منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    دراسة سيميائية

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    دراسة سيميائية Empty دراسة سيميائية

    مُساهمة   الأربعاء ديسمبر 16, 2009 12:49 pm

    وجـوه في المـاء الساخـن

    للكاتب عبد الله تايه(دراسة سميائية)

    د. سعيد محمد الفيومي.

    فلسطين _ غزة

    مقدمة ..

    يهدف هذا البحث إلى الوقوف على سميائية الغلاف، والعنوان، والشخصيات، والزمان والمكان، داخل رواية (وجوه في الماء الساخن) للكاتب الفلسطيني عبد الله تايه.ودور ذلك في تشكيل الفضاء الروائي من خلال السميائيات السابقة. ولقد استخدم الباحث المنهج السميائي، بغية الوقوف على فهم جديد للنص الأدبي وتأويلاته، والطريقة التي جسد من خلالها الكاتب الثقافة السائدة في المجتمع الفلسطيني، والقواعد التي حكمت هذه الثقافة، والكشف عن علامات دلالية غير مرئية داخل الواقعة المباشرة، من خلال الالتقاط الضمني والمتواري خلف الأحداث.

    مدخل:

    لقد شكلت السميائية منذ الخمسينات من القرن الماضي في المجال الأدبي خاصة، تياراً فكرياً أثرى الآراء النقدية المعاصرة، وأمدها بأشكال جديدة بغية، فهم وتأويل النص الأدبي في جميع أشكاله. فمع بداية القرن الماضي بشر عالم اللسانيات السويسري (فردناند دوسوسير) بميلاد علم جديد، أطلق عليه اسم (السميولوجيا) مهمته هي: "دراسة حياة العلامات داخل الحياة الاجتماعية"،(1) فالهدف من هذا العلم كما هو واضح تزويدنا بمعرفة جديدة لفهمٍ أفضل عن الحياة الإنسانية في جانبها الاجتماعي، وفي الوقت نفسه خرج الفيلسوف الأمريكي (شارل سندرس يورس) علينا برؤية جديدة في التعاطي مع الشأن الإنساني، أطلق على هذه الرؤية اسم (السميائية) وقد كان لهذين الرأيين رأي (دوسوسير) و(بورس)، أثر كبير على الوعي المعرفي وعلى العلوم في مجملها، خاصة ما يتعلق منها بالآداب والفنون. فقد ساهمت هذه السميائية في تجديد الوعي النقدي وتطويره، من خلال إعادة النظر في طريقة التعاطي مع قضايا المعنى.

    وهذه الدراسة تتناول رواية (وجوه في الماء الساخن) (دراسة سميائية)، محاولة منا قراءة هذا المنهج من خلال هذه الرواية وللوقوف على حدود الفضاء الروائي داخل هذه الرواية.

    صدرت رواية (وجوه في الماء الساخن) للكاتب عبد الله تايه في طبعتها الأولى عام 1996م عن اتحاد الكتاب الفلسطينيين، وهذه الرواية تؤرخ للفترة التي سبقت الانتفاضة، وتتوزع في أربع عشرة فقرة متسلسلة في بناء مرتب، وتطرح مجموعة من القضايا الاجتماعية والسياسية. فهي تعالج قضية العمال الفلسطينيين الذين يعملون داخل فلسطين المحتلة عام 1948م، ويعمل الكاتب على إظهار المعاناة التي يجدها العامل الفلسطيني منذ اللحظة الأولى التي يبدأ فيها يوم العمل، حتى لحظة وصوله إلى عمله وأثناء عمله، والعودة إلى البيت، ويعرض كذلك ما يواجهه هذا العامل من علاقة عنصرية قهرية من صاحب العمل اليهودي، ويعرج الكاتب خلال الرواية إلى معالجة كثير من القضايا، منها: طبيعة الشخصية اليهودية وتكوينها(الآخر) والقائمة على العنصرية، وبعد الهوة وعمقها بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين، ويبدو ذلك من خلال موقف عزرا وشيموئيلي. إضافة إلى ذلك نجده يقدم مجموعة من المضامين ذات الأهداف التقدمية، كالإضراب الذي أعلنه العمال الفلسطينيين ضد صاحب العمل اليهودي. وعلى الرغم من نتيجة هذا الإضراب والتي كانت فصل مجموعة من العمال، إلا أنها كانت إشارة أولية لعملية الانتفاض وعدم الخضوع لرب العمل اليهودي تماماً. إلا أن هذا الإضراب لم يستغرق طويلاً, وكان مبرر ذلك هو العمل على المحافظة على لقمة العيش. ويعرض الكاتب لنا صورة أخرى للاستغلال ممثلة في شخصية(أبو علي) ابن فلسطين (مقاول العمال الصبية). وينفتح النص الروائي في كثير من مواقفه على شكل الحياة البائسة التي يعيشها الإنسان في أحياء مثل الشجاعية ومخيم الشاطئ، ويصل أخيراً إلى الانتفاضة التي كانت نتاجاً طبيعياً لتراكمات من القهر والاستغلال والمعاناة التي عاشها الفلسطيني طوال السنوات الماضية, عندها يعرض الكاتب حلولاً للانفكاك من هذا الارتباط الاقتصادي مع العدو، الذي يتيح له أشكالاً مختلفة من الاستغلال والقهر، فيستعيض إسماعيل العجماوي عن عمله الذي فصل منه بمصنع الحياكة، أما صبري أبو شحادة فيفتح دكاناً لبيع الفواكه والخضراوات في مخيم الشاطئ، بعد أن يحول إحدى غرف بيته دكاناً " تلمع في ذهنه فكرة جيدة...." لماذا لا أبيع الخضر والفواكه في السوق؟ أهدم واجهة هذه الحجرة المطلة على الشارع فتصبح الحجرة دكاناً ضمن دكاكين السوق أبيع فيها إلى أن أعود إلى عملي، بعد انقضاء الإجازة، فإذا عدت تبيع فيها زوجتي الخضر، وإذا طردني شموئيلي، أبيع فيها حتى أجد عملاً"(2).

    عندما يقوم كاتب الرواية بتأليف روايته، يكون قد وضع نصب عينيه أهدافاً ومقاصد خاصة يريد تحقيقها من خلال أحداث القصة، وشخصياتها وزمانها ومكانها، تتبلور هذه المقاصد والأهداف حول رؤية الرواية وقضيتها العامة التي تعالجها الرواية. إلا أننا لا نعدم أهدافاً أخرى تكمن في وعي الكاتب قد تتحقق في أشياء أخرى كاختيار غلاف أو عنوان خاص للرواية، أو مسميات الشخصيات أو اختيار زمان خاص ومكان خاص لهذه الرواية، هذا ما أردنا الوقوف عليه في بحثنا.

    وهذا البحث هو بعنوان(وجوه في الماء الساخن) للكاتب عبد الله تايه (دراسة سميائية). ويدرس هذا البحث سميائية الغلاف وسميائية العنوان، وأين يلتقي الغلاف والعنوان مع النص الروائي، ويدرس كذلك سميائية الشخصيات من خلال سميائية (الاسم) والوظيفة السردية لهذه الشخصية ومدى ملاءمة سميائية الاسم مع هذه الوظيفة، وأخيراً سميائية الزمان والمكان في الرواية، ودور هذه العناصر في تجسيد جزء كبير من وعي الكاتب، وتشكيل الفضاء الروائي.

    1. سمياء العنوان:

    لقد اهتم علماء السمياء اهتماماً واسعاً بالعنوان في النصوص الأدبية، باعتباره علامة إجرائية ناجحة في مقاربة النص بغية استقرائه وتأويله، فتحدث (رومان جاكبسون) عن وظائف أساسية للعنوان هي: " المرجعية، والإفهامية والتناصية"(3). أما (جينيت) فيحددها بأربع وظائف أساسية هي: الإغراء، والإيحاء، والوصف، والتيقن. وعنها تتفرع وظائف أخرى تبعاً لجنس النص الأدبي"(4). أما (محمد مفتاح) فيرى أن العنوان "يمدنا بزاد ثمين لتفكيك النص ودراسته فهو يقدم لنا معرفة كبرى لضبط انسجام النص وفهم ما غمض منه ،إذ هو المحور الذي يتوالد ويتنامى ويعيد إنتاج نفسه، وهو الذي يحدد هوية القصيدة فهو – إن صحت المشابهة – بمثابة الرأس للجسد، والأساس الذي تبنى عليه"(5). وإذ نظرنا في المعنى المعجمي للفظة (عنوان) واشتقاقاته، نجد أن اللفظ مشتق من المعنى والتفسير والتأويل، أي أن العنوان يفسر شيئاً ما، وإنه يحمل معنى الشيء، وإن عنونة شيء بعينه تعد سمة هذا الشيء ومعناه ومقصده، وهذا

    أشبه بما يسم وجوه الساجدين مكان أثر السجود، قال تعالى: ﴿....سيماهم في وجوههم من أثر السجود﴾ (سورة الفتح–29)، مما يعني تطابقاً بين المعنى اللغوي للعنوان والمعنى الاصطلاحي والدلالي.

    نخلص مما سبق إلى أن العنوان يعتبر مفتاحاً إجرائياً في التعامل مع النص الأدبي في بعدية الدلالي والرمزي، وهو نواة مركز النص الأدبي، والموجه الرئيس للنص، ويعد كذلك المرجعية الإحالية، ويتضمن غالباً أبعاداً إنتاجية، فهو دال إشاري، وإحالي، يوحي عن قصدية المبدع أو المنتج، وأحياناً يبين بعضاً من أهدافه الأيديولوجية والفنية، "وهو مفتاح أساسي يتسلح به المحلل للولوج إلى أغوار النص العميقة، قصد استنطاقها وتأويلها"(6). وبالنظر في عنوان الرواية (وجوه في الماء الساخن) نجد العنوان على صورته الحالية هو جملة اسمية، والاسمية مسيطرة على كلمات العنوان، فقد أراد الكاتب أن يكون العنوان على هذه الصورة التركيبية، لقوة الدلالة الاسمية من ناحية، ولأنها أشد تمكناً، وأخف على الذوق السليم من الدلالة الفعلية من ناحية أخرى(7)، ومن الناحية الدلالية أراد الكاتب بهذا العنوان أن يتلاءم مع القضية التي تعالجها الرواية، فالرواية تدور حول معاناة مجموعة من العمال الذين يذهبون إلى أعمالهم للعمل داخل أحد المصانع اليهودية، معاناة التعب والإرهاق في العمل، ومعاناة نفسية مع رب العمل اليهودي، فالكاتب كان حريصاً على أن يكون العنوان متضمناً لمضمون الرواية وأفكارها ورؤيتها، ليحقق بذلك التأثير على المتلقي. ويمكن تقسيم العنوان إلى فاصلتين هما (وجوه – في الماء الساخن) فقد جعل الكاتب من (وجوه) فاصلة مستقلة لتحقق دفقة شعورية لدى المتلقي، ويتم ذلك عند النطق بالفاصلة الثانية (في الماء الساخن).

    إن حروف هذا العنوان بفاصلتيه، يوحي بحركة صوتية رتيبة منتظمة تشيع في النفس شعوراً واضحاً بالإحباط والألم والمعاناة، على الرغم من عدم تساوي الفواصل داخل العنوان، فالفاصلة الثانية أطول من الأولى مما ساعد على ترسيخ المعنى الذي يضمنه الكاتب عنوان الرواية، وهذا الترسيخ تم من خلال القيمة الدلالية للعنوان، وكذلك التقسيم الصوتي المفصل.

    لقد أراد الكاتب لهذا العنوان على هذه الصورة التركيبية والدلالية أن يكتسب قيمة فكرية ترجع إلى المعنى الذي يحمله هذا العنوان، والمرتبط بدوره بالمتن الروائي ارتباطاً وصفياً، أي أنه يصف منذ البداية شخصيات الرواية – على الأقل الرئيسية منها – فكلمة وجوه هي المحور الأساسي في توجيه رؤية القارئ هذا الاتجاه، فالعنوان - كما ذكرنا من قبل - يولد لدينا إحساساً بالألم والإحباط والمعاناة، هذا الإحساس يتجسد في كثير من شخصيات الرواية بحيث تجد ارتباطاً سياقياً واضحاً بين هذا العنوان والأحداث التي تؤديها هذه الشخصيات، فنجد الكاتب يعمل على تشخيص مشاعر الألم والإحباط من خلال هذه الشخصيات، حين يقول على لسان (إسماعيل العجماوي) "تعبت عيناي من مراجعة الكشوف.... والأرقام الضخمة.... والإحصاءات، وتدقيق الفواتير، ومع أول خطوة أخطوها في الزقاق يزداد شعوري بالتعب.... تضطرم في نفسي بواعث الغم والنقمة، واستشعر ضياع نفسي وانقضاء أيام عمري متسارعة الخطى بين الدوسيهات والأرقام.... أراوح في مكاني.... كلما زاد راتبي تباعدت الأسعار كثيراً"(Cool فالكاتب هنا وعلى لسان (إسماعيل) يدرج هذه المشاعر والأحاسيس ضمن سياق لغوي وانفعالي خاص، وأحياناً أخرى يأتي بها الكاتب على شكل صفة من صفات هذه الشخصية "يخرج إسماعيل من ذاته.... يرفع إسماعيل العجماوي رأسه عالياً جهة الصوت..... ينتصب عزرا أمامه طويلاً.... عريضاً.... منفوخ الأوداج.... متأففاً.... ساخطاً.... يقف في مواجهة إسماعيل متحدياً.... يهتف إسماعيل، وقد عبأته أفكاره بشحنة انفعالية: ممنوع أدخن سيجارة؟!(9) ومرة أخرى على شكل فعل من أفعاله " يقذف إسماعيل العجماوي الصحيفة المطوية بدون عناية جانباً، يخلع حذاءه الذي بدا مغبراً من تراب الزقاق، والمشوار الطويل عبر شارع عمر المختار.... ثم يجلس في انتظار الطعام"(10). إن مثل هذه الأفكار تتعلق بالعنوان وترتبط سياقياً به، لذلك يمكن القول إن مضمون هذا العنوان (وجوه في الماء الساخن) طوى في ثناياه كثيراً من المعاني والمفاهيم، والأحداث والرؤى داخل الرواية، وساهم في تشكيل جزء كبير من الفضاء الروائي.

    2. سمياء الغلاف:

    بدأ كثير من الروائيين في العصر الحديث، ومع تقدم الشكل الطباعي للغلاف، ومتن النص الأدبي، يتبارون في جماليات صورة الغلاف ودلالاته، أو ما يسميه البعض بالعتبة الأولى للنص، ولعل صدور أعداد كبيرة في المدة الأخيرة من الروايات، جعلت المتلقي يحاول أن يقرأ هذه اللوحة قراءة دلالية تحليلية بوصفها – كما ذكرنا – العتبة الأولى التي يمكن من خلالها أن يقف على حدود النص الروائي، فكثير من الروائيين يختارون غلافاً لروايتهم يتفق مع المتن بوصف هذا المتن وصفاً مكتوباً، ويتقاطع هذا الغلاف مع متن الرواية في كثير من المواقف داخل النص المكتوب.

    وبناء على ما سبق كان لابد لهذه الصورة – صورة الغلاف – حتى تنتج دلالة لابد لها من الانضواء ضمن نسق معين يمنح هذه الصورة القدرة على إنتاج الدلالة، على اعتبار أن الصورة تعني تحويل التجربة الكتابية داخل العمل الروائي، إلى تجربة بصرية. فإننا نجد " داخل اللوحة الفنية (لوحة الغلاف) مجموعة من الرسوم والخطوط والألوان، قد يكون لكل رسم أو خط أو لون مدلوله الخاص، ويجب على هذه الأنساق مجتمعة أن تخرج لنا دلالات ترتكز إلى خلفية ثقافية، وتعبر هذه الدلالات عن تجربة واقعية داخل الرواية "(11).

    (*)وبالنظر إلى الصورة المصاحبة للغلاف في رواية (وجوه في الماء الساخن)، نجدها مرسومة داخل شكل هندسي هو: مستطيل، والمستطيل له بعدان غير متساويين (الطول والعرض) فربما أراد الكاتب أن يرمز لهذين البعدين على أنهما يمثلان نوعين من الشخصيات داخل الرواية، الشخصية الفلسطينية، والشخصية اليهودية، وهما شخصيتان غير متساويتين ولا متطابقتين، أما الزوايا الأربع المتساوية للشكل الهندسي (المستطيل) فيرمز بهما الكاتب للبعد الإنساني والذي يتساوى عند البشر كلهم. أما الألوان المستخدمة، فقبل الحديث عن الألوان، لابد لنا من أن نشير إلى أن اللون يبقى إدراكه مرتبطاً بالثقافة. فاللون الأبيض عند شعب من الشعوب قد يكون دليلاً على الحزن، وعند شعب آخر قد يكون دليلاً على الأمل والتفاؤل، مما يعني أن اللون لا يملك دلالة قارة أو ساكنة فيه ومشتركة بين البشر جميعهم.

    في اللوحة مجموعة من الألوان الدالة، فقد استخدم الفنان اللون الأسود في تحديد اللوحة، والذي قد يشير إلى الواقع المعيشي للفلسطينيين، واستخدم الفنان اللون الأزرق والذي يشير إلى البرودة أو الماء أو السماء، والأصفر يشير إلى الشمس والحرارة، وأحياناً إلى المرض والوهن، وهذه يعني أن هذه الألوان تلتقي مع العنوان مباشرة، وقد كان اللون الأبيض سيد هذه الألوان، حيث غطى مساحة كبيرة من اللوحة أرادها الفنان، ولعله أراد من وراء ذلك أن يميز الشخصية الفلسطينية بهذا اللون على أنها شخصية قائمة على الصفاء والنقاء والبساطة، علي اعتبار أن الشخصية الفلسطينية هي المسيطرة تماماً داخل النص الروائي.

    أما عن الخطوط والرسومات داخل اللوحة، فالخطوط بعضها مائل يصل إلى درجة (45ْ) مما يشير إلى التعب، ورسوم المثلثات داخل اللوحة والدوائر، تشير إلى التراث الفلسطيني، وهي متفرقة داخل اللوحة، مما يشير إلى الشتات الفلسطيني، وتقطيع أوصال الوطن، أو قد تشير إلى وضع الحواجز بين مدن هذا الوطن، والدوائر تشير إلى العادات والتقاليد السائدة في قرى فلسطين وبلداتها واختلاف هذه العادات والتقاليد من بلدة إلى بلدة.

    أما الرسوم الأخرى فهي تشبه في كثير من جوانبها كائناً بشرياً، لا يمكن أن نتردد في القول ونحن نشاهد الرسم، من أن الأمر يتعلق بإنسان، فمجموع الخطوط تتشكل أخيراً وتتآلف لتعطي الشكل البشري أو الشكل القريب منه، ولكننا لا نستطيع أن نحيل الرسم إلى جنس أو لون أو حتى سن معينة، وهل الرسم لطفل أم فتاة أم شيخ أم شاب أم امرأة. ولا نستطيع أن نستخرج منه بعض الصفات الخارجية كالطول أو القصر، أو لون الشعر، أو شكل العيون، وكأن صاحب الرسم يكتفي من ذلك كله، بالتنسيق بين مجموعة من الخطوط كي يؤكد لنا بأن الأمر يتعلق بكائن بشري، وليس بشجرة أو طائر. فالفنان بذلك يحاول تبسيط الواقع من خلال استحضاره هذه النسخة البشرية التبسيطية، ليوحد بين بني البشر، بغض النظر عن لونها أو عنصرها، فهو لا ينطلق في هذا الرسم من أي تعصب عنصري أو غيره. وحركة اليد التي تبدو في الصورة، تكتسب حالة معينة يمكن تفسيرها على أنها عملية كتم للصوت، مع تخبئة رأسه خوفاً من شيء ما، ويلتقي ذلك مع حالة الخوف التي تسيطر على العامل الفلسطيني داخل النص، أما شكل الأقدام على صورتها العريضة الراسخة في الأرض تحمل شعوراً واضحاً بالرسوخ في هذه الأرض وتعبر عن التحدي.

    وتبقى هذه الحركات حركات كونية تعبر عن حالات – كما رأينا – وجدانية إنسانية مسكونة، إلا أنه يبقى لها طابعها الثقافي والذي يعبر عنه الفنان من خلال الصورة، ويعبر كذلك عن الطبيعة الثقافية لهذا الشعب، ويبدو تأثر الفنان واضحاً بزمان ومكان الرواية التي تعالج قضية الإنسان الفلسطيني العامل الذي يكد ويتعب من أجل كسب لقمة العيش المغموسة بالدم.

    مما سبق نخلص إلى أن الفنان أراد من وراء صورة الغلاف لهذه الرواية، أن يصور لنا حالة سياسية وفكرية عبر عنها من خلال هذه اللوحة، لتلتقي مباشرة مع فكرة الرواية وقضيتها، إضافة إلى أشياء أخرى حملت دلالات سياسية وفكرية مجاورة لفكرة الرواية وقضيتها أيضاً. مما يعني اختزال جزء كبير من الفضاء الروائي داخل هذه اللوحة.ويبقى تحليلنا لهذا الغلاف تحليلاً غير نهائي، ولا يمكن أن يكون كذلك في الأحوال جميعها. إنه نتاج وجهة نظر معينة، أو هو نتاج فرضية مسبقة للقراءة، تنازلت فيها الخطوط والأشكال والألوان، عن عمقها الفردي ليؤكد من خلالها الفنان على رسم غلاف يرتبط بالنص ارتباطاً مباشراً.

    3. سميائية الشخصيات:

    نتحدث في هذه الفقرة عن سميائية الشخصيات من خلال سميائية الأسماء، والوظيفة السردية لهذه الشخصيات، وبناء الشخصية الداخلي والخارجي. إن دراسة متأنية لسميائية الشخصية يمكن أن يصبح محدداً أساسياً للمادة الحكائية، ولتلاحق الأحداث داخل الرواية، وتصبح هذه الدلالات بذلك عنصراً فاعلاً في تطوير الرواية وبنائها، وفي طبيعة الشخصيات وعلاقات بعضها بالبعض الآخر ودور ذلك كله في تشكيل الفضاء الروائي. ونتناول كل شخصية على حده.

    سنقسم هذه الشخصيات إلى نوعين، الشخصية الفلسطينية والشخصية اليهودية، ولن نعرج في دراستنا لهذين النوعين من الشخصيات إلى الشخصيات الواردة في النص الروائي كلها بل سنقصر الحديث على الشخصيات الأكثر دوراناً في الرواية، والأكثر تأثيراً وتأثراً، وكذلك مدى دينامية هذه الشخصية ودورها في رسم هذه الأحداث.

     أولاً: الشخصيات الفلسطينية:

    إن أول شخصية تطالعنا في هذه الرواية هي شخصية (إسماعيل العجماوي) فقد بلغ تواتر هذه الشخصية داخل الرواية أكثر من (111) مرة تقريباً، اختار الكاتب هذا الاسم لهذه الشخصية ليحمله مجموعة من الدلالات المحددة، فنحن نعلم أن للتسمية في التراث العربي سمات ودلالات تحدث عنها الجاحظ في أكثر من موضع(12). ولا أظن أن اختيار الكاتب لهذا الاسم (إسماعيل العجماوي) كان اختياراً عفوياً، بل عن قصد، بحيث يشير من خلاله إلى دلالات معينة، فاسم (إسماعيل) له مكانته في التراث الفكري العربي، هو أبو العرب، والعجماوي نسبة إلى أحد الأحياء القديمة في مدينة يافا العربية الفلسطينية، على الساحل الفلسطيني، وستتضح سيميائية هذا الاسم أكثر عند الحديث عن شخصية (شموئيلي) اليهودي فيما بعد.

    إسماعيل هو موظف حكومي يعاني ما يعانيه الموظف من تدني الراتب الذي لا يكفي حاجاته وحاجات أولاده، فيضطر للعمل داخل أحد المصانع في فلسطين المحتلة لعام 1984م، ويكون المسؤول عنه هو اليهودي عزرا وشموئيلي. والكاتب لا يركز كثيراً على الصفات الخارجية لشخصية إسماعيل عند رسمه لهذه الشخصية. يصفه عند ذهابه إلى الوظيفة بأنه يضع ربطة عنق، وعند ذهابه للعمل داخل الخط الأخضر، يلبس طاقية ويحمل في يده صره كالعمال(13). فالكاتب يعي ما يريد، إنه يرسم رسماً داخلياً لهذه الشخصية للوقوف على بنائها الداخلي، وغرضه من ذلك هو بلورة مجموعة من الأحاسيس تكون شخصية إسماعيل مؤطراً لها فيما بعد.

    يبدأ الحديث عن إسماعيل، من خلال مونولوج داخلي كاشفاً عن ملامح ذاته وباطنه بصورة أكثر جلاء. "تدور في ذهنه خواطر شتى.... تعبت عيناي من مراجعة الكشوف.... الأرقام الضخمة.... الإحصاءات وتدقيق الفواتير، مع أول خطوة أخطوها في الزقاق يزداد شعوري بالتعب.... تضطرم في نفسي بواعث الغم والنقمة، واستشعر ضياع نفسي...."(14). يستغل الكاتب هذا الحوار الداخلي ليكشف عن أعماق شخصية (العجماوي) ويوضح خصائصها وما تتميز به عن غيرها من شخصيات الرواية، لأن هذه الشخصية تتفرد عن غيرها من شخصيات الرواية سواء في المكانة الاجتماعية أو المستوى الثقافي. والكاتب يريد أن يصرح منذ البداية أنه سيروي قصة، وأن بين يديه خلاصة قصة طويلة يريد روايتها. وقد بدأ الكاتب هذا الحوار الداخلي مع إسماعيل من خلال مشاعره الداخلية والتي تزداد كل يوم لتتجه نحو حالة من الإحباط والألم، والمعاناة ".... كلما زاد راتبي قليلاً تباعدت الأسعار كثيراً.... جنون متلاحق.... غصة متتابعة، المطالب تزداد والراتب محدود...."(15). ويبدأ تشكل إحساس الإحباط والمعاناة لدى إسماعيل فيلجأ الكاتب إلى رصد هذا الإحساس من خلال أفعال إسماعيل، ...."يقذف إسماعيل العجماوي الصحيفة المطوية بدون عناية جانباً، يخلع حذاءه الذي بدا مغبراً من تراب الزقاق...."(16). يشعر (العجماوي) بإحباطات متتابعة نتيجة الخلل الذي يصيب ظروف الحياة من حوله، ومن ثم إحباطاته القاسية والمتولدة عن التناقض بين ما يأمله، وبين ما يتاح له.

    ويمكننا أن نحدد بعدين لإحساس الإحباط لدى شخصية إسماعيل، بعد ثابت يتمثل في مفهوم الإحباط كإحساس، وبعد متغير أو متحول في أشكال هذا الإحباط، ويجعل الكاتب في كل مرة شخصية إسماعيل مؤطراً لها، فلعل الكاتب أراد من شخصية إسماعيل، من خلال سميائية الاسم، وسميائية الموقف، الذي أراده الكاتب لهذه الشخصية، أن يعبر من خلالهما عن الإنسان الفلسطيني المثقف الذي عاش حالة من الإحباط بعد حرب 1967م واستمرت هذه الحالة فيما بعد، فأراد من خلال هذه الشخصية أن يضعنا أمام مساءلة الحياة، وشكل هذه الحياة التي نعيشها أو سنعيشها فيما بعد، والكاتب في المرات كلها كان يركز في رسم هذه الشخصية على الملامح الداخلية أكثر من الخارجية، فحالة الإحباط والإحساس به والعيش معه، كلها انفعالات لا تكاد تفارق شخصية (إسماعيل العجماوي) في كل موقف سردي داخل الرواية.

    الشخصية الثانية في هذه الرواية هي شخصية (صبري أبو شحادة)، وتعد هذه الشخصية محور مهم من محاور الحدث الروائي فقد جعلها الكاتب مجالاً رحباً للدلالة حيث يطرح من خلالها عدداً كبيراً من الأبعاد السميائية، وتعتبر هي وشخصية (العجماوي) من الشخصيات ذات السيادة في الرواية ككل، وأعني بذلك تملكها لأزمة تحريك الفكرة الدالة " فكثيراً ما تكون الشخصية هي العنصر الأهم في القصة، ولهذا تكون المحور الذي تدور حوله، وكل ما يدور في القصة من أحداث، لابد من أن يمسها من قريب أو من بعيد، ويؤثر في تكوينها بألوان جديدة، ويلقي الأضواء الجديدة على مكامن أسرارها وأعماق أغوارها"(17) .

    فمن خلال تحليل البنية الدلالية للاسم، سنقف على كثير من الدلالات السميائية التي يحملها هذا الاسم، وملاءمة الموقف السردي لها. (فصبري) تحمل في اللغة معنى الصبر والتحمل، (وشحادة) تعني: التسول، وكأن الكاتب أراد من شخصية (صبري أبو شحادة) أن تحمل دلالة تعبر عن حالة العامل الفلسطيني الذي عاش في هذه الفترة متسولاً العمل عند صاحب العمل اليهودي، خاصة وأنه بعد حرب عام (1967م) وبالتحديد في أواخر السبعينات، بدأت تتشكل طبقة كبيرة من العمال المرتبطة ارتباطاً مباشراً بالاقتصاد الإسرائيلي، وهذه الطبقة تمثل معظم العمال الفلسطينيين، وتمثل – كذلك- شريحة كبيرة داخل المجتمع الفلسطيني.

    بدأ الفلسطيني يعيش نوعاً من المعاناة – تبدو خفية – وهي معاناة من نوع آخر لم يتعود عليها من قبل، أصبح يواجه واقعاً جديداً لم يحدث من قبل، وهو: كيف يتحول العدو مع هذا الواقع إلى صديق يعمل بجانبه أو على الأقل لم يعد عدواً فالكاتب يصور من خلال (صبري أبو شحادة) هذه المعاناة التي كان يعيشها العامل الفلسطيني سواء أكان ذلك في الوصول إلى العمل، أو العمل ذاته، أو أثناء العمل، فعلى الرغم من أن السبب الأساسي لمعاناة (أبو شحادة) شكل العلاقات داخل المصنع، وطبيعة العمل، والوصول إليه، فإن هناك أسباباً أقوى تأثيراً في النفس، والحياة بالنسبة لشخصية (أبو شحادة) يتعلق ذلك بإحساس الخوف المسيطر عليه ، فهذا الإحساس يبدو واضحاً من خلال المواقف السردية لـ (صبري أبوشحادة)، وكأن الكاتب يحاول أن يرصد حالة أخرى من التمزق النفسي تعيشها هذه الشخصية وتسيطر عليها، وهو بذلك يرصد الملامح النفسية للإنسان الفلسطيني في هذه المرحلة والتي مثلت جوهر الحالة الثقافية السائدة "طابور طويل من العربات والحافلات عند نقطة التفتيش (إيرز) لم تشرق الشمس بعد، لكن الرؤية بدأت بالوضوح.... يجلس صبري أبو شحادة صامتاً، يسحب أنفاساً من سيجارته وينفث دخانها.... جو الحافلة يعبق بالدخان، تتحول الحافلة من الداخل إلى سيجارة كبيرة، ومدخنين كثيرون...."(18).

    "يخرج صبري أبو شحادة من عنده ومعه مجموعة من العمال، توجهوا إلى حيث يجلس إسماعيل مع بعض العمال لتناول طعام الإفطار، .... يجلسون سوية لتناول الطعام، في الوقت الذي لسعتهم نظرات بعض مسئولي العمل اليهود الذين لم يروا من قبل هذا التجمع عند الإفطار........ والمهم أنهم بدأوا بالذهاب بتثاقل، تثور ثائرة المسئولين ويهرولون وراء بعضهم البعض.... يهرع مدير المصنع ليستطلع الأمر وينظر إليهم بقسوة وتحد:

    - مين رافض العمل؟

    يرد عليه صبري أبو شحادة بحزم:

    - ولا واحد.(19)

    يلجأ الكاتب لهذا الحوار ليعطي المواقف حيوية أكثر، ولو أطال لحقق الغرض منه، ولكنه كان حواراً قصيراً أعطى الكاتب فرصة لتقليب الفكرة على وجوهها المختلفة، مبيناً شكل العلاقة بين (الأنا) الفلسطيني، (والآخر) اليهودي، فعلى الرغم من صغر هذا المقطع، إلا أنه كشف عن طبيعة شخصية اليهودي المستبدة والمتسلطة، وفي الوقت نفسه مدى الخوف المسيطر على (أبو شحادة)، ويبدو ذلك واضحاً حين يرد (ولا واحد) ويبدو ذلك أكثر وضوحاً حين يطرد (أبو شحادة) من العمل لمدة أسبوعين. ".... يخرج أبو شحادة غاضباً من عند (شموئيلي رابينوفتش) تنتهي في المساء الوردية، فيتسلم أبو شحادة وعدد من العمال أوراقاً بالخروج في إجازة لمدة أسبوعين..... طريق العودة طويل.... الدقائق تمر حزينة بطيئة.... يغتاظ أبو شحادة كثيراً.... كل شيء يتهاوى أمام عينيه" (20).

    وأخيراً يبلور الكاتب من خلال شخصية (صبري أبو شحادة) رؤيته داخل الرواية حين يجعل (أبو شحادة) يبحث عن عمل بدلاً عن العمل السابق، فيفتح دكاناً لبيع الخضار في سوق الشاطئ من خلال إحدى غرف منزله.

    لقد عمل الكاتب على أن يجعل من هاتين الشخصيتين تمثل عالماً خاصاً من عوالم العذاب والألم والإحباط والخوف، والتمزق النفسي (العجماوي وأبو شحادة) وكل شخصية كذلك تحول في أعماقها قدراً كثيراً من الآمال الذاتية، وهي في الوقت نفسه تسعى جاهدة بشكل خاص أيضاً إلى محاولة تغيير واقعها، لكن مؤشر نجاحها أو إخفاقها بقي مرهوناً بتطور الحدث، وأشكال العلاقات، ودلالات الفكرة لديه، ويتضح ذلك في نهاية الأحداث "لماذا لا أبيع الخضر والفواكه في السوق؟ أهدم واجهة هذه الحجرة المطلة على الشارع، فتصبح الحجرة دكاناً ضمن دكاكين السوق، أبيع فيها إلى أن أعود إلى عملي بعد انقضاء الإجازة، فإذا عدت تبيع زوجتي فيها الخضر، وإذا طردني شموئيلي أبيع فيها حتى أجد عملاً...." (21)

    فالكاتب – كما نرى – من خلال العرض السابق لسلوك شخصية (أبو شحادة) ومن قبل (العجماوي)، حين يعمل على توسيع فضاء الشخصية فيعمل على توظيف هذا السلوك سميائياً حين يجعله سلوكاً عاماً، يعبر عن حالة عامة، وليس حالة خاصة، بهذه الشخصية، فلا يمكن النظر إلى هذا السلوك، وهذه الحالة، بحرفيتها، أو على أنها حالة فردية، بل يجب أن تدرك على أنها حالة إنسانية، هي حصيلة العلاقات داخل المجتمع الفلسطيني، فإحساس الخوف الساكن والقار داخل (أبو شحادة) والإحباط داخل (العجماوي). عمل الكاتب على إيجاد قواعد تحكمها في إنتاج هذه المشاعر، وهذه الأحاسيس، والسبب فيها، وعمل على تجسيدها في أفعال وتصرفات كل من (أبو شحادة والعجماوي)، ومن ثم سحبها على المجتمع، والذي بدت تتشكل – في تلك الفترة – علامات هذه الثقافة، ثقافة الخوف والإحباط، والتي عبر عنها الفلسطيني فيما بعد من خلال تفجر الانتفاضة الفلسطينية الأولى.

    الشخصية الثالثة في هذه الرواية هي شخصية (أبو علي) التي تتواتر في الرواية أكثر من (182) مرة، فكان لهذه الشخصية النصيب الأكبر في التواتر. (أبو علي) اسم في الثقافة الفلسطينية يطلق على (الفتوات) في أحيان كثيرة، فالكاتب يومئ بهذه التسمية إلى أن صاحبها يمثل طبقة من المستغلين للعمال الفلسطينيين (الأطفال) كما جاء في الرواية.

    إن أهم دور أسنده الكاتب لهذه الشخصية هو دور صاحب العمل الذي يستغل أبناء جلدته من الأطفال، لذلك نجده يواءم في رسمه لهذه الشخصية من الخارج مع أفعالها، حين يقول على لسان (أبو درويش):(22)

    - شايف يا خميس هالملعون!!

    - الله لا يبارك له.... شوف هالكرش.... واللا هالرأس.

    - قول منفوخ نفخ.

    - منفوخ من دم العمال وعرقهم.

    - الله حلل الشغل وحرم الاستغلال.

    - وبيستغل مين!! أولاد حارته، وجيرانه وأهله.

    ويعمل الكاتب على توظيف هذه الشخصية بمدلولها الاسمي، لأداء وظيفة سردية قائمة على الاستغلال، فهو حين يصف شخص (أبو علي) يقدم لنا وصفاً دقيقاً لهذه الشخصية من داخلها من خلال تصرفاتها مع هؤلاء الأطفال، وهذه النعوت غير مرتبطة بفضاء واحد (مكان العمل) بل كذلك مع أهل بيته حينما يحاول أن يتزوج من (ثانية)، فقد ميز الكاتب هذه الشخصية بهذه الصفات، لذلك نجده يحيل لـ (أبو علي) مجموعة من السلوكات الخاصة داخل النص الروائي، تعمل على رسم صورة كاملة لهذه الشخصية المستغلة، وبذلك يكون الكاتب قد عمل على تحديد موقع هذه الفئة من المستغلين بصورته السلبية داخل المجتمع الفلسطيني، والتي بدأت تظهر في سوق العمالة الفلسطينية بالفعل.

    ومن الشخصيات المحورية في هذه الرواية شخصية (أبو درويش) فأبو درويش في التراث الفكري والثقافي الفلسطيني يحمل مدلول الرجل الطيب، المحبوب كثير الود، ولعل الكاتب أراد أن يحمل هذه الشخصية بمدلولها الاسمي الشخصية الفلسطينية، فيوسع من فضاء هذه الشخصية، ويجسد لنا الشخصية الفلسطينية من خلال (أبو درويش) هذه الشخصية القائمة على النقاء والصفاء، لذلك نجد الكاتب قد أعطى هذه الشخصية وظيفة اجتماعية، وثقافية، وجعل من أبرز روافدها (الدين)، فكان من وقت لآخر يذكر كثيراً من الآيات القرآنية على لسان أبو درويش "تتوقف عربة نقل العمال التي يمتلكها مقاول العمال أبو علي جاد الله أمام المقهى.... يراه أبو درويش فيتلو بصوت منخفض ﴿ويل لكل همزة لمزة، الذي جمع مالاً وعدده....﴾"(23)

    فالكاتب يجعل من سورة التكاثر منطلقاً لمجموعة من التميزات لكثير من المفاهيم الساكنة داخل شخصية (أبو درويش)، وشخصية (أبو علي)، ورؤية كل منهما القائمة أحدها على القناعة، والأخرى على الاستغلال، وبالتالي يجعل الكاتب ذلك تميزاً واضحاً بين من يكسب ماله وقوته بعرقه، ومن يكسب من عرق الآخرين، بين التعامل الوجداني الإنساني، والتعامل المادي، والكاتب يأتي بآيات القرآن الكريم داخل السياق السردي لكثير من المواقف، يأتي بها مفصولة تماماً عن الزمان والمكان، وما يربطها فقط، هو كثافة التجربة الإنسانية التي تعيشها شخصية (أبو درويش).

    ومن الشخصيات الفاعلة في هذه الرواية رغم قلة تواترها، كانت شخصية (سعده) زوجة إسماعيل العجماوي، (سعده) تحمل معنى السعادة والطمأنينة، وفي الوقت نفسه أراد الكاتب من (سعده) أن يبرز دور المرأة الفلسطينية الإيجابي، (فسعده) تقوم بحياكة الملابس لتوفير حياة أفضل لزوجها وأولادها، ويعمل الكاتب على توسيع فضاء هذه الشخصية بحيث يشمل ذلك المجتمع الفلسطيني،حين يجعل من أم محمود زوجة خميس الحداد شخصية نسوية أخرى تقوم ببيع الترمس، وتساعد زوجة (أبو شحادة) زوجها في دكان الخضار.

     ثانياً: الشخصيات اليهودية:

    مقابل الشخصية الفلسطينية، والتي سبق أن تحدثنا عنها، يقف الكاتب عند شخصيتين يهوديتين يمثلان (الآخر) ويعمل من خلالهما على وضع السمات العامة لشخصية الآخر وطريقة التعامل مع (الأنا) الفلسطينية، وأول هذه الشخصيات، شخصية (عزرا). (عزرا) وفق ما جاء في السفر الذي يحمل اسمه، أراد ممارسة فكرة الاستعلاء اليهودية بأعلى معانيها، وقد كان مشبعاً بالعنصرية التي تقوم على فكرة شعب الله المختار، وهو الذي دعا إلى تنقية جنس بني إسرائيل، كما عد زواج اليهودي من الشعوب الأخرى غير جنس بني إسرائيل، هو خروج عن الدين اليهودي، وقد جاء في السفر: " فقام عزرا الكاهن، وقال لهم: إنكم تعديتم واتخذتم نساء غريبات لتزيدوا في إثم إسرائيل، فاعترفوا الآن للرب، إله آبائكم، واعملوا على مرضاته، واعتزلوا أمم الأرض والنساء الغريبات."(24)

    الكاتب ينطلق من هذه الصفات التي تميز بها (عزرا) ليعطي هذه الشخصية وظيفة سردية تتفق تماماً مع هذه الصفات، ويرسم لنا صورة واضحة لهذه الشخصية وتتفق الصفات الخارجية مع الصفات الداخلية، فنجد (عزرا) ينظر نظرة احتقار للعامل العربي، هذه النظرة قائمة على التعصب القومي الديني، " عزرا كوهين يضيق ذرعاً بي وبغيري من العمال العرب وازداد امتعاضه بعد إصابة ابنه:

    - يا عمي انصرفوا من عندنا

    - يقولها مراراً.... وأقول له في كل مرة:

    - وانتم انصرفوا من عندنا

    - لا.... ما بننصرف من أي مكان.... إذا خرجنا من أي مكان بيزيد العنف، والحرب" (25)

    " يخرج من ذاته.... يرفع إسماعيل العجماوي رأسه عالياً جهة الصوت.... ينتصب عزرا أمامه طويلاً.... عريضاً.... منفوخ الأوداج.... متأففاً.... ساخطاًًً.... يقف في مواجهة إسماعيل متحدياً...."(26)

    فالكاتب يعمل على رسم الملامح المادية لشخصية عزرا إضافة إلى أنه يغوص في أعماق هذه الشخصية ليصف مشاعرها الداخلية، فيرسم عالمها الداخلي بقصد الوقوف على عالم هذه الشخصية، ويؤكد بطريقة غير مباشرة موقفه من هذه الشخصية، في أن العداء والتناقض بينه وبينهم سببه سلب الأرض وليس عداءً عنصرياً أو عقائدياً "وأنتم انصرفوا من عندنا".

    أما الشخصية اليهودية الثانية التي تطالعنا في هذه الرواية فكانت شخصية (شموئيلي رابينوفتش)، وشموئيلي تعني في العربية (إسماعيل) فقد أراد الكاتب أن يعقد مقارنة ومفارقة في الوقت نفسه بين شخصية (إسماعيل) الفلسطينية وكنيته العجماوي – كما ذكرنا- والعجمي هو أحد أحياء يافا القديمة والعريقة، مؤكداً بذلك انتماء إسماعيل الفلسطيني، أما (شموئيلي) فكنيته (رابينوفتش)، وهو اسم بولندي ليؤكد غربته عن المكان الذي يعيش فيه، فالكنية تتحول هنا إلى قرينة "ولكي نعلم لأي شيء تصلح إشارة قرينة فينبغي الانتقال إلى مستوى أعلى "أفعال الشخصيات أو السرد"(27).

    فالكاتب يصنع نوعاً من الجدل غير المباشر بين (الأنا) الفلسطيني و(الآخر) اليهودي، ويحيل ذلك كله إلى خلق دلائل تكمن في وعي الكاتب، تتضح هذه الرؤية من خلال أفعال كل من (إسماعيل) و (شموئيلي)، وربما كان الناتج الصافي لرؤية أخرى يريدها الكاتب من وراء هذه الرواية، وهي ليست مفصولة عن الرؤية العامة، لكن الكاتب استغل سميائية الاسم لينتج دلالات جديدة أرادها، وقد عمق هذه الدلالات كذلك ببعض المواقف المجاورة حين يصف عمق الهوة بين اليهود الشرقيين والغربيين، ويبدو ذلك واضحاً من كلام عزرا عن شموئيلي:

    - شموئيلي له أولاد على الحدود يا عزرا؟

    - يرد عليه عزراً مستهزءاً:

    - انت أهبل، اللي مثله أولاده في أمريكيا

    - إذن هو ما بيخاف على أولاده مثلي ومثلك.(28)

    من خلال العرض السابق للشخصيات وتحليلنا لهذه الشخصيات سميائياً، سواء أكان ذلك من خلال الاسم أو البناء الداخلي والخارجي للشخصية، أو الدور السردي لهذه الشخصية، لاحظنا مجموعة من التقاطعات بين هذه الشخصيات أضافت أبعاداً فكرية عميقة كانت ساكنة وقارة داخل وعي الكاتب، مما ساعد في تجسيد فكرة الرواية ورؤيتها، وإعطائها أبعاداً أخرى.

    4. سميائية الزمان والمكان:

    يرتبط الإطار الزماني والمكاني في الرواية ارتباطاً مباشراً برؤية الكاتب، والفكرة الرئيسية لهذه الرواية. والزمان والمكان عادة ليسا مجردين، بل ينطويان على دلالات فنية وموضوعية متعددة، فهما يجسدان المناخ الروائي الذي تتنفس فيه الشخصيات، وبناء على ذلك فالزمان والمكان يعنيان الوسط الطبيعي للشخصيات وأخلاقها وصفاتها، وأساليبها في الحياة. وهكذا يتجاوز الزمان والمكان وظيفته الدلالية بوصفها الزمان والمكان لوقوع الأحداث إلى فضاء آخر يتسع لبنية الرواية، ويؤثر فيها، إضافة إلى ما يحمله من دلالات سميائية. ومن يقرأ رواية (وجوه في الماء الساخن) فإنه يلاحظ أن الكاتب يتجول في عدة أماكن ليناسب حركة الأحداث المختلفة، والتي تحتاج إلى أماكن متعددة، فالحدث يمتاز بالانبساط، يتناول الكاتب فيه مجموعة من اللحظات الدرامية لكل شخصية من الشخصيات التي تناولها، لذلك وجدنا مجموعة من الشخصيات تستقطب هذه الأحداث في فترة زمنية ليست بالقصيرة وفي حيز مكاني متعدد. ويتداخل المكان والزمان من أول الرواية تداخلاً واضحاً "يتفجر السكون العميق في المدينة ضجة وصخباً قبل آذان الفجر، في ساحة الشجاعية" المحطة المؤقتة التي يندفع منها العمال فجراً إلى أعمالهم في الداخل......................... يتثاءبون في محاولة لطرد النوم والنعاس عن أجفانهم وعقولهم، تنتشر الأضواء في أعمدة النور، وفوانيس العربات والحافلات، وينتشر الظلام في جوانب الساحة فتبدد الأضواء من الظلام ما استطاعت، وتنير أجزاء من العشب الأخضر، ويبقى جزءاً آخر مختفياً في العتمة، في حين تسطع الأنوار في فناء مركز شرطة المدينة. يتعالى نقير الأبواق.... تعلو الضجة وأصوات احتكاك العجلات المطاطية بالأسفلت، يتردد نداء الباعة وأصوات سائقي العربات، كل منهم ينادي.... يافا.... اسدود.... تل أبيب.... . (29).

    فالكاتب يختار لحظة تعبر عن واقع المعاناة التي يعيشها هذا العامل، هي لحظة ما قبل آذان الفجر، ليعمق من خلالها مدى هذه المعاناة، ويسيطر على هذه الفقرة – كما باقي الرواية – الزمن الحاضر، الزمن النحوي الميقاتي، ولا يتغير على طول الرواية، ليناسب زمن السرد، لأن الكاتب يصف لحظة معاشه لهذا العامل، ويحقق ذلك تأثيراً واضحاً بين الزمان والمكان، ومصير هذه الشخصيات.

    إن التصوير الدقيق من قبل الكاتب لساحة التاكسيات، وعلى هذه الصورة، بكل تفاصيلها تعني اختراقاً للعلاقات الزمانية والمكانية، وعلاقتها بالحوادث ومنظور الشخصية، ويلجأ إلى هذه التفاصيل لخلق امتدادات زمانية ومكانية أخرى في ذهن القارئ، ما يعني أن الفضاء الروائي يتشكل في عدة أماكن وليس مكاناً واحداً.

    إن المكان ليس محض مكان موضوعي محايد، وإنما هو مكان روائي فني يعمل الكاتب من خلال تفاعله مع الشخصيات أن يحمله مفاهيم جديدة، ورؤى أخرى.

    "لماذا لا أبيع الخضر والفواكه في السوق؟! أهدم واجهة هذه الغرفة المطلة على الشارع فتصبح الحجرة دكاناً ضمن دكاكين السوق، أبيع فيها إلى أن أعود إلى عملي بعد انقضاء الإجازة"(30). يعمل الكاتب هنا على ترسيخ مفهوم (البديل الشريف) في العمل بدل العمل السابق والمرتبط بالذل والمهانة، ومن الملاحظ على الكاتب أنه يركز على زمن واحد – زمن الحاضر – في كثير من المواقف، دون الأزمنة الأخرى، رافضاً التسلسل الزمني للأحداث، يعني أنه حاول توظيف هذا الزمن بما يتناسب مع وعي الشخصية حين رتب الأشياء والأحداث حسب ورودها إلى الذهن، حسب ترتيبها الخارجي والمرتبط بالزمن. إضافة إلى الزمن المتعلق بالحدث نستطيع أن نميز مستوى آخر للزمن في هذه الرواية، هو الزمن (النفسي)، والذي تتداخل في الأزمنة وتتقاطع، الحاضر والماضي والمستقبل، قد خرج عن الطريقة المباشرة في السرد والقائم على التسلسل الزمني المعروف، فعلى الرغم من أن الشخصية عنده تتحرك في الزمن الحاضر إلا أنها كانت تعود في بعض الأطوار إلى الوراء، إلى الماضي البعيد طوراً والقريب طوراً آخر،" وأخيراً السنوات الخمس تمر سواء، كموت المريض صعبة وبطيئة، أم كموت الاستشهاد سريعة ومريحة، ويتابع أبو شحادة بسخرية دائمة، " تخرج من المعتقل الصغير من وراء الأسلاك، والجدران الباردة، والزنازين الضيقة، والمردوانات المزدحمة، والرطوبة الدائمة، إلى المعتقل الكبير، في المخيم، والمصنع، والحارة، هناك في المعتقل ترى الأسلاك رأى العين.... فتنكمش أو تتمرد وراء الجدران.

    أما هنا فالأسلاك داخلك.... تسكن فيك، تمشي على قدميك.... تنتشر داخلك لا تفارقك.... لا مفر لك.... كل ما في الأمر أن عليك أن تختار أن تكون داخل المعتقل الصغير أو أن تكون داخل المعتقل الكبير" (31)

    فالزمن هنا يتسرب داخل الماضي ليروي لنا (صبري أبو شحادة) على لسان (العجماوي) قصته مع السجن، ثم ينتقل إلى المستقبل ينتزع منه بعض الأحداث ليضعها في حيز الحاضر، والحقيقة أن عدم التسلسل الزمني في مثل هذه المواقف يوقفنا الكاتب من خلالها على بعض الجوانب الخفية في حياة كثير من شخصياته، فيحاول هنا (أبو شحادة) استحضار هذا الماضي من حياته، لعله يستطيع به مواجهة الحاضر القاسي، فالكاتب يبغي من خلال هذا الارتداد – والذي تكرر كثيراً في الرواية – أن يعرفنا على ماضي هذه الشخصيات، أو على الأقل الوقوف على بعض المحطات الرئيسة في حياتها، وبالتالي تفسير مواقفها إزاء الحاضر.

    إن تقاطعات الزمن التي عاشها (أبو شحادة) في هذه الفترة ساعدته على إبراز حالة المعاناة التي عاشها ويعيشها، وكشفت بجلاء عن الماضي البطولي الذي عاشه، فهو يحاول أن يهرب من أسى الحاضر، الزمن الأقل إلى الماضي الزمن الأكثر.

    وعندما يتحدث الكاتب عن ساحة التاكسيات في غزة، يتخذ المكان - من خلال هذه الفقرة – أبعاداً دلالية، فهذا المكان جزء من المدينة – مدينة غزة – يوحي كما هو واضح من خلال وصف الكاتب بعدم الطمأنينة، كما أنه يغدو رمزاً للمتغير، وشاهداً على نمط الحياة المعيشي لهؤلاء العمال، ويتضح ذلك أكثر حين يتحدث الكاتب عن حال العمال أثناء عملهم في المصنع، أو لحظة العودة إلى بيوتهم "منذ وصوله وهو يجرف أكوام العلب، يدعو في سره أن يحدث عطب في الآلة، أو يتعرقل عمل الجرار، فلا يستجاب لدعائه، ويدعو أن يحدث خلل في الكهرباء.... لكنها تشتد إنارة وقوة.... يتراكض جسده.... تتدافع أصابعه.... يداه.... تنسحب علب الكرتون الممتلئة ويحل محلها الفارغة، يبتل جلده بالعرق.... ينفخ في تأفف وسخط إذ يجد من العسير عليه أن يواصل...."(32) فالمكان (المصنع) يصبح على هذه الصورة طارداً للشخصية، وتنعدم به الشروط الطبيعية والضرورية للحياة الكريمة، التي ينشدها أي إنسان، فالكاتب أراد من وراء ذلك أن يحمل المكان دلالة نفسية أكثر من حالة واقعية. ويؤكد ذلك حين يختار لحظة العودة إلى البيت "تقترب الحافلة من تقاطع الطرق المؤدية إلى مدينة المجدل، يخفض السائق سرعتها بضغطات متتابعة على الكابح.... الإشارة الضوئية خضراء.... يواصل السائق اندفاعه جهة الجنوب إلى غزة وتتأرجح رؤوس العمال نعاساً وتعباً.... يطبق الصمت على كل شيء ولا يقطعه إلا صوت اندفاع محرك الحافلة في تواصل ورتابة.... أفتح عيني بعد خمس عشرة دقيقة، يفاجئني الهدوء، وانقطاع صوت المحرك.... أنظر من النافذة.... الأنوار الصفراء تغطي الساحة.... أين نحن؟ أفرك عيني.... آه حاجز التفتيش عند (إيرز) ...."(33) . لقد صور الكاتب (ساحة التاكسيات) والمصنع - من قبل -، ونقطة التفتيش (إيرز) ووصفها ضمن السياق – الزماني والمكاني – ليحرك مجموعة من المعاني ذات الدلالة السميائية، فتدور جميعها في حقل المعاناة اليومي لهذا العامل. والقارئ يلاحظ تأكيد الرواية الملح – في كل مرة – على العناصر المادية والموحية بالتجدد بشكل لافت للانتباه، مما يحملنا إلى القول بأن الزمان والمكان بكل تفاصليه السابقة يتخذ قيمة دلالية، فكأن هذه الأماكن – خاصة الساحة – وهؤلاء الناس (العمال) مقبلون على حال أو عهد جديد، فالواقع المعيشي– على هذه الصورة– لا يمكن أن يستمر، فكل لحظة من الزمن، وكل صورة من الأماكن التي ذكرها الكاتب، توحي بحزم دلالية يجعلها شاهداً على معاناة هؤلاء العمال، فلا زمان للنوم عندهم، ولا مكان للراحة الجسدية لهم.

    وخلاصة القول فإن هذه الدراسة قدمت تحليلاً سميائياً لرواية (وجوه في الماء الساخن). حاولنا أن نقف على بعض الجوانب الفكرية والقضايا الإنسانية والسياسية، أرادها الكاتب، وكانت تكمن داخل وعيه، وتجسيد كثير من الانفعالات والأحاسيس (الخوف، والإحباط، والمعاناة) من خلال سلوكات الشخصية، بحيث رسم لنا خارطة ثقافية كاملة للمجتمع تبين شكل الثقافة السائدة في تلك المرحلة، فعلى الرغم من توافر العمل، ونزول خط الفقر إلى أقل معدلاته، إلا أن الثقافة المسيطرة على المجتمع كانت ثقافة الخوف والإحباط والمعاناة. وقد عمل الكاتب خلال عملية السرد أن يضع تقعيداً لهذه الثقافة، أي أن يكشف عن مجموعة من القواعد التي حكمت إنتاج هذه الانفعالات، والتي بد

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد أبريل 28, 2024 8:36 pm