منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    التناص الأسطوري في الشعرالعربي المعاصر

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    التناص الأسطوري في الشعرالعربي المعاصر Empty التناص الأسطوري في الشعرالعربي المعاصر

    مُساهمة   الأربعاء ديسمبر 29, 2010 1:02 pm

    التناص الأسطوري في الشعرالعربي المعاصر-قراءة في شعر عبد الوهاب البياتي- بقلم : أ.عبدالقادر طالب

    [ شوهد : 63 مرة ]

    التناص الأسطوري في الشعرالعربي المعاصر 1293575904

    " كل بداية تفترض قراءة لما مضى, فقد كنا نشعر أنّ الموهبة وحدهالا تكفي..." أدونيس

    -يتطرق هذا المقال الأدبي النقدي الى البحث في دوافع ،وآليـــــات
    وجماليات التوظيف الأسطوري في الخطاب الشعري العربي المعاصر،قراءةفي شعر
    الشاعرالعراقي" عبد الوهاب البياتي "،هذا الأخير الذي يعتبر واحدا من بين
    القليلين الذين أرسواللقصيدة العربية المعاصرةقواعد،وتقاليدجديدة
    وكرّسواصيغاً للخروج على ما استقرّ في ذاكرة القرون العربية من شعر...







    عبد الوهاب البياتيالتناص الأسطوري في الشعرالعربي المعاصر 13847_
    -
    لعلّّ من الظـواهر الفنية المميزة للقصيدة الشعرية المعاصرة اعتمادها علـى
    استحضار و توظيف النصوص و الرموز الأسطورية المختلفة ، بل لقد أضحت
    الأساطير تشكل بنية فنية من بنى النّص الشّعري المعاصر .
    والأسطورة
    ( MYTHE ) كما جاء مع الدراسات النقدية ليس لها مفهوما جامعا ، محددا،
    ودقيقا كون أن الباحثين اختلفوا فـي « تحديد نشأتها وطبيعتها وميدانها
    ومدلولاتها ، ولكنهم اتفقوا في أنها تمثل طفولـة العقل البشري وتقوم
    بتفسير الظواهر الطبيعية كالرعد والمطر والطوفان والخصب والموت برؤى
    خيالية توارثتها الأجيال كحقائق علمية زادتهـا الأيام تعديلا وتبديلا
    وفيهـا قصص الخلـق والأخلاق والعـادات والشرائع والمغامرات التـي حفلت
    بضروب من الخوارق والمعجزات ...»
    لكن السؤال الذي يطرح نفسه مفاده: ما سرّ ارتباط الشعر المعاصر بالأسطورة ؟ وكيف اتجه إلـى توظيفها ؟
    في ضوء هذا التساؤل يمكن القول أن الأسطورة تمثل « توأم الشعر » ذلك أن
    العلاقة بينها وبين الفن والشعر علاقة قديمة حيث كانت « الأساطير مصدر
    إلهام للفنان والشاعر ، وكم ... من الأعمال الفنية والشعرية ما هو صياغة
    جديدة لأسطورة من الأساطير القديمة ... ذلك أن الأسطورة ليست مجرد نتاج
    بدائي يرتبط بمرحل ما قبل التاريخ أو بعصور التاريخ القديمة في حياة
    الإنسان .... وإنما هي عامل جوهري وأساسي في حياة الإنسان في كل عصر وفي
    إطار أرقى الحضارات » .
    وقد اتجه الشاعر المعاصر إلـى استخدام الأساطير باتخاذها قوالبا فنية
    رمزية وأبعادا دلالية يمكن من خلالها التعبير عن قضايـا واقعية المعيش
    فضلا علـى « أن استلهامها يثري العمل الفني ، وبخاصة إذا تتضمن موقفا
    معاصرا وعبر عن تجربة جديدة » ، وقد تأثر الشاعر العربي المعاصر فـي ذلك
    بنظيره الشاعر الغربي الحديث بعد إطلاعه على نماذج من أشعاره التي وجدها
    مشبعة بعالم الأساطير القديمة المختلفة فحاول هو الآخر محاكاته والاستفادة
    من كل الأساطير في صوغ متونه الشعرية وفق ما يتناسب ورؤياه اتجاه المواقف
    التي حاول معالجتها ، ومن أهم الأساطير التي تعامل معها الشاعر المعاصر
    نذكر على سبيل المثال أسطورة السندباد ، سيزيف بروميثيوس ، تموز ، وعشتار
    ، إيزيس ، أوزوريس وغير هـا من الأساطير ،غير مبال ولا مكترث فـي ذلك من
    أي ثقافة تنحدر سواء كانت بابلية أو يونانية أومسيحية ، أو حتى ذات أصل
    جاهلي وثني .
    أما بالنسبة للاستخدام ( التوظيف ) الأسطوري في شعرنا المعاصر فقد تراوح بين نوعين من الاستخدام لدى الشعراء :
    - النوع الأول : استخدم الأسطورة استخداما خارجيا آليا مما أبقى الأسطورة
    منفصلة عن التجربة المعاصرة ، وفي هذه الحال ظلّّت الأسطورة مجرد زخرف
    تعكس ثقافة الشاعر أكثر مما تكون دليلا على شاعريته ، ونجد هذا النوع خاصة
    في بدايات توجه شعرنا المعاصر إلى استخدم الأسطورة .
    - النوع الثاني : استخدام الأسطورة استخداما داخليا ، بنائيا ، باستلهام
    حالها وتحويلها إلى شعر ،حيث يوظّفها الشاعر للتعبيـر عن تجربة معاصرة
    بإخراجها من نطاقها القديم وتحميلها أبعـادا معاصرة ، تعبر عن تجربة
    الشاعر الذي يتقمص الشخصية أو يتناول الحدث ليعبر من خلالهما أو من خلال
    أحدهما تعبيرا غير مباشر عن إحساسا ته ، وبالتالي تخرج الأسطورة على كونها
    تاريخا وتغدو سلسلة من التحولات الدرامية .
    يقول بدر شاكر السيـاب فـي إحدى مقاطعه الشعرية موظّفـا شخصية السندباد فـي قصيدته (رحل النهار ) :
    رحل النهار
    ها إنه انطفأت ذبالته على أفق توهج دون نار
    وجلست تنظرين عودة سندباد من السفار
    والبحر يصرخ من ورائك بالعواصف والرعود
    هولن يعود
    أو ما علمت بأنه أسرته آلهة البحار
    في قلعة سوداء في جزر من الدم والمحار
    هولن يعود
    رحل النهار
    فلترحلي ،هولن يعود

    ففي هذا النص الشعري يحـاول السياب الإفصـاح عن همومه الذاتية وحالته
    النفسية في صراعه مع الموت وقرب مصيره ، متخذا من شخصية السندباد البحري
    ورحلاته الصعبة قناعا له للتعبير عن تجربته الشخصية القاسية وكرسالة
    يمررها إلـى حبيبته أو زوجته التي تصرّ على الانتظار ، ممـا يجعله بذلك
    يتداخل أيضا مع قصة( أوليس ) في الأوديسة الذي لاقى أهوالا كثيرة في طريقه
    إلى العودة إلـى جزيرته ( ايتاكة )بعد الانتصار في حرب طروادة وانتظار
    زوجته ( بينيلوب ) عودته رغم ما لاقته هي الأخرى من الطامعين بالزواج منها
    . لكن ما يمكن أن نستشفه من توظيف السياب لأسطورة السندباد البحري هو
    تحويره وقلبه للدلالة العامة للأسطورة التراثية كون أن « رحلات السندباد
    فـي الأسطورة تنتهي بعودته ]لكـن [ فـي القصيدة لا يعود ،فقد أسرته القوى
    الشريرة فـي الواقع المعيش ، وحلّ الظلام محلّ النهار ، وأدركه الضياع ،
    وأصبح غير قادر على العودة للقلب الذي ينبض في انتظاره ، إنها رحلة الموت
    الأبدي والزمـن الذي لن يعود »
    ولعل أسطورة السندباد ، رمز الاكتشاف و البحث عن عوالم الامتلاء والخصوبة
    قد ألهمت الشعراء بوصفها المعادل الموضوعي لاشراقات رؤيوية ، رؤيا البعث
    المنتظر لواقع هش ومتآكل .
    كانت هذه التفاتة سريعة حول الأسطورة وارتباط القصيدة المعاصرة بها ،
    جعلناها توطئة قبل الدخول في دراسة التناص الأسطوري لدى الشاعر عبد الوهاب
    البياتي – نموذج الدراسة – الذي لم تخل أشعاره هو الآخر مـن هذا التوظيف
    الأسطوري الرؤيوي . فلقد أسهمت الأسطورة بدور فعال فـي بناء الثقافة
    البياتية حيث استطاع الشاعر عبد الوهاب البياتي أن يفيد من الأساطير
    المختلفة إفـادة مكنته من التوفيق بين المتناقضات على حد قوله:« لقد حاولت
    أن أوفق بين مـا يموت وما لا يموت ، بين المتناهي واللامتناهي بين الحاضر
    وتجاوز الحاضر ، وتطلب هذا مـني معاناة ، طويلة في البحث عن الأقنعة
    الفنية ، ولقد وجدت هذه الأقنعة في التاريخ والرمز والأسطورة » .
    واعتماد البيـاتي علـى الأساطير وربطهـا بواقعه وفـق رؤيا شعرية إبداعية
    *هـو محاولة منه إلى نقل عواطفه وأفكاره الذاتية والمجتمعية وسعيا إلى
    تغيير مجتمعه والتقدم به نحو الكمال ككل إنسان يتخذ مواقف ضمن صراعه مع
    الوجود « فالشّاعر وصانع الأسطورة في محاولة متحدية لإيجاد صيغة ملائمة
    للتوافق بينه وبين قوانين الطبيعة وبينه وبين المطلق » .

    ونظرا لأن الأساطير التي استخدمها البياتي جاءت متداخلة ومتمازجة
    فيما بينها أحيانا ، اضطرينا في هذا المقام ، توخيا للوضوح وعدم التكرار
    إلـى تناولها منفصلة بالاقتصار على بعضها – طبعا – ومن بين الأساطير
    الموظّفة نجد :
    1- أسطورة عشتار :
    عشتار كرمز للخصب والنماء ، احتلت مكانة كبيرة لدى الشعراء المعاصرين وقد
    وظّفت برؤى مختلفة ، جعلتها أول معبر لي في دراسة الأسطورة لدى البياتي
    كونها كما قال رجاء عيد :« الرمز الأساسي في شعر البياتي ... وقد اندس هذا
    الرمز وراء كل الرموز الأخرى »
    يقول عبد الوهاب البياتي موظّفا وجها من وجوه الأسطورة عشتار فـي قصيدته ( العودة من بابل ) من ديوانه ( الذي يأتي ولا يأتي ):
    بابل تحت قدم الزمان
    تنتظر البعث ... فيا عشتار
    قومي املأي الجرار
    وبللي شفاه هذا الأسد الجريح
    ولتنزلي الأمطار
    في هذه الخرائب الكئيبة
    فالشاعر يناجي عشتار رمز الخصب والنماء أن تبعث فـي المدينة بابل روح
    الحياة ، فهي مدينة عاقر تنتظر البعث من زمن طويل كما يحثها أن تملأ
    الجرار ، تبلل شفاه الأسد الجريح « والأسد هو واحد من رموز عشتار بوصفها
    آلهة للحرب والقتال » ياعشتار ( لتنزلي الأمطار ) والماء والمطر لهما
    ارتباط بالأسطورة كونهما يرمزان للخصب والنماء والتجدد والحيوية ، والمطر
    كونه عنصر مائي « رمز قوي زخوم يقوم على فعل الحركة التي تعيد إلى الأشياء
    حياتها ... وفي هذا الإطار يتشكل المطر كعلامة رمزية دالة على الثورة التي
    تفتح الباب أمام الأمل كـي يعود إلـى الوجود وللحلم كي يدق على باب اليائس
    الحزين » .
    كما يخاطب البياتي عشتار في موضع آخر قائلا :
    طفلة أنت وأنثى واعدة
    ولدت من زبد البحر ومن نار الشموس الخالدة
    كلما ماتت بعصر بعثت
    قامت من الموت وعادت للظهور
    أنت عنقاء الحضارات
    أنثى سارق النيران في كل العصور .

    عشتار البياتي في هذا المقطع الشعري يطلق عليها اسم الأنثى الواعدة
    الـتي تموت وتبعث على مرّ العصور ، التي ولدت من زبد البحر كمـا تقول
    الأسطورة ، وهي العنقاء التي ترمز إلـى انتصار الحياة الخالدة على الموت ،
    وهي عروس بروميثيوس الذي أعطى البشرية النار التـي سرقها مـن الآلهة ،
    فالشّاعر يستحضر وجوه الأسطورة عن طريق التلميح أو الاشارة بشكل يحيلنا
    مباشرة إلـى النص الأسطوري الغائب ( أسطورة عشتار ) التـي يغترف منها
    دلالاته محملاً إياها أبعاداً معاصرة تعبيرا عن مواقفه ، وهذا ما نعثر
    عليه أيضا في قصيدته (مرثية إلـى عائشة ) لما يقول :
    تبكي على الفرات عشتروت
    تبحث في مياهه عن خاتم ضاع وعن أغنية تموت
    تندب تموز فيا زوارق الدخان
    عائشة عادت مع الشتاء للبستان
    صفصافة عارية الأوراق
    تبكي على الفرات
    تصنع من دموعها ، حارسه الأموات
    تاجا لحب مات

    ويظهر لنا في هذا المقطع الشعري بشكل جلي نوعا ما تفاعل الشاعر مـع
    النص الأسطوري ( أسطورة عشتار ) حيث يبرز إحدى وجـوه الأسطورة لما يشير
    إلى العالم السفلي والتاج ، وهـي إشارات مرتبطة بعالـم عشتـار وزوجهـا
    تموز « رمز تجدد الخصب والحياة ... وهو الابن الصـالح ... والراعي ... وقد
    كـانت عشتار هي سبب مأساته عندما قدمته ليكون بديلا عنهـا في العالم
    السفلي» ، كمـا يلاحظ القارئ لهذه المقطوعة الشعرية تمـا هي بين عشتار
    الأسطورة ، والرمز عائشة وهو رمز قـال عنه خليل رزق فـي دراسته لشعر
    البياتي « الرمز الأكثر تعقيدا والأشد صعـوبة بين رموز البياتـي » ، كمـا
    يصفها البياتي بأنها « وسيط وقطب ومريد الساحر والشاعر والثوري للوصول إلى
    الضفاف الروحية التي هي قاع الإبداع الأبدي »... وتتجسد هنا بوصفها القوة
    الرمزية الخلاقة للحب ، والتجدد ، والثورة التي تتكـافل من حيث جوهرها »
    وهـذا ما يخالف استخدام (أدونيس) للرمز عائشة الذي رمزيه في ( البعث
    والرماد ) إلـى التخلف والشعوذة والتعلق بالغيب فـي حين يستخدمها البياتي
    رمزا لعشتروت زوجة تمـوز اللذين اعتادا أن يجتمعا فـي العالم السفلي .
    كما لا يفوتنا هنا أن نلفت الأنظار إلى فكرة أساسية في توظيف الأسطورة
    عشتار لدى البياتي ، فهي وإن كانت تقوم بدور الخصوبة والنماء والتجدد
    فإنـها عند البياتي :
    ظلت على الجدار
    مقطوعة اليدين ، يعلو وجهها التراب
    والصمت والأعشاب
    وحجرا أخرس في الخرائب الكئيبة

    فـالبياتي فـي هذا النموذج يرى أن عشتار مـا عادت تحقق الخصب ، بل
    ظلت جامدة ، هامدة مقطوعة اليدين يعلو وجهها التراب ، والحجر الأخرس فـي
    الخرائب الكئيبة ، وهـي صور تعكس حالة الجمـود والعجز ، ولكـن رغم مـا هي
    عليه تبقى دائما فـي نظر البيـاتي ذلك« الأمل المرموق المنتظر لكـي يعم
    الخصب والخير » .
    هذه نمـاذج حاولنا من خلالها تبيان تقاطع وتفاعل الشاعر البياتي مع النص
    الأسطوري ( أسطورة عشتار ) ، وكيف تسللت إلـى لغة الفنية الشعرية مستغلا
    فيها دلالة الخصب والنماء ليسقطها « على مفهوم الثورة والحرية والتطلّع
    إلـى مستقبل أفضل للإنسان ، كما انه استغل شخصية تموز لترمز إلـى شهيد هذه
    المحبوبة الأبدية الثورة » .
    2- أسطورة بروميثيوس :
    إن الدارس للخطاب الشعري البياتي بدءا من ديوانه "سفر الفقر والثورة " (
    1965 ) ، ،وانتهاء بديوانه (سيرة ذاتية لسارق النار) ( 1974 ) قـد يكتشف
    الأسلوب الثوري المستمر الناقم على الأوضاع السائدة آنذاك ، كما يلاحظ
    تطلّع الشاعر الدائم إلى عالم أفضل رغم العناء الذي يلقاه فـي سبيل الوصول
    إلـى مبتغاه ، مرحلة شعر يحاول البياتـي أن يجعل منها الشاعر الحديث «
    نموذجـا بدئيا ،مخلوقا أسطوريـا يرتدي قناع الشهيد والمفكر ، متحولا ضمن
    تقلبات الفقر والثورة ، الحياة والموت ، الخفاء والعودة » ، ولعلّ هذا ما
    عناه بقوله أن « هذه المرحلة فيها تطلّع ونفاد إلـى آفاق جديدة تماما لا
    بالنسبة لتجاربي أنا فقط ، كما اعتقد ، بل أيضـا بالنسبة للشعر العربي
    الجديد ، حاولت أن أمزج بين تجربة الإنسان الثوري والتجربة الميتافيزيقية
    » .
    واستنادا لهذا المعطى ، يوظّف البياتي تجسيدا لثورته و استمراريتها ،
    وتعبيرا عن تطلعاته رموزا ثورية يتّحد معها ، ويتخذها دعما روحيا له فـي
    الوصول لما يطمح إليه .و من بين هذه الرموز شخصية بروميثيوس « التـي تحمل
    معاني الفداء والمقاومة و تحمل العذاب من أجل إسعاد الآخرين وخلاصهم » .
    هذه الأسطورة التي كانت في الحقيقة مادة لكثير من الأعمـال الأدبية
    والفنية بدءا من الشاعر اليونانـي "اسخيلوس"( 456-525 ق ،م ) فـي مسرحيتيه
    " بروميثيوس في القيد " و " بروميثيوس الطليق " وفيهما يفخر" بروميثيوس"
    بما فعله من خير في سبيل إسعاد البشر المسكين البائس ، إلى جانب ( جوته )
    فـي مسرحيته " بروميثيوس " (1873) التي يعد فيها "بروميثيوس " أبا للبشر
    ومثالا للتمرد الميتافزيقي ،ضف إلى ذلك مسرحية الشاعر الرومانتيكي
    الإنجليزي ( شيلي ) التـي ترجمت إلى العربية تحت عنوان " بروميثيوس الطليق
    " التي يرمز فيها "بروميثيوس" لمن يضحي في سبيل مستقبل الإنسانية البعيد
    السعيد » .

    لكن المهم في هذا كله كيف انعكست هذه الأسطورة ( بروميثيوس ) على شعر
    البياتي ؟ وما مدى قدرته على التفاعل معها ( التناص معها ) ومعايشتها
    بوصفها معادلا لواقعه المعيش ؟
    يقول البياتي في قصيدته( الجرادة الذهبية) من ديوانه( الموت في الحياة ):
    مددت للشمس بيدي فاخضرت الأشجار
    أمسكت بالنهار
    وهو يولي هاربا في عربات النار
    توهّج الرماد في أصابعي وطارت العنقاء
    ويقول في مقطع آخر من القصيدة نفسها :
    لكن أبو العلاء
    وهو يراني في ثياب الأسر
    ينهش صدري النسر
    منتظراً مع الملايين طلوع الفجر

    ينفتح المقطع الأول والثاني على أجواء أسطورية ، نلمس من خلالهـا
    تزاوج وتناغم جميل بين لغة الشعر ولغة الأسطورة ، لغة تحيل إلـى مراجعها
    مما يعطي مجالا للرؤية ، وزاوية للنظر فالبياتي في سعيه الدائم إلى «
    إقـامة دولة يوطوبيّة عالمية ، أو كما يسميها " المدينة الفاضلة " أو "
    مدينة العشق " أو " نيسابور الجديدة " » يسعى في إيجاد "بروميثيوس" العصر
    الذي يجسد هذا الطموح ، بروميثيوس ، البطل الثـوري الذي يُبعث من جديد
    ليسرق النار من الشمس ويهبها للإنسان إسعادا وخلاصا له .
    أما فـي المقطع الثاني ، والذي تتماهى فيه ذات الشاعر مع بروميثيوس
    الأسطوري إلى درجة تتحول فيها ذاته هي البطل الأسطوري نفسه من خلال السرد
    بضمير ( الأنا ) فإن البياتي يطلعنا على جزاء من يثور ،و من ينتهج أسلوب
    الثورة في سبيل الآخرين ، إنه يقيّد ويشدّ وثاقه على صخرة لتنهش صدره
    النسور ، إنه مصير بروميثيوس العصر الذي يتلاقى ومصير برومثيوس الأسطورة
    الذي أُمر بعقابه« على جبل القوقاز حيث صلب ، ووكّل إلى نسر أن يتغذى من
    كبده ، حتى إذا نفدت تلك الكبد بدل كبدا غيرها ليستمر في العذاب » ، إنها
    صوّر تشير في مجملها إلى الصمود فالانتظار فالمعاناة ؛ صوّر يعكس بها
    الشاعر عذابه وآلامه يتخذ فيها مع برومثيوس بطله النموذجي الذي يرفض
    الاستسلام ويحلم بالانتصار على الرغم من العذاب الشديد ( ينهش صدري النسر
    ()و( منتظرا مع الملايين طلوع الفجر ) إنها تضحية كبيرة من هذا البطل
    الثوري ( برومثيوس ) و إن كـان البياتي يرى في الإنسان المعاصر قد خان
    بطولته « لأنه يسعى إلى الطعام أكثر من سعيه إلـى الحرية التي منحه إياها
    هذا البطل ، ولـو أن برومثيوس عاد إلـى الأرض كمـا يقول" ألبيركاموا " (
    1913 -1960 ) لوقف النـاس منه الآن مثلما وقف الأرباب منه بالأمس ،
    سيربطونه إلـى الصخرة باسم الإنسانية مـع انه أقدم رمز لها » .
    وهذا ما تجسده قصيدة البياتي (سارق النار) من ديوانه ( أباريق مهشمة ):
    داروا مع الشمس فانهارت عزائمهم
    وعاد أوّلهم ينعي على الثاني
    وسارق النار لم يبرح كعادته
    يسابق الريح من حان إلى حان
    ولم تزل لعنة الآباء تتبعه
    وتحجب الأرض عن مصياحه القاني
    ولم تزل في السجون السودا رائحة
    وفي الملاجئ من تاريخه العاني
    مشاعل كلما الطاغوت أطفاها
    عادت تضيء على أشلاء إنسان
    عصر البطولات قد ولّى وها أنذا
    أعود من عالم الموتى بخذلان
    وحدي احترقت ! أنا وحدي ! وكم عبرت بي الشموس
    ولم تحفل بأحزاني
    إني غفرت لهم
    إني رثيت لهم !
    إني تركت لهم .
    يا ربي أكفاني !
    فلتعلب الصدفة العمياء لعبتها
    فقد بصقت على قيدي وسجاني
    وما علّي إذا عادوا بخيبتهم
    وعاد أوّ لهم يعني على الثاني

    نعتذر عن اقتباس القصيدة كلهـا ، لأنـها الضرورة ، فهـي قصيدة لا
    يمكن تجزأتها ، لأنها تعكس موقف الشاعر اتجاه قصية حقيقية معيشة فـي
    الواقع يصرّ علـى تغييرها عن طريق المقاومة ، وإن كـانت الدلالة النصّية
    للقصيدة عديمة الثقة بالإنسان المعاصر ،لكن ما يهمنا أن الشاعر مـن خلال
    هذه القصيدة أو من خلال المقاطع الأولى التـي أوردناها استطاع استلهام
    الدلالة النصية العامة للأسطورة في الإيحاء بموقفه المعاصر إذ جعل من
    الأسطورة جسما للقصيدة وإحدى لبناتها العضوية ، بإعادة كتابتها على نحو
    جعلها تنصهر في نصوصه الشعرية إلى درجة التماهي والذوبان ، وهذا ما يبرر
    فاعلية آلية التناص التي أحسن الشاعر استخدام مستواها الامتصاصي مع
    الأسطورة إلـى درجة جعل هذه الأخيرة « تغوص تحت سطح القصيدة وتظل توحي
    إشاراتها كشعارات خاطفة تضيء وتختفي ، وتبرق وتخفت وتومـئ لا تتحدث ،
    وتوجه ولا تنطق » .
    3- أسطورة سيزيف:
    إذا كان البياتي قد استخدم أسطورة بروميثيوس للتعبير عن روح الفداء
    والتضحية ، وما يترتب عنها من آلام في سبيل إسعاد الآخرين وخلاصهم ، فقد
    لجأ للتعبير عن معاناة الإنسان العربي المعاصر ، ومحاولاته المستمرة
    والمتكررة لبلوغ مراميه ، رغم ما يتعرض له من نفي وتشريد ، وقهر واستيلاء
    لحرياته الشخصية بأسطورة سيزيف رمز « الإدانة المطلقة والفشل الأزلي » .

    إن البياتي قد تكلّم في العديد من أشعاره عن محنة النفي وصوّرها
    المتعددة : نفي بمعنى الغربة الوجودية ، ونفي بمعناه الطبقي أواستلاب
    الفقراء ونفي بمعنى الإبعاد عن الوطن ، وهو كشاعر قد خَبِرَ هذه المحنة
    بأنواعها وعايشها فقد تعرض لآخر صوّرها سنة 1955 لمّا أجبر على مغادرة
    وطنه العراق بسبب وجهات نظره اليسارية ، وقد كرّس الشاعر لذلك شعره كسلاح
    في هذا الصراع لتصوير هذه الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي
    يمرّ بها وطنه خاصة في ديوانه أباريق مهشمة، التي أصدرها في مرحلة واكب
    فيها الواقعية الاشتراكية التي شجعت الأدب كسلاح قوي في التصدي للصراع
    الطبقي ، بتصوير الواقع الموضوعي المعاصر ، والتعبير عن الواقع البديل عنه
    في الوقت نفسه ، بإرساء قواعد العدل وملكوت الحرية على الأرض وبنبذ قوانين
    المجتمع الطبقي الجائرة في حق البشرية .
    يقول البياتي في قصيدة (في المنفى ) من ديوانه (أباريق مهشمة) :
    عبثا نحاول – أيهـا الموتى – الفرار
    من مخلب الوحش العنيد
    من وحشة المنفى البعيد
    الصخرة الصماء ، للوادي ، يدحرجها العبيد
    ( سيزيف ) يبعث من جديد ، من جديد
    في صورة المنفي الشريد

    تبدو هذه الأبيات ، وكأنها قد فاضت من جرح داخلي عميق يسيل بالبؤس ،
    واليأس معًا ، أبيات من خلالها يعبّر الشاعر عن محنة الإنسان الذي يقاسي
    ألم النفي والتشريد من وطنه رغم محاولاته للعودة التي لا تعود عليه بطائل
    ، ولتجسيد أكثر لهذه الحالة عمد الشاعر إلى التفاعل وبشكل جلي مع النص
    الأسطوري ( أسطـورة سيزيف ) كمعادل موضوعي يتناسب مأساويا مع ما يقتضيه
    السياق الشعري ، وما يريد الشاعر الإفصاح عنه فثمة تداخل بين النصين ،
    تداخل بين الماضي المأسوي ( النص الأسطوري ) والحاضر المنكود ، الذي يتمثل
    فـي مأساة وطن الشاعر التـي « دفعت به إلى النفي والتشريد بينما الوحش
    العنيد ما يزال يتربع على عرش السلطة في ذلك الوطن المعذب » .
    والملاحظ أن حضور النص الغائب بشكل صريح وجلي أبرز الخلفية النصية التي
    يشتغل عليها الشاعر غير أن هذا التصريح كما أشار ( مصطفى السعدني ) قد
    حوّل سيزيف كرمز أسطوري أن يحلّ محل الفاعل فـي التجربة الشعرية مما يفقد
    الصورة بعدها المعرفي الذي يَوَدُّ الشاعـر أن يشيعه هنا ، خاصة إذا كان
    المتلقي دون معرفة بمضمون هذا اللفظ الأسطوري ، وهذا ما جعله يدرج هذا
    النوع من التفاعل ضمن خانة ( التعبير عن ... ) بدلا مـن ( التعبير بـ ...
    ) *.
    يحضرنا نموذجا شعريا آخر يتفاعل فيه البياتي مع نفس الرمز الأسطوري (
    سيزيف ) تعبيرا عن أفكاره ومواقفه اتجاه قضايا واقعه المعيش حيث يقول في
    قصيدته( موعد مع الربيع ):
    وشرعت أعدو فـي الطريق
    عبد الحياة أنـا الرقيق
    عبد الحياة يعـود ، يحمل من جديد
    جذلان ، صخرته ، إلـى السفح البليد

    في هذا المقطع الشعري يتفاعل النص الحاضر والنص الأسطوري ولكن وفق
    طريقه الإيماء أو الإشارة فقط ، حيث تقترب وظيفة التفاعل هنـا من وظيفة
    التشبيه التوضحية ، كون المعاني السيزيفية جاءت مضمرة متخفية تحث المظهر
    اللفظي للقصيدة ، ولم يشر الشاعر للأسطـــــورة بكاملها على نحو ما رأيناه
    في النموذج الأول وهذا التداخل النصي يبرز لنا نجاح الشاعر في تحويل
    العنصر الأسطوري إلى عنصر بنائي انصهر في تجربته الشعرية ، بل جعل
    الأسطورة « تلتحم بجسم القصيدة ، تصير فيها عروقا وشرايين تنبض بدماء
    الحداثة الآنية بحيث تبدو هذه المعادلة في ظلال كل من اللحظة المعاصرة في
    زمنيتها الطازجة وفـي ظلال الزمنية القديمة الـتي تجسدها الأسطورة ممـا
    يتيح للمتلقي أن يستشعر الماضي فـي الحاضر والحـاضر في الماضي » .
    وقد اعتبرت أسطورة (سيزيف) أكثر توظيفا عند البياتي ، وأكثر ملاءمة له في
    صوغ دلالات تجربته الشعرية من أسطورة "بروميثيوس "، وإن حصل تمازج بينهما
    في كثير من الأحيان ذلك أن « تشاؤم البياتي أو سوداويته المتأصلة ، أو
    بصيرته في الواقع العربي الآسن العصبي على التغيير ، كل ذلك جعل سيزيف
    ينتصر على "بروميثيوس" فـي شعر البياتي إلـى اليوم» ضف إلـى ذلك كون الأول
    يجسد العذاب القهري ، بينما الآخر يمثل التضحية الاختيارية .

    وتجدر بنا الإشارة هنا إلى أن الشاعر عبد الوهاب البياتي كما استهوته
    الأساطير اليونانية ، وانصرف للتعبير بها عن قضـايـا واقعه المعيش ،فإنه
    قد تعامل كذلك مـع الأساطير العربية واستحضرها فـي أشعاره مستلهما
    معانيهـا ودلالاتها في صياغة متنونة الشعرية ، ومن بين هذه الأسـاطير ،
    أسطـورة( إساف ونائلة ) هذه الأسطورة العربية الموغلة فـي القدم التي أشار
    إليها خليل رزق فـي دراسته لشعر البياتي ، وملخص هذه الأسطورة « أن الحب
    تمكـن مـن قلبي هذين العاشقين ( إساف ونائلة ) – ولم يجدا مكانا يجتمعان
    فيه خفية غيـر الكعبة ،فاعتادا أن يختليا هناك ويتناجيا بعيدا عن أعين
    الناس ولكن الآلهة لم ترض عـن ذلك ، وحضرت عليهما اللقاء في حرمتها ، ودار
    بين (نائلة و إسـاف) حوار أدبي جميل عـن الحب الطاهر وقدسيته ، وتساءل
    إساف من الذي يرعى مثل ذلك الحب إذ لـم ترعه الآلهة ؟ وواصل الحبيبان
    لقاءهما فـي الكعبة فحولتهما الآلهة إلى صنمين ، ولـم يلبث الناس أن
    ألهوهما وعبدوهما ....» ، وهذا ما جسده المقطع الشعري للبيـاتي من قصيدته
    (مجنون عائشة )، يقـول الشاعر :
    خبأت وجهي بيدي
    رأيت
    عائشة تطوف حول الحجر الأسود في أكفانها
    وعندما ناديتها هوت على الأرض رمادا وأناهويت
    فنثرتنا الريح
    وكتبت أسماءنا جنبا إلى جنب على لا فتة الضريح


    صفوة القول : لقد أسهمت الأسطورة إسهاما كبيرا في تشكيل وبناء
    القصائد الشعرية لدى الشعراء المعاصرين ، وعبد الوهاب البياتي كأحد هؤلاء
    الشعراء قد أظهرت نصوصه الشعرية هذا الاندفاع الكبير نحو الأسطورة ، التي
    أغنت وأثرت معجمه الشعري بتعابير وألفاظ و رموز مختلفة مرر من خلالها
    الشاعر الكثير من الأفكار التي شغلته وعبر بها عن كل ما يعتلج في داخله من
    أحاسيس وهواجس وهموم اتجاه قضايا طرحها في قصائده .


    نشر في الموقع بتاريخ : 2010-12-

      الوقت/التاريخ الآن هو الثلاثاء مايو 07, 2024 8:54 pm