسماته الفنية. يتأسس المكونالميتاقصي (القارورة) عبر ثلاث ممارسات سردية : المحاكاة الباروديةالقائمة على الاستحواذ على الحكاية الشعبية واعادة كتابتها ، تأمل وكشفدافعية وغرضية السرد وتمثيل الطبيعة الحوارية للرواية.
    من نافذة الحكاية الشعبية(الحكايات الثلاث) يتسلل الميتاقصي إلى الخطاب في(القارورة) ، أقول بتسلله لأن المؤلف الضمني-اسميه العنكبوت الميتاقصيأيضا-يستحوذ على حكاية غزوى البدوية بالتحديد ، ليحاكيها باروديا ، ويعمدإلى حجب حقيقة المحاكاة كما يفعل مع تسلل العنكبوت ، عدا اشارات ينثرهاهنا وهناك في المتن ، تكون عند الانتباه إليها مفاتيح لكشف اللعبة فيالرواية. إن قصة منيرة الساهي هي قصة غزوى معشوقة الجني الذي يستوطن حصانأخيها غازي، بعد أن اشتغل عليها المؤلف الضمني تغييرا وتحويلا لنزعمألوفيتها ، وما المحاكاة مفهوما سوى تحويل للمحاكى، وتحويل الحكاية الأصلفي (القارورة) يتم عبر أربع استراتيجيات سردية 1 ) الإزاحة الزمكانيةللحدث ، من زمن الشفاهة إلى زمن الكتابة ، العقد الأخير من القرن العشرين،ومن مكان غير معلوم إلى الرياض المتخيلة؛ (2) تغيير الأسماء؛ (3) تغييرزاوية الرؤية (الصوت والتبئير)؛ (4) فتح الخطاب السردي على حكايات أخرىغير حكاية منيرة الساهي ، ليساهم هذا الفتح ، من ناحية، في تمويه التشابهبين المحاكى والمحاكي ؛ ومن ناحية أخرى ، لتدعيم المكون الميتاقصي ، إذيهيئ هذا الانفتاح المجال للتعليق الميتاقصي المضمر على الحكاية والروايةوالتاريخ.
    عندما تخرج الطفلة منيرة الساهي من مسابقة الحكي/القص فائزة بالقارورة ،جائزة من جدتها ، يكون المؤلف الضمني قد سل من الحكاية التي ترويهاشقيقتها نورة ثيمتها الرئيسة ليبني عليها حكاية منيرة الساهي وحسن العاصي.تسلل المؤلف الضمني بالثيمة يسبق تسلل السارد على محور الخطاب فياستهلالية الرواية ، ويقع قبل تسلل العنكبوت وتسلل حسن العاصي إلى حياةمنيرة الساهي على محور القصة. إن تسلل حسن العاصي إلى عالم منيرة الخاصوإمطارها باتصالاته الهاتفية هو محاكاة لمطاردة الحصان المسكون العاشقلغزوى بعد هروبها إلى الصحراء بعد اكتشافه وجودها في الغرفة فوق الأسطبل،حيث يخفيها أخوها بعيدا عن أعين الحصان الذي يهيج و يرفع صوته بالصهيلكلما يراها. يطارد الجني العاشق غزوى مسخرا جسد الحصان لرغبته ، أماالجندي المراسل العنكبوت حسن العاصي فينتحل شخصية ووظيفة الرائد عليالدحال ليتسلل إلى منيرة الساهي على صهوة فرسه البيضاء من أفق الكتابة(26) ، عن طريق الهاتف الذي لم يتوقف عن الصهيل ليلة 13 يوليو 1990 ، وهيبمفردها ، في الفيلا الخالية من الآخرين عدا الخادمة. تكتب منيرة: كنتأتمنى لو لم أقطع جملتي...لو لم أتوقف ، وأضع القلم جانبا ، لأجيب علىصهيل الهاتف ، هل كان صهيلا؟ ربما(25).
    السؤال هل كان صهيلا واضح الدلالة من منظور هذه القراءة ، يضعه المؤلفالضمني في فم منيرة ليشير بمواربة إلى صهيل الحصان الجني عاشق غزوى،وليلمح أيضا إلى كيف أن الحكايات الشعبية تشغل حيزا في ذاكرتها. لكن ربماتكشف عدم تيقن منيرة من أن رنين الهاتف كان صهيلا بالفعل. لم يكن رنينالهاتف صهيلا ،لكن يبدو أن المؤلف الضمني وهو يكتب هذه الفقرة ، أو حتىقبل كتابتها ، كان صهيل الحصان الجني يدوي في ذاكرته ، فأراد بالصهيل أنيكون أحد الخيوط الرفيعة التي تربط النص المحاكي بالأصل ، لكون صهيلالهاتف، مثل صهيل الحصان في حكاية غزوى، يمثل النذير بالخطر المذكر الذييتربص بالأنثى منيرة. تتضح رمزية الصهيل وعلاقته بالخطر حين يعود رنينالهاتف إلى كونه رنينا عندما يتصل حسن العاصي فجرا بعد الفضيحة: حين رنالهاتف قرب الفجر ، لم يكن رنينه صهيلا كما في الثالث عشر من يوليوالماضي، كان يشبه حشرجة امرأة عجوز توشك أن تدلف إلى حمامها كي تتوضأ(184).
    لم يكن رنين الهاتف صهيلا لأن الخطر زال ، والخطر مرتبط دائما بالصهيل أوالعكس في (القارورة). يقدم النص مثالا آخر عن هذه الارتباطية في وصف صوتصواريخ سكود القادمة من العراق أثناء الحرب بالصهيل أثناء عودة حمد الساهيالى البيت تتبعه غاسلة الموتي في سيارة ابن اختها: كانت تركب في المقعدالخلفي ، بينما عينا ابن اختها...تتابعان لوحة سيارة الأب...والمدينةتترقب صهيل صاروخ سكود آخر ، يطوي المسافات من فم البلد الشمالي (41). ومنفم البلد الشمالي تخرج شبكة عنكبوت أيضا ، حكاية تعيد كتابة تاريخ الكويتالدولة المستقلة لتصبح الفرع الذي انفصل عن الأصل ، ولهذا تجتاحها جيوشالعنكبوت صدام حسين ، بطل قادسية القرن العشرين ، الذي يصبح بطل استردادالكويت ، وبطل توزيع الثروة في عيون الملايين من العرب الذين يعلقونبحكايته الشبكة. وبعد عقد ونيف ، يجد العنكبوت العراقي نفسه في مواجهةالحكاية الامريكية عن اسلحة التدمير الشامل ، لينتهي الأمر به طريدا الىحين يلقى القبض عليه في "دحل" حسب الحكاية الأمريكية. هو التاريخ حكايةتتبعها حكاية ، وحكاية تنقضها حكاية ، وحكاية تعاد كتابتها كما تهمسالرواية بانفتاحها على غزو الكويت، وحكاية تتنصر على حكاية، وحسن العاصييحقق انتصاره (الفضيحة) لأنه بطل الحكاية والسيناريو الذي تلعب فيه منيرةالساهي دور البطلة المخدوعة.
    بعد تحدثها مع العاصي، عبر الهاتف الذي يملأ المكان صهيلا، تلقي منيرةبجسدها في حضن سريرها ، وترى وهي بين النوم والصحو علي الدحال (العاصي)يقف بجسد هلامي على مدخل الغرفة(28) بهيئة مخلوق نصفه العلوي جسد إنسانوجزؤه السلفي هلامي ...كأنه عفريت المصباح السحري(28). بهذا الوصف تقومحكاية منيرة بالتفاتة اعتراف أخرى إلى الحكاية الأصل ، وبالذات إلى حصانالأخ المسكون بالجني عاشق غزوى. يبدو توضيحا للواضح الإشارة هنا إلى أنالخطر الذي يداهم عالم الفتاتين يأتي من جهة الأخوين الغائبين عن مشهدالحدث في الحكاية والرواية: غازي في مكان لا تشير الحكاية إليه لما يشمالحصان(المسكون) رائحة غزوى فيخترق برأسه الصاهل أرضية الغرفة فوق الإسطبل, وصالح الساهي في دورة عسكرية في لندن.
    الكتابة موهبة منيرة والاختلاف الأكثر أهمية من الاختلافات بينها وغزوىالبدوية ، وبسبب الكتابة يرفس الرائد صالح الساهي الجندي حسن العاصي فيجئالأخير على أفقها لينتقم من رافسه بشقيقته ، والإعجاب بكتابة شقيقة رئيسههي الشبكة التي يغزلها للإيقاع بها ثأرا لكرامته المهدرة ، والكتابة عقدالنكاح الذي يربط منيرة المخدوعة بالمخادع ، والكتابة وثيقة الطلاق/الخلاصالذي يحررها منه. عندما تفكر منيرة أن تمحو أي أثر للعاصي من حياتها ،تخطر ببالها فكرة تقطيع الوثيقة بالمـ(قص) . تبحث عن المقص ، ولما لم تعثرعليه تحرق الوثيقة بلهب الشمعة: فتشت بنزق في أدراج التسريحة عن مقص،تذكرت المقص في حكاية الرجل الذي ترك بناته الثلاث في الصحراء...الحكايةالتي حصلت بسببها على قارورة الأسرار والحكايات الحزينة. ثم واصلت البحثدون جدوى ، لكنها وجدت نفسها تقترب شيئا فشيئا من لهب الشمعة الصغيرالمتأرجح(220). تقترب منيرة من الشمعة بعد يأسها من العثور على المقص ،وهنا تلمح يد المؤلف الضمني، في هذه اللحظة السردية القصيرة، وهي تقربهامن الحكايات الثلاث التي تنتهي كلها بحدث (قص) ثم تدفعها بعيدا عنها، أيأنها تكتب ثم تمحو، على نحو خاص، امتداد جذور منيرة إلى حكاية غزوى.
    لا تعثر منيرة على المقص لأن العنكبوت الميتاقصي قام بإخفائه لسبب أناستعمالها المقص في (قص) وثيقة الطلاق قد يعري تماما القرابة بينها وغزوى،التي تتخلص من الحصان المسكون بقذف مقصها في فمه المفغور انتظارا لسقوطهافيه ، وهذا ما لا يبدو متسقا، لو يحدث ، مع لعبته القائمة على الإخفاء.وإذا اقتضت شروط اللعبة الإفصاح، خصوصا فيما يتعلق بالتشابه بينحكايتيهما، فالكشف يأتي تلميحا وبمواربة وليس تصريحا، وهذا ما يحدث حينيسرد السارد العليم عن منيرة وهي تبحث عن المقص لتمزيق الوثيقة بوحي منحكاية الأب الذي يتخلص من بناته الثلاث في الصحراء بقص طرف شماغه الذيتتوسده ابنته الصغرى. تذكر منيرة لهذه الحكاية في هذا الموقف وسيلة المؤلفالضمني للتلميح إلى علاقة التشابه بين الفتاتين، دون التورط في فضح سر منأسرار لعبته، هذا ما أقصد تجليته بالتحديد بلفت الانتباه آنفا إلى قيام يدالمؤلف الضمني بالكتابة ثم المحو.
    إن اختفاء المقص يقتضيه اكتمال شروط اللعبة الميتاقصية واستمرارها الىالنهاية ، وذلك لأن الصفة البارودية لأي نص تتخلق ، قبل كل شئ، عبر اشتغالالمؤلف على توليد تضادية المشابهة والمغايرة بين النص المحاكي والمحاكى.بكلمات هتشيون، إن الباروديا...هي استكشاف الاختلاف والتشابه (25). فلووجدت منيرة المقص وقامت بتقطيع الوثيقة فان ما ينتج هو نص على حد كبير منالتطابق مع النص الأول، وفي هذه الحال، يغدو ادعاء النص الثاني بأنهباروديا مفتقرا الى القدرة على الصمود امام المساءلة والتفنيد النقدي.والمغايرة في حكاية منيرة تنشأ ، بشكل رئيس، خلال قيامهابالقص--القص/السرد الذي تفرغ منه قبل تفكيرها في المقص. السرد والكتابةهما أهم مكونات اختلافها عن غزوى، التي تواجه الحصان الجني بأدواتهاالأنثوية عندما يقف اسفل الشجرة منتظرا سقوطها. تقذف ملابسها في فمه أولا، ثم القدر ، ثم المقص الذي يقص/يقطع أنفاسه فيموت. وهذا يعني أن غزوىتقذف ،في جوف الحصان الى أن تقتله، بالأدوات التي تستخدمها في القيامبدورها المحدد والمرسوم من قبل المجتمع. أما مواجهة منيرة الساهي مع حسنالعاصي، فهي مواجهة لغوية خطابية تتم على مرحلتين. في المرحلة الأولىتواجهه باللغة أو الخطاب الشرعي ، وفي الثانية تكون الكتابة السردية هيالأداة في المواجهة.
    ما يبدو تدعيما للمغايرة بين الفتاتين وللمكون الميتاقصي في نفس الوقت أنمنيرة الساهي ،الشخصية الروائية الخارجة فكرة من الحكاية الشعبية، تعيشبوعي تلعب الروايات التي تقرأها دورا كبيرا في تشكيله وتستعير لها أحلاماورفاقا وعشاقا من صفحات الروايات والأفلام. تهرب من جفاف عالمها الحقيقيفي العالم المتخيل في (القارورة)، ومن حكايات أخيها محمد عن كراماتالمجاهدين الأفغان إلى نداوة وإثارية العوالم المتخيلة في الرواياتالمترجمة "فوق رفوف مكتبتها الصغيرة...روايات هنري ميللر ، وإيزابيلالليندي" ، و في السرير تتخيل حبيبها "الممثل حسين فهمي يضطجع قربها"(48).
    لو كان حسين فهمي جيف دانيالز لخرج على منيرة من شاشة التلفاز كما يخرججيف(في دور توم باكستر) من الشاشة الفضية ليقابل مايا فارو(في دورسيسيليا) في الميتافيلم( The Purple Rose of Cairo, 1985). في ثلاثيناتالقرن الماضي والركود الاقتصادي العظيم يلقي بثقله على الحياة في الولاياتالمتحدة الامريكية ، كانت دور السينما الملاذ الذي يلجأ اليه الملايين منالامريكيين هربا من حياة صعبة وكالحة بالغياب في الحلم بأيام وحياة افضلوجميلة كما في الأفلام التي يشاهدونها. هذه هو الواقع في نيوجيرسي الذييصوره الميتافيلم الذي يتضمن فيلما يحمل الاسم نفسه. كل مساء بعد أن تنتهينوبتها في المطعم الذي تعمل فيه نادلة ، تذهب سيسيليا إلى دار السينمالتشاهد الفيلم داخل الفيلم إلى أن تقع في حب بطله توم باكستر، ويقع بدورهفي حبها بعد تكرر مشاهدتها للفيلم ، فيخرج إليها من الشاشة. لكنه يعود إلىالفيلم بعد أن يدرك تعذر استمراره في العيش في الواقع الموضوعي خارجالفيلم ، والذي لايعرف عنه أو عن الحياة أكثر مما يعرفه عنها من الفيلمالذي يعيش فيه، اذا صح التعبير. لما تعود سيسيليا في مساء تال إلى السينماتكتشف بدء عرض فيلم جديد(Top Hat) ، تغرورق عيناها بالدموع وهي تشاهد فريدأستير وجنجر روجرز وهما يرقصان ويغنيان ، فتفيق أثناء مشاهدة الفيلم منالحلم على الحقيقة ، لتعود إلى زوجها العاطل،
    الرواية مثل الفيلم أو العكس، كل منهما يهب أوقاتا للهروب نحو أحلامتستعار لفترة القراءة أو المشاهدة وخوض بطولات وهمية بالإنابة(vicariously). في الفقرة السابقة عن عشق منيرة للروايات لما تزخر به منعوالم مثيرة تلبي إيهاميا حاجاتها النفسية والعاطفية ، يرفع العنكبوتالميتاقصي رأسه ليفرز في الخطاب السردي خيطا رفيعا من التعليق على قدرةالرواية على الإغواء بتقديمها عوالم تنافس العالم الامبيريقي(هتشيون ،77). إلى مثل هذه العوالم المنافسة تهرب منيرة ،وربما يهرب إليها كثيرونمن قراء الرواية. تلعب هذا الفقرة دور المرآة التي ينصبها العنكبوتالميتاقصي أمام الرواية (القارورة) لتتأمل صورتها باعتبارها مصدرا محتملاللإغواء، ويضعها (المرآة) أيضا أمام القارئ لتفضح صورة نفسه أمام نفسه وهويقرأ هذه الفقرة بالذات، فمن المحتمل أن يلحظ أنه هارب مثل منيرة ، أو أنهيرى صورته في منيرة، وقد يكون ادراك هذا باعثا للتماهي معها. وقد يكونالاثنان أيضا ، منيرة المرأة من كلمات والقارئ كتلة اللحم والدم، مثلأولئك الناس المنعزلين ، غالبا وسط جماعات من الغرباء، يجلسون بإذعان ،صامتين ، منحنين كالأجنة تقريبا فوق حزمة صغيرة من الورق، في الواقع صغيرةإلى حد السخف (لينارد ديفيس , Resisting Novels,2). وربما يكون قارئ(القارورة) مثل ديفيس نفسه ، عاشق الرواية بامتياز، الذي تولد إحساسهبذاته من صفحات الروايات التي قرأها بنفس درجة تولده من عيشه في شقة منشقق الطبقة العاملة في البرونكس حيث تشكل وعيه(ديفيس ، 2). إن وضع خطةلكتاب يعني تخطيط هروب للقارئ (هتشيون، 53)، والروائيون مخططون بارعونلفرص هروب بمستوى عال من القدرة على الإغراء. يقول ذلك العنكبوت الميتاقصيفي (القارورة) عبر منيرة عن الروايات التي تقرأها، ويقول ذلك أيضا بطريقتهالملتوية عن (القارورة)،وأضيف ، عن أية رواية.
    تعود (القارورة) إلى حكاية غزوى وتخفي عودتها ، أو كما ذكرت آنفا ، تستحوذعلى الحكاية وتعيد كتابتها. عودة "القارورة" إيماءة اعتراف بواحد منأسلافها، ودعوة غير مباشرة ، من منظور ميتاقصي، إلى الالتفات إلى ذلكالسلف لتوافره على مضامين ومحمولات ترميزية وثيماتية يمكن استثمارها فيكتابة اعمال سردية تعالج هموم وقضايا معاصرة مثل قضايا القمع والاستبدادالذكوري الذي يطال المرأة. لكن العنكبوت الميتاقصي يحيك تهكما ونقدامستبطنين للحكاية الشعبية ،كاشفا محدودية إمكاناتها للتعبير عن كل قضاياالمرأة المعاصرة الأكثر عددا وتعقيدا من قضايا المرأة في زمن كانت الحكايةالشعبية فيه وسيلة تعبير وتعليم وتسلية ، وأحد أوعية حفظ الذاكرة الثقافية.
    رجوع (القارورة) إلى الحكاية يشابه الى حد ما رجوع الفيلم الكوميدي الرومانسي
    (Pretty Woman,1990) إلى حكاية سندريللا ليقلبها رأسا على عقب ، فسندريللاالقرن العشرين ليست الفتاة اليتمية التي تعاني الاستغلال والظلم من زوجةالأب ، انما هى فيفيان وورد (جوليا روبرتس) التي تتسكع في هوليوود بوليفار، والأمير هو رجل الأعمال ادوارد لويس(ريتشارد غير). على النقيض من(القارورة) التي لا تفشي علاقتها بالحكاية الأصل ، يشير الفيلم إلىسندريللا بإحالة تهكمية خلال واحد من حوارات فيفيان مع زميلتها في المهنةكت دي لوكا (لورا سان جياكومو)، حيث يرد اسم سندريللا محرفا ، اكتبهبطريقة الترجمة العربية للأفلام الأجنبية-(سندر/تبا/يللا(.
    بالإضافة إلى خلوها حتى مما يدنو من التلميح الى غزوى بصفتها النموذجالأولي لشخصية منيرة كما يفعل الفيلم ولو بتحريف اسم سندريللا، لاتتضمن(القارورة) نقدا صريحا للحكاية يرد على لسان الروائي العليم، بل هذا مايستنتجه القارئ بمقابلة ومقارنة الحكايات الشعبية الثلاث بالحكاية التيتغزلها العنكبوت منيرة الساهي من تفاصيل وخيوط فضيحة زواجها الزائف ، ومنقصص فتيات و نساء أخريات يتعرضن للاستغلال والعنف المذكر: صديقتها نبيلةالتي يتحرش بها زوج أمها، الفتاة التي يقتلها أبوها غسلا للعار، فاطمةالحساوية التي يعدها معيض بالزواج ثم يتركها بعد أن تحمل منه سفاحا، حسناءمدمنة المخدرات، ميثاء قاتلة زوجها العجوز الذي تتزوجه قسرا. حتى المرأةممثلة في العاملات بـ(دار الفتيات) تظهر في حكاية منيرة متورطة في إلحاقالأذى بالمرأة وإذلالها ، هذا ما يستشف من تحول جلد السجينات(فطورالكلاوي) الى فرجة ومصدر للمتعة للعاملات في الدار. هذه الصور السرديةلمعاناة المرأة هي الحكايات (الخبيئة) المكبوتة التي تراها منيرة الساهيوهي تتخيل نفسها محلقة في الهواء أثناء حضورها في المحكمة، "لا أعرف كيفرأيت أنني أرتفع بالعباءة المنفوخة بالهواء وكأنها منطاد. أرتفع قليلاقليلا...ثم أعلو قليلا فأرى...سطوح المنازل..تمور بحكايات خبيئة. أعلوأكثر فأكثر ، فأرى أختي منى وزميلتي نبيلة، أرى فاطمة الحساوية ميثاءالبدوية..." (199).
    انفتاح حكاية منيرة على قصص هؤلاء النساء هو واحدة من الاستراتيجياتالسردية التي يوظفها المؤلف الضمني لتعميق البعد البارودي الميتاقصي بكشفالكيفية التي تلتقي بها (القارورة) مع وتفارق الحكاية الشعبية، التي تومئالى ثلاثة مصادر للخطر المحتمل على المرأة: الجن/الجني الذكر، العجوزالمحتالة ، زوجة الأب الإمعة. لكن منيرة الساهي تسرد حكاية يتجلى الخطرفيها أكثر تنوعا في مصادره على نحو لا يبدو أن الحكواتي القديم كان قادراعلى تخيله وبالتالي التهيئة والإعداد له ، على أساس أن من وظائف الحكايةالوعظ والتهيئة لغير المتوقع. وغير المتوقع، الذي لم يتوقعه المؤلف القديملحكاية الجني العاشق بشكل خاص ، هو أن يأتي الخطر للفتاة والمرأة ، ليس منجني قادر على التحول الى حصان أو حيوان آخر، بل من إنسان يملك القدرة علىالتحول مجازيا إلى عنكبوت يغزل من الكلمات مصيدة ينصبها أمام فريستهالمستهدفة. هذا ما يفعله حسن العاصي حين يعصي أمر رئيسه الرائد صالحالساهي و يتحول من عاص إلى دحال ، والدحال لغة المخادع و الصياد بالدواحيل، والدواحيل المصائد التي ينصبها لاصطياد الظباء ، والظبية منيرة الساهيتسقط في الدحل الذي ينصبه الرجل العنكبوت وصياد النساء الغزاليات حسنالعاصي، في غياب (سهو) أخيها صالح الساهي في لندن ، وغياب (سهو) أهلهالوجودهم خارج البيت.
    شبكة العنكبوت حسن العاصي لفظية، قصة ملفقة ، دحل مصنوع من كلمات ترويحكاية إعجابه بكتابات(كلمات) الفريسة الظبية منيرة الساهي ، وتحوله من عاصإلى دحال هو تحول لغوي أولا ، يعاضد تحوله مجازيا إلى عنكبوت ويعزز صفتيالمكر و الخبث فيه. هذا التحول في الأصل تدبير المؤلف الضمني الذي يلعبهنا لعبة ميتاقصية أخرى ليضفر خيطا ميتاقصيا آخر في نسيج الخطاب السردي فيروايته، بطريقة تستدعي للذاكرة بعض الروائيين الميتاقصيين في تسميتهمالشخصيات في رواياتهم بأسماء تصفها كما تسميها ، محاكاة لروائيي القرنالثامن عشر (باتريشيا وو ، 94Metafiction ).

    لا تكتفي(القارورة) بالتهكم تلميحا إلى عجز الحكاية عن تهيئة منيرة لغيرالمتوقع، بل تتعدى ذلك إلى فضح إسهامها، على لسان منيرة نفسها، في وقوعالفضيحة التي تتورط فيها، فحكاية سليمان بن عافية ، بشكل خاص ، احدالأسباب التي تحول دون اكتشاف منيرة حسن العاصي على حقيقته. يرى القارئمنيرة وهي تفكر ثم تتوقف عن التفكير في فتح الحقيبة المملوءة بالحجارةالتي يودعها لديها حسن العاصي أمانة إلى حين عودته مما يدعي أنها مهمة"لتخليص شخصية مهمة مفقودة في الكويت" (101). لو فتحت منيرة الحقيبةلاكتشفت زيف العاصي الجندي المتنكر في ثياب رائد. لكنها لم تفعل لأنهاتقمع فضولها لمعرفة محتويات الحقيبة خشية أن تلاقي مصيرا مشابها لمصير"أخت التاجر الجوال ، التي تزوجت من الجني سليمان بن عافية" (102) وقتلهابعد أن تجرأت على فتح الغرفة رقم (40) ورأت جثث قتلى الجنى المعلقة.
    الحكاية إحدى وسائل المجتمعات القديمة للمحافظة على ثقافتها وتوريثها منجيل لجيل ، ومن آليات الحفاظ على الوضع القائم بهيكليته وتراتبيته الطبقيةوعلاقات القوة وتوزيع الأدوار بين الجنسين.
    حكاية سليمان بن عافية تنطوي على موعظة عن خطر الفضول على المرأة لما قديسببه لها من أذى وضرر قد يصل إلى حد القتل. تحمل الحكاية تحذيرا للأنثىمن الفضول ، ليس بسبب الفضول لذاته، بل لما قد يؤدي إليه من نتائج تشكلتهديدا وزعزعة للوضع القائم. الفضول هو التعبير عن التوق للمعرفة،والمعرفة تنتج القوة ، وامتلاك المرأة للقوة يعني تمردها على الدوروالمكانة اللذين حددتهما ورصفتهما ثقافة المجتمع.
    بالنظر إليه من هذه الزاوية، يكون الفضول عند المرأة ، حسب التصورالتقليدي، البداية و المحرض على الخروج على السائد الثقافي ، أو الخروج منحالة الاعوجاج بصفتها امرأة خلقت من ضلع أعوج كما تقول أم منيرة لإبنتهاحين تنصحها بابقاء مشاعرها وانفعالاتها في داخلها. ورغم أن منيرة (ترتق)اعوجاجها بالكلام/الكتابة والبحث رغما عن أنف القبيلة: "أن أفكر وأبحثوأتساءل ، فهذا يعني أنني بدأت انبجس نحو الخارج" (71)، فإن إذعانهاللموعظة في الحكاية وإن بدا غير منطقي ، فانه يبدو خلاف ذلك إذا تماعتباره دليلا على أن (انبجاسها) للخارج لم يكن كاملا ، إذ لا تزال تحتهيمنة النسق الثقافي، لا تزال حسب اعترافها "الأنثى مهضومة الجناح"(70)كما يراها الآخرون ، التي تستقبل وهي مستلقية ولا تتمتع بأي قدر منالاستقلالية. يلمس فيما تقوله تبرير ونقد ذاتي لانخداعها بسهولة مفرطة ،لاتتناسب مع امرأة مثقفة، بما يسكبه حسن العاصي في أذنها من الكلام المعسولالذي يخلقها به من جديد حسب سردها.
    بناء على الاقتراح أن ممارسة منيرة للكتابة هي بداية خروج لم يكتمل علىالسائد والرؤية التقليدية إلى المرأة، فان سردها/كتابتها لحكايتها يمكناعتباره مرحلة جديدة من الخروج أو الانبجاس للخارج، اضافة الى كونها طريقةأخرى يوظفها العنكبوت الميتاقصي لخلق فرق آخر بينها وحكاية غزوى لتمويهالعلاقة بالقصة الأصل، المروية بالضمير الغائب ، إلا أثناء مطاردة الجنيلغزوى وقتلها إياه بالمقص، حيث تتكلم غزوى مع العبدة أو الحصان حين تطلبمنه أن يفتح فمه.
    قيام شخص ما بالسرد يعني امتلاكه لمعرفة كما يدل الفعل يروي/يسرد بالإنجليزية
    (narrate) المتحدر من الفعل اللاتيني (narrare) من (gnarus ، معرفة). إنارتباط السرد بالمعرفة يعني ارتباطه بالقوة والسلطة وتعبيره عن فاعليةالذات الساردة وقدرتها على أحداث تغيير، فالسرد فعل له القدرة على التغيير، وبالذات تغيير علاقة السارد بالمسرود له (روس تشيمبر, Story andSituation 74). وليس ثمة دليل يبرهن على قدرة السرد على تغيير العلاقة بينالسارد والمسرود له أكثر مما تفعله شهرزاد في توظيفها الحكاية للتأثير علىشهريار ، فيتأجل موتها ليلة بعد ليلة، إلى أن تصبح أما لثلاثة أطفال ذكوربدلا من زوجة لليلة واحدة.
    معرفة منيرة تجربتها مع صائدها العاصي ورصيدها الثقافي والمعرفي وقدرتهاعلى الكتابة وتجارب النساء الأخريات، ومن تستهدف تغييره، في المقام الأول،ليس سوى نفسها، فمنيرة التي تكتب في مذكراتها أحداث وتفاصيل الفضيحة هيمنيرة السارد/الفاعل في مواجهة منيرة المخدوعة/المفعول، هي الساردوالمسرود له وعنه في آن. تنطلق في سردها من معرفة في اتجاه معرفة مأمولةتكون إجابة عن السؤال الذي تطرحه "على روحها" في بداية الرواية، وينقلهالسارد الذي يتسلل إلى داخلها: "لم حدث كل هذا؟(10). بتصوير منيرة وهيتواجه نفسها بالسؤال السابق يكشف المؤلف الضمني دافعية السرد في حكايتها،إذ لا يسرد أي سارد عبثا وبدون أي هدف، ففي كل موقف سردي ثمة "شخص ما يرويقصة ما لشخص ما في مناسبة ما من أجل غرض ما"(جيم فيلنNarrative AsRhetoric, 6,). ومنيرة تكتب وتسرد ، في الأصل، لنفسها لهدف اكتشاف ومعرفةلم وقع الخطأ, لتكون معرفة الـ(لم) هذه شرطا لبدء التغير في ذاتهاوتجاوزها التجربة، لكن كتابتها أيضا إخراج للحكايات (الخبيئة) من الصمتوالكبت الى فضاء التعبير الجمالي السردي.
    القص الحكي والسرد، وليس القص القطع كما في الحكايات الثلاث، هو وسيلةمنيرة للتخطي والخلاص من تبعات التجربة، و أداة لكشف وتعرية الذات وفضحمسئوليتها تجاه ما حدث، وفي الوقت ذاته لتطهيرها من نوبات الشعور بالذنبومن الميل لتأثيم الذات وجلدها. وفيما يبدو مكملا لعملية تطهير الذات عبرالكتابة ، تدخل منيرة الحمام بعد انتهائها من الكتابة وحرق وثيقة الطلاقلتقف تحت حبيبات الماء فكأنها تريد ازالة آثار لمسات حسن العاصي عن جسدها.ولكن ما هو هام أيضا من منظور هذه المقاربة انه عندما تقول إن نرجسيتهاكانت سببا في عدم اكتشافها خداع العاصي ، فإنها تضع إصبعها على مكمن العطبوالخلل في الذات ويبدو ذلك بداية للتغير. لهذا يمكن قراءة انفتاح حكايتهاعلى قصص تجارب النساء الأخريات على انه مؤشر إلى تجاوز الهم الذاتي الفرديإلى الهم النسوي الجمعي. بتجاور قصص أولئك الفتيات والنساء مع قصة منيرةمع العاصي يتشكل معرض من صور سردية تعرض معاناة المرأة وأشكال القهروالإستغلال الذي تتعرض له. يقوم هذا المعرض بوظيفة البديل أو المعادللمعرض صورها التي تحيط بها، والموزعة في كل زاوية من جناحها حتى علىسيراميك الحمام. بمقابلة هذين المعرضين، اللفظي والبصري ، يتضح ما أقترحأنه خروج من الذاتي والخاص إلى الجمعي والعام في حكاية منيرة، وذلكباستيعابها بعض قصص النساء اللاتي يعشن الصمت كما تقول في معرض سردها لقصةزميلتها نبيلة التي تتعرض للتحرش الجنسي من زوج أمها، لكنها تؤثر الصمتعلى الكلام تضحية من أجل "بيت كامل ، وأسرة مستقرة، إذ مجرد التلميح بذلكسيفجر أركان المنزل ، ويزلزل سكونه"
    (30).
    والقص أيضا أداة تستخدمها للاقتصاص من حسن العاصي عبر تحويله منفاعل/دحال/مخادع إلى مفعول، إلى موضوع للسرد، مسرود لا سارد كما في حكايتهالتي يختلقها عن إعجابه ويلعب فيها دور البطولة، و تحويله أيضا الى هدفلمقت القارئ في حال تعاطف وتماهي الأخير مع منيرة الساردة والمبئرة فيحكايتها. خلال الحكاية لا يرى القارئ حسن العاصي إلا من منظور الساردة ،ولا يسمعه إلا عندما تشاء. يراه محتالا، ويراه فأرا ، كما تصفه ، عالقابحكايتها المصيدة، وحشرة متشرنقة العيون بمصيدة قمصانها الحريرية:"بعد أنصرت أقابل خطيبي ، بدأت أتعمد أن ارتدي البيور سلك دون حامل الصدر، حتىتتشرنق عيناه مثل حشرة في مصيدة عنكبوت"(59). تطلق منيرة هذه الأسماء علىالعاصي أما في المرحلة الأخيرة من علاقتها به ، أي بعد انفضاح أمره ، أوأثناء نسج/تخطيب القصة (تحويلها إلى خطاب سردي). تمكن الكتابة منيرة منالسيطرة على التجربة بمنحها شكلا فنيا، ومن ممارسة السلطة اللغوية علىالعاصي. الحكي بالنسبة لها فعل تقوية للذات وسبيل لتأكيد فاعليتها، وتبادلالأدوار بينها والعاصي. العاصي هو (البطل) في القصة وهي (البطلة) لحظةالسرد ، صاحبة الرؤية، المتحكمة بعملية السرد وتحديد ما يسرد وكيف يسردومتى . ويمتد مجال سلطتها على القارئ الذي يصعب تصور عدم تأثره بما تقولوكيف تقوله حتى لو يقاوم ذلك ، خصوصا عندما يؤدي به التعاطف معها إلى حدتلقى الحكاية بسلبية مطلقة تمحو المسافة التي ينبغي وجودها بين القارئوالنص لمحاورته ومقابلته بالأسئلة. إن التلقي السلبي لحكايتها الشبكة يوديبالقارئ إلى التشرنق بها ، مثل تشرنق عيون العاصي في قمصانها المصيدة.
    لكن اصطياد منيرة للعاصي بفخاخ جسدها (عيونها وصدرها) لا يجعل منهاعنكبوتا بمعنى خالقة عوالم، وان يكن اصطيادها له بارتداء القمصان الرقيقةالشافة ذا صلة لغوية بشبكة العنكبوت والنسيج معا ، لالتقاء المفهومين(شبكة/نسيج و قماش/ثوب رقيق) تحت المظلة الدلالية للكلمةالإنجليزية(gossamer) التي تعني شبكة العنكبوت الطافية في الهواء(لعابالشمس) والقماش الناعم الخفيف جدا. في القصة، إذن، تتوسل منيرة الساهيبملابس مصنوعة من نسيج عنكبوتي لإيقاد التهيج الايروسي في حسن العاصي،فيما يشبه التمهيد لتحولها إلى عنكبوت تنسج حكاية الفضيحة. بشكل بليغالدلالة والأهمية لهذه القراءة، تصف منيرة كتابتها الحكاية بالنسج: "كنتأفكر قبل أن أوقف قلمي عن نسج المأساة ، كيف لقارورة أسراري أن تتسع لكلهذه الأحزان؟ كيف تستوعب دون أن تتفجر وتتشظى؟"
    (186). إذن بالرجوع إلى تسلل العنكبوت إلى فراشها، يتضح كيف يمكن قراءةظهوره في غرفتها على انه يشتغل رمزيا في اتجاهين مختلفين ، فهو ينذرباقتحام العنكبوت العاصي حياتها ، ويؤذن، وهل أقول يبشر، بتطورها وتحولهامن كاتبة زاوية في جريدة الى عنكبوت ، الى خالقة عوالم - كاتبة قصة أورواية- بعد خوضها التجربة.
    لا تنسج العنكبوت منيرة مأساتها فقط، إنما مآسي نساء أخريات، تضاف خيطابعد خيط ، ليجد القارئ نفسه عالقا بالحكاية ، وما أن يتوهم أن خيطالسرد/النسج أوشك على الانتهاء ، حتى تدلي الساردة أمامه خيطا جديدا ليعلقبه، حكاية أخرى عن امرأة أخرى ، أو سردا لتطور الحدث الرئيس، وان لم تفعلمنيرة الساهي ذلك فان السارد العليم يغويه بفتح السرد على آفاق أخرى، منهذين الخطابين الداخلين في علاقة تكاملية تتشكل البنية السردية في(القارورة) ، وبهذه التكاملية تدعم (القارورة) ميتاقصيتها ، فكلما يتقدمالسرد تبدو القراءة ، في بعد من أبعادها، استكشافا لحوارية وهيتروغلوسيافي الصيرورة ،والخطاب السردي في (القارورة) ذو بنية تعددية مركبة منحكايات شعبية وحكايات والمجاهدين وأحداث تاريخية (غزو الكويت وحرب الخليجالثانية ، وقيادة النساء السيارات)، والأغاني ، والأشرطة الدينية،حوارات/كلام الشخصيات، مذكرات منيرة الشخصية وما تحتويه من قصص النساء في(دار الفتيات) وقصص أخواتها وإخوانها وأبيها.
    ولعل أقرب الأمثلة ما يفعله الروائي الجنوب افريقي جي. أم. كوتسي فيروايته (Foe) المحاكاة البارودية لرواية (روبنسون كروزو) للروائيالانجليزي دانيل ديفو. لم يفطن محبرو المراجعات الصحفية العربية لهذهالرواية ،بعد فوز كوتسي بجائزة نوبل ، إلى أنه يلعب لعبة ميتاقصية علىالكلمة فترجموا عنوان الرواية إلى (خصم ، عدو ) ، رغم أن (Foe) اسم شخصيةفي الرواية ، ما يعني بالتالي اشكالية ترجمتها ، وملاءمة كتابتها كما تنطق(فو) ، إضافة إلى عدم انتباههم إلى أن هنالك لعبة تجري على مستوى آخرميتاقصي ، وأن كوتسي باستخدام هذه الكلمة يلغي المضاف إلى اسم دانيل ديفو، أي يعيد الاسم الأخير للروائي ا(Defoe ) إلى أصله (Foe) بمحو الحرفين((de، وكان دانيل قد حذفهما عندما أصبح كاتبا عام( 1695) تقريبا ليعلنانتسابه رمزيا ولغويا إلى طبقة النبلاء، فيما يبدو تبرؤا من أبيه الجزارومن انتمائه الطبقي. شطب المضاف من اسم مؤلف (روبنسون كروزو) جزء مناللعبة البارودية النقدتناصية في رواية كوتسي.

    </td></tr></table></td></tr></table>

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد مايو 19, 2024 7:53 am