منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    -المفاهيم التّناصّية:

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    -المفاهيم التّناصّية: Empty -المفاهيم التّناصّية:

    مُساهمة   الثلاثاء يوليو 05, 2011 11:22 am

    [center]-المفاهيم التّناصّية:

    يرى ليتش LEITCH أن "النصّ ليس ذاتاً مستقلة، أو مادة موحدة، ولكنه سلسلة من العلاقات مع نصوص أخرى… إن شجرة نسب النصّ شبكة غير تامة من المقتطفات المستعارة شعورياً أو لا شعورياً"(11) من هذا التعريف نستنتج أن (التّناصّ) يعني توالد النصّ من نصوص أخرى، وتداخل النصّ مع نصوص أخرى، وأن النصّ هو خلاصة لما لا يحصى من النصوص. ومن هنا تعالق النصّ مع نصوص أخرى. وإذن فلا حدود للنصّ، ولا حدود بين نصّ وآخر، وإنما يأخذ النصّ من نصوص أخرى، ويعطيها في آن. وبهذا يصبح النصّ بمثابة بصلة ضخمة لا ينتهي تقشيرها. فالمعاني والدلالات فيه طبقات… بحسب القرّاء، والأزمنة، والأمكنة.

    وهذا ما يؤكده هارولد بلوم الذي يرى أن الكاتب يكتب نصه تحت تأثير (الهوس) الذي يمارسه النصّ السابق كعقدة أوديبية تدفع المبدع إلى السير على منوال النصّ الأول أو التمرد عليه(12).

    بيد أن بعض الباحثين يرغب في تكثير مفاهيم (التّناصّ)، رغبة في الوصول إلى أدق جزئيات هذا المصطلح الجديد، ومن هذه المفاهيم:

    1-التّناصّ: INTERTEXTULITY ظهر كمصطلح للمرة الأولى على يد جوليا كريستيفا عام 1966 في مجلة (تل كل) TEL QUEL الفرنسية. وهي ترى أن "كل نصّ هو عبارة عن فسيفساء من الاقتباسات، وكل نصّ هو تشرّب وتحويل لنصوص أخرى".

    2-التفاعل النصّيّ: بين بنيتين: بنية النصّ، والبنيات النصّية، لا يكون مباشراً دائماً، فقد يكون ضمنياً عندما ينتج نصّ ما حاملاً صور نصوص أخرى من خلال تبنينه الجديد. و (التفاعل النصّي) مصطلح يؤثره بعض النقاد على مصطلح (التّناصّ)(13).

    3-البنيات النصّية: حيث ينتج كل كاتب نصوصه ضمن بنية نصّية معاصرة له، أو سابقة عليه.

    4-التعالق النصّي: HYPERTEXTUALITY الذي يرى أن النصّ اللاحق يكتب النصّ السابق بطريقة جديدة.

    5-المناصّ PARATEXTE وهو ما نجده في العناوين، والمقدمات، والخواتم، وكلمات الناشر، والصور.

    6-المصاحبات الأدبية PARA LITERATURE هي الاستشهادات الأدبية التي تدخل في بنية نصّية معينة.

    7-التّناصّية: هي مجموعة من العلاقات التي نراها بين النصوص. وهي تتجاوز قضية التأثر والتأثير إلى أمور تتعلق بالبنية والنغم والفضاء الإبداعي.

    8-المتناصّ INTERTEXT هو مجموعة النصوص التي يمكن تقريبها من النصّ سواء كانت في ذاكرة الكاتب أو القارئ، أم في الكتب. وهو النصّ الذي يستوعب عدداً من النصوص، ويظل متمركزاً من خلال المعنى (لوران جيني)، بينما يناقش ريفاتير الخلط السائد بين (التناصّ) و (المتناصّ)، فيرى أن (المتناصّ) هو مجموع النصوص التي يمكن تقريبها من النصّ الموجود تحت أعيننا، أو مجموع النصوص التي نجدها في ذاكرتنا عند قراءة مقطع معين.

    9-المتعاليات النصّية: TRANS TEXTUALITY هي كل ما يجعل نصّاً يتعالق مع نصوص أخرى، بشكل ضمني أو مباشر. وقد خصص لها جيرار جينيت كتاباً بأكمله سماه: PALIM PSESTES. SEUIL. PARIS 1983 حدد فيه أنماط (المتعالقات النصّية) في خمسة أنواع هي:

    النصّ ومعماره، والتّناصّ، والميتانصّية، والمناصّة، والتعلق النصّي. وهذه الأنواع تتداخل فيما بينها.
    3-تناسل النصوص:

    يطرح (التّناصّ) قضية أبدية هي مسألة استقلال النصّ أو تبعيته. وإذا كان النقد الغربي الحديث قد ركز على تبعية النصّ لسياقه النفسي أو التاريخي أو الاجتماعي، فإن (التّناصّ) في النقد المعاصر يؤكد –أيضاً- عدم استقلال النصّ الأدبي. لكنه لا يمارس (التبعية) بالمعنى التقليدي. صحيح أن النصّ له صلة بالنصوص السابقة عليه، لكنه لا يسعى إلى كشف النصوص الأصلية.

    هل (التّناصّ) في الشكل؟ أم في المضمون؟ أم في كليهما معاً؟

    في كليهما، لأن الشاعر يعيد (في المضمون) إنتاج ما تقدمه وعاصره من نصوص مكتوبة وغير مكتوبة، أي ينتقي منها صوراً أو مواقف أو تعابير. ولكن لا مضمون خارج الشكل، والشكل هو المتحكم في المتناص.

    والنصوص الأولى إذا تناسلت فهذا دليل على الإعجاب، حتى أن كل شاعر جاء تالياً حاول تقليدها أو محاكاتها. وهذا دليل على استمراريتها، بأشكال متعددة، وألوان مختلفة.

    و (التّناصّ) هنا نوعان: تناصّ داخلي، وتناصّ خارجي: فالتناصّ الداخلي هو حوار يتجلى في (توالد) النصّ و (تناسله)، وتناقش فيه: الكلمات المفاتيح أو المحاور، والجمل المنطلقات والأهداف، والحوارات المباشرة وغير المباشرة. فهو إعادة إنتاج سابق، في حدود من الحرية.

    وأما (التّناصّ) الخارجي فهو حوار بين نصّ ونصوص أخرى متعددة المصادر والوظائف والمستويات. واستشفاف التناصّ الخارجي في نصّ عملية ليست بالسهلة، وعلى الخصوص إذا كان النصّ مبنياً بصفة حاذقة. ولكنها مهما تسترت واختفت فإنها لا يمكن أن تخفى على القارئ المطلع الذي بإمكانه أن يعيدها إلى مصادرها. وإذن فإن هناك نصّاً مركزياً يتجلى في النصوص السابقة، ونصوصاً فرعية تتمثل في النصوص اللاحقة.

    ومن المبتذل أن يقال إن الأديب يمتصّ آثار غيره من السابقين أو المعاصرين، أو يحاورها، أو يتجاوزها. والدراسة العلمية التحليلية هي وحدها التي بإمكانها اكتشاف السابق في اللاحق، والموازنة بينهما، لرصد سيرتهما، وتجنب اعتبار النصّ كياناً منغلقاً على نفسه. وبهذا يمكن موضعة النصّ في مكانه من خارطة الثقافة التي ينتمي إليها، وفي حيزه الزماني المحدد.
    4-(التّناصّ) عند البنيويين:

    إذا كانت (البنيوية) تنطلق من اعتبار أن للنصّ الأدبي (بنية) تتجلّى في (نظامه)، و (علاقات) عناصره، فإن (التّناصّ) يهدف إلى تحطيم فكرة بنية النصّ أو نظامه.

    وإذا كانت (البنيوية) تعتبر النصّ بنية مغلقة، فإن (التناصّ) يعتبر النصّ بنية مفتوحة، ومتحركة، ومتجددة.

    وإذا كانت (البنيوية) تركز على ثنائية الكتابة/ القراءة، وترى أن النصّ يقرأ القارئ، وأن الكاتب الفعلي للنصّ هو القارئ، فإن (التناصّ) يحاول فك اشتباك النصوص عن بعضها بعضاً، ليعيد لكل صاحب حق حقه من السابقين والمعاصرين الذين تتردد أصواتهم في جنبات النصّ المبدع، وتُشاهد بصماتهم في صوره وتراكيبه.

    وإذا كان بعض البنيويين قد تمسكوا بمنهجها الوصفي المغلق، واكتفوا به في الدراسات النقدية، فإن بعضهم الآخر قد انطلق منها إلى محاولات فتح منافذ جديدة في بنائها. ومن هؤلاء: رولان بارت، وتودوروف، وريفاتير، وآريفي… الخ.

    أما رولان بارت فيرى أن كل (نصّ) هو (تناصّ)، وإن النصوص الأخرى تتراءى فيه بمستويات متفاوتة، وبأشكال ليست عصيّة على الفهم. إذ فيها نتعرف نصوص الثقافة السالفة والحالية. فكل نصّ –عنده- ليس إلا نسيجاً جديداً من استشهادات سابقة. و(التناصّية) عند بارت هي قدر كل نصّ، مهما كان جنسه. ولا تقتصر على التأثر فحسب.

    *

    وأما تودوروف فقد تبنى مصطلح (التّناصّ) كمرتبة من مراتب التأويل، وقدّم في كتابه (ميخائيل باختين) M. BACHTINE (1895-1975) رواية حقيقية للمعلومات المتعلقة بأهم مفكر سوفيتي في مجال العلوم الإنسانية، وأكبر منظّر للأدب في القرن العشرين(14).

    وقد اعتمد تودوروف على نصوص شاملة لباختين، وميّز مجموعة من أعمال باختين نُشرت تحت أسماء مساعديه، وتعرّف على مختلف مراحل تفكير باختين من خلال علاقاته بتيارات مختلفة كالشكلانية، والماركسية، والظاهراتية، والألسنية، والسوسيولوجيا، وغيرهم. إلا أن مبدأ (الحوارية) يظل موضوعاً دائماً في جميع مراحل تفكيره النقدي. لكنه بعد عام 1967، حيث اكتشفت جوليا كريستيفا (التناص)، أخذ هذا المصطلح يحلّ عنده محل مبدأ (الحوارية).

    وعلى الرغم من أن أعمال باختين لا ترتبط بمجموعة الشكلانيين الروس مباشرة، فإنها تُعدّ امتداداً لإسهاماتهم. وقد أثّرت أبحاثه في الشعرية المعاصرة. ولم تُعرف أعماله في الغرب إلا بصورة جزئية، ففي حياته ظهرت فقط ترجمة لكتابيه:

    (قضايا شعرية دستويفسكي) 1929، و (أعمال رابليه والثقافة الشعبية في العصور الوسطى وعصر النهضة) 1965. وهما لا يشكلان سوى جزء صغير من مجموع ضخم من مؤلفاته التي لم تنشر إلا بعد وفاته.

    وتظهر بصمات باختين الهامة في الدراسات الأدبية في نظريته (تعدد الأصوات) في الرواية حيث ينطلق فيها من (سيطرة الاجتماعي على الفردي).

    والتغييرات الشكلية للجنس الروائي عنده مرتبطة بالتبدلات الاجتماعية. وبهذا فإنه يحافظ على عدم الفصل بين الشكل والمضمون.

    ويتحدث باختين عن خصائص الزمن والفضاء في كل جنس أدبي، ويرى أن كل نصّ يرتبط بنصوص أخرى سابقة له، بوساطة ما سماه (علاقة حوارية).

    وتبدو الرواية، من خلال هذا المبدأ، منظومة حوارية من الصور واللهجات والأساليب والوعي المجسد لا تنفصل جميعها عن اللغة.

    وقد ميّز تودوروف بين (الحوارية) عند باختين، و (التّناصّية) عند كريستيفا، ودافع عن النقد القائم على البحث، وقال إن القول يحدّد موضوعه، ويعبّر عن خصوصية لها علاقة بقصد المتكلم بالنسبة إلى اللغة، فما ينتمي إلى منظومة الرموز SEGNES فهو من نظام اللغة، أما ما يدل على حدث وحيد، فهو من نظام (القول). وعلى هذا قدّم في عام 1978 نظريته في (التفسير الرمزي)، وشرح المعاني غير المباشرة، وميّز بين الرمزية (اللغوية) التي تعني عنده المعاني المباشرة، والرمزية (اللسانية) التي تعني عنده المعاني غير المباشرة ولهذا لا تبدو السيميائية مقبولة لديه إلا عندما تكون مرادفة للرمزي.

    ويقترح تودوروف تسمية عملية إنتاج نصّ انطلاقاً من نصّ آخر (تعليقاً)، كنوع من تسهيل الفهم. وعلى هذا يقوم (التعليق) على إقامة علاقة بين النصّ الخاضع للتحليل، وبقية العناصر التي تشكل سياقه. وهذه العناصر هي معرفة لسان العصر الذي يمكن إخضاعه لرموز معجمية، وقواعد لغوية. وهذا ما كان يسميه شلايير ماخر S.MACHER مؤسس علم التفسير في العصر الحديث بـ (التأويل النحوي) ومن جهة ثانية ينبغي إدخال الصفحة المحللة في مجموعة الكتابات التي تنتمي إليها، وهذا ما يسمى بـ (التأويل التقني).

    وقد استعاض تودوروف، بعد ذلك، عن (التأويل النحوي) بـ(تحليل فقه لغوي)، وعن (التأويل التقني) بـ (التحليل البنيوي) الذي يقوم على إبراز (علاقات) التداخل النصّي. واستكمل هذين السياقين بسياقين آخرين هما:

    (السياق الأيديولوجي) الذي يتشكل –عنده- من مجموعة خطابات تنتمي إلى عصر بعينه، سواء في ذلك أكان الخطاب فلسفياً أم سياسياً أم علمياً أم دينياً أم جمالياً. وهذا السياق، على الرغم من تزامنه، فإنه يتميز بعدم التجانس، والبعد عن الأدبية. وأما السياق الثاني فهو السياق الأدبي الذي يتوازى مع ذاكرة الأدباء و القراء، حيث يتبلور في (الأعراف النوعية) و (الأنماط السردية) بما فيها من خواص أسلوبية وصور بلاغية(15).

    *

    وأما ميشيل آريفي فقد وضع كتاب (لغات جاري)(16) في عام 1972، وفيه يشير إلى مقدرة علم اللسان على التصدي للنصّ الأدبي.

    وبهذا فهو يتجاوز موقف كريستيفا التناصّي الذي يكشف عن موقف أيديولوجي. وعلى الرغم من أن آريفي يتبنّى مقولات الشكلانيين الروس والبنيويين، ويرى أنه ليس للنصّ الأدبي مرجع، فإنه يرى أن هذه الحقيقة ينتابها بعض التعديل، لأن النصّ يملك دليلاً مرجعياً، وليس محروماً كلياً من علاقات مع الواقع الخارجي.

    ولكن هذه العلاقات هي غير ما يكون بين الرموز والمرجع(17).

    وإذا كان النصّ الأدبي هو لغة إيحائية، فإن دراسة (التناصّ) هي ما ينبغي أن يحل محل دراسة النصّ، لأنها لا تهدف إلا إلى معرفة النصّ، ولأنها هي المادة البنيوية في النصّ، ولأنّ النصّ هو ملتقى نصوص عديدة، ومكان تبادل يخضع للغة الإيحاء.

    وفي نقده (التناصّي) يرى آريفي أنه يمكن لنصّ ما أن يحمل في مضمونه نصّاً آخر، ويثبت أن أعمال (جاري) الثلاثة: (القيصر والدجال) 1895، و(آبو ملكا) 1896، و( آبو مقيّداً).و(UPU كلمة غير موجودة في اللغة الفرنسية، لكن جاري استخدمها كصفة لشخصية فظة جبانة بصورة كوميدية)، تشكل تناصّاً واحداً، فنجد (آبو ملكا) في فصل من (القيصر والدجال)، وإن بصورة مصغرة، ونجد (آبو مقيّدا) في (آبو ملكا) مع بعض التغيير الحذفي الذي يقع على بعض الكلمات حين تنتقل من النصّ الأول إلى الثاني.

    ومهما يكن من تردد آريفي أو حيرته في الاستعانة بنماذج من مجالات أخرى، كالسردية والتحليل النفسي البعيدين عن عمله كألسني، فإنه في دراسته هذه يستحق التقدير، لوضعه (التناصّ) في مركز اهتمامات السيميائية الأدبي، ولعرضه ـ إضافة إلى ذلك ـ تحديد التناصّ، كموضوع يحتاج إلى اهتمام وتأسيس، بدل الاكتفاء بتصنيفه كما فعل باختين في (الوحدة المميزة لخطابات عصر ما).. (18).

    *

    وأما ميشيل ريفاتير M.RIFFATERE في كتابه (دراسات في الأسلوبية البنيوية) 1971، فيضع السيميائية الأدبية خارج مجال اللسانيات، معتمداً في هذا على سوسير.

    وإذا كان الكاتب يعتمد تراكيب خاصة، وألفاظاً جديدة، وصيغاً بلاغية (استعارات وكنايات وصوراً)، فإن القراءة الاستكشافية تقوم بحلّ (الانحرافات) و(الأخطاء) القواعدية تبعاً لمعيار NORME قواعدي. وبينما يحيل المستوى المباشر للخطاب إلى العالم الواقعي، فإن السيميائية تحيل إلى (التناصّ): فالنصّ المقروء يخفي نصّاً آخر. هكذا تتأكد القاعدة التي تقول: "عندما يقول لنا الأدب شيئاً فإنه يقول لنا شيئاً آخر".

    هكذا تدل العملية السيميائية على الانتقال من (المعنى) إلى (الدلالة)، ذلك أن (النصّ) من وجهة نظر المعنى، هو تتابع خطّي لوحدات من المعلومات، أما من وجهة النظر السيميائية فهو مجموعة من المعاني المتحدة.

    وإذا كان الأسلوب، عند ريفاتير، هو إظهار يفرض عناصر المتوالية الكلامية على اهتمام القارئ، فإن الوصف اللغوي لنصّ ما، ليس قادراً على الكشف عن الأسلوب، مما يستلزم إيجاد معايير خاصة، من بين وقائع اللغة المكونّة للنصّ، لإبراز المميز منها أسلوبياً، أي التي تدهش عند القراءة. وليس الأسلوبية، عند ريفاتير، سوى نتيجة هذه التأثيرات المفاجئة التي يحدثها اللا متوقع في عنصر من السلسلة الكلامية. وهذا تعريف بنيوي للأسلوب، باعتباره لا يربط القيمة الأسلوبية بالكلمات نفسها، وإنما بعلاقاتها السياقية. ويقوم على مفهوم (الانزياح).

    وينتظر ريفاتير من (القارئ المتوسط) إسهاماً في الأسلوبية، وباعتبارها تنتج تأثيراً على القارئ، فإنه يجب على القارئ تحديد اللحظات التي تحدث هذا التأثير. ومع ذلك فإنه يرى أن على الأسلوبية، لدرء خطر الإغراق في الانطباعية، الالتزام بأن تكون شكلية أو أسلوبية. وهكذا بدّل تطور الأسلوبية الأدبية مركز الاهتمام من شخصية الكاتب إلى انسجام النصّ واستقلاليته.
    5 ـ (التّناصّ) عند السيميائيين:

    بيد أن أهم إسهام في مجال (التناصّ) قام به السيميائيون وعلى رأسهم جوليا كريستيفا...

    إن أعلام البنيوية هم غالباً أعلام (مابعد البنيوية). ومابعد البنيوية هي في الأصل مقاربات حاولت الخروج من أسر الشكلانية المغلقة، فأسست اتجاهات رافقت البنيوية، ثم تلتها، كالسيميائية، والتفكيكية، والتداولية... الخ..

    أما السيميائية فقد أسهمت فيها إلى حدّ كبير مجلة (تل كل) TEL QULE الفرنسية التي ظهرت عام 1960، وأخذت اسمها وتوجهها من الشاعر الفرنسي بول فاليري الذي نشر عملاً بهذا العنوان عام 1941، وفيه يؤكد أولوية الشكل على المضمون، حيث يقول: "إن الأعمال الجميلة هي بنات لشكلها الذي يولد قبلها"..

    وقد أصدرت جماعة (تل كل) كتاب (نظرية الجمع) عام 1968، عرضت فيه خلاصة جهدها الجماعي، ضم مقالات لفوكو، وبارت، وديريدا... أعلنوا فيها ضرورة "تجاوز الحرفي والشكلي والبنيوي". وهكذا تجاوزوا (الشكلانية) الغربية، و(الشكلانيين الروس) الذين ترجمهم تودوروف إلى الفرنسية عام 1965، والبنيوية..

    و(الكتابة) عند الجماعة، تعني (الأدب)، وعليها أن تقوم بتفكيك (الأدب) من خلال نظريتي الفرويدية والماركسية، في مرحلة أولى للجماعة. وفي المرحلة الثانية من فكرها النقدي تخلّت عن ربط الأدب بسياقه التاريخي أو الحضاري، أو بنفسية مبدعه. وهكذا نوقشت (الكتابة) باعتبارها منقطعة الجذور عن محيطها، وعن مبدعها، وأصبحت فضاءً لغوياً تنظمه مفهومات دلالية، كما ترى كريستيفا.

    والواقع أن جوليا كريستيفا هي أول من طرح مفهوم (التّناصّ) في منتصف الستينات. وعلى الرغم من أنه ورد قبلها لدى باختين الذي كان يسميه (التفاعل السوسيو لفظي) وتمارسه (جماعة تل كل) السيميائية التي تنتمي إليها كريستيفا، إلا أن كريستيفا هي التي أعطته تسميته النهائية: (التّناصّ) INTERTEXTULITE.

    ولقد استخدمت جوليا كريستيفا GULIA KRISTEVA مصطلح (التناصّ) في بحوث عديدة كتبتها بين عامي 1966 و 1967، وصدرت في مجلتي (تل كل)، و(نقد)، وأعيد نشرها في كتابيها (السيمياء)، و(نص الرواية) معتمدة على باختين في استبصاراته النقدية في دراساته حول ديستويفسكي ورابليه، حيث يؤكد أن كل خطاب أدبي إنما يكرر خطاباً آخر، وأن كل قراءة تشكل بنفسها خطاباً، ذلك أن الكتابة تعني ثلاثة عناصر هي: النصّ، والكاتب، والمتلقي، بالإضافة إلى عنصر (التناصّ)، الذي يُناقش مع هذه العناصر الثلاثة.

    ففي النصّ تناصّ. والكاتب يمارسه واعياً أو غير واع. كما أن القراءة تثير لدى المتلقي خبراته وذكرياته ومعلوماته السابقة.

    وهكذا يبدو (التناصّ) حواراً بين النصّ وكاتبه، وما يحمله الكاتب من خبرات سابقة. كما أنه حوار بين النصّ ومتلقيه، ومايملكه المتلقي من معلومات سابقة. وهذا الحوار (الديالوج) هو ما تطلق عليه كريستيفا اسم (التّناصّ)، حيث تقول: "يتشكل كل نصّ من قطعة موزاييك من الشواهد. وكل نصّ هو امتداد لنصّ آخر، أو تحويل عنه TRANSTORMATION". وبدلاً من استخدام مفهوم (الحوار بين شخصين أو أكثر) يترسخ مفهوم (التناصّية)، وتقرأ اللغة الأدبية بصورة مزدوجة(19).

    وقد تسارع الكتّاب إلى تبنّي هذا المصطلح: تودوروف، وريفاتير،
    وجيرار جينيت، وميشيل آريفي... الخ. وعندما وجدت كريستيفا شيوع
    مصطلح (التّناصّ)، واستخدامه بالمعنى المبتذل (أي في نقد مصادر نصّ ما)، فضلت عليه مصطلحاً آخر هو (المناقلة) أو (التحويل) TRANSPOSITION (20)...

    لقد استمدّت كريستيفا من باختين الذي ميّز بين محورين: (الحوار)، و(التضاد)، اللذين ليسا مميزين لديها بدقة وكفاية، على الرغم من أن شلوفيسكي هو أول من أشار إلى هذه الظاهرة، بقوله:"كلما سلطت الضوء على حقبة ما، ازددت اقتناعاً بأن الصور التي نعتبرها من ابتكار شاعر إنما استعارها من شعراء آخرين"، فأصبح (التناصّ)، عند كريستيفا، هو تلاقي نصوص تقرأ نصّاً آخر، وكل نصّ "ينبني مثل فسيفساء من الاستشهادات، وكل نصّ إنما هو امتصاص وتحويل لنصّ آخر".(21).

    وتحلل كريستيفا رواية (جيهان دوسانتري) 1456 GENAN DE SAINTRE للكاتب الفرنسي (أنطوان دولا سال) A.DE . LA SALE من وجهة نظر التّناصّ فتراه يتجلّى في مظهرين:

    1 ـ (الأوصاف) التقريظية للأحداث والموضوعات.

    2 ـ (الاستشهادات) المستمدة من الكتب المقدسة والمفكرين السابقين.

    ثم تتبعت مصادر هذين المظهرين، فوجدت الأوصاف التقريظية في (المناداة) أو التلفظ الشفوي، الذي كان معروفاً في فرنسا خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر، حيث كان الخطاب التواصلي منطوقاً بصوت مرتفع في الساحات العامة، من أجل إخبار الناس عن الحرب، أو عن البضائع والسلع، كما وجدت الاستشهادات التي تنتمي إلى نصّ مكتوب في الكتب التي تعتبر استنساخاً لكلام شفوي.

    وإذا كان باختين قد أفاد كريستيفا في دراستها للتناصّ في رواية (دولا سال)، فإن سوسير قد أفادها أيضاً في البحث عن النصّ الغائب في فضاء اللغة الشعرية، وأسماه: (القلب المكاني أو البراغرام)، معتبرة الملفوظ الشعري مجموعة ثانوية من بين مجموعة أكبر هي فضاء النصّ، والمدلول الشعري ليس منحدراً من شفرة أحادية، بل تلتقي فيه أنماط عديدة، وممثلة للتناصّ الشعري بلو تريامون، ومفترضة أن اللغة الشعرية لا نهائية الشفرة، بخلاف الكتاب الذي هو نهائي ومغلق، وأن النصّ الأدبي هو مزدوج (كتابة/قراءة)، حيث يصير المكتوب مقروءاً، ويتحول المقروء إلى مكتوب بإنتاجية جديدة، ومن خلال هذا التحاور النصّي بين المكتوب والمقروء تنتج نصوص جديدة.

    ولا يمكن تحديد مفهوم (التناصّ) عند كريستيفا إلا بإدماجه مع كلمة أخرى هي (الإيديولوجيم) IDEOLOGEME وهي تمثل عملية تركيب تحيط بنظام النصّ، لتحديد ما يتضمنه من نصوص أخرى، أو ما يحيل عليه منها. وبذا يكون التّناصّ هو (التقاطع داخل النصّ لتعبير مأخوذ من نصوص أخرى)، أي أنه عملية نقل لتعبيرات سابقة أو متزامنة، فهو ـ على نحو من الأنحاء ـ (اقتطاع)، و(تحويل).

    وكل هذه الظواهر تنتمي ـ بداهة ـ إلى الكلام انتماءً (استطيقيا) تسميه كريستيفا ـ نقلاً عن باختين ـ (الحوارية)، أو (الصوت المتعدد) (22).

    وبعد عشر سنوات من إطلاق كريستيفا لمصطلح (التناصّ) نشرت مجلة (بويتيك) الفرنسية عدداً خاصاً عن (التناصّ)، تحت إشراف لوران جيني JENNY الذي اقترح إعادة تعريف التّناصّ بقوله: "إنه عمل تحويل وتمثيل عدة نصوص يقوم بها نصّ مركزي يحتفظ بزيادة المعنى".

    ومن الطريف أن كريستيفا تخلّت أخيراً عن مصطلح (التناصّ)، نتيجة انصرافها عن الاهتمام بالواقع التاريخي للخطاب، بينما تمّ تبنّي المصطلح في المنتدى الدولي للبويطيقا، والمنظم على يد ريفاتير في نيويورك عام
    1979.(23).

    *

    وأما الناقد الفرنسي جيرار جينت GERARD GENETTE فقد تحدث في كتابه: (طروس) 1982، عن (التناصّية الجمعية)، التي تعبر عن علاقة النصّ اللاحق بالنصّ السابق له. وعنى بـ(التعالي النصّي) نوعاً من المعرفة التي ترصد العلاقات الخفية والواضحة لنصّ معين مع غيره من النصوص. ويتضمن (التعالي النصّي) التداخل النصّي الذي يعني عنده الوجود اللغوي. وربما كانت أوضح صور التداخل الاستشهاد بالنصّ الآخر داخل قوسين بالنصّ الحاضر. كما يتضمن علاقة المحاكاة، وعلاقة التغيير، والمعارضة، والمحاكاة الساخرة.(24).

    وتنحصر أشكال (التناصّ) عنده في نمطين، يقوم أحدهما على العفوية وعدم القصد، إذ يتم التسرب من الخطاب الغائب إلى الخطاب الحاضر في غيبة الوعي. ويعتمد الثاني على القصد والوعي، فتشير صياغة الخطاب الحاضر إلى نصّ آخر، وتحدده تحديداً كاملاً يصل إلى درجة التنصيص.

    وبذا يكون جينيت قد تطور بالدراسات السابقة التي غطت مرحلة السبعينات إلىموضوع جديد أسماه (التعالي النصّي) Transtextualite الذي يعني عنده: "كل ما يجعل نصّاً يتعالق مع نصوص أخرى. بشكل مباشر، أو ضمني".(25).

    ويحدد جينيت أنماط (التعالي النصّي) في خمسة أنماط هي:

    1 ـ (التناصّ)، وهو العلاقة بين نصين أو أكثر، كما يتجلى في الاستشهاد، والتلميح، والسرقة...

    2 ـ (الميتانصّ) Metatextualite أو (ما وراء النصّ)، وهو علاقة التعليق الذي يربط نصّاً بآخر يتحدث عنه دون أن يذكره، ويمثّل له جينيت بكتاب (فينو مينولوجيا الروح) لهيجل الذي يلمّح بطريقة مبهمة إلى كتاب (ابن أخ رامو) لديدرو.

    3 ـ (النصّ الأعلى)، وهو العلاقة التي تجمع بين نصّ أعلى ونصّ أسفل، وهي علاقة تحويل ومحاكاة، ومثالها (أوذيسة) هوميروس التي تحاكيها (اوليس) جويس، وتختلف عنها.

    4 ـ (المناص) Paratextualite ونجده في العناوين، والعناوين الفرعية، والمقدمات، والخواتيم، والصور، وكلمات الناشر... الخ. ومثالها رواية (اوليس) لجويس، فقد عنون كل فصل فيها بما يذكر بعلاقة هذا الفصل مع مشهد من (الاوديسة): عرائس البحر.. بنيلوبي... الخ، وعلى الرغم من أن المؤلف حذف هذه العناوين الفرعية من الرواية، في طبعتها التالية، فإنها ظلت في أذهان النقاد كقسم من الرواية.

    5 ـ (جامع النصّ)، أو معمارية النصّ، وهو النمط الأكثر تجريداً وتضمناً، ويتضمن مجموعة الخصائص التي ينتمي إليها كل نصّ على حدة، في تصنيفه كجنس أدبي: رواية، محاولات، شعر،... الخ..

    وقد شرح جينيت كل نمط من هذه الأنماط الخمسة في كتاب مستقل، فوضع كتاب (معمارية النص) 1986، للنصّ و(عتبات) 1987 للمناصّة...
    6 ـ (التناصّ) في النقد العربي القديم:

    لم يتفق المترجمون العرب المعاصرون بعد على تعريب مصطلح (التناصّ) Intertextulite فبعضهم يعرّبه (التناصّ) وآخرون (التناصّية)، وفريق ثالث بـ(النصوصية)، ورابع بـ(تداخل النصوص)، ومع ذلك فإن المصطلح الأول (التناصّ) هو الذي شاع وانتشر، بعد أن استفاض الحديث مؤخراً عن المناهج النقدية الأسلوبية والألسنية والبنيوية والسيميائية... الخ.

    ومادة (نصص) في المعجمات العربية القديمة (لسان العرب لابن منظور، والقاموس المحيط للفيروز آبادي، وأساس البلاغة للزمخشري، والمخصص لابن سيده): (تناص) القوم أي اجتمعوا. إلا أن هذه المادة لم ترد في المعجمات العربية الأدبية الحديثة المتخصصة (كمعجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب لمجدي وهبة، وكامل المهندس 1984، والمعجم الأدبي لجبور عبد النور 1979).

    وعلى الرغم من شيوع مصطلح (التناصّ) في النقد الغربي المعاصر، في الآونة الأخيرة، إلا أن أصداءه ما تزال خافتة في النقد العربي المعاصر، وعلى الرغم من مضي أكثر من أربعين عاماً على ولادته في النقد الأوروبي، فإنه ما يزال وليداً يحبو في نقدنا العربي المعاصر، حيث لم يصدر عنه سوى كتاب واحد (26)، ومحور في مجلة (ألف) المصرية (27).

    ويبدو أن لهذا المصطلح ظهورات عديدة في تراثنا النقدي، وإن بأسماء مختلفة، فقد روى ابن رشيق صاحب كتاب (العمدة) قول علي بن أبي طالب (رضي):

    "لولا أن الكلام يُعاد لنفد"، تأكيداً لحقيقة فنية رددها عنترة في معلقته:

    هل غادرَ الشعراءُ من متردّم

    ثم ذكرها أبو تمام في قوله:

    كم ترك الأولُ للآخر(28)

    وقد وردت في تراثنا النقدي، مصطلحات عديدة تقارب مصطلح (التّناصّ)، في الحقل البلاغي (كالتضمين، والتلميح، والإشارة، والاقتباس...الخ)، وفي الميدان النقدي (كالمناقضات، والسرقات، والمعارضات... الخ). وكلها تقترب قليلاً أو كثيراً من مفهوم (التّناصّ)، إذ يشير ابن سنان الخفاجي في كتابه: (سرّ الفصاحة)، إلى حضور شعر القدماء في شعر المحدثين، وإن ذلك لا يعطي أفضلية لشعر قديم على شعر محدث إلا بالجودة الفنية، كما يشير إلى إدراك بعضهم لـ(التداخل الدلالي)، الذي يرى أن جميع معاني المحدثين إنما تستند إلى معاني القدماء.

    وقد رد آخرون بأن حضور القدماء في شعر المحدثين هو حضور جزئي، لا كلي، لأن المحدثين تفردوا بمعان استنبطوها لم تخطر للقدماء. أما التداخل على مستوى الألفاظ فإنه ينصرف إلى المفردات. وهذه ليست ملكاً لأحد الفريقين.

    والإنتاجية الشعرية، على هذا النحو، تمثل استعادة لمجموعة من النصوص القديمة (في مضامينها، وصورها، وتراكيبها... الخ)، في شكل خفي حيناً، وجلي أحياناً أخرى. بل إن قطاعاً كبيراً من هذا الإنتاج الشعري إنما يعدّ تحويراً لما سبقه، ذلك أن المبدع لا يتم له النضج الحقيقي إلا باستيعاب الجهد السابق عليه، في مجالات الإبداع المختلفة، فقد كان الشعراء ينصحون الشاعر المحدث بأن يقرأ آلاف الأبيات الشعرية ويحفظها، ثم ينساها، ليبدع من عنده، ويجد شخصيته الشعرية.

    أما إذا ظل يدور في فلك الأقدمين فيحفظ أشعارهم فحسب، ولا ينساها، فإنها ستكون عقبة في سبيل إيجاد هويته الشعرية. كما أكد النقاد العرب القدماء ضرورة معرفة الشاعر لأيام العرب وأمثالهم والاطلاع على كلام المتقدمين المنظوم والمنثور، فهذا كله مما يشحذ القريحة، ويذكي الفطنة."وإذا كان صاحب الصناعة عارفاً بها، تصير المعاني التي ذكرت وتعب في استخراجها، كالشيء الملقى بين يديه، يأخذ منه ما أراد، ويترك ما أراد".(29)

    وقد تنبه النقاد العرب القدماء إلى ظاهرة (تداخل النصوص) أو (التفاعل النصّي)، وبخاصة في الخطاب الشعري، واتخذ هذا التنبه طبيعة تحليلية نقدية، تعددت فيه مجموعة من المصطلحات التي تدقق في جزئيات التداخل، وتضعها داخل إطار اصطلاحي لتمييزها عما سواها، ورصدوا طرائق ممارستها، من منظور بلاغي، على اعتبار أن البلاغة كانت هي العلم الأحدث الذي يزيد في جماليات الشعر. فهي علم تقييمي قبل أن تصبح تعليمية. ومن هنا يمكن القول إن النقد العربي القديم أشار إلى (التفاعل النصّي)، وإن لم يحدده باسمه المعاصر، ولكن تحت تسميات اصطلاحية من مثل: التضمين، والاستشهاد، والاقتباس... الخ، وحتى (السرقات) كان لها مَنْ فهمها على أنها تأثر لا أخذ، واستمداد واستعانة وإعادة إنتاج ضروري على أساس النصّ السابق.

    وهكذا يمكن القول إن ظهورات (التّناصّ) في النقد العربي القديم وجدت في حقلي البلاغة، والنقد الأدبي. ويرى النقاد العرب أنه لا تداخل نصّياً في النحو والصرف وقواعد الإعراب، لأنه ليس في شيء من ذلك خصوصية ترتبط بالمبدع.

    ومن هنا دخل الغلط على مَنْ جعل هذا من قبيل التداخل النصّي، وحكم بالأخذ أو السرقة، إذ هي أمور مشتركة لا تدخل مجال التمايز والفضيلة، ولا اختصاص لها بفرد دون آخر، أو بجيل دون آخر.(30)

    كما يخرج من دائرة التداخل النصّي الإطار الإيقاعي الخارجي للشعر، لأن الوزن مثل الهيئة الصورية للبنية الشعرية، ليس داخلاً في
    منطقة (الفصاحة): "فليس بالوزن ماكان الكلام كلاماً، ولا به كان كلام
    خيراً من كلام".(31)

    ولقد ظهرت مصطلحات عديدة، في الحقل البلاغي، تشير إلى (التّناصّ) وتمثل له: من مثل: الاستيحاء، والإشارة، والتلميح، والتضمين، والاقتباس... الخ..

    فـ(التلميح) يؤكد الجانب التحسيني، ويعتمد على صدور إشارات من النصّ الحاضر إلى النصّ الغائب (السابق). وهذه الإشارات ترتد إلى قصة أو مَثَل أو شعر...

    و(التضمين) يتم بين نصين شعريين. وتتجلى فيه القصدية تجلياً مباشراً، فيشار إلى النصّ الغائب، باقتطاع جزء من البيت الشعري، أو البيت بكامله، أو أكثر من بيت. وهنا ينبغي ملاحظة مستوى وعي المتلقي، فإن كان حضور النصّ الغائب له شهرة اكتفى بإعلان عملية التداخل...

    و(الاقتباس) هو أن يأخذ الشاعر شعراً من بيت شعري بلفظه ومحتواه، وهو يمثل شكلاً تناصّياً يرتبط فيه المدلول اللغوي بالمفهوم الإصلاحي الذي يتمثل في عملية الاستمداد التي تتيح للمبدع أن يحدث انزياحاً محدداً في خطابه، بهدف إضفاء لون من القداسة على جانب من صياغته بتضمينه شيئاً من القرآن الكريم أو الحديث النبوي الشريف، أو الشعر القديم. وهنا يجب أن تكون في الوعي عملية القصد النقلي.. فإذا كانت الصياغة منتمية إلى هذه الجوانب المقدسة، فإن طبيعة الاستمداد يجب أن يتم فيها تخليص النصّ الغائب من هوامشه الأصلية، ليصبح جزءاً أساسياً في البنية الحاضرة، أي أنه يتحرك، داخل ثنائية (الحضور والغياب) على صعيد واحد.

    وقد تنعكس حركة (التداخل النصي) فيما سماه النقاد القدماء (الحلّ والعقد)، فالحلّ يكون عن طريق نقل الصياغة من المستوى الشعري إلى المستوى النثري، مع المحافظة على الإطار الدلالي والصياغي في المستويين، على أن يكون هناك دوافع فنية تستدعي هذا التحول، وتعمل على المحافظة على فنية الصياغة عند حلها.

    وأما (العقد) فهو أن يقوم المبدع ببناء خطابه الشعري بالاستناد إلى خطاب آخر نثري، فعملية البناء هنا هي تحويل الصياغة من المستوى النثري إلى المستوى الشعري، عن طريق إضافة الجانب الإيقاعي فحسب.

    وأما (الاحتذاء) فهو عملية فنية لها مواصفاتها التي تبعدها عن (المحاكاة)، وتقترب بها من "الأخذ". ومثالها قول الفرزدق:

    بخيرٍ، وقد أعيا ربيعاً كبارُها






    أترجو ربيعٌ أن تجيء صغارُها

    احتذاه البعيث فقال:

    بخيرٍ، وقد أعيا كليباً قديمها






    أترجو كليباٌ أن يجيءَ حديثُها

    فقال الفرزدق عند سماعه هذا الاحتذاء:

    تنخّلها ابنُ حمراء العِجانِ






    إذا قلت قافيةً شروداً

    وقد ينصرف (التداخل التناصّي) إلى المستوى الدلالي الخالص عن طريق (التوليد)، حيث يتحرك الوعي إلى النصّ الغائب، ويستولده دلالته في حدودها الأولى. وقد يصيبها تمدد إضافي، تبعاً للفضاء الذي تشغله. وهذا النمو ينقلنا إلى منطقة وسطى بين (الاختراع) و(السرقة) كما يرى ابن رشيق. فقد قال امرؤ القيس:

    سُمُوَّ حَبابِ الماءِ حالاً على حالِ






    سَمَوْتُ إليها بعد ما نامَ أهلُها

    فقال عمرو بن عبد الله بن أبي ربيعة، وقيل وضاح اليماني:

    ليلةَ لا ناهٍ ولا زاجر






    فاسقط علينا كسقوط الندى

    فقد تم (التوليد) في المستوى الدلالي، دون التعامل مع التشكيل الصياغي لامرئ القيس(32).

    وهذه الأشكال هي هوامش داخل قضية شمولية هي (السرقات الشعرية).

    وقد يكون (التّناصّ) في الصور البلاغية (التشبيهات، والاستعارات، والكنايات) باعتبارها تملك المعاني الأول والثواني، فعندما يقول الشاعر عن رجل ما إنه (بحر)، و(أسد) و(شمس)، فإنه يشبهه بالبحر لكرمه، وبالأسد لشجاعته، وبالشمس لبياضه ونقائه.والشاعر لم يلجأ إلى الوصف المباشر، وإنما إلى (التشبيه) الذي هو (مجاز) أو وصف غير مباشر لما يريد الحديث عنه. وعندما يقول الشاعر عن ممدوحه بأنه (كثير الرماد)، فهو يكني بذلك عن كرمه. ولكنه لم يقل عنه إنه كريم مباشرة، وإنما لجأ إلى وصف قدوره التي يكثر تحتها الرماد، والتي تدل على كرمه. وعندما يقول عن ممدوحه إنه (طويل النجاد)، فهو يكني بذلك عن شجاعته. ولكنه لم يقل إنه شجاع مباشرة، وإنما لجأ إلى وصف طول قراب سيفه الدال على شجاعته.

    كما عرف النقد العربي القديم مفهوم (التّناصّ)، ولكن تحت تسميات أخرى كالنقائض، والسرقات والمعارضات...

    (فالنقائض) جمع (نقيضة). و(نقض) لغة: نكث وأبطل، واصطلاحاً: النقيضة مأخوذة من نقض البناء إذا هدمه. وناقض غيره: خالطه وعارضه. والمناقضة في الشعر أن ينقض الشاعر الثاني ما قاله الشاعر الأول، فيلتزم الوزن والقافية والروي الذي اختاره الأول، وينسج على غراره، ناقضاً مزاعمه ومعانيه.

    وتشكل (النقائض) باباً مستقلاً في الشعرالعربي، بدأ منذ الجاهلية وصدر الإسلام، وانتهى إلى العصر الأموي.

    وأما (السرقات الشعرية) فهي أخذ الشاعر اللاحق معنى الشاعر السابق. فهي (نقل) أو (محاكاة) أو (افتراض). ولأن الشاعر المحدث جاء تالياً، فقد وصم بالسرق، ووضعت الكتب في سرقات أبي نواس، وأبي تمام، والبحتري، والمتنبي.. ومضى النقاد في إظهار تعالمهم وتحاملهم على الشعراء، فأقفلوا بذلك دائرة المعاني..

    فعندما قال المتنبي بيته:

    أسنّتُهُ في جانبيها الكواكبُ






    يزور الأعادي في سماء عجاجةٍ

    مشبهاً لمعان الحراب في ظلام الغبار بلمعان النجوم في ظلام الليل، فإن النقاد تتبعوا هذا المعنى لدى سابقيه، فقالوا: إنه مأخوذ من قول بشار بن برد:

    وأسيافَنا، ليلٌ تَهاوى كواكُبهْ






    كأنَّ مُثارَ النَّقْعِ فوقَ رؤوسنا

    ثم وجدوا أن هذه الصورة الشعرية ليست من مبتدعات بشار، وإنما هي مأخوذة من سابقه: عمرو بن كلثوم في قوله:

    سقفاً كواكبُهُ البيضُ المباتيرُ






    تبني سنابكُها من فوق أرؤسهم

    وقد أخذت هذه القضية جهد النقاد القدماء، فلا يكاد يخلو كتاب نقدي من فصل عنها. يقول ابن رشيق في (العمدة): "وهذا باب متسع جداً لا يقدر أحد الشعراء أنه يدعي السلامة منه. وفيه أشياء غامضة إلا عن البصير الحاذق بالصناعة، وأخرى فاضحة لا تخفى على الجاهل".(33).

    وقد تشعبت الأقوال فيها، وكثرت المصطلحات (كالسرق، والسلخ، والنسخ، والغصب، والإغارة، والاختلاس... الخ)، وتعددت الآراء بين متحامل ومنصف ومتوسط، إلا أن الناقد الذي يمتلك القدرة على التمييز بين (المشترك) الذي لا يجوز ادعاء السرقة فيه، و(المبتذل) الذي ليس أحد أولى به، و(المختص) الذي حازه المبدع ابتداء فملكه.(34).

    وهكذا اعتبر فريق من النقاد المنصفين السرقات ظاهرة طبيعية، منطلقاً من اعتقاد أن المعاني كالماء والهواء، مشاعة بين الناس، فلا يضير الخلف أن يأخذ عن السلف.
    4 ـ منهج التحليل التّناصّي:
    1 ـ (النصّ) و(الخطاب):

    يختلف (الخطاب) Discourse عن (النّص) Texte في أن الأول وحدة تواصلية إبلاغية، متعددة المعاني، ناتجة عن مخاطب معين، وموجهة إلى مخاطب معين، عبر سياق معين. وهو يفترض وجود سامع يتلقاه، مرتبط بلحظة إنتاجه، لا يتجاوز سامعه إلى غيره، وهو يدرس ضمن لسانيات الخطاب.

    أما (النص) فهو التتابع الجملي الذي يحقق غرضاً اتصالياً، ولكنه يتوجه إلى متلق غائب، وغالباً ما يكون مدونة مكتوبة تمتلك الديمومة. ولهذا تتعدد قراءات النصّ، وتتجدد، بتعدد قرائه، وتعدد وجهات النظر فيه، وحسب المناهج النقدية المتعددة...

    ويُعنى (علم النصّ) بوصف العلاقات الداخلية والخارجية للأبنية النصّية بمستوياتها المختلفة، وبشرح المظاهر العديدة لأشكال التواصل واستخدام اللغة، كما يتم تحليلها في العلوم المتنوعة. ومن هنا فإن علوماً عديدة تشترك في تكوين علم النصّ وتحليله، من أهمها: الألسنية، والنحو، والبلاغة، وعلوم الاتصال الحديثة، والعلوم الإنسانية والاجتماعية ...الخ.




    E - mail: aru@net.sy

      الوقت/التاريخ الآن هو الإثنين مايو 06, 2024 3:25 pm