منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    ( المقاربة الميكروسردية) تابع

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

     ( المقاربة الميكروسردية) تابع Empty ( المقاربة الميكروسردية) تابع

    مُساهمة   السبت ديسمبر 18, 2010 11:55 am

    [center]#

    المبحث الثالث: معيار القراءة والتقبل:

    1- مقياس الاشتباك:

    من أفضل القصص القصيرة جدا تلك القصص التي تشتبك مع قارئها ذهنيا ووجدانيا وحركيا عبر مجموعة من العمليات التفاعلية كالإدهاش والإبهار والإرباك والمفاجأة والحيرة الدلالية والتركيز على الوقع الجمالي والتحكم في المسافة الجمالية ومراعاة أفق التلقي وتخييبه وتأسيسه من جديد.
    وتسهم قصص التلغيز مثلا في إثارة مخيلة القارئ، بينما تثير قصص التنكيت في إثارة وجدان القارئ وتحريكه سيكولوجيا. أما قصص السخرية والمفارقة فهي تساهم في دغدغة المتلقي واستفزازه ذهنيا وروحيا عبر الفكاهة والباروديا والتهجين الأسلوبي. بينما القصص المباشرة التقريرية فهي تبلد عقل القارئ، وتخلق معه علاقة تفاعلية سلبية تتسم بالرتابة وتقديم كل شيء جاهز على طبق من ذهب.

    2- مقياس المفاجأة:

    تعمل كثير من القصص القصيرة جدا على مفاجأة المتلقي وإثارته فنيا وجماليا ودلاليا ، واستفزازه عن طريق الانزياح والصورة الومضة، وإيقاعه في شرك الحيرة والتعجب اندهاشا وإرباكا وسحرا. وتكون هذه المفاجأة عند حدوث الوقع الجمالي وانتهاك المسافة الجمالية، وتخييب أفق انتظار القارئ، وخلخلة مفاهيمه وتصوراته المسبقة عن العمل.
    كما تعمل بدايات هذه القصص ونهاياتها على مفاجأة المتقبل بعوالم إبداعية جديدة لم تكن في حسبانه، إذ تنماز عوالم القصة الواقعية والحلمية والافتراضية بخاصية التوهج والتنوير التشخيصي والمجازي.
    وتمتاز قصص مصطفى لغتيري وغيره من مبدعي القصة القصيرة جدا باستعمال مكون المفاجأة لإدهاش المتلقي وإرباكه، وخلق لغة الغموض والتخييل ، وتخييب أفق انتظار المتلقي مع دفعه اضطرارا وقسرا نحو التخييل وافتراض الأجوبة الممكنة، وتشويق القارئ لملء فراغ النص وبياضاته المسكوتة .
    يقول عزالدين الماعزي في قصته الملغزة " شكون":
    " خرج من بيته على دقات الساعة العاشرة صباحا، طلبت منه الزوجة أن يوصل الخبز إلى الفران، رفع كتفه، فتل شاربه ومضى...
    التصقت بساقه الصغرى دفعها خلفه وصفق الباب بعنف...
    في العاشرة ليلا عاد ثملا، فتش في سترته، أدخل يده في جيب سرواله، عن حزمة المفاتيح التي...بدل عاود دون جدوى.
    طويلا بحث...على إيقاع الضجيج الذي أحدثه أطلت الزوجة من كوة النافذة...قالت..."

    فهذه القصة مفاجئة للمتقبل الذي تعود على النهاية الكلاسيكية المعطاة؛ لأن نهاية هذه القصة بقيت غير مكتملة تنتظر القارئ أن يملأ بياضها، وأن يتخيل كل الإجابات الممكنة والمفترضة.

    3- مقياس الإدهاش:

    تعد خاصية الإدهاش من أهم خاصيات القصة القصيرة جدا الناتجة عن الإضمار والغموض والحذف والتخييل وترك البياضات الفارغة واصطناع لغة المفارقة والعلامات الملتبسة المحيرة التي تساهم في خلخلة ميثاق التلقي وإرباك القارئ على مستوى التلقي وتقبل النص كما يتضح ذلك في قصة: " السكوت من ذهب" التي التجأت إلى الإيجاز المقتضب واستعمال الحكمة الساخرة والفكاهة الواعية والنادرة الذهنية التي تستوجب من المتلقي استعمال الخيال والعقل وتشغيلهما من أجل تفكيك دوال المنطوق لبناء المفهوم:
    " لكي يصبح الرجل ثريا،
    قرر أن يصمت إلى الأبد".
    ومن ثم، تهدف القصة القصيرة جدا إلى دغدغة المتقبل وجذبه لمشاركة الكاتب في انبناء نصه. لذا، يدهشه المؤلف بالبياضات الكثيرة، والفراغ الصامت ، والتلغيز المحير، والتنكيت الساخر، وقلب المواضعات المألوفة رأسا على عقب.

    المبحث الرابع: المعيار التركيبي:

    1- مقياس الجمل البسيطة:

    كلما كانت القصة القصيرة جدا مبنية على الجمل البسيطة ذات المحمول الواحد، وابتعدت عن الجمل الطويلة والمركبة ذات المحمولات المتعددة كانت القصة أكثر تركيزا واقتضابا واختزالا وانبهارا للقارئ وإدهاشا له.
    لو تأملنا قصص مصطفى لغتيري وحسن برطال فهي مبنية تركيبيا على الجمل البسيطة ذات المحمول الواحد سواء أكان محمولا فعليا أم اسميا أم ظرفيا أم حاليا... وتقوم الفواصل وعلامات الترقيم الأخرى كالاستفهام ونقط الحذف والنقطة وعلامة التعجب أو التأثر بدور هام في تقطيع الجمل وتكثيفها واختزالها إلى نوى محمولية. وتهيمن في هذه القصص القصيرة جدا محمولات الجمل الفعلية للتدليل على الحركية والتوتر الدرامي وإثراء الإيقاع السردي وخلق لغة الحذف والإضمار.
    أما المحمولات الاسمية فتأتي للتأكيد والتقرير والوصف وتبيان الحالة. ومن هنا، فالغرض من توظيف الجمل البسيطة بكثرة في القصة القصيرة جدا هو البحث عن إيقاعية متناغمة لجنس القصة القصيرة جدا وتسريع الأحداث بشكل ديناميكي حيوي، والميل إلى الاختزال والحذف والاختصار وتشويق القارئ، والابتعاد عن التطويل والإطناب والإسهاب.

    2- مقياس الأفعال:

    يلاحظ نقديا أن كثيرا من كتاب القصة القصيرة جدا يكثرون من الجمل الفعلية أو الجمل الاسمية التي خبرها جملة فعلية أو يكثرون من الجمل الرابطية ذات الطاقة الفعلية. ويعني هذا أن الجمل الفعلية تسهم في تفعيل الحبكة وتأزيمها توترا وتعقيدا ودرامية، كما أن الجمل الفعلية دالة على الحركة والحيوية والفعلية الحدثية من خلال تتابع الأفعال وتراكبها استرسالا أو تضمينا.

    3- مقياس التراكب:

    من أهم الظواهر البارزة التي تلفت الانتباه في القصة القصيرة جدا نجد ظاهرة تراكب الجمل وتتابعها في سياق النص من أجل تأزيم العقدة ، وخلق التوتر الدرامي عبر تسريع وتيرة الجمل ، وركوب بعضها البعض ولاسيما في القصص التي تسرد بواسطة الجمل الفعلية المسردة كما في قصة شهد الملكة(ص:27):" من بعيد تراءت له الملكة تتقاطر عسلا، وتجللها- ببهاء- هالة من نور بخطوات حالمة دلف نحوها...دنا منها... مرتبكا مد سبابته...أغمض عينيه وغمس الأصبع في العسل... تذوق قطرة واحدة، فغدا العالم من حوله بطعم، أبدا لم يعد قادرا على تحمله".
    نلاحظ في هذه القصة مجموعة من الجمل الإسنادية التي تخضع للتتابع والتراكب السريع بشكل يؤدي حتما إلى تسريع النسق القصصي وإسقاطه في شرنقة التأزم والتوتر الدرامي الحركي كما يدل على ذلك النسق الفعلي التالي:تراءت، تجللها،دلف، دنا، مد،أغمض، غمس،تذوق، غدا، يعد...فمسافة هذه الأفعال المتراكبة قريبة ومتجاورة ؛ مما يساعدها على خلق لوحة مشهدية درامية أو لقطة فيلمية نابضة بالحركة والسرعة الإيقاعية.
    ومن أهم الملاحظات التي نستخلصها من خلال تتبعنا لقصص عز الدين الماعزي في مجموعته :" حب على طريقة الكبار" تراكب الجمل وتداخلها وتعاقبها استرسالا وانسيابا بدون حدود وفواصل تركيبية ونظمية. وهذا الترادف والتراكب الجملي والمزاوجة بين الجمل البسيطة والجمل المركبة هو الذي يعطي لقصصه رونقها الإبداعي الشاعري ومتعتها الجمالية الفنية وفائدتها الرمزية كما في هذه القصة التي تصور زلزال الحسيمة وانبطاح ليلى و ضياع أحلامها الوردية بوفاة كل أفراد أسرتها:" بعد ثوان من زلزال الثلاثاء الأسود بالحسيمة، توفي كل أفراد أسرة ليلى، وحيدة ليلى تذرف دموع الفراق لا تعرف ليلى كيف حصل ذلك هي التي كانت تحلم بيوم سعيد وبعالم بدون حواجز...هي الآن وحيدة وحيدة، ترى الحزن بعين واحدة يطل من كل العيون تكتفي بالنظر إلى هذه الثواني التي مرت وراء زجاج نافذة المستشفى. هي التي كانت ترسم بالألوان ما خطته بقلم الرصاص مثل فراشة وتتلعثم بأحرف الهجاء وأناشيد الطفولة كلما خلت إلى نفسها تغني وهي تقفز على الحبل".
    وعلى أي حال، فمقياس التراكب يعد من أهم أركان القصة القصيرة جدا ومن أهم مكوناتها المعيارية الأساسية.

    4- مقياس التتابع:

    يستند الكاتب في تحبيك قصصه القصيرة جدا إلى توظيف إيقاع سردي يتميز بالسرعة والإيجاز وكثرة التعاقب في تسلسل الأحداث وتتابع الأحوال والحالات. ومن الأدلة على ذلك الإتباع الفعلي وكثرة الاسترسال في الجمل والأفعال التي تصور حركية الأحداث وسرعتها الانسيابية مثل اللقطات السينمائية السريعة والوجيزة. ومن ثم، يمكن إدراج قصص عز الدين الماعزي ضمن القصص اللقطات أو القصص الألغاز والتنكيت على غرار نوادر جحا وأخبار الحمقى والمغفلين الموجودة في سردنا العربي القديم. ومن الأمثلة القصصية المعبرة عن خاصية تسريع الإيقاع السردي قصة ( بدون) :" دخل الحمام بقفته الفوطة الملابس الداخلية صابونة مشطا محكا وشامبوان...
    نزع كلابسه ثوبا ثوبا ودخل للاستحمام.
    جاء الكسال دعك أطرافه جره جذبه ثناه طواه حمله وضعه أسنده كتم أنفاسه أفرغ عليه الماء وخرج التفت وجد نفسه بدون..."(ص:48). ويظهر هذا أيضا واضحا في آخر قصة (بالثلثين): " أغمض هدم ناقش راسل دوزن حول وظف حاصر جادل فوت."(ص:64).

    وتمتاز قصص الكاتب بتتابع الأفعال وانسيابها استرسالا وانثيالا كما في قصة " منسج":" كعادته، يستيقظ جدي باكرا، يغسل تعب المساء، يغلق خلفه باب الدار القديمة، ثم يبتلعه الحقل في كل الأحوال.
    و..تذوب الشمس، و... يتكور جدي، يرتعش، و...ينام.
    وكعادتها، جدتي، تنكب خلف المنسج كي تصنع جلبابا لجدي الذي يؤوب عيانا كل مساء.
    ويتكور،و...يرتعش من البرد و...
    يخبئ يديه بين فخذيه بحثا عن دفء لذيذ..."(ص:46).

    ومن أهم القصص التي انساقت وراء الإتباع الفعلي قصة إبراهيم الحجري:" حياة":

    " ولد. صرخ. حبا. مشى. ضحك.
    بكى.تعلم.شب.أجيز.تعطل.ناضل.سجن.ترشح.فاز.اغتنى.افتق ر.صلى
    .حج.ضعف.مرض.مات.دخل جهنم."

    فهذه القصة نموذج رائع لتتابع للأفعال والجمل، وتحمل في طياتها روح السخرية والطابع الكاريكاتوري في انتقاد الإنسان الجشع والطامع.

    5- مقياس التسريع:

    يوظف الكاتب في تحبيك قصصه القصيرة جدا إيقاعا سرديا يتميز بالسرعة Tempo. وهذا الإيقاع ناتج عن تراكب الجمل وتتابع الأفعال منطقيا وكرونولوجيا، والميل إلى الإيجاز وكثرة التعاقب في تسلسل الأحداث وتتابع الأحوال والحالات. ومن تجليات الإيقاع السريع في القصة القصيرة جدا الإتباع الفعلي وكثرة الاسترسال في الجمل والأفعال التي تصور حركية الأحداث وسرعتها الانسيابية مثل اللقطات السينمائية السريعة والوجيزة.
    هذا، ويقول خوصي خيمينيث لوتانو:" أن لكل نوع من السرد درجة عالية داخلية خاصة به أو ما يسمى Tempo أي درجة سرعة في غناء مقطع موسيقي، والقصة القصيرة جدا لها سرعة خاصة بها، ولها توتر آخر. وهي تعتمد على المحذوف ، والتشذيب، والتركيب، والمقتصد، والبنية الموجزة الدقيقة، والمعمقة."
    وتستغرق القصة القصيرة جدا مدة ثانية من القراءة والتقبل. لذا، فهذه القصة المستحدثة معدة" للقراءة الملائمة للقطارات، والطائرات، وقاعات الانتظار، وأماكن الحياة اليومية حيث يصبح الانتظار والقلق ملازمين لنا. وبالنسبة للكتاب القلقين والصعاليك، جاءت القصة القصيرة جدا لتصير مشروع المحتمل. "
    هذا، وتنبني قصص حسن برطال في مجموعته :" أبراج" على السرعة في تشغيل الإيقاع السردي ، وتوظيف الأحداث الأساسية بحركية مكثفة في تعاقبها أو تسلسلها مع استعمال تقنية الحذف والإيجاز ، و الاستغناء عن الوصف والإسهاب التصويري. لذلك تتراكب الجمل والأفعال والأسماء والأحداث في تتابع مستمر قائم على القفز والإضمار والثغرات المحذوفة.

    6- مقياس التناغم الداخلي:

    تنبني القصة القصيرة جدا على البناء المحكم والوحدة الموضوعية والعضوية والاتساق والانسجام، وارتباط العنوان بالنص أو ارتباط البداية بالنهاية. ويتم اتساق القصة بمجموعة من الروابط اللغوية الشكلية كأسماء الإشارة والأسماء الموصولة وضمائر الإحالة والاستبدال والحذف والتكرار اللفظي والدوران حول لفظ واحد. كما ينبني الانسجام على مجموعة من العمليات الذهنية كالمعرفة الخلفية والتشابه والسياق العام والخاص والتغريض الموضوعاتي والعنونة والخطاطات والمدونات والسيناريوهات.
    وتستند مجموعتا مصطفى لغتيري:" مظلة في مقبرة" و"تسونامي" إلى صور قصصية متناغمة داخليا وملغمة بإيقاع متموج بالأزمات ومتوهج بالعقد المتنافرة التي تنتظر الانفراج والانبثاق النهائي. كما أن هذه الصور تطفح بالإضمار والحذف وكثرة الألغاز السردية المحبكة بإتقان شديد، وكل هذا من أجل خلق شعرية متوترة ومتشققة بشظايا التلميح والتعريض والنقد لتعرية الذات والمجتمع والعالم الإنساني كما في قصته:" الغريب":

    " في بلادنا شجرة وارفة الظلال..
    جاء الغريب اشتراها، وطردنا بعيدا،
    لنصطلي تحت نيران الشمس الحارقة..
    بعد زمن، رحل الغريب..
    مبتهجين عدنا إلى الشجرة، فلفحتنا ظلالها الحارقة"

    كما يستعين التناغم الداخلي للقصة القصيرة جدا بمجموعة من الروابط المنطقية والحجاجية ، حيث يستعمل الكاتب التركيب الحجاجي والاستدلال المنطقي في بناء المقدمات والحجج والبراهين الافتراضية من أجل الوصول إلى النتائج، وهذا التركيب الحجاجي هو الذي يحقق للنص تماسكه واتساقه وانسجامه التركيبي والدلالي من خلال تشغيل الكاتب للمنطق الأرسطي الصوري والاستغراق الاستدلالي الجملي عبر التدرج من الجزء والخاص إلى الكل والعام والعكس صحيح أيضا.
    ومن الكتاب الذين استعانوا بالتركيب الحجاجي من أجل تحقيق التناغم الداخلي نذكر مصطفى لغتيري في مجموعته:" تسونامي" التي توصل إلى استنتاج عام :" حتما، يجب أن أكون سعيدا لأن كل من حولي سعداء" بناء على مجموعة من المعطيات الاستقرائية السابقة:

    " قال الابن:
    - أنا سعيد، لأن أبي يشتري لي كل ما أحتاجه.
    - قالت البنت:
    - أنا سعيدة لأن أبي يسمح لي بالذهاب أينما شئت. قالت الزوجة:
    - أنا سعيدة لأن زوجي أبدا لا يرفض لي طلبا.
    - قال الزوج، وقد ظفرت من عينيه دمعة:
    - حتما، يجب أن أكون سعيدا لأن كل من حولي سعداء".

    وتوظف الكاتبة الزهرة رميج جملا فعلية قصيرة قائمة على التراكب والتتابع السردي والزمني والحجاجي من خلال توظيف مجموعة من الروابط اللغوية الحجاجية التي تساهم في خلق الاتساق المنطقي والانسجام المقروئي مثل : حتى، إذا، لم، ثم، إذ، لكن- ما إن...
    وتنماز القصة القصيرة جدا بالتناغم الداخلي عن طريق استخدام التجانس الصوتي والتنغيمي والإيقاعي على غرار الشعر محاكاة ومحاذاة من أجل خلق إيقاعية جمالية خاصة بها من خلال التلاعب بالألفاظ تنغيما وتبئيرا وتجنيسا وتوازنا وتشاكلا على مستويين ألا وهما: مستوى التآلف ومستوى الاختلاف.
    ومن ثم، نلاحظ الحروف والأصوات والتراكيب والعبارات تتقطر بالموسيقى والنغمات المترنمة بفضل تشابه الفونيمات والمورفيمات والمونيمات والجمل صياغة ووزنا .
    وتسهم الأصوات المهموسة والمجهورة والشديدة والرخوة والمتوسطة والمائعة والأنفية في تنغيم القصة وتبئيرها إيقاعيا كأنها قصيدة شعرية . لذا، سمى البعض القصة القصيرة جدا أقصودة أو نثيرة أو قصة شاعرية.
    ولا ننسى أهمية التكرار لوظائفه الحجاجية والدلالية والإيقاعية فهو يحقق للقصة بعدها الموسيقي وإيقاعها الداخلي والخارجي:
    يقول مصطفى لغتيري في قصة" كرز":

    " أنا أحب الكرز...أنا أتلمظ الكرز...
    وكانت طومي تحكي لي كثيرا عن الكرز...
    حتى صرت أراها كرزا...
    لذيذة وطرية...
    في عينيها كرز..
    في فمها كرز..
    فوق نهديها كرز..
    وأحيانا كنت أتذوق الكرز..."

    تشبه هذه القصة المركزة القصيدة الشعرية في بناها الإيقاعية والتنغيمية بسبب التكرار المشع المتوهج وبفضل تشابه الحروف كالكاف والراء والزاي والهاء واللام والميم....
    وتستند الكاتبة فاطمة بوزيان في ترصيفها اللغوي إلى التجنيس اللفظي والصوتي من أجل خلق لغة إيقاعية انزياحية وعبارات موحية كما في قصة:"تواطؤ" التي تتداخل فيها الكلمات المتوازية والعبارات المتماثلة والصيغ الصرفية المتجانسة والتلاعب بالأصوات المتشاكلة والألفاظ المموسقة:

    " قالت له:
    - وردة المحب، قلبه!
    استأذنته أن تسألها....بتلك اللعبة الصبيانية راحت تقشرها
    - يحبني لا يحبني، يحبني لا يحبني، يحبني!
    تأمل الساق العاري فكر في ساقيها، وشكر في سره الوردة الشهيدة على التواطؤ."

    يستند مصطفى لغتيري إلى كتابة قصص قائمة على التماثل الصوتي والتوازي الإيقاعي الناتجين عن تكرار الوحدات الصوتية وتجانس الفونيمات المتقاربة من حيث الصفات والمخارج، وتماثل المورفيمات الصرفية والمونيمات المعجمية والتراكيب النحوية والبلاغية. ففي قصة " أسرة" تتكرر الكلمات المشتقة من السعادة كسعيدة وسعيد وسعداء، والكلمات المشتقة من الزواج كزوج وزوجة ، وكلمات البنوة كالابن والبنت، كما تتكرر مجموعة من الأصوات المهموسة كالسين والتاء والأصوات الأنفية المجهورة كاللام والميم والنون. كما يتعدى التماثل الإيقاعي ماهو صوتي ومعجمي إلى ماهو تركيبي حيث تعاد جمل بنفس الصيغة التركيبية كجملة : أنا سعيد أو أنا سعيدة، وجملة: قال الابن، وقالت البنت.
    وعلى العموم، يتسم جنس القصة القصيرة جدا بالإيقاع السريع الثري الذي يترتب عن تراكب الجمل وتتابعها وبساطة التراكيب وكثرة الحذف والإضمار وشدة التكثيف والاقتضاب.
    هذا، ويلتجئ عبد الله المتقي في مجموعته " الكرسي الأزرق" إلى خاصية التكرار قصد خلق شاعرية إيقاعية داخل النص السردي:" في الصباح، سمع الشيخ عبد الباقي طرقا على الباب( الباب قفله صدئ، وكثيرا ما يتعطل المفتاح)، مشى يلهث بطيئا، ثم فتح الباب، كان ساعي البريد( ساعي البريد بدوره يحمل وراء ظهره ستة عقود من الرسائل وحقيبة قديمة)، يسلمه رسالة مضمونة ويمحي وئيدا.
    انتظر الشيخ عبد الباقي كثيرا من الاستنشاق والاستنثار،ثم فتح الرسالة وقرأ لنفسه في نفسه:" السيد عبد الباقي، احزم حقائبك هذا المساء، فلم يبق من الحلم إلا ساعات".
    في صباح اليوم الثاني، لم يسمع الشيخ عبد الباقي طرقا على الباب، لم يعد قادرا على الحياة، تعطلت كل الحواس( الحواس جثة جافة).
    وقد يحول التكرار الصوتي واللفظي والتركيبي القصة إلى قصيدة شعرية ذات إيقاع داخلي وخارجي يقوم بترديد نفس الأصوات المتوازية والكلمات المتماثلة والجمل المتوازنة كما في قصة(كرز) لعبد الله المتقي:" أنا أحب الكرز...أنا أتلمظ الكرز
    وكانت طامو تحكي لي كثيرا عن الكرز...
    حتى صرت أراها كرزا...
    لذيذة وطرية
    في عينيها كرز..
    في فمها كرز..
    وأحيانا كنت أتذوق الكرز"

    ومن هنا، فالتناغم الداخلي المترتب عن الوحدتين : الموضوعاتية والعضوية والاتساق والانسجام والتركيب الحجاجي والتوازي الإيقاعي والصوتي أهم مكون جوهري مخصص للقصة القصيرة جدا.


    المبحث الخامس: المعيار المعماري:

    1- مقياس البداية والجسد والقفلة:

    تتركب القصة القصيرة جدا من حيث البناء المعماري كما هو معروف من أجزاء ثلاثة أساسية، وهي: البداية والجسد والنهاية. ويلاحظ أن بين هذه الأجزاء علاقات ترابط واتساق وانسجام، فأي إخلال بجزء أو عضو ما، فإنه بلا محالة سيؤثر بالسلب على باقي الأعضاء الأخرى .

    أ- البداية القصصية:

    ينبغي للمبدع أن يجود استهلال قصته القصيرة جدا، و يختار البداية الموفقة، فيختار لها الأدوات المناسبة للاستهلال أو يدخل مباشرة إلى الأحداث اقتضابا واختصارا وتكثيفا وتركيزا. وعلي المبدع أيضا أن يبتعد قدر الإمكان عن المقدمات الإنشائية المستهلكة أو المجترة ، مثل: ذات يوم، وفي يوم من الأيام، وفي الصباح الباكر...
    وترد مجموعة من البدايات في القصة القصيرة جدا، ويمكن تصنيفها بالشكل التالي:

    - البداية التأملية: مثل: جلست تتأمل قطعة الحجارة الملساء.
    - البداية الشاعرية: يومض البرق، فيشق نوره جليد السواد...
    - البداية الحلمية: حليم طفل ككل الأطفال يحلم بسيارة وطائرة وسروال دجين وكاميو مثل كاميو عمه...
    - البداية السببية: لأنه جائع... رسم الطفل على الورقة تفاحة...
    - البداية الزمانية: عاشرتها سنوات طويلة.
    - البداية المكانية: في قمة الجبل كان جالسا جلسة الحكماء.
    - البداية الحدثية: خرج عازما على اقتناص حمامة يتلذذ بها حساء.
    - البداية الوصفية: الجو هذه الأيام ، شديد التقلب.
    - البداية الشخوصية: ما إن ألقى المدير نظرة على الورقة حتى صاح فيه..
    - البداية الحوارية: قالت الطفلة الصغيرة وهي تقهقه وتضغط بقوة على يد أمها..........
    - البداية الحكائية: يحكى في جديد الزمان وآني العصر والأوان.

    ب- الجسد القصصي:

    يمكن القول: إن ثمة ثلاثة أنواع من أجساد القصة القصيرة جدا: أولا: الجسد القصصي القصير وينبغي ألا يتعدى بعض الجمل القليلة جدا؛
    ثانيا: الجسد القصصي المتوسط قد يتخذ خمسة أسطر أو نصف الصفحة على أكبر تقدير.
    ثالثا: الجسد القصصي الطويل الذي يتعدى الصفحة أو يقترب في صياغته الحكائية من نفس القصة القصيرة أو من نفس الرواية أو نفس المسرحية أو الشعر .
    ويمكن القول أيضا: إن هناك جسدا قصصيا مقتضبا ومختزلا، وجسدا قصصيا متناميا ومتصاعدا.


    ج- القفلة القصصية:

    تسمى الخاتمة بالنهاية أو القفلة أو الخرجة، وهي مهمة في تركيب القصة القصيرة جدا، فكثيرا ما نسمع نصوصا في هذا الجنس الأدبي المستحدث، ولا نحس بتاتا بالخاتمة إلى أن يتوقف الكاتب عن قراءة القصة، فنصفق له إما تملقا وإما تشجيعا وإما إشادة.
    لذا، لابد أن يجود الكاتب خاتمته ويستحسن أن تكون مفاجئة وصادمة وخيبة لأفق انتظار القارئ، وأن تكون واخزة ومحيرة ومدهشة ومربكة. ويستحسن أن يتجنب الكاتب النهايات المستهلكة مثل: وأخيرا، وفي النهاية...
    وللقفة أنماط تركيبية عدة يمكن حصرها في هذه الأنواع التالية:

    - الخاتمة الكلاسيكية: أخيرا... كتبت قصة قصيرة جدا.
    - الخاتمة الشاعرية: فتتجمع جحافل الأمطار.
    - الخاتمة التراجيدية: بحثت عنها في كل مكان، فلم تجدها.
    - الخاتمة السعيدة: كانت السعادة تغمرها وهي تنتظر بشوق...
    - الخاتمة المفتوحة: أيهما تصدق؟ وحي الليل الجميل أم محو النهار الجارح؟
    - الخاتمة المغلقة: يفتح الطفل عينيه خائفا.
    - الخاتمة الحوارية: قالت: ما أحببتك إلا لأن في شيئا منك...
    - الخاتمة الحدثية: وصفر القطار معلنا وقت الرحيل.
    - خاتمة التلقي: هل أغرتك هذه اللعبة؟ مارسها عزيزي القارئ وسترى!
    - الخاتمة الزمانية: منذ ذلك اليوم، تعاهدت يده وعقله على أن لا يخضعا أبدا لإرادته.
    - الخاتمة المكانية: وبقي وحيدا في تلك الجزيرة الطافحة...
    - الخاتمة الوصفية: جندي شاب مفتول العضلات ، حاد النظرات، بجانبه طفلة جميلة تنظر إلى الأرض وهي تمسك بذيل فستانها الأبيض الطويل.
    - الخاتمة المضمنة:" أخيرا، سلمت الأستاذ ورقة تحريرها.ارتسمت على شفتيه شبه ابتسامة وهو يقرأ ماكتبته في أعلى الصفحة بخط عريض أحمر:" باسم الله الرحمن الرحيم، عليه توكلت وهو المعين".
    - الخاتمة الصامتة: على إيقاع الضجيج الذي أحدثه أطلت الزوجة من كوة النافذة...قالت...
    - الخاتمة الصادمة: يرفض الأكل...يقف.. .برفض الذهاب إلى المدرسة يخرج إلى الشارع يجمع الحجر ويستعد...
    - الخاتمة الساخرة: كل هذه الأيام وأنت تقرا القصص القصيرة جدا...؟؟
    - الخاتمة الخرجة: آش باغي... باغي قنبولة...بحال اللي كاتبان ف التليفزيون
    - الخاتمة الملغزة: جاء الكسال دعك أطرافه جره جذبه ثناه طواه حمله وضعه أسنده كتم أنفاسه أفرغ عليه الماء وخرج التفت وجد نفسه بدون....
    - الخاتمة المفارقة: مرة أوقفه أبوه، ضربه (الطفل الصغير) على قفاه، طلب منه النزول...مع تسليمه سوارت كاميو.

    2- مقياس التركيب الحدثي:

    يمكن الحديث عن أنواع من التركيب الحدثي على مستوى التنامي والتصاعد وتعاقب الأفعال والأحداث سببيا وكرونولوجيا، ومن أنواع هذه التراكيب الحدثية نذكر:

    أ - التركيب الدائري:

    تتوفر بعض القصص القصيرة جدا على بنية تركيبية دائرية مثل قصة: " تجربة":" فتح باب القفص، فارتعش العصفور، وخرج للتحري، بعد بضع جولات جاع، فبحث عن قفصه"

    ب- التركيب السهمي الصاعد:

    نجد في كثير من القصص القصيرة جدا البنية السهمية التي تنطلق من نقطة بدائية في الحاضر لتتجه نحو المستقبل عبر مجموعة من الأفعال والأحداث المتعاقبة والمتسلسلة تسلسلا منطقيا وزمنيا مثل قصة الكاتبة السورية ابتسام شاكوش:" تحرر":
    " وقفت تخطب على المنابر، حضرت اجتماعات، سارت في مظاهراتـ تحدت، ناقشت، أثارت قضايا، طرحت حلولا... وفي أول سانحة دخلت منزل الزوجية الدافئ، وألقت عبء تحرر المرأة على الأجيال القادمة"

    ج- التركيب السهمي الهابط:

    لانلاحظ في هذه الحالة تتابع الأفعال، بل نلاحظ تراجعا من الحاضر نحو الماضي هبوطا ونزولا كما في قصة: "فيزا":
    " سمع ابنه يقرأ رحلات ابن بطوطة
    تذكر وقوفه الطويل أمام تلك الإدارات
    وكل تلك الأوراق..
    وكل تلك الضمانات...
    تنهد بعمق وقال:
    - كم كانت الفيزا سهلة!"

    وعليه، فهناك أنواع عدة من التركيب الحدثي تستنبط من خلال قراءتنا للنصوص القصصية القصيرة جدا عن عمق ووعي جديين.


    المبحث السادس: المعيار البلاغي:

    1- مقياس الصورة الومضة:

    تستند الصورة الومضة إلى التوهج والإبهار والإدهاش واللحظات اللامعة المشرقة عن طريق التأرجح بين صور المشابهة وصور المجاورة والصورة الرؤيا، أي إن الصورة الومضة هي صورة مركبة ومركزة ومختزلة تنبض بالإشراق الروحاني واللمعان الوجداني والتفاعل الحركي.
    وتستخدم الصورة الومضة جميع الآليات التصويرية والتشخيصية كصور الانزياح وصور التنكيت والتلغيز مع استثمار الاستعارة والمجاز و صور التشخيص والأنسنة والترميز والإيحاء والتضمين لخلق عوالم تخييلية فانطاستيكية وأسطورية وأجواء كاريكاتورية قوامها السخرية والاستهزاء بما هو كائن والتنديد بالواقع السائد مع استشراف ماهو ممكن ومحال.
    ومن نماذج هذه الصورة الومضة قصة: "حريق" لمصطفى لغتيري:" على ورقتها رسمت ضحى نجمة...فجأة اشتعلت النجمة، فاحترقت الورقة... شبت النار في قاعة الدرس...هرب التلاميذ...أخبروا المدير، فنادى رجال الإطفاء.
    على عجل أطفئت النار...وجد المعلم يحتضن النجمة، لكنه لم يحترق"
    تمتاز هذه الصورة الومضة التي وظفها مصطفى لغتيري بالتشخيص المجازي والمفارقة والانزياح الدلالي والمنطقي.
    وهناك قصة أخرى بعنوان:" قوس قزح":
    " ارتدت الصبية فستانا أصفر فاقع لونه، يتخلله أحمر زاه...رنت بعينيها النجلاوين نحو المدى البعيد... ارتعش الكون.... خفق قلبه فرحا، ثم مالبث أن ارتسم في الأفق قوس قزح بألوانه الزاهية."
    وهذه الصورة نموذج للصورة الومضة المختصرة التي تربك القارئ بدلالاتها الانزياحية وتعابيرها المجازية الخارقة استعارة وأنسنة وإيحاء.

    2- مقياس المفارقة:

    ترتكز المفارقة على الجمع بين المتناقضات والمتضادات تآلفا واختلافا، كما تنبني على التناقض وتنافر الظواهر والأشياء في ثنائيات متعاكسة ومفارقة في جدليتها الكينونية والواقعية والتخييلية.
    وتعتمد كثير من نصوص القصة القصيرة جدا على عنصر المفارقة القائم على التضاد والتقابل والتناقض بين المواقف أو بين ثنائية القولي والفعلي والاعتماد على التعرية الكاريكاتورية والكروتيسك وتشويه الشخصيات والعوالم الموصوفة والأفضية المرصودة بريشة كوميدية قوامها التهكم والباروديا والتهجين والأسلبة والانتقاد والهجاء.
    والمفارقة في الحقيقة هي:" عنصر من العناصر التي لاغنى عنها أبدا، وتعتمد على مبدإ تفريغ الذروة، وخرق المتوقع، ولكنها في الوقت ذاته ليست طرفة، وإذا كانت هذه القصة تضحك المتلقي، في بعض الأحيان، فإنها تسعى إلى تعميق إحساسه بالناس والأشياء، ولعل إيجاد المفارقة أن يكون أكثر جدوى في التعبير عن الموضوعات الكبيرة، كالعولمة والانتماء ومواجهة الذات."
    وهذه الكاتبة المغربية السعدية باحدة توظف المفارقة التاريخية بطريقة ذكية تحير القارئ برموزها البعيدة والعميقة كما في قصتها:" تهمة":
    " تصاعد الدخان من روما...اتهموا نيرون
    ماكان نيرون بالكمان مفتونا...
    ماكان عاقلا وماكان مجنونا...
    اسألوا تاسيتوس فعنده الخبر اليقين:
    إن روما هي التي أحرقت نيرون"

    ونجد هذه المفارقة في قصص عزالدين الماعزي كما في قصته الساخرة المفارقة" قصص طويلة جدا":

    "كلمته ابنته عبر الهاتف عن سر غيابه الطويل عن البيت...قال..
    إنه في ندوة ثقافية يشارك بقراءات قصصية قصيرة سيعود بعد ثلاثة أيام...
    قالت...
    كل هذه الأيام وأنت تقرأ القصص القصيرة جدا...؟؟"

    يلاحظ أن الكاتب وظف في قصته المفارقة القصصية الإبداعية عن طريق تشغيل الأضداد: طويلة جدا# قصيرة جدا، غيابه الطويل# قراءات قصصية قصيرة. وتوقع هذه المفارقة دلالات القصة ومضامينها الإبداعية في منطق الاستحالة والتناقض غير المقبول عقليا.

    3- مقياس السخرية:

    تعد السخرية من أهم المكونات الجوهرية للقصة القصيرة جدا ، وذلك من خلال عمليات الإضحاك والكروتيسك والتشويه الامتساخي والتعرية الكاريكاتورية والنقد الفكاهي والهجاء اللاذع.
    ومن يتأمل قصص مصطفى لغتيري وقصص غيره من كتاب القصة الكبسولة كعبد الله المتقي، وفاطمة بوزيان، وجمال بوطيب، وعز الدين الماعزي ،وسعيد بوكرامي،ومحمد العتروس،وسعيد منتسب،ومحمد تنفو، وحسن برطال، ورشيد البوشاري، وأنيس الرافعي، وهشام بن شاوي، وأحمد الويزي، ومصطفى الكلتي، ومحمد عز الدين التازي، وكريم راضي، ومحمد زيتون، ومحمد الكلاف، وميلود بنباقي، ومحمد مفتوح؛ ومصطفى بندحمان... فإنه سيصادف ظاهرة السخرية الناتجة عن المفارقة الصارخة، والانزياح المنطقي، وكثرة الباروديا ، وهيمنة الخلل العقلي، وتكسير المواضعات السائدة ، وتخييب أفق انتظار القارئ، وانقلاب موازين القيم ، وانكسار القواعد السائدة المقبولة ذهنيا وواقعيا أمام اللاعقلانية الضاحكة وحقيقة الجنون.
    يقول مصطفى لغتيري في قصته :" وثيقة" :" لأنه يحب الوطن حبا جنونيا، اعتقلته السلطات، واحتفظت به في زنزانة منفردة، خوفا عليه من الضياع.
    إنها – اللحظة- تفكر جديا في عرضه في المتحف الوطني".
    يعتمد الكاتب في هذه القصة الساخرة على تعيير الواقع المتناقض، والثورة على الوعي الزائف، وإدانة سياسة الاستلاب وتزييف القيم الإنسانية، كما تقوم هذه السخرية على الفكاهة والتنكيت والتهكم والتعريض والتلميح والإيحاء والضحك كالبكاء.
    وتتميز قصص حسن برطال بسمة السخرية من الواقع الإنساني الذي انبطح إلى أسفل سافلين، وتقزم فيه البشر وصاروا كائنات ممسوخة بالشر وزيف القيم . ومن هنا تطفح قصص الكاتب بروح السخرية والانتقاد البشع للواقع المغربي بصفة خاصة والواقع العربي بصفة عامة كما في هذا المقطع القصصي الذي يوحي بالعبثية الساخرة والسياسة الماكرة:" تصدع الجدار ثم انهار...وللوقوف على سبب الحادث حمل الخبراء"حجيرة" وبعض العينات من الركام إلى المختبر لدراسة هذه المواد المستعملة في البناء..." .
    وتبلغ السخرية وقعها المأساوي في هذه القصة الموحية:" دعته الوكالة البنكية لتصفية حسابها معه....حمل ساطورا وصفى حسابه مع المدير..."

    وتلتجئ الكاتبة الزهرة رميج كذلك إلى أسلوب المفارقة والسخرية الكاريكاتورية لتعرية الواقع وانتقاده تعييرا وتحقيرا لبشاعته وحقارته وفظاظته القيمية وانحطاطه أخلاقيا واجتماعيا وإنسانيا كما في قصة: ذوق":

    " مل عالم المومسات الذي أدمنه زمنا طويلا.
    أراد أن يتزوج امرأة صالحة.أصبح يواظب على مراقبة الفتيات المارات أمام المقهى.
    أخيرا، عثر على ضالته. تبعها في تهيب، وقد قرر الكشف عن نيته.ما إن أصبح محاذيا لها، حتى بادرته هامسة:
    لا أتجاوز ربع ساعة . والدفع مسبقا.هات المبلغ بسرعة، واتبعني عن بعد".

    وهكذا، تعتبر السخرية من أهم المكونات البلاغية للصورة القصصية القصيرة جدا بسبب طاقتها التعبيرية والإيحائية والرمزية.


      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد مايو 19, 2024 7:31 pm