منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    تابع لسيميائية الصورة.1

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    تابع لسيميائية الصورة.1 Empty تابع لسيميائية الصورة.1

    مُساهمة   الإثنين يوليو 04, 2011 10:19 am

    [center]هذا، وقد وظف بيتر بروكBrook في كثير من عروضه المسرحية الميم بطريقة جزئية، أي في مشاهد درامية معينة داخل عروضه المسرحية، والتي استعمل فيها منهجا تلفيقيا يعتمد على توظيف مجموعة من التقنيات الإخراجية ، والتي استلهمها بدورها من مخرجين آخرين تناصا وتضمينا وتجريبا. ومن هنا، فقد ” أفاض بروك في إخراجه عرض مارا صاد Marat- Sade عن رؤية متعددة التفاصيل، فالشخصيات تستخدم الماكياج بمعيار مبالغ فيه إلى جانب المبالغة في التشويهات الخلقية والجسدية مع تقديم مشاهد تعبيرية صامتة( ميم) وإضافات صوتية وحركات تعبيرية وضوئية. وكل ذلك يختبره بروك لتحقيق أهدافه الفنية التي تمثلت في امتزاج التناغم البريختي مع قسوة أرتود الأمر الذي أثار كيان النقاد في العالم، فهو قد استفزهم وخدرهم وسحرهم”.
    وينطلق كوردون گريگ في كتابه” فن المسرح” من أن جذور المسرح تعود إلى الرقص والحركات الصامتة، وقد رفض فلسفة الواقعية كثيرا . وفي المقابل، كان يدعو إلى المسرح الشامل، وخاصة المسرح الذي ينبني على المسرحية الصامتة، و شعر العرض المسرحي الجامع بين طقوس الكلمة والحركة… وبالتالي، يتحدد المسرح الشامل لدى گريگ في الحدث والكلمات والخط واللون والإيقاع.
    ومن المخرجين الذين اهتموا بالميم نجد كلا من: هنري توماشفسكي الذي أوجد مدرسة للتمثيل الصامت ببولندا سنة 1956م، وجاك ليكوك Jacques Lecoq الذي أسس مدرسة للميم بباريس سنة 1956م، ومارسيل مارسو Marcel Marceau الذي شيد بدوره مدرسة للميم بفرنسا سنة 1978م.
    ومن جهة أخرى، هناك من العلماء والباحثين من درس الميم دراسة تصنيفية دقيقة، مثل: العالم لاوتون Lawton في كتابه:” نظرية الميم وتطبيق الحركية التعبيرية” ، والذي قدم تصنيفا توضيحيا للمكونات الميمية، حيث ميز بين ثلاثة أنواع:
     التعبير الطبيعي للانفعالات.
     الحركات الاشتغالية التي تصف مختلف النشاطات (اللعب والعمل).
     الحركات الاصطلاحية التي تشمل بدورها ثلاثة أنواع فرعية:
     الحركات السردية المستعملة في مجال التبادلات اللفظية.
     الحركات الوصفية التي تسمح للفنان بالتعبير عما يرى، ويسمع ويحس ويلمس. وتمكن هذه الحركات أيضا من وصف الأحداث أو الظروف الواقعة خارج المشهد.
     الحركات الانفعالية المشتقة من الانفعالات الطبيعية على سبيل المثال.
    ومن أهم الممثلين المشهورين في مجال الميم والمسرح الصامت نستحضر الأعلام البارزة التالية: جان لوي بارو Jean-Louis Barrault، وشارلي شابلن Charlie Chaplin، وفامي دوبيرو Famille Deburau، وإيتيان دوكرو Étienne Decroux ، وماكسيميلسان دوكرو Maximilien Decroux، وبوستر كايتون Buster Keaton، وجاك ليكوك، ومارسيل مارسو، وكارلوس مارتينيز Carlos Martínez، وهاربو ماركس Harpo Marx، وروبرت شيلدز Robert Sheilds ، وبابتيست دوبيرو Baptiste Deburau، وهنري توماشفسكي Henryk Tomaszewski…
    ويتضح لنا ، مما سبق ذكره، أن سيميائية الصورة المسرحية تتشكل من الخطاب الإيمائي والإشاري والحركي. وبالتالي، فمسرح الميم هو مسرح سيميائي بامتياز ، مادام هذا المسرح الصامت يستعين بمختلف الشفرات البصرية. وبالتالي، يهمش كل ما يمت بصلة إلى اللغة والكلمات والحوارات المنطوقة، فيعوضها بالصور المادية الملموسة القائمة على سيميائية الإيماءة الحركية.

    2- مسرح البيوميكانيك:

    تعتبر البيوميكانيك من أهم التصورات المسرحية في الغرب ، ومن أهم التقنيات الدراماتورجية في الإخراج المسرحي المعاصر. وقد استفادت البيوميكانيك من تصورات الشكلانية الروسية، ونهلت أيضا من البنيوية التي قتلت الإنسان وجردته من قيمه الروحية ، ونزعت عنه كينونته الوجودية وهويته الإنسية، كما تأثرت أيضا بالفلسفة الآلية المعاصرة التي آمنت بالعلم والتطور التكنولوجي والتقدم الصناعي. ومن هنا، فلقد أصبح الممثل أو الإنسان في ضوء الفلسفة الآلية مجرد دمية أو ماريونيت أو آلة عضوية بلاستيكية صماء تقوم بمجموعة من الحركات الربوتية للتعبير عن تطور العلوم التقنية من جهة، وللإشارة إلى ضآلة الإنسان وقزميته في هذا العالم التقني المتطور من جهة أخرى.
    وبعدما أن وجدنا مجموعة من النظريات الإخراجية تمجد الممثل الإنسان كالنظرية الكلاسيكية والنظرية الرومانسية والنظرية الواقعية والنظرية الطبيعية والنظرية الوجودية، إلا أن ثمة بعض النظريات الإخراجية في مجال المسرح تحط من قيمة الممثل النجم، وتحد من غلوائه وطغيانه الجامح. وبالتالي، تعتبره مجرد آلة مع فيسفولد مايير خولد Vzevolod Mierhold، أو تعده مجرد دمية أو ماريونيت مع إدوارد كوردون كريك Edward Gordon Craig.
    وما يهمنا نحن في هذه الورقة هو: كيف يمكن لنا أن نستعين بمسرح البيوميكانيك لخدمة مسرح الأطفال تشخيصا وتأليفا وإخراجا وتأثيثا؟

     مفهوم البيوميكانيك:

    من المعروف أن البيوميكانيكا BIO-MECHANICS تتكون من كلمتين أساسيتين، وهما: بيو بمعنى الحياة، والميكانيكا بمعنى علم الآلة. ومن هنا، فالبيوميكانيك بمثابة الهندسة الحيوية التي تدرس الإنسان الحي على ضوء الفيزياء الميكانيكية . وذلك ، بدراسة جسم الإنسان عضويا وفيزيولوجيا وحركيا من أجل رصد طاقته الحركية ضمن قوانين الحركة الديناميكية وقوانين الفراغ. ويعني هذا أن البيوميكانيك تدرس بعمق حركات جسد الممثل في الفراغ.
    ومن ثم، فالبيوميكانيك بصفة عامة هي دراسة الآليات الحية. أما في المجال الدرامي والمسرحي، فهي وصفة إجرائية وطريقة تطبيقية يعتمد عليها المخرج لتدريب ممثليه بطريقة بلاستيكية على إنجاز مجموعة من الأداءات التشخيصية على ضوء شعرية الجسد ، وممارسة تداريب صارمة لتطويع البدن لكي يقوم بمجموعة من العلامات الحركية التي تشبه الآلة الربوتية. وبالتالي، يتخلص المسرح في هذا السياق من هيمنة الكلمة وسلطة الحوار، ليتم تعويض كل ذلك بالإيماءات والإشارات والحركات الميكانيكية الآلية.
    وتسمى البيوميكانيك عند البعض بالمجال البلاستيكي كما عند الباحث المغربي سالم كويندي الذي يرى بأن هذا المجال يعني :” عدم نطق الكلمات وحدها، بل مصحوبة بالحركات، بحيث إن الحركة قد تغني عن الكلام مثلما هو في الموسيقى. ويأتي ماييرخولد بمفهوم البلاستيكا من فاجنر الموسيقار المعروف، لأن البلاستيكا شيء ضروري حتى في المسرح القديم، وبهذا يرى أن حركات الأيدي، وأوضاع الجسم، والنظرات، والصمت، هي التي تحدد حقيقة علاقات الناس المتبادلة، لأن الكلمات لا تقول كل شيء، مما يعني الحاجة إلى رسم الحركات على الخشبة، مادامت الكلمات للسمع . أما البلاستيكا، فمن أجل العين، لأن أفضل ما يعبر عن المشاعر هو الطابع التشكيلي الذي يتم فيه الكلام ، وهنا يلعب جسم الممثل دورا أساسيا.”
    وعلى العموم، فالبيوميكانيك أو البلاستيكا فن جدير بالاهتمام؛ لأنه يقوم على ترويض الجسد ، وإنماء فن الحركة أثناء تداريب التمثيل والبروفات الميزانسينية. ويعني هذا، أن البيوميكانيك علم يهتم بالممثل من الناحية الجسدية والحركية. وفي هذا يقول ماييرخولد:” لو قمنا بإزالة الكلمة، والأزياء، ومقدمة الخشبة والكواليس، والصالة، ولغاية أن يبقى الممثل وحركاته لوحدها، فإن المسرح سيبقى مسرحا”.
    ويعني هذا الكلام أن المسرح ليس خطابا لفظيا أو حواريا ، وليس أيضا ديكورا ، وليس متعلقا بحضور الجمهور، بل المسرح الحقيقي هو الذي يهتم بتكوين جسد الممثل، وإغناء حركاته العضوية والبلاستيكية.

     مقومات مسرح البيوميكانيك:

    يقوم مسرح البيوميكانيك على مقومين أساسين، وهما: العضوية والحركية. فالعضوية هي الحيوية والجاهزية في ردود الأفعال الشرطية والانعكاسية. أما الحركية الفيزيائية والميكانيكية في هذا الصدد، فتنصب على حركات الجسد الديناميكية من رأس وعين ويد وجذع وقدم… اعتمادا على الموسيقى الحركية ، وقاعدة الفصل والوصل، وقاعدة السكون والحركة، وقاعدة الاتساق والانسجام، وقاعدة الهرمونيا، وقاعدة التحرك المتنوع، وقاعدة الاستجابة البلاستيكية، وقاعدة التحفيز الشرطي، وقاعدة الاعتدال والتوازن، وقاعدة الحيوية، وقاعدة ديناميكية الجسم….
    كما أن الحركات أنواع: قد تكون بسيطة أو مركبة، وقد تكون قصيرة أو طويلة، أو سريعة أو بطيئة. وقد تكون أيضا جامدة أو نامية، وقد تكون مختلة أو متوازنة… ويمكن الحديث أيضا عن بداية الحركة ووسط الحركة ونهاية الحركة. وبالتالي، تتشكل الفرجة المسرحية من مجموعة من الحركات المترابطة فصلا ووصلا، مثل : لقطات الفيلم السينمائي الخاضعة للتقطيع والمونطاج. لذا، لابد من إخضاع كل الحركات حسب ماييرخولد للتخطيط الحركي.
    والغرض من هذا التصنيف الحركي هو تعويد الممثل على اكتساب تقنيات وملكات حركية للتحكم في جسده حسب سياقات الفرجة الدرامية، مع اجتناب مبادئ التشخيص والمعايشة الصادقة والاندماج في الدور كما نجد ذلك لدى أستاذه قسطنطين ستانسلافسكي.
    وثمة معجم حركي يشغله ماييرخولد كثيرا في كتاباته النظرية والتطبيقية مثل:اتجاه الحركة، وشكل الحركة، وبلاستيكية الحركة، والحركة في الفضاء( المثلث، والمربع، والدائرة…)، والسرعة، والوقفة، والإيقاع، والتوازن، وتضاد الحركة، والانشداد الحركي….
    ومن هنا، فالبيوميكانيكا تهتم تحديدا بتدريب الممثل على أساس بلاغة الجسد الخاضعة لشعرية الموسيقى، وتمثل قواعد شعرية الترويض البدني عبر تشغيل الميم ،والرياضة البدنية ، والجيمناستيك، والرقص، واستثمار سيميولوجيا الحركات والإشارات والإيماءات. ومن هنا، فنظرية البيوميكانيك عند ماييرخولد مفادها:” أن حقيقة العلاقات الإنسانية والسلوك الإنساني وكذا جوهر الإنسان لايجب التعبير عنه بالكلمات، ولكن بالحركة والإشارة والإيماءة والخطوة والموقف. ففي عرض” العظيم ذو القرنين” ازدحم المسرح بتركيب أشبه بالطاحونة، وبعدد من المصاطب والدرج والعجلات، وعلى مثل هذه المنصة يبدو الديكور الهيكلي والممثلون في أرديتهم الزرقاء يجرون ويقفزون ويتحركون كما الأكروبات”.
    ومن المعلوم أن البيوميكانيك ليست منهجا نظريا، بل هي عبارة عن تمارين بلاستيكية لتدريب الممثل جسديا وحركيا للحد من طغيان الكلمة والحوار والمنولوغ، وتعويض ذلك بالحركات الصامتة المعبرة عن آلية العصر وآلية الإنسان المستلب. و هكذا، يقول ماييرخولد موضحا منهجه التدريبي:”إن البيوميكانيكا هي عبارة عن تمارين لا يمكن نقلها مباشرة في داخل المشهد.إنها تدريبات خاصة قمت بصياغتها على أساس تجربتي الطويلة وشغلي مع الممثلين. فقد كنت أقول لنفسي: من الضروري أن يكون هذا الشيء أو ذلك ، هذه المسألة أو تلك بهذه الطريقة أو تلك، ومن كل ماجاء في ذلك يمكن أن تستخلص اثنتا أو ثلاثة عشرة نقطة ضرورية في شغل الممثل، والتي يمكن أن يقوم من خلالها استغلال الوسائل التي يمتلكها، وذلك من أجل إيصال وبث الأفكار التي توجد في أساس العرض المسرحي.”.
    وعلى أي حال ، فالبيوميكانيكا طريقة في تدريب الممثل لجعله كفئا قادرا على التأقلم ، والتكيف بذكاء مع مجموعة من الوضعيات الدرامية والميزانسينية، وذلك اعتمادا على مجموعة من المكونات العضوية الحيوية التي يمتلكها كالحركة، والإيماءة، والنظرات، والصمت، والإيقاع، والوضعيات الجسدية…

     تاريخ البيوميكانيك:

    من المؤكد أن البيوميكانيك لم تظهر إلا مع التطور التقني والصناعي الذي بلغ مداه في القرنين: التاسع عشر والعشرين. وفي هذه الفترة بالذات، اخترع الإنسان المعاصر مجموعة من الآليات التقنية، كما توصل إلى إيجاد أنواع عدة من الروبوتات المبرمجة ذاتيا.
    أما على المستوى المسرحي، فلم يظهر المصطلح إلى حيز الوجود إلا بعد تقديم مسرحية Cuco magnifique التي أخرجها ماييرخولد عام 1922م. وقد اعتبرت:” علامة بارزة في المسرح الروسي في القرن العشرين، والتي تركت أثرها البليغ على طريقة التمثيل في تلك الفترة. وبالرغم من توظيف البيوميكانيكا في هذا العرض، وبشكل مباشر، إلا أن ماييرخولد قد أكد ، وفي أكثر من موقع في كتاباته وأحاديثه، على أنها ليست عبارة عن منهج في طريقة التمثيل.” بل تداريب تطبيقية لتكوين الممثل جسديا وحركيا.
    وبعد ذلك، انتشرت البيوميكانيكا في تداريب التمثيل ، وكذلك في العروض المسرحية عند مجموعة من المخرجين في العالم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، أو بتوظيف كلي أو بشكل جزئي، والكل يعترف بماييرخولد في هذا المجال الذي أصبح رائدا فيه بلا منازع.

     البيوميكانيك في الإخراج المسرحي المعاصر:

    يعد فسفولد مايير خولد من أهم المخرجين الذين نادوا بمسرح البيوميكانيك كرد فعل على المسرحين: الواقعي والطبيعي اللذين اعتمدا على الشعارات الماركسية والاشتراكية، فأصبح الممثل الإنسان مقيدا بهذه التعاليم الإيديولوجية الطوباوية. لذا، راح مايير خولد يفكر في التطور العلمي والتقني الذي شهد ثورة كبيرة في منتصف القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. لذلك، نجده يدعو إلى الممثل الآلة الذي يتحكم في جسده فوق خشبة الركح. ومن ثم، أعلن ماييرخولد قائلا:” إن مبادئ المسرح الذي يقوم بالدعاية في مطابقة تامة مع مبادئ الماركسية؛ لأنها تنشد تأكيد أهمية العناصر التي تبرز ماهو مشترك بين كل الناس، اللافرد. وطلب ممن يعمل معه من الممثلين، التخلص بقوة من كل شعور إنساني مهذب، وخلق نظام يقوم على قوانين آلية. وابتدع ما أطلق عليه اسم ميكانيكا الأحياء BIO-MECHANICS أو الميكانيكا الحيوية: هندسة الحركة القائمة على الدراسة المتعمقة لجسم الإنسان وقوانين الحركة والفراغ.”
    ويعني هذا أن المخرج الروسي ماييرخولد أقام مسرحه على تدريب الممثل تدريبا شكلانيا آليا روبوتيا وبنيويا ، معتمدا في ذلك على البيوميكانيك أو الميكانيكا الحيوية ، ودراسة جسم الإنسان ، ورصد قوانين الحركة والفراغ.
    وقد طبق ماييرخولد مسرح البيوميكانيك في مسرحيته” العظيم ذو القرنين”، وفي مسرحية” المفتش العام” لنيكولاي جوجول.
    ويقول أحمد زكي في كتابه” الإخراج المسرحي” عن نظرية ماييرخولد البيوميكانيكية:” لكي يدرب ماييرخولد ممثليه على القيام بمثل هذه الأفعال الفذة، طور نظريته عن الآليات الحية، التي تقوم على ما اعتبرها قوانين طبيعية للحركة، والتي علمت الممثل على أن يستخدم فراغ خشبة المسرح استخداما يفيد فيه من الأبعاد الثلاثة. وقد استخدمت تمرينات الرياضة البدنية والمشي على الحبل وألعاب السيرك لمساعدة الممثل على أن يكتسب حسا كاملا بالعلاقة بين بدنه وبين الفراغ والزمن والإيقاع.
    كان هدف ماييرخولد أن يجعل الممثل جزءا لدنا من كل، يتميز في الإيقاعات، يتناسق فيه الممثلون وأدوات التمثيل وتجهيزات خشبة المسرح والمناظر.”
    ولم يكتف ماييرخولد بما لديه من تجارب تطبيقية تخص تمارين الحركة ومكونات الجسد ، بل انفتح على المسرح الصيني والياباني” في كيفية تعامله مع الإيماءات والحركات والإيقاع، وكذلك كيفية تعامل ذلك المسرح مع المجازات المسرحية. ومن جانب آخر، تجد اهتمامه الخاص بطريقة شغل الممثل في مسرح الكوميديا دي لارتيه في إيطاليا: ليس من خلال اهتمامه بإشكالية الارتجال والتعامل مع السيناريو( كانوفاجو: هيكل تسلسل الأفعال) فقط، بل وكذلك في استقائه من كيفية تعامل الممثل فيه مع الحركة وديناميكية الجسد، وكذلك كيفية استخدام القناع، والتعامل مع الرقص والغناء والعزف في داخل المشهد، سواء في تقديم العرض المسرحي التراجيدي أو الكوميدي.”
    وإلى جانب مايير خولد، هناك إيرفين بيسكاتورPISCATOR المخرج المسرحي الألماني الذي كان يفرض مسرحا لافرديا عن طريق إلباس ممثليه ملابس وأزياء خشنة ذات زوايا حادة مخالفة لخطوط الجسم البشري وهندسة فسيولوجية الكائن الإنساني. فكان الممثلون في هذه الألبسة يظهرون مثل الإنسان الآلي أو الروبوت ROBOT ، بعيدا عن أن يكونوا بشرا حقيقيين.
    أما المخرج الروسي تايروف TAYROV فقد جعل” ممثليه يستخدمون ماكياجا عجيبا مفرطا في الغرابة ليكونوا على يقين من أنهم لن يشبهوا أي أحد من الحياة الواقعية، وبهذا يصبحون أشخاصا متفردين في عيون النظارة” .
    وفي العقود الأخيرة، وجدنا المخرج الفرنسي جاك ليكوك يهتم بشعرية الجسد، ويعنى عناية ببلاغة الحركة ، مستفيدا من قواعد الجيمناستيك، ومبادئ التربية البدنية ، لتكوين ممثل قادر على الأداء الدرامي في وضعيات مختلفة ومتنوعة، مهما كانت درجة صعوبتها الكفائية.

    3- أنطونان أرطو وسيميائية الصورة :

    يعد المخرج الفرنسي أنطونان أرطو Antonin Artaud من أهم المخرجين العالميين الذين حاولوا أن ينزاحوا عن الشعرية الأرسطية، والتمرد عن المسرح الغربي ، والبحث عن مسرح مغاير بديل للمسرح الأورپي، وذلك عبر النبش في الذاكرة الشرقية والمسرح الأنتروپولوجي. وكل ذلك بغية مداواة الإنسان الغربي المعاصر المريض بالشبع المادي، والمستلب عقلانيا وإنتاجيا ورقميا من قبل الرأسمالية المتوحشة والعقلانية الفجة. ولن تكون هذه المداواة الدرامية إلا عبر تطهير روحاني وجداني يحرر الإنسان / الراصد من غرائزه الشريرة وانفعالاته التناتوسية، وتحرير مكبوتاته بواسطة مسرح القسوة والتعرية الصارخة القاسية لاشعوريا.
    هذا، وتعتبر مسرحيات أنطونان أرطو وتنظيراته في الإخراج المسرحي تمهيدا لظهور المسرح التجريدي أو المسرح العابث بعد الحرب العالمية الثانية من القرن العشرين.

     سيميائية الصورة لدى أنطونان أرطو:

    جمع أنطونان أرطو كل تنظيراته المسرحية في كتابه الأول “مسرح القسوة” الذي نشر سنة 1933م، وألحقه الكاتب بعد ذلك بكتابه ” Le théâtre et son double / المسرح وقرينه” الذي ألفه سنة 1938م .
    وقدم الكاتب في مصنفه ” المسرح وقرينه” مجموعة من التوجيهات المسرحية التي ترفض أن يتحول المسرح إلى مجرد تمثيل وتقليد، بل لابد أن يعود إلى جذوره الاحتفالية والطقوسية البدائية لكي يحرر غرائز الإنسان السلبية المتأصلة فيه، ويحرره من الانفعالات الموروثة، ومن مشاعره العدوانية الكامنة والمختفية في وعيه الباطني على المستوى اللاشعورالجماعي.
    هذا، ويحمل كتاب أرطو في طياته ملاحظات وتوجيهات كان الهدف منها تقويض المسرح الغربي، وهدمه وتدميره. لأنه مسرح عقلاني ومادي وحواري يهمل الأشكال الاحتفالية الفطرية ، ويغض الطرف عن التمظهرات الجسدية والحركية والطقوس الدينية والأسطورية والسحرية، ومرجع أرطو في ذلك هو تأثره بالمسرح الشرقي الباليني في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي.
    و” لم يخطئ جاك دريدا عندما تحدث عن نصوص ” المسرح وقرينه” بقوله:” هي تحريضات أكثر مما هي مجموعة إرشادات، نسق من الانتقادات يرج كامل تاريخ الغرب أكثر مما هي رسالة في الممارسة المسرحية”. لقد أدرك، فعلا، عمق هذه النصوص التي لم تخلخل بنية المسرح الغربي وحسب، وإنما زعزعت كيان الميتافيزيقا الغربية بكاملها. وليس غريبا أن تكون فصول عريضة من هذا الكتاب مخصصة للمسرح الشرقي بشكل عام وللمسرح الباليني على وجه الخصوص. إن أرطو كان يرسم من خلالها الوجه الآخر للمسرح الغربي، الوجه الذي يتأسس فيه المسرح على”حالة ما قبل اللغة”، الوجه الذي تمحي فيه ملامح تعهر الفكرة وصفائها، وبالتالي طابعها الفيزيقي.”
    ومن هنا، فأرطو يدعو إلى مسرح بديل هو مسرح القسوة، وهو ذلك المسرح الذي يحرر الإنسان من غرائزه العدوانية، ويخلصه من انفعالاته الغريزية اللاشعورية الموروثة، وذلك عن طريق التطهير القاسي عبر إثارة الخوف والرعب، واستخدام الصدمات السيكولوجية الوجدانية الهدامة و المؤثرة ، والانفتاح على المسرح الأنتروپولوجي، والاطلاع على التجارب الشرقية القائمة على السينوغرافيا الدينية والطقوسية والكوليغرافيا الجسدية والتعبير الحركي . ومن ثم، فأرطو يسعى إلى تخريب المسرح الغربي ، وتدميره كليا، واستبداله بمسرح شامل يجمع بين التمثيل والرقص والكلمة والإضاءة والموسيقا والحركة. وهذا المسرح بهذه المواصفات الأسطورية والطقوسية والسحرية غير موجود سوى في المسرح الشرقي ، كما يتمثل ذلك واضحا في مسرح الكابوكي والنو اليابانيين والكاتاكلالي الهندي وأوپرا بكين.
    ويعني هذا أن مسرح القسوة لدى أرطو مسرح يتبنى التصور السريالي الجماعي، ويمتح من تصورات فرويد السيكولوجية، وآراء يونگ صاحب اللاشعور الجمعي مادام هذا المسرح يقوم على ” تحرير قوى اللاوعي الخلاقة، وتفجير الطاقات الإبداعية الكامنة في الإنسان كما نقرأ ذلك في قاموس الآداب: ” لقد شغف أرطو بالظواهر الغيبية (الميتافيزيقية) وطرائق السحر عند الشعوب البدائية، وبعلم الكيمياء ووسائل التنجيم في الشرق…وحالات الهوس والشعوذة… هذا العالم اللامعقول، انخرط فيه أرطو جسدا وروحا.
    ويجب أن نعترف هنا، بأن مثل هذه التدريبات التي كان يمارسها أرطو لم يكن السرياليون الآخرون يطيقونها إلا بشق الأنفس. ومن ناحية أخرى، كان ذلك هو السبب الجوهري للقطيعة التي فرقت بين أرطو وبين بريتون ” بابا السريالية”، كما كانوا يلقبونه.”
    أضف إلى ذلك، أن مسرح القسوة أو العنف هو مسرح يقلل من سيطرة الكلمة والحوار، ويستبدلهما بسينوغرافيا الحركة والجسد. كما أنه مسرح ميتافيزيقي أنتروپولوجي يبحث في الأشكال ماقبل المسرحية لخلق مسرح عالمي طقوسي روحاني وأسطوري وسحري. ويعني هذا أن مسرح أرطو هو مسرح احتفالي طقوسي وصوفي يستعير الفرجات الشرقية لتطعيم المسرح الغربي، ويقترب هذا التصور من المسرح الثالث للمسرحي الإيطالي أوجينيو باربا.
    ومن الدواعي التي جذبته كي يهتم بالمسرح الشرقي هو ميله الكبير إلى الروحانيات والمجردات الميتافيزيقية والطقوس السحرية الصوفية، والثورة على العقل الغربي الذي دمر الإنسان حضاريا ووجوديا، واستلبه كينونيا وأخلاقيا، وحوله إلى كائن منتج فقط، وأهمل فيه جوانبه الوجدانية والروحانية والذاتية. كما أن المسرح الغربي هو مسرح يرجح كثيرا كفة الكلمة والحوار على حساب كفة الحركة ولغة الجسد، كما أن المسرح الغربي هو مسرح عقلاني يخضع للقوانين الأرسطية، بينما المسرح الشرقي مسرح طقوسي وسحري ميتافيزيقي، وقد تأثر به كل من بريخت وستانسلافسكي وأوجينيو باربا وگروتوفسكي وماييرخولد.
    إن ارطو الذي أتيحت له فرصة حضور عرض للرقص الباليني في معرض المستعمرات سنة 1931م، عرف كيف يجعل من عشقه للشرق أداة لتدمير المسرح الغربي ، والذي يبدو كمسرح ” أبله، مجنون، منقلب”، وتدمير الثقافة الغربية التي غالبا ما كان يصفها بأوصاف عنيفة حيث اعتبرها ” قبرا مدهونا بالجير” و” مكانا للكلاب والفكر المتعفن”".
    وعليه، فأرطو من أهم المخرجين العالمين الذين اعترفوا للشرق بالريادة في المسرح ، والذي يغاير المسرح الغربي قلبا وقالبا ، وذلك عبر خلق مجموعة من الفرجات الاحتفالية الطقوسية الحركية التي يختلط فيها المسرح الحركي مع الدين والتصوف والسحر والفلك والتنجيم والميتافيزيقا.
    وينبني الإخراج المسرحي عند أنطونان أرطو على توظيف الصور البصرية والحركية والإيمائية والأيقونية. ويعني هذا أن المسرح عند أنطونان أرطو مسرح سيميائي يستعين بالشفرات البصرية كثيرا من أجل إغناء المسرح مسزانسينيا وسينوغرافيا، وإثرائه فنيا وجماليا ومقصديا.
    ومن هنا، تتحول السينوغرافيا المسرحية لدى أرطو إلى سينوغرافيا احتفالية طقوسية سحرية وميتافيزيقية على غرار السينوغرافيا المسرحية الشرقية، وفي هذا يقول هنري بيهار:” إن منصة التمثيل في تصور أرطو تشبه إلى حد ما لوحة غيبية ميتافيزيقية من لوحات المصور دي شيريكو، صورت فيها الجمادات دون صفة خاصة، ولكن وضعها، وأحيانا وجودها غير المتوقع، يثير اضطرابا عميقا عند المشاهد، الذي يكون تحت تأثير ذلك الجو الغامض، الذي نتوقع فيه دائما حدوث انفجار معين”.
    وكان أرطو يتحكم في الممثلين، وذلك بتحويلهم إلى كائنات احتفالية متحركة مع مسار التنغيم ، وتوالي الاهتزاز ، وإيقاع الإخراج ، حتى قبل أن يعرف المسرح الشرقي الباليني سنة 1930م. وبالتالي، فمسرح أرطو بعيد كل البعد عن كثرة الحوار والكلام كما هو في المسرح الغربي، بل هو مسرح شامل يعتمد على الحركة والكوريغرافيا والتشخيص التعبيري الجسدي. لذا، يقول أنطونان أرطو:” في رأيي إن المنصة مكان مادي ملموس، يحتاج منا أن نملأه ، وأن نجعله يتكلم لغته المادية التي تخاطب الحواس مستقلة عن الكلام…. كما أن الإخراج هو المسرح أكثر من النص المكتوب والمنطوق….بينما قرين المسرح هو الواقع المهمل المهجور، الذي لا يستعمله رجال المسرح اليوم…”.
    وعليه، فمسرح أرطو يعطي الأولوية للإخراج الحركي على حساب النص المكتوب والمنطوق، ويقلل من سلطة الكلمة والحوار، ويعوض ذلك بالفن الشامل القائم على الحركة والأساطير والفضاء المادي الملموس، وتشغيل الملاهي، والسيرك، والسينما، والموسيقى، والرقص، واستعمال الأداء الصامت، والضوء ، والديكور، والسينوغرافيا السحرية الطقوسية، كما كان أرطو يدعو إلى شعر الحواس والصورة البصرية، وفي هذا يقول أرطو:” إنني أزعم أن للحواس شعرا كما أن للغة شعرا، هذه اللغة الحسية الفيزيقية التي نحسها هي حقا لغة مسرحية بقدر ما تستطيع أن تعبر عن أفكار لا تطولها اللغة المنطوقة، وكل شعور صادق هو في حقيقته غير قابل للترجمة، والتعبير عنه خيانة له…لهذا فكل صورة أو استعارة أو تكوين يسدل القناع على ما يمكن أن يسفر عنه لهو أغنى بالدلالة من وضوح الكلمات وقدرتها على التحليل.”
    وهكذا، يقوم مسرح أنطونان أرطو على هدم المسرح الغربي جذريا، وتقويضه بناء وتشكيلا ومقصدية، مع التمرد عن مسرح الكلمة والحوار، وتعويضه بالمسرح الشامل أو مسرح الحركة والصورة، والارتكاز على مسرح القسوة ومسرح الأسطورة، بدلا من الاعتماد على مسرح الحلم كما عند السرياليين، والانفتاح أيضا على المسرح الاحتفالي الشرقي الطقوسي والديني والروحاني المبني على الشعوذة والسحر واللاشعور الجماعي والرقص الحركي. بيد أن تنظيرات أنطونان أرطو بقيت مجردة دون أن تطبق ميدانيا، فمات دون أن يرى تنظيراته الإخراجية تمارس واقعيا.
    وعلى الرغم من ” أن الجمالية المسرحية الأرطية كانت في مجملها تصورات نظرية أكثر من كونها ممارسة ركحية، فقد استطاعت أن تحدد القاعدة الفكرية التي قامت عليها، واللغة المسرحية التي اقترحت لها بنوع من التناسق والتكامل، الشيء الذي أبرز جانب التنظير فيها بكثير من الوضوح، زاد من إجرائيته، أي هذا الجانب التنظيري. إن أرطو حدد مبادئ ممارسة هذا المشروع المسرحي على مستوى النص والإخراج والتمثيل والتلقي/الجمهور، وما يستدعي ذلك من خصوصية في الموضوعات، ومواصفات فضاء العرض، مرورا باللغة والملابس والديكور والإضاءة والملحقات والأقنعة، وكل عناصر العرض المسرحي التي تتوحد- على الرغم من عدم تجانسها- في كونها أسلوبا جماليا مسرحيا يقوم على تفجير كوامن الذات داخل فضاء مسرحي متحرك ومتجدد.
    وإذا كان أرطو قد مات قبل تحقق تنبؤاته المسرحية، وقدم مسرحه تقديما نظريا أكثر منه ممارسة ركحية، فإن قوة جماليته المسرحية جاءت من الأثر والتأثير اللذين تركهما على لاحقيه من كتاب ومخرجين، وهو ما أعطى لهذه الجمالية نوعا من الامتداد”.
    وتبقى قيمة أنطونان أرطو أنه من المنظرين المسرحيين الكبار في القرن العشرين لمسرح الصورة والحركة، كما أن له تأثيرا كبيرا على السريالية الفرنسية. ويعد أيضا من المسرحيين القلائل الذين تمثلوا جيدا مسرح ألفرد جاري صاحب المسرح الباتافيزيقي تمثلا جيدا تنظيرا وتطبيقا، كما أثر أرطو أيما تأثير في كتابات مسرحيي اللامعقول وكتاب المسرح العابث والكوميديا السوداء والمسرح التجريدي المطلق بعد الحرب العالمية الثانية كصمويل بيكيت، وآداموف، ويونيسكو، وفرناندو أرابال . ولا ننسى أن المسرح العربي بدوره قد تأثر به أيما تأثر، وخاصة المسرح الاحتفالي لدى عبد الكريم برشيد ومسرح الصورة عند صلاح القصب على سبيل الخصوص.
    وهكذا، يتبين لنا من خلال هذه النظرة الموجزة المقتضبة أن أنطونان أرطو مخرج مسرحي عالمي استهدف تدمير بنية المسرح الغربي عن طريق إخراجه من طابعه الحواري التداولي إلى مسرح ركحي حركي ، كما وجهه وجهة ميتافيزيقية أسطورية قائمة على الشعوذة والسحر والتنجيم والفلك والتصوف، وتوظيف الاحتفال الشرقي الروحاني من أجل تأسيس مسرح مغاير.

    3- المسرح الوثائقي وتوظيف الصورة السينمائية:

    نعني بالمسرح الوثائقي ذلك المسرح الذي ظهر بألمانيا مع بيتر فايس وبيسكاتور وبريخت، وكان يتخذ العرض الركحي وثيقة للشهادة والاستشهاد، وعملا تسجيليا موثقا لتنوير الحاضرين، وتوعيتهم ذهنيا ووجدانيا، وتثويرهم سياسيا وإيديولوجيا بغية تغيير الواقع بشكل إيجابي، وذلك بالاعتماد على العمل والممارسة . كما اتخذ هذا المسرح أداة سياسية سجالية لمواجهة الرأسمالية ، والتصدي لقوى الاستغلال والاستلاب والغطرسة والسيطرة
    ومن التقنيات التي كان يستخدمها هذا المسرح على مستوى الإخراج نذكر: تعليق اللافتات السياسية على ستار الفوندو، وتثبيت الشعارات الثورية أمام الحاضرين، واستعمال الشاشة السينمائية لتقديم مجموعة من الصور المرئية واللقطات البصرية، وذلك لنقل مشاهد سياسية وتاريخية وأحداث طبيعية وحية مستمدة من المجتمع والواقع على حد سواء.
    هذا،و يعد بريخت من أهم رواد المسرح التسجيلي أو المسرج الوثائقي إلى جانب پيتر ڤايس وپيسكاتور، فقد استعان هؤلاء كثيرا بالصورة البصرية سواء أكانت لوحة تشكيلية أم صورة فوتوغرافية أم صورة سينمائية أم صورة أيقونية .

    4- صلاح القصــب ومسرح الصورة:

    يعتبر الفنان العراقي صلاح القصب من المخرجين العرب المتميزين في مجال الدراما والمسرح ، وذلك إلى جانب الطيب الصديقي، وفاضل الجعايبي، وحبيب شبيل، والمنصف السويسي، ومنير مراد، ومحمد إدريس، ومحمد كوكة، وروجيه عساف، وتوفيق الجبالي، وحكيم حرب، وشفيق المهدي، وعز الدين قنون، وحمد الرميحي، وجواد الأسدي، وقاسم محمد، وعوني كرومي، وفاضل خليل، وكريم رشيد، وباسم قهار، وناجي عبد الأمير. ويعد أيضا من السباقين إلى بلورة المسرح السيميائي في العالم العربي، والتنظير لما يسمى بسيميائية الصورة المسرحية . وقد أصدر في هذا مجموعة من البيانات المسرحية (خمسة بيانات) ، وألف عددا من الدراسات النظرية، والتي جمعها في كتابه:” مسرح الصورة بين النظرية والتطبيق”، والذي صدر بالدوحة في طبعته الأولى سنة 2003م، فضلا عن مجموعة من الأعمال والعروض المسرحية التطبيقية.
    ويعني كل هذا أن الدكتور صلاح القصب من المخرجين الأوائل الذين أسسوا مسرح الصورة ، وأرسوا دعائم المسرح السيميائي في العالم العربي، وذلك لكونه أعطى أهمية كبرى للعلامات والرموز والإشارات والأيقونات، واهتم اهتماما لافتا للانتباه بالصور البصرية والكوريغرافية التي تبوأت مكانة الصدارة ، وذلك على حساب اللغة والحوارات الأدبية التي أصبحت لها مكانة ثانوية، فأضحت عنصرا متمما للحركة والصورة ليس إلا.
    هذا، ويشارك صلاح قصب في مشروعه النظري ومختبره المسرحي المتعلق بمسرح الصورة كوكبة من المخرجين ، مثل: كريم عبود، وشفيق المهدي، وكريم رشيد، وعواطف نعيم، وسامي عبد الحميد، وباسم قهار، وناجي عبد الأمير، ورضا ذياب، بالإضافة إلى مجموعة من النقاد كمحمد مبارك، وحسب الله يحيى، ونازك الأعرجي، ومعد فياض، وماجد الأميري، وعبد الخالق كيطان.

     مفهـــوم مسرح الصورة:

    يعرف مسرح الصورة بأنه حزم من الشعر والفلسفة والتشكيل . وبالتالي، فهو مسرح سيميائي حركي طقوسي شعائري سحري يعتمد على توليد مجموعة من المفردات البصرية ، والتي تتحول بدورها إلى رموز وإشارات وأيقونات دالة تساهم في خلق المعنى حسب مقاماتها السياقية، ومستلزماتها التداولية، وذلك عن طريق خلخلة أفق انتظار الراصد، وتخييب توقعاته الجمالية. وبمعنى آخر، فمسرح الصورة هو مسرح تجريبي حداثي يستعمل الحركة والإيماءة والأيقون والإشارة والرمز ، ويستعين بالرؤية البصرية ، عوضا من استعمال الكلمة واللغة والحوار كما في المسرح الكلاسيكي . والمقصود من هذا أن المسرح الصوري:” يقوم على شبكة من التكوينات، والأنسجة المركبة الغامضة المصممة بقصدية، أو عفوية، وفق إيقاع صوري لعلاقات شكلية متغيرة لا يهدف إلى إيصال معنى محدد، كما في المسرح التقليدي، أو تثبيت ما يسمى بـ” التمركز المنطقي”، كما يقول الناقد البنيوي جاك دريدا، وإنما يقوم بإرسال مجموعة كبيرة من الإشارات، والعلاقات، والدالات إلى المتلقي عبر سياق وشفرة، لتولد في ذهنه مجموعة مدلولات. ويستبعد العرض في مسرح الصورة أي عنصر من العناصر البنائية التي تستخدم عادة في العرض المسرحي التقليدي، كما أنه يلغي قدر المستطاع أي شكل من أشكال الحوار، ويستعيض عنه بلغة الحركة، والتكوين، والإيماءة.”
    ومن هنا فمفهوم الصورة عند صلاح القصب بصفة عامة هو عبارة عن:” فضاءات جمالية، وأسطورية، وسحرية، وطقوسية، وماورائية، يبحث عنها مسرح الصورة ليشيد خطابه الفني.”
    وعليه، فبنية الخطاب المسرحي في مسرح الصورة يقوم على حد تعبير الناقد العراقي عواد علي على :” شبكة من التكوينات والأشكال والأنسجة المركبة الغامضة المصممة بقصدية أو عفوية على وفق مهرجان صوري لعلاقات شكلية متغيرة ، ويستبعد الخطاب أي عنصر من عناصر البناء المنطقي التي تستخدم عادة في الحوار، ويستعيض عنه بخطاب الحركة، والتكوين، والإيماءة، والهمهمة، والصرخة، والتأوه.”
    وعلى أي، فلم يتم الاهتمام بمسرح الصورة في الغرب إلا مع المخرج الفرنسي أنطونان أرطو صاحب كتابي:” مسرح القسوة”، و” المسرح وقرينه”، ولم يتم هذا الاهتمام عربيا كذلك إلا مع المنظرين العراقيين: حميد محمد جواد وصلاح القصب، وفي هذا النطاق يعترف صلاح القصب قائلا:” هناك تجارب نظر لها أنطونان أرطو أراد فيها أن يحرر المسرح من الحوارات الأدبية الطويلة التي تعيي الرؤية، وتنتهك الزمن. لذلك، فإن طروحاته النظرية تؤكد على عظمة الصورة، وقد أطلقت على ذلك مسرح الصورة، وهو أسلوب ورؤية لم يسبقني إليها أحد من المخرجين، أو المنظرين سوى المخرج العراقي الكبير حميد محمد جواد الذي كان يبحث عن الصورة، وعن قاراتها، لتتجول فيها رؤيته وفلسفته، الصورة انطلقت من أرطو ومحمد جواد ، وبعدهما جاءت البيانات المسرحية الأربعة التي ترجمت إلى اللغة الفرنسية، لتؤكد فلسفة هذا الأسلوب الجديد في المسرح الذي جاء في عمق العراق وثقافته العريقة.”
    وهكذا، نتوصل إلى أن مسرح الصورة هو مسرح سيميائي يركز كثيرا على البعد الحركي والبصري والتشكيلي والسينوغرافي، وذلك على حساب سلطة النص، وهيمنة اللغة والحوار الأدبي كما هو الشأن في المسرح التقليدي.

      الوقت/التاريخ الآن هو الأربعاء مايو 01, 2024 11:01 pm