منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    مقومات نقد الشعر العربي أسلوبيا...3

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    مقومات نقد الشعر العربي أسلوبيا...3 Empty مقومات نقد الشعر العربي أسلوبيا...3

    مُساهمة   الخميس يونيو 30, 2011 7:24 am

    [center]
    ويذكر في (أسرار البلاغة) المفهوم نفسه إذ يقول: "وليس إذا كان الكلام في غاية البيان، وعلى أبلغ ما يكون من الوضوح، أغناك عن الفكرة إذا كان المعنى لطيفاً، فإن المعاني الشريفة اللطيفة، لا بد فيها من بناء ثان على أول، ورد تال إلى سابق" ([42]).

    أي أن مفهوم الوحدة عند عبد القاهر خاص بكيفية ترابط موضوعات القصيدة الواحدة على نحو متسلسل متناسب، وأن "أقصى ما يصل إليه إدراكه للوحدة لا يتعدى ما يربط بين مجموعات الأبيات التي تدور حول فكرة واحدة"([43]).

    أما حازم القرطاجني فيمكن أن يعد "أول ناقد عربي قديم يتحدث عن الوحدة في القصيدة كاملة، لا في الجملة والعبارة أو البيت والبيتين، وأول ناقد يكون التحام الأجزاء والتئامها عنده في القصيدة كلها، وهذا خروج على قاعدة من قواعد الشعر العربي" ([44]) وقد كان لتأثره بمفهوم أرسطو طاليس للوحدة أثر واضح، حاول قراءة الشعر العربي من خلاله. على أنه في بعض أقواله يفترض في الشعر أن يكون مشتملاً على وحدة منطقية يتسلسل فيها بناء القصيدة، ليس على نحو متكامل، إنما على نحو منطقي إذ يقول: "إن الحذاق من الشعراء.. لما وجدوا النفوس تسأم التمادي على حال واحدة. وتؤثر الانتقال من حال إلى حال، ووجدوها تستريح إلى استئناف الأمر بعد الأمر، واستجادة الشيء بعد الشيء، ووجدوها تنفر من الشيء الذي لم يتناه في الكثرة، إذا أخذ مأخذاً واحداً ساذجاً، ولم يتحيل فيما يستجد نشاط النفس لقبوله بتنويعه والافتتان في أنحاء الاعتماد به، وتسكن إلى الشيء وإن كان متناهياً في الكثرة، إذا أخذه من شتى مآخذه التي من شأنها أن يخرج الكلام بها في معاريض مختلفة.. اعتمدوا في القصائد أن يقسموا الكلام فيها إلى فصول ينحو بكل فصل منها منحى من المقاصد، ليكون للنفس في فسحة الكلام إلى تلك الفصول، والميل بالأقاويل فيها على جهات شتى من المقاصد، وأنحاء شتى من المآخذ، استراحة واستجداد نشاط، بانتقالها من بعض الفصول إلى بعض، وترامي الكلام بها إلى أنحاء مختلفة من المقاصد، فالراحة حاصلة بها لافتتان الكلام في شتى مذاهبه المعنوية، وضروب مبانيه النظمية. واعتنوا باستفتاحات الفصول، وجهدوا أن يهيئوها بهيئات تحسن بها مواقعها من النفوس، وتوقظ نشاطها لتلقي ما يتبعها ويتصل بها، وصدورها بالأقاويل الدالة على الهيئات التي من شأن النفوس، أن تتهيأ بها عند الانفعال" ([45]).

    إذ يكشف لنا هذا النص أن القرطاجني لا يرى القصيدة العربية مشتملة على وحدة عضوية ولا على وحدة عضوية تكاملية، إنما هي مبنية بناء فنياً متسلسلاً على نحو لا يبدو عليه التفكك في ترتيب موضوعات القصيدة، وهو ما يجعله قريباً من آراء النقاد العرب الذين سبقوه، على الرغم من تفوقه عليهم في التنظير لهذا الأمر، بتأثير المنهج الأرسطي في هذا الاتجاه.

    ثم يبين ملامح رأيه في خلال تطبيق نقدي عن تماسك بناء القصيدة الفني، اتخذ فيه من قصيدة المتنبي "أغالب فيك الشوق" أنموذجاً تطبيقياً، ليتحدث عما يجب مراعاة اعتماده تطبيقياً في رؤوس الفصول، فيأخذ بذكر القصيدة بدءاً من طالعها ([46]):

    أغالبُ فيكَ الشوقَ، والشوقُ أغلبُ





    وأعجبُ من ذا الهجر والوصلُ أعجبُ

    إذ يقول: "ضمن هذا البيت من الفصل الأول، تعجيب من الهجر الذي لا يعقبه وصل، ثم أكد التعجيب في البيت الثاني الذي هو تتمه الفصل الأول، ثم ذكر من لجاج الأيام في، بعد الأحباء، وقرب الأعداء، فكان مناسباً لما ذكر في الهجر" ([47]).

    فجاء البيت الثاني:

    أما تغلطُ الأيام فيَّ بأن أرى





    بغيضاً تُنائي أو حبيباً تُقربُ

    ثم أخذ في الفصل الثاني بالتعجب من قرب البعاد، وسرعة سيره قائلاً:

    ولله سيري ما أقلَّ تإيةً





    عشيَّة شرقيّ الحدالي وغرّبُ

    إذا جاء الاستفتاح مناسباً للبيتين السابقين، كونه ذكر التعجب والرحيل ثم هو يقول: بأنه "استفتح الفصل الثالث بتذكير العهود الساردة، وتعديدها فقال:

    وكم لظلامِ الليل عندكَ من يدٍ





    تخبّرُ أنّ المانويةَ تكذبُ

    وفيه مناسبة لمفتتح الفصل الثاني من جهة ذكر موطن الفراق أو النأي ثم أعقبه بالوصل والقرب، في أول الفصل الثالث، وعلى هذا النحو يستعرض حازم فهمه لوحدة قصيدة المتنبي، إلى أن يقول: "فعلى هذا النحو يجب أن تكون المآخذ في استفتاحات الفصول ووضع بعضها من بعض، وهذا الفن من الصناعة ركن عظيم، من أركان الصناعة النظمية، لا يسمو إليه من قويت مادته، وفاق طبعه" ([48]).

    وقد كان هذا النقد التطبيقي عند حازم القرطاجني الذي قدم فيه النوع المتصل الغرض دون العبارة، هو ما بعث شكري عياد على القول: بأن حازماً كان "يحاول أن يوفق بين "الوحدة التسلسلية" التي يريد أن يجعلها قانوناً شعرياً، وبين الميل المأثور عند الشعراء والنقاد العرب إلى جعل البيت الواحد لا القصيدة مجتمعة وحدة الشعر، إنه يحاول التوفيق بين هذين الميلين حين يجعل، "اتصال الغرض دون العبارة" أجود أنواع الاتصال بين فصول القصيدة، ثم هو يستحسن مذهب المتنبي في المناسبة بين الفصول، والإبداع في الأبيات الأولى، إبداعاً ينبه إلى أنها تبدأ فصولاً جديدة" ([49]).

    وقد ذهب جابر عصفور إلى هذا الفهم حين قال: إن مفهوم الوحدة عند حازم هو "وحدة التسلسل" تلك الوحدة " التقليدية التي يفضي فيها موضوع إلى آخر، أو يفضي فيها غرض إلى آخر، بعلاقة شكلية هي "التخلص والاستطراد" بحيث تتركب القصيدة –في النهاية –من أقسام أساسية، يصل ما بينها تلطف في الانتقال من قسم إلى قسم، وبحيث يتركب كل قسم من مجموعة من "الفصول" تطول أو تقصر، لكنها تتسلسل في تدرج حتى يكتمل الغرض فيكتمل القسم، ثم توصل وصل تخلص، بالغرض التالي، حتى نصل إلى الخاتمة" ([50]).

    من خلال ما سبق ذكره، نخلص إلى أن، وحدة البيت الشعري هي ما كان محور الدرس والنظر النقدي، عند النقاد العرب القدماء، والتحام أجزاء النظم والتئامها خاص بالبيت الشعري لا القصيدة، وهو ما يكشف عن عنايتهم بنظام البيت، لغة ووزناً وموسيقى ونظرهم إلى بناء القصيدة، ومدى تماسك ذلك البناء لم يكن في خلال فهم مخصوص لوحدة عضوية أو موضوعية، إنما كان في تماسك موضوعات القصيدة، بدءاً من المطلع فالمقدمة فحسن التخلص ثم العرض فالخاتمة، ومراعاة ترتيب الفصول في ذلك، على نحو يوحي بتماسك بناء موضوعات القصيدة، بشكل متسلسل غير مفكك.




    هوامش المبحث الثاني



    ([1]) -لغة الشعر الحديث في العراق، عدنان حسين، 9.

    ([2]) -اللغة الشعرية في الخطاب النقدي العربي، محمد رضا، 25.

    ([3])-عمود الشعر، وليد قصاب، 95.

    ([4])-عمود الشعر، و ليد قصاب، 198.

    ([5])-ينظر، لسان العرب، مادة (جزل).

    ([6])-ينظر، لسان العرب، مادة (قوم). وينظر، جرس الألفاظ و دلالتها في البحث البلاغي 126 –151.

    ([7])-ينظر، صفات الشعر في النقد الأدبي عند العرب في العصر العباسي، رسالة ماجستير، على حسين، 24 –25.

    ([8])-ينظر، دلائل الإعجاز، 263.

    ([9])-الصناعتين، 59.

    ([10])-نقد الشعر، 172.

    ([11])-الخصائص، ابن جني، 1 /28.

    ([12]) -الديوان، 1 /127، وينظر، الموازنة، 1 /259.

    ([13]) -مقومات عمود الشعر البنائية، ماهر مهدي هلال، بحث مخطوط، 10 –11.

    ([14]) -البيان والتبيين، 1 /136.

    ([15]) -المصدر نفسه، 1 /65.

    ([16]) -المصدر نفسه، 1/144، وينظر، صبح الأعشى، 2 /206.

    ([17]) -شرح المقدمة الأدبية، محمد الطاهر عاشور، 63.

    ([18]) -البيان والتبيين، 1 /136.

    ([19]) -الموازنة، 1 /381.

    ([20]) -الوساطة، 413.

    ([21]) -الحيوان، 1 /131 –132.

    ([22]) -المصدر نفسه، 1 /134.

    ([23]) -بنية العقل العربي، الجابري، 79.

    ([24]) -البيان والتبيين، 1 /67.

    ([25]) -الحيوان، 3 :130.

    ([26]) -البيان والتبيين، 1 /90.

    ([27]) -كتاب أرسطو طاليس في الشعر، شكري عياد، 252.

    ([28]) -البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر –مقدمة نقد النثر، طه حسين، 30.

    ([29]) -دلائل الإعجاز، 170 –171.

    ([30]) -سورة مريم، أية 4.

    ([31]) -دلائل الإعجاز، 261 –262.

    ([32]) -كتاب أرسطو طاليس في الشعر، شكري عياد، 274.

    ([33]) -كتاب أرسطو طاليس في الشعر، شكري عياد، 274.

    ([34]) -الوساطة، 48.

    ([35]) -البيان والتبيين، 1 /205 –206.

    ([36]) -قواعد الشعر، ثعلب، 59.

    ([37]) -سر الفصاحة، 315.

    ([38]) -عيار الشعر، 165.

    ([39]) -حلية المحاضرة، 1 /215، وينظر، زهر الآداب، 2 /597 –598، العمدة، 2 /117.

    ([40]) -العمدة، 2 /261 –362.

    ([41]) -دلائل الإعجاز، 66.

    ([42]) -أسرار البلاغة، 139 –140.

    ([43]) - دراسات في الشعر والمسرح، مصطفى بدوي، 21.

    ([44]) -بناء القصيدة في النقد العربي القديم، يوسف حسين بكار، 310.

    ([45]) -منهاج البلغاء وسراج الأدباء، 295 –296.

    ([46]) -الديوان، 509 –512.

    ([47]) -منهاج البلغاء، 297 –293.

    ([48]) -منهاج البلغاء، 300.

    ([49]) -كتاب أرسطو طاليس في الشعر، شكري عياد، 276.

    ([50]) -مفهوم الشعر، جابر عصفور، 457.





    ـ المبحث الثالث : المقوم الدلالي / التصويري



    يتشكل المقوم الدلالي للخطاب الشعري من فاعلية العلاقية بين عناصر عمود الشعر البنائية في مستوى الصوت والتركيب عناصر مولدة للمعنى في: الإصابة في الوصف، والمقاربة في التشبيه، ومناسبة المستعار منه للمستعار له. غير أن نظرة في هذه العناصر ومقوماتها عند المرزوقي تكشف عن أن فهمه لها مجتمعة ينصب في القدرة الفنية على أن يكون المعنى واضحاً مفهوماً للمتلقي.

    فإذا استخدم الشاعر لغة مجازية، عليه أن يعمل جاهداً على أن تكون تلك اللغة خالية من الغرابة، وأن يعتمد أسلوباً مفهوماً بعيداً عن الغموض، كأن أية قراءة لا تؤدي إلى استخراج المعنى بصورته الحقيقية تؤدي إلى ضياعه، لذلك لم يميلوا إلى التأويل لأنه يوقع القارئ في شراك الالتباس، فالإفهام مطلوب من الشاعر، والاستعارة ينبغي أن تكون مناسبة والمناسبة تعني التقارب بين المستعار منه والمستعار له، أي وجود قرينة، تعمل على إدراج المعنى ضمن المألوف، ليكون واضحاً سهلاً، ولأن الدلالة تؤدي إلى التصور، فإن مقياس عمود الشعر أن تكون هناك مقاربة بين طرفي التشبيه تساعد على التصور، بأن يكون المشبه به أجلى صفة وأخص عرفاً حتى تستقيم الصورة في الإدراك، لأن الصفة الأخص تدل على شيء وتدفع عنه الغموض والالتباس. وفي هذا السياق كانت الاستعارة مبنية على التشبيه في السياق الدلالي. وقد كان عيارها عند المرزوقي الذهن والفطنة لأن العرب "إنما إستعارت المعنى لما ليس له إذا كان يقاربه أو يدانيه أو يشبهه في بعض أحواله أو كان سبباً من أسبابه، فتكون اللفظة المستعارة حينئذ لائقة بالشيء الذي استعيرت له وملائمة لمعناه" ([1]) ولهذا كان أبو تمام خارجاً عن عمود الشعر في قوله ([2]):

    تحمَّلتَ ما لو حُمِّلَ الدهرُ شَطرهُ





    لفكَّرَ دهراً أيّ عبئيهِ أثقلُ

    إذ جعل للدهر عقلاً مفكراً، وكان من المناسب على وفق العرف أن يقول: لانهد، أو ما شابهه مما يرضاه العرف.

    ولبيان كيفية اشتمال عناصر عمود الشعر الثلاثة السابق ذكرها، على مستوى دلالي لا بد من إيضاح مفهوم الدلالة ذاتها، تمهيداً لقراءة هذه العناصر دلالياً، لإيضاح حدود المستويات الأسلوبية التي بني العمود عليها، وما نحن بصدده من المستوى الدلالي.

    تتعدد وسائط التحول الدلالي إذ تشمل، الاستعارة، والتقديم والتأخير، والتمثيل والزيادة والنقصان والقلب والكناية والتعريض والمبالغة، والرمز والتلميح وسوى هذا. حتى الوزن يمكن عده عنصراً دلالياً في النص حيثما ساعد على تعميق البنية الدلالية. وتزداد قيمته الفنية حين يضفي على الاختلافات الدلالية مظاهر من تمثلات صوتية ([3]). لأن الترابط العضوي الذي يتوفر عليه النص الشعري بين التحولات الدلالية والبنى الإيقاعية يستوعب التعبير عن مكنون الذات بأسلوب فني مؤثر ([4]).

    وفي علاقة اللفظ بالمقام من حيث الدلالة يقول الجاحظ "ولكل ضرب من الحديث ضرب من اللفظ، ولكل نوع من المعاني نوع من الأسماء، فالسخيف للسخيف، والخفيف للخفيف، والجزل للجزل" ([5]) على أن لسان العربي الأول في القول والتلقي مبني على الارتجال في القول والاستقبال، لأن البداهة والطبع صفة الاعراب "وأحسن الكلام، ما كان معناه في ظاهر لفظه" ([6]).

    وقد انطلق الشريف الجرجاني من هذا المبدأ في فهم الدلالة على أنها "كون الشيء بحالة يلزم من العلم به، العلم بشيء آخر، والشيء الأول هو الدال والثاني هو المدلول وكيفية دلالة اللفظ على المعنى باصطلاح علماء الأصول محصورة في عبارة النص.. فإن كان الحكم مفهوماًَ من اللفظ فهو الدلالة.. فدلالة النص عبارة عما ثبت بمعنى النص لغة، لا اجتهاداً، فقوله، لغة أي يعرفه كل من يعرف هذا اللسان بمجرد سماع اللفظ من غير تأمل" ([7]).

    فالمعنى الدلالي عند الجرجاني هو المبين عما في النفس بالاعتماد على المعنى المقالي أي الوظيفي (الصوتي، الصرفي، النحوي) مع ملاحظة كون المعنى الاجتماعي أساساً في فهم المعنى الدلالي وفي اكتماله أيضاً ([8]) لأن الاستعمال هو ما يخلق المعنى ([9]).

    والوظيفة لا تتشكل إلا في سياق مخصوص ([10]).

    وفي ضوء هذا نفهم كيف أكد علماء العربية القدماء، على دور السياق في التحول الدلالي الصادر عن تغير السياق ([11]). وهنا كان بديهياً أن يأتي بحث دلالة اللفظ المعجمية سابقاً على مراحل دراسة المعنى، من خلال السياق بنوعيه اللفظي والحالي ([12])، لأن المرسل هو الذي يمنح الأصوات معانيها بناء على التراكم السياقي، العام والخاص ([13]).

    وقد كان التفنن في الكلام عملية تبقى في كل الحالات رهينة إشباع الدوال بالمدلولات ([14]). وفي هذا السياق نجد الأسلوب صراعاً متواصلاً ضد اعتباطية الدال، "وهذا الصراع يتوقف أكثر على ما يتهيأ من إمكانيات تقليب الظاهرة اللغوية في الكلام، لتوفير أكثر ما يمكن من الدلالة فيها، وهذه نزعة إلى تجاوز الدلالة الأفقية الدنيا إلى دلالات قصوى مختلفة الاتجاهات ومتولدة عن تفاعل مختلف إمكانيات التقليب التي يخلقها الشاعر في الكلام" ([15]) على أن اعتباطية العلاقة بين الدال والمدلول تشير إلى أن بينهما علاقة غير محللة لعدم وجود علاقة طبيعية بينهما على صعيد الواقع ([16]). "فالدال هو الترجمة الصوتية لتصور ما، والمدلول هو المستشار الذهني لهذا الدال، ومن هنا تتضح الوحدة البنائية في الإشارة اللغوية بين الدال والمدلول" ([17])، وفي هذا السياق نظر الدرس الأسلوبي الحديث للغة على أنها: "مجموعة علامات، والعلامة هي ما يدرك بالحس، رؤية أو سماعاً أو لمساً، وبإدراك الحس له، يدرك به شيء غيره، والعلامة الألسنية مفهوم مركب من مظهر حسي فيزيائي، تدركه العين كتابة، ويدركه السماع ملفوظاً، ويسمى الدال ومظهر مجرد هو المتصور الذهني الذي "يدلنا" عليه ذلك الدال، والذي بحصوله نقول: إننا فهمنا الدال، ويسمى هذا المظهر المدلول، أما العملية التي يقترن بها الدال بالمدلول في أذهاننا، فهي التي تسمى الدلالة، وقد ألح سوسير على الالتحام القائم بين الدال والمدلول حتى شبههما بوجهي ورقة واحدة" ([18]).

    ومما ميز الأسلوبية من البلاغة في البحث الدلالي "أن البلاغة اكتفت بالنظرة التبادلية للكلمات، "وضع واحدة مكان الأخرى" دون محاولة البحث في علاقاتها التتابعية "وضع الواحدة إلى جوار الأخرى" وبالنتيجة فقد استأثر محور الانتقاء بالأفضلية على محور التأليف، وواضح أن التركيز على محور الانتقاء يحصر البحث في نطاق علم الدلالة" ([19]).

    وقد صار النظر إلى الدلالة كونها اتحاداً شاملاً بإطار متكامل بين الدال والمدلول غير قابل للتجزئة ([20]). مرتبطاً بكون دلالة الكلمة، لا تفتقر إلى مدلولها فقط "وإنما تحتوي على كل المعاني التي تتخذها ضمن السياق اللغوي، وذلك لأن الكلمات في الواقع لا تتضمن دلالة مغلقة، بل تتحقق دلالتها في السياق الذي ترد فيه، وترتبط دلالة الجملة بدلالة السياق الذي ترد فيه" ([21])، والدوال في هذا السياق تؤدي وظائف معقدة من خلال ما تحمله بوصفها صوراً سمعية، من طاقة نفسية مركبة مشحونة بالرغائب والمعطيات الحسية، فتحرك تلك الدوال كل مكونات نفسية المتلقي، خالقة وجوه دلالتها الذاتية، تلك الدلالة الصادرة أحياناً عن محاكاة صوتية وأحياناً عن صفة تعبيرية في العلامات اللغوية. وفي سياق المحاكاة الصوتية "فإن الصوت المعزول –وان انقطعت صلته بالدلالة –بمقتضى عزله عن الإطار الدلالي الأدنى، فإنه بحكم انعقاد صلة له جديدة بأصوات معزولة مثله، يكتسب صلة بالمدلول، إثر ربط هذه الأصوات بعضها ببعض، وربط المعاني بعضها ببعض، فيصبح ذا طاقة دلالية، في البيت، وبعبارة أخرى نقول: رغم إيماننا الراسخ باعتباطية العلاقة بين الدال والمدلول عامة، فإننا نؤمن بعلاقة حقيقية بين مظاهر الدوال معزولة.. وبين إطار الدلالة"([22]).

    وهذا الأمر يتميز من لغة لأخرى، وأحياناً من عصر لآخر في عرف اللغة الواحدة، وهنا يأتي علم الدلالات ليعنى "بدراسة انتظام الدوال الألسنية في الظاهرة اللغوية عموماً، رغم ما يميز اللغات بعضها مع بعض، من نواميس نوعية في توليد الدلالات، فعلم الدلالات يسعى إلى عقلنة الظاهرة الدلالية أو عقلنة ظاهرة الدلالة" ([23]).

    ومن خلال هذا يمكن أن نميز نوعين من الدلالة، أولهما الدلالة الذاتية في لغة الخطاب، وثانيهما الدلالة الحافة، والأولى "تتكون من المضمون الإعلامي (الدلالي) المنطقي للإشارة اللغوية، ويمكن أن نحدده بالعلاقة بين الكلمة وما تدل عليه، من شخص أو شيء أو صفة أو حدث خارج النظام اللغوي، أي بمعنى الكلمة كما يفهمه جميع متكلمي اللغة الواحدة" ([24]) أما الدلالة الحافة فتتكون "من مجموع الأنظمة الدالة التي يمكن اكتشافها في نص ما، إضافة إلى الدلالة الذاتية وهي تحد إجمالاً بكونها: المعنى الإضافي الذي توحي به كلمة ما، زيادة على معناها الأصلي" ([25]) وهنا فإن الدلالة الحافة "توحي أكثر مما تعبر، ومنها الطاقة الإيحائية في اللغة، وتعد سمة أسلوبية ما لم تتأثر أو تتكاثف، فتصبح عائقاً في الفهم، ومفهوم الإيحاء التمازج بمفهوم الإيجاز في البلاغة العربية ويمكن تعريف سمة الإيحاء بأنها: حضور دلالة في الكلام، ليس في عناصره ما ترتبط بها مباشرة" ([26]).

    وقد ميز بعض الدارسين بين نوعين من الدلالة الحافة "نوع اجتماعي، ونوع نفسي، ولكنها في جميع الحالات تكون، إما حرة أو إجبارية، وهي تكون حرة على الأخص في النص الشعري، ذلك أن القصيدة غالباً ما تتضمن "فجوات منطقية" يفسرها كل قارئ أو سامع وفقاً لخياله، أو لثقافته، أو لتجربته الخاصة، أو لمعرفته بالشاعر ذاته، ولكن حرية اكتشاف دلالات حافة في قصيدة لا تكون كاملة. فالدلالة الحافة ليست بيتاً واحداً ينتخب من القصيدة ويقرأ دون سائر الأبيات، وبمعزل عنها يتضمن من الدلالات الحافة مالا يتضمنه حكماً، البيت ذاته، إذا قرأ ضمن القصيدة، أو من خلال الديوان" ([27]).

    وقد أشار (بارت) إلى ما أسفرت عنه نقاشات طويلة بين اللسنانيين دارت حول واقعية المدلول أجمعت تقريباً على كونه ليس شيئاً "إنما هو تمثّل نفسي للشيء" ([28]) وفي هذا رأى أن مادية الدال تفرض "التميز الواضح بين المادة والماهية، فالماهية يمكن أن تكون غير مادية (مثل ماهية المحتوى) إذ يمكن القول فقط بأن ماهية الدال مادية دائماً: أصوات، أشياء، صور" ([29]) وقد ذكر بارت بأن "الدلالة تنتمي لماهية المحتوى، والقيمة تنتمي إلى شكل المحتوى.. ويرتبطان بعلاقة جدلية باعتبارهما مدلولين وليس لأنهما دالان طبعاً" ([30]).

    وفي سياق الدلالة الحافة السابق ذكرها، يمكن النظر إلى أن مقومات عمود الشعر لم تقصر أثرها الدلالي في الاتجاه العرفي أو الذاتي فقط، إنما كانت تقترب من الدلالة الحافة على الرغم من أن عمود الشعر، في إطار المقومات الدلالية (الإصابة في الوصف والمقاربة في التشبيه، ومناسبة المستعار منه للمستعار له) قد حرص على وضع معيار لكل واحد من تلك المقومات، وكأن ذلك المعيار يحدد الاستعمال والكلام كما قال (بارت) ([31]) إلا أن هذا التحديد إنما كان ليجعل من الدلالة الحافة، دالة على الطبع متصلة –من جهة بعدها المجازي –مع العرف اللغوي /الاجتماعي، بأكثر من سبب يجعلها ضمن سياق الخطاب الشعري، دالة على فطنة الشاعر ومقدرته الفنية على الإمتاع الجمالي بعيداً عن الغموض (السهل الممتنع) لأن سائر مقومات العمود الشعري تتوخى معنى أخلاقياً، لأن ما هو أخلاقي في عمود الشعر ينبغي أن يكون ممتعاً جمالياً حتى يكون شعرياً.

    الإصابة في الوصف:

    الإصابة في الوصف أول ثلاثة عناصر في عمود الشعر، تتصل بالمستوى الدلالي، إذ يكشف المفهوم عن نية مسبقة لأن يكون الواصف حاد الذكاء وحسن التمييز في أن يجعل كلامه من جهة دلالته على مقام القول، مثالاً صادقاً، في صدق ارتباطه بالواقع متصلاً بالذاكرة التي يرتضيها العرف، لأن هذا هو علامة الإصابة في الوصف، ودلالتها ما يفسره قول عمر بن الخطاب (رض) في زهير أنه "كان لا يمدح الرجل إلا بما يكون للرجال" ([32])، وقول علي (رض) حين سأله عمر (رض): "من أشعر الناس؟ قال: الذي أحسن الوصف وأحكم الرصف، وقال الحق" ([33]).

    والأمر هنا لا يعني اقتصار لغة الشعر على مستوى الدلالة الذاتية، إنما هي الدلالة الحافة مرتبطة بقرينة يعيها العرف ويدركها المتلقي، مع النظر إلى مفهوم الدلالة الأدبية على أنه "طريقة أداء العناصر لوظائفها في العمل الأدبي ضمن شبكة العلاقات المتبادلة بينها، والكيفية التي تنتظم فيها تحقيقاً لفاعلية خاصة" ([34]).

    وإذا قام الأدب على محاولات كشف عن المخاض الجدلي الذي يعيشه العالم، أو لما يعيشه الإنسان أولاً، فإن الدلالة الأدبية تتمثل بالدرجة الأساس في أدوات فنه وطرائق تعبيره. ومحاولة إنتاج الدلالة الأدبية، إنما تكون في السعي لها في خلال إنتاج النص الأدبي عبر ما تمثله مرجعية الكاتب الثقافية من تناص قد يتجلى في إنتاجه الدلالي، ثم ما يتمثل لدى المتلقي بوصفه منتجاً آخر للدلالة.

    وفي هذا الإطار كانت "السمة المشتركة التي تجمع كل المناهج النقدية الآن، أو بين معظمها على الأقل، في هذا العصر، هي أنها جميعاً تبحث عن أبنية العمل الأدبي، كي تعثر على دلالته، وتدرج كيفية قيامه بوظيفته" ([35]).

    فالنقد الأدبي نظر منهجي حر ومنظم في آن معاً، يسعى دائباً لاكتشاف عالم النص الأدبي، والوقوف على القوانين التي انتظمته، وحكمتها حركة العمل الأدبي، مع ملاحظة أن نقد القدماء قد وقف في كثير من الدراسات على البنيات المكونة للأعمال الأدبية، في محاولة لدراسة العناصر الماثلة فيها، على أن ذلك النقد كان ملتزماً حداً معيارياً مستمداً من مقولاته الخاصة، والأحكام ذات القيم الخلقية، وهو ما يؤدي إلى شيوع نسب من التعميم في قراءة النص الأدبي نقدياً، ومن هنا نفهم كيف طالب العمود بأن يكون الأديب مصيباً في وصفه، مدلاً في إصابته على ذكاء يحدث حسن تميير في خلق الدلالة الأدبية.

    ويجمع عنصر العمود في هذا السياق، بين ملاحظات الناقد ونتائجه ورغباته وأحكامه النقدية وهو أمر لا يخدم النقد الأدبي، لأن من مسلمات أحكامه النقدية، أو من مسلمات كل نظرية أدبية.. أن تقييم طبيعة الدراسة العلمية للأدب على ضرورة الفصل بين التقييم والتأويل، وأن تنمي مناهجها بحيث تضمن لملاحظات الناقد ونتائجه، أن لا تختلط برغباته وأحكامه... ([36]).

    فقد صار بديهياً في النقد الحديث عدم التركيز فيما يقوله النص الأدبي بالقدر نفسه الذي يتم التركيز فيه، على الطريقة التي يقول بها النص ما يقوله أو يريد قوله، على أن في هذا تعسّفاً صادراً عن كون الشكل (شكل النص الأدبي) إنما هو معطى فني يؤدي إلى بنيته المضمونية أو محتواه، لأن طريقة القول جزء من القول نفسه. ومطالبة القدماء بالإصابة في الوصف من جهة المضمون أو المحتوى أو ما يتصل النص به على صعيد الواقع.

    ويبدو أن السبب وراء بحث القدماء في الأدب عن مضمونه أو محتواه أولاً، أي عن المضمون أكثر من طريقة التعبير عنه، كان بسبب من توخيهم –في الخطاب الأدبي –حداً نفعياً معيناً مقيساً بمعيار سابق عليه، أثبت ذلك المعيار نفعه على صعيد السلوك بوصفه مضموناً، فضلاً عن نظرهم إلى اللغة من خلال القاعدة المعيارية، التي تضمن للغة في مرحلة الخطاب (الكلام) أداء محتواها بشكل دقيق، وهذا ما جعلهم ينظرون إلى قواعد اللغة بمنظار (القداسة) وإلى معايير الكلام، الأدبي بمنظار المرجعية الخاصة.

    وفي ضوء هذا نفهم قول (رولان بارت) من أن اللغة الشعرية حين تضع الطبيعة موضع التساؤل، بكيفية جذرية عن طريق التأثير الوحيد لبنيتها، من دون اللجوء إلى محتوى القول، ومن دون التوقف عند محطة أيديولوجية ما، فإنه لا تعود هناك كتابة، بل توجد فقط أساليب من خلالها يقلب الإنسان نفسه كلية، ويواجه العالم الموضوعي، من غير أن يمر بأي وجه من وجوه التاريخ أو الألفة الاجتماعية" ([37]) وفي هذا السياق فإن الوضوح الذي دعا إليه (عمود الشعر) في الإصابة في الوصف إنما هو صفة بلاغية محض، وليس ميزة عامة للغة ممكنة التحقق، في جميع الأزمنة والأمكنة، بل هي مجرد ملحق مثالي لخطاب معين، هو ذات الخطاب المخضع لنية الإقناع الدائمة ([38]) وهو لا يتصل بالواقعية على نحو دقيق لأن الكتابة الواقعية لا تستطيع أن تقنع أنها محكوم عليها بأن تصور حسب.. ([39]).

    ذلك أن أسلوب الخطاب الأدبي بما يشتمل عليه من مقومات للشكل الفني والموضوعي تجعل الناظر إليه أو فيه نقدياً يحتكم إلى مقياس الأسلوب بوصفه "المظهر الفني الذى به قوام الإبداع الأدبي" ([40]). وذلك المظهر الذي تتخلق فيه وظائف أسلوبية تشير إلى المنحى الفني للخطاب وتؤدي إلى تحليله، وتكشف عن خطأ النظر إليه من خلال حرية معايير المضمون وحده، والنظر إلى الوظيفة الشعرية أو الجمالية لأنها "علاقة قائمة بين الرسالة وذاتها، إنها الوظيفة الجمالية بامتياز، إذ أن المرجع في الفنون هو الرسالة التي تكف عن أن تكون أداة اتصال لتصير هدفه ([41]) وقد

      الوقت/التاريخ الآن هو الإثنين مايو 06, 2024 5:36 pm