منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    النسج اللغوي، في المعلقات

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    النسج اللغوي، في المعلقات Empty النسج اللغوي، في المعلقات

    مُساهمة   الخميس فبراير 09, 2012 1:35 pm



    ثالثاً: النسج اللغوي،
    في المعلقات،
    بين نظام الفعل ونظام الاسم


    لاحظنا في المقالة التي عرضنا فيها لتحليل
    الإيقاع المعلقاتيّ أنّ هناك نصوصاً منها تميل إلى نحو ما أطلقنا عليه، في شيء من
    التجاوز والتساهل: "الحميمّية"، أو "الانضواءِ على الذات"؛ وذلك بناء على تأويل
    دلالة الخَفْضِ في اللغة العربيّة، مثلاً. وإذا كنّا لا نطمع في أن يتفق الناس معنا
    على ما ذهبنا إليه؛ فإنّنا قد نكون أفلَحْنا في تحفيزهم، على الأقلّ، إلى البحث عن
    تأويلٍ آخر، عن قراءة جديدة أخراة، من آلاف القراءات التي اقتُرِئَتْ بِها هذه
    النصوصُ ماضِياً، والتي ستقرأ بها مستقبلاً.


    وإذا كنّا جئْنا نثير مسألَة نظامِ النسج اللغويّ
    فبِما رغْبَةٍ عارِمةٍ مِنَّا في الكشف عن الظاهرة النسجيّة التي تستأثر بنظام
    اللغة، وبنية التعبير لسطح هذه النصوص الشعريّة العذريّة.


    وقد انتهينا من خلال الإِحصاء الذي اضْطُرِرْنا
    إليه (والذي لا نحمل أي عُقْدَةٍ له أو عليه، فهو لدينا مجرّد من الإجراءات التي قد
    نعمد إليها، في بعض المستويات من قراءتنا، وذلك ابتغاء استكشاف ظاهرةٍ ما، حين
    نعتقد أنه لا يمكن استكشافَها إلاّ به، أو إلاّ عَبْرَه): إلى أنّ النسج الشعريَّ
    يهيمن عليه النظام الاسْمِيُّ لدى عامّة المعلقّاتيّين إِلاّّ لدى زهير الذي يغلب،
    في نسجه الشعريّ، النظامُ الفعليّ، لِمَا سنعلّله من بعد حين.


    وقد رأينا، والحال أنّ الشأنَ منصرِفٌ إلى نسج
    شعريّ، أن نراعي مَطْلَعَ صَدْرِ البيت، وآخر عجزه على أساس أنهما مفتاحَا البيتِ
    الشعريّ. ولم نُرِدْ أن ننزلِقَ إلى ملاحظة النظامين الفعليّ والاسميّ في أكثّر من
    هذين المستويْين الاثنين خشْيَة أن يُفضي ذلك إلى تطويل قد لا يكون فيه، لهذا
    البحث، غَناء كبير.


    والحُكْم العامُّ الذي نستخلصه من هذه المتابعات
    المنصرفة إلى مطالع الأبَايِيتِ، وأواخر أعْجَازِها: أنّ الشعراء كانوا يجنحون
    للتعامُل مع النظام الاسميّ أكثر من جنوحهم للتعامل مع النظام الفعليّ، لأسباب
    مختلفة، منها:


    1. إنّ نسجْ الأسلوب العربيّ ينهض أساساً على
    النظام الاسميّ أكثر من نهوضه على النظام الفعليّ. وهو قادر، على نقيض اللغات
    الأوربية وحتى بعض اللغات الشرقيّة، على الاستغناءِ عنِ الفعل من حيث لايستطيع
    الاستغناءَ عن الاسم. أَضْرِبُ لذلك مثلاً نَصَّ البسملةِ الذي يُردّده كلَّ يومٍ
    قريبَاً من مليارِ مُسْلم في العالَم، فإنه لا يشتمل على أيّ فعل. ودَعْكَ من
    تخريجاتِ النُّحاةِ وفي طليعتهم الشيخ عبد القادر الجرجاني؛ والتي فيها يزعمون أنّ
    الباء في"بِسم اللَّهِ" متعّلقة بفعل تقديرُه: "أَقْرَأُ، أَوْ أَتْلُو" (Cool. وعلى
    أنّ تقدير عامّة النحاة هو: "ابْتَدِئُ". فنحن لسنا نجنح إلى هذه التقديرات
    والمتعَلَّقات، ونحن نبحث في أمر المعلقّات، التي لا تتعلّق إلاّ بأوهام اغتدت فيما
    بعد قواعد للإعراب؛ وإلاّ فإن الله تبارك وتعالى، لو كان شاء إلى ما شاؤوا، وقصد
    إلى ما إليه قصدوا، لكان قال كما قالوا. والآية على ضعف هذا المذهب أنّ الله تبارك
    وتعالى حين أراد إلى أن يتبرَّكَ بأسمه، وَصَلَهُ بالاسْمِ لا بالفعل، فقال:
    "باسِمْ اللَّهِ مُجْرَاهَا ومُرسَاهَا(9)، ولم يَقُلْ: "أُجْرِيَها ببِسْمِ
    اللّهِ، وأُرسِيَها".


    وقد لاحظنا، أيضاً، أنّ سورة النحل لا يوجد فيها
    إلاّ ثلاثة أفعال فحسب من بين سبعة عشر اسماً على الأقل؛ مَثَلُهُا مَثَلُ سورة
    الفاتحة التي تشتمل على أربعةِ أفعالٍ فحسب من حيث نُحصِيْ فيها من الأسماء ما لا
    يقلّ عن واحد وعشرين.


    وقد يمكن النسجُ بالاسم وحده، في اللغة العربيّة،
    دون أن يَعْتَاَصَ ذلك على الفُصحاء الأبْبِنَاء، والَّلِسِنين البُلغُاء؛ كما
    نلاحظ ذلك في بعض خطبة قسّ بن ساعدة الإيادي الذي كان يُضْرَبُ به المثل في فصاحة
    اللسان، والقدرة على نسج البيان(10): "(...) في هذه آياتٌ محكمات، مَطَرٌ، ونبات،
    وآباءٌ وأمهات، وذاهبٌ وأت، ونجوم تَمور، وبحور لا تَغُور، وسقف مرفوع، ومِهَادٌ
    موضوع، وليلٌ داج، وسماءُ ذاتُ أبراج"(11). ففي هذه الكلمة لم يرد الفعل إلاّ
    مرتيْن اثنتيْن من بين عشرين اسماً؛ وكما يمكن أن يُلاحَظَ ذلك في بعض نصّ إحدى خطب
    الحجّاج، إذ يقول: "يا أهل العراق، يا أهل الشِّقاق والنِّفاق، ومساوئَ الأخلاق،
    وَبني اللَّكيعة، وعبيد العصا، وأولاد الإماء، والَفْقْع بالقَرْقِرَ..."(12): فهنا
    نجد خمسةَ عشرَ اسْمَاً بدون ورودِ أيّ فعلٍ، وبدون أن يمكن أن يذهب أحد من الناس
    إلى أنّ مثل هذا الكلام كان محتاجاً إلى أن يَتَعلَّق بغيره الغائب، على نحو أو على
    آخر...


    ومثل هذا في العربية كثير مشهور، ومتواتر معلوم؛
    بحيث لايحتاج معه إلى برهنة ولا إلى تدليل.


    2. إن النظام الإسْميَّ يفيد الثبات والسكون؛
    ولعلّ السكون هو الدَّيْدَنُ الغالب على حياة الجاهلية الذين كان الرُّتُوبُ يحكم
    حياتَهم، والسكون يقيّدها. وكانتْ تلك السيرةُ تُحَتِّمُها نوعيَّةُ الطبيعة
    المحيطة بهم، والبدائيّة التي كانت تحكم حياتَهم، بحيث كانت أسفارهم الطويلة،
    قليلةً، وإقاماتهم، أو تنقلاتهم القصيرة، كثيرة. لا تغير في نظام العيش، ولكن
    الرتوب... يعيش الأبناء كعيشة الآباء، ويعيش الأحفاد، كعيشة الأجداد. من خرج عن
    نظام القبيلة، وعاداتها، عُدَّ مارِقاً، ومَنْ تنكّر لتقاليدها اعْتُبَر عاقّاً
    مُفَارِقاً.


    وإذن، فإنّ النظام الاسميَّ في نسج اللغة في
    المعلّقات السبع لا يعدو كونَه امتداداً للحياة الجاهليّة بمظاهرها الاجتماعيّة
    والعقليّة والاقتصادية والثقافيّة التي كانت تتجسّد، خصوصاً، في رواية الشعر، وفي
    إنشاده في المحافل والمناسبات الكبرى وفي التغنّي به في التظّعان. كما أنّ الأشعار
    التي كانت تتردّد في المآقِطِ المختلفة كانت تتشابه وتتقارب أشكالُها، ومضامينها:
    البكاءُ على الأطلال، ووصْفُ جمال النساء، ثم وصْفُ النُّوقِ والسَّفَر، أو الخيلُ،
    أو المطر، أو البلاء في الحرب... أو سَوْقٌ لبعض الحِكَمِ، وضَرْبٌ لبعض الأمثال،
    وذِكْرٌ لبعض الوقائع...


    فلم يكن الثبات الذي يقتضيه النظام الاسِميُّ في
    نسج اللغة، عَبْرَ المعلقات، متمثِلاً في الحياة بمعانيها المادّية فحسب؛ ولكننا
    نلفيه ثابتاً أيضاً، في المظاهر الأدبيّة والثقافيّة (بناء القصيدة- نظام القبيلة-
    تقاليد الرعي والتماس الكَلأ، وهلمّ جرا من سائر المظاهر الأنتروبولوجيّة).


    3. الاسْمُ يحيل على الكائن الحيّ ويعيّنه، فهو
    يحيا: يحبّ ويكره، إن كان عاقلاً، ويضطرب ويتحرّك، إن لم يكُنْهُ. على حين أنّ
    الفعل حدَثٌ، والحدث لا ينشئ نفسه، ولا يقوم بذاته بمعزل عن الاسم؛ عن الكائن الحيّ
    الذي يُسَبّبُهُ، أو يكون نتيجة له، أو يكون مندمجاً فيه.. فالفعل- وإذن النظام
    الفعلي، بجَذامِيرِه- لا ينبغي له أن يكون إلاَّ مجرّدَ تابِعَ للنظام الاسِميّ،
    خاضعٍ له، ناشئٍ عنه.


    4. قد يجتزئ الاسم وحده في الكلام؛ إذا ظاهرتْه
    قرينةٌ ما، مثل قوله تعالى: "الرّحْمن"(13). فاسم الجلالة: الرحمن، هنا آية بنفسه؛
    ولم نجد ذلك حَدَثَ في فعل من الأفعال. فالاسْمُ هو صاحب الشأن والبال؛ أما الفعل
    فلا يأتي إلا خَدَماً له، وسائِراً في فلكه.


    5. وإذا كانَتْ بعض المعلّقات(خصوصاً معلّقة
    زهير) تَغَلَّبَ فيها النظامُ الفعليّ على النظام الاسميّ؛ فلأَنَّحكيمُ
    المعلّقاتيين عَمَدَ إلى بثّ الحكمة، وإرسال الأمثال، وتذكيرٍ بمآسي الحرب، وتصوير
    لبشاعتها، وتزهيد الناس في سفك الدماء، وترغيبهم في أن يجعلوا المحبّة والسلام
    يسودان بينهم. ومثل هذا السلوك الذهنيّ ينشأ عنه قلةٌ في استعمال الأسماء، وكثرةٌ
    في استعمال الأفعال. ولعلّ الذي ظاهر على ذلك أنّ نظام النسْج في معلَّقة زهير
    اقتضى أن ينتهي كثير من أبياتها بأفعال مضارعة، إذْ نلفي اثنيْن وعشرين بيتاً من
    بين اثنين وستين ينتهين بأفعال أغْلَبُهَا مُضارِعٌ. وهي سيرة من النسج الشعريّ
    ليست عاديّة.


    ونحن حين اصطنعنا عبارة"نظام النسج"، في هذه
    المعلّقة، فلأننا، فعلاً، لاحظنا أنّ أسلوب الكَمِّ يكاد يختلف، هنا، عنه في سائر
    المعلّقات. فكأنّ نظام النّسْج في معلّقة زهير ينهض على تسخير هذه الفُيوض الفائضة
    من الأفعال المضارعة المجزومة التي كان وراء جزمها، في عامّتها، ذلك العامل الجازم
    لفعلين اثنين، وهو: "مَنْ"، وأخواته مثل "متى"، و"مَهْما"... التي تكرّرت، في
    جملتها، زُهاءَ أربعٍ وعشرينَ مرَّةً.


    وعلى أنّنا لو انزلقنا إلى عدِّ الأفعال
    المضارِعة المجزومة المعطوفة على الجُمل الأصليّة الناشئة عن إعمال الجزم لوجدنا
    النص الزُّهَيْرِيَّ يَعْجُّ بها عجيجاً، مثل: يوخّرْ، فيوضعْ، فيدّخرْ، يعجَلْ،
    فينقم. ومثل: وَتَضْرَ، فتضْرَم، وتلقحْ، تنتج، فتُتْئَم، فتُنْتج، فتغلل....


    وإذا كان اسم "مَنْ" جاء في العربيّة للدلالة على
    العقلاء، إلاّ لدى الانزياح(فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ...) (14)؛
    فِلأَنَّ الناصّ كان يريد من وراء هذا الاستعمال إلى مخاطبة العقلاء حقاً، وتخصيصهم
    بالخطاب فعلاً. كان الشاعر الحكيم يريد أن يخاطبهم، فيؤثّر فيهم، ويبلغ غايته منهم؛
    فيعدل بهم عمّا كانوا فيه من جَهالةٍ جهلاء، وما كانوا يَخْبِطون فيه من حروب
    هوجاء، وما كانوا يشنّونه من غارات شعواء، وما كانوا عليه من التساهل في سفك
    الدماء: باسْمِ الشجاعة، واستحلال أموال سَوائِهِمْ تحت عادياتٍ تَعَوَّدوها...


    وإذا كانت لغة عنترة تجري في بعض ما نحن بصدده من
    افتخار بسفك الدماء، وتمجيد القتل وخوض الحروب، وتصوير لمكارم الأخلاق كلّها في طعن
    الفرسان بالرماح، وَشَكِّ الرجال بالسلاح، وجندلتهم في سَاحِ الوغَى، وتغنٍّ بمناظر
    الموت البشعة، وتبجّج بمشاهد الدماء وهي تنزف من أجساد البشر، وهم يَتَهَاوَوْنَ
    على الأرض صَرْعىً لَقىً كأجْذاع النخْل: بفعل العَضْبِ بالسيوف، والطَّعْنِ
    بالعوالي: فإنَّ الصورة لدى زهير هي غيرها لدى عنترة. فكأنّ عنترة قاتل محترف:


    *قيلُ الفوارسِ: ويْكَ عَنْتَرَ أَقْدِمِ*


    ومحاربٌ متخصّص في جندلةِ الأبطال، على حين أنّ
    زهيراً رجلُ سلامٍ، ومحبّة، وعقل... وأيّاً كان الشأن؛ فإنّ الفكرة التي نهضت عليها
    معلقة زهير كانت تقتضي فيْضاً من هذه الأفعال، كأنه لِيَصِفَ بها، بطريقٍ غير
    مباشر، معارِكَ الحرب، وأهوالُ الموت، ومناظر العذاب والخرابِ. فكأنّ زهيراً لا يصف
    الحرب وأهوالَها وآلامها وأتراحَها ومِحَنَها وشقاءَها في اللغة، ولكنه كان يصفها
    باللغة. وكأنَّ هذه اللغة، اللغة الزهيريّة، حركات الفرسان وهم يتقاتلون ويتصاولون
    ويتطاعنون: في خِفّةِ حركةٍ، وفي كرٍ وفر، وفي إقبال وإدبار، وفي وَثَبَانٍ
    وَرَوَغَانٍ...


    بينما نلفي نظام النسج اللغويّ لدى عنترة، وقد
    اقتضى المقام أن نقرن بينهما، هنا، ينهض على تصوير الحركة الفعليّة، الماديّة:
    للتقاتُلِ والتَّطَاعُنِ والتَّنَاحُرِ والتصاولُ بين الفرسان؛ وقل إن شئت بين
    عنترة وَحْدَهُ والفرسان الآخرين الذين كانوا يَعْرِضون له، أو يجرؤون على
    التَّطالُلِ على فروسيّته ورجوليته، وشجاعته التي سارت بذكرها الركبان... فاللغة
    لدى عنترة تنهض بوصف ما يحدث، فكأنّها سخّرت لِسَوَائِها، على حين أنّ اللغة لدى
    زهير تنهض بوصف الخارج فيها؛ فكأنها مسّخرةٌ لذاتِها، من أجل ذاتها. فكأنّ العمل
    باللغة في معلقة زهير يتّخذ من النسج باللغة غايةً له. فلغة زهير تصوّر الخارج
    عَبْرَ فَيْضٍ من وجدان الذات، فكأنّها تحويل للخارج نحو الداخل: لِتَركِّبَهُ، ثم
    تَبُثَّه نحو الخارج في صورة أخراةٍ جديدة. بينما اللغة لدى عنترة كأنها تصوير
    للخارج في واقع الداخل، وإٍسقاط للواقع الخارجيّ على حميميّة الذات.






    وإذا كانت التقريريّة هي التي تحكم نظام النسج
    لدى زهير في معلّقته، مَثَلُه مَثَلُ عمرو بن كلثوم، وربما طرفة أيضاً؛ فإنّ
    السرديّة هي التي تحكم نظام النسج لدى المعلّقّاتيّين الآخرين على الرغم من أنّ صفة
    السردية تجمع معظم المعلّقاتيّين، إن لا نقل كلّهم، إذا انصرف الوهم إلى المطالع
    الطللّية. لكنّ امرأ القيس يظلّ أشدهم تعلّقاً بالسرديّة، وأكثر استعمالاً لها، وقد
    كان ذلك أثار عنايتنا منذ أكثر من ربع قرن(15).


    وأياً كان الشأن؛ فإنه يمكن أن نقرر أنّ
    المعلّقاتيّين السبعة، في نظام النسج اللغويّ المستعمل في معلّقاتهم، هم إمّا
    سُرَّادٌ، وذلك عَامٌّ في مطالِعِهم؛ وإمَّا مُقَرِّرُونَ؛ وذلك خاصّ بأصحاب
    الحكمةِ والتأمّل، ولا سيما طرفة وزهير. ثم يقع التفاوت فيما بينهم على درجات من
    حيث الإغراقُ في السْردِ فحسب؛ أو الإغراق في التقرير فحسب؛ أو الجنوح للسرد أكثر
    من التقرير، أو الميل إلى التقرير أكثر من السرد...


    ومن الواضح أنّ هذا الوضع يؤثّر في طبيعة
    الأسلوب، وشكل اللغة، ونظام النسج.


    وهناك مسألة أخراةٌ عالجْناها، في غير هذا
    المقام، وهي أننا لاحظنا أن نظّام النسج كان يخضع، لدى هؤلاء المعلّقّاتيّين،
    لطبيعة المضمون المتناوَل، ولحال الوضع العاطفيّ الماثل، للمعلّقاتي حين يُنشئ
    شعرَه. فمَنْ النسْج ما يغْلُب عليه ما أطلقْنا عليه الضجيجيَّةُ كما في معلقتي
    عمرو بن كلثوم والحارث بن حلّزة، ومنه ما يطْغُو عليه الحميميَّةُ والذاتيَّةُ
    مثلما يصادفنا بعض ذلك لدى امرئِ القيس، وربما لدى عنترة أيضاً، ولدى طرفة في وجه
    من معلّقته. وقد كنّا لاحظنا أنّ الضجيجيّة تعني ذَوَبّان الذاتِ في الآخَرِ، وليس
    الآخَرُ هنا إلاّ القبيلةَ التي ينتمي إليها المعلّقاتي، فَيَنْضَحُ عنها،
    وَيُرَوِّجُ لِمَكَارِمِهَا، ويتغنّى بمآثرها، حتى يجعلها في ذروة من المجد،
    وقُلَّةٍ من السُّؤْدد. بينما الحميميّة إنما تُعْنى بتوهّج الذات، وطفوح قوة
    النفْس، وبروز شدة الحضور الداخلي، أو الحميميّ الذاتيّ، للمعلّقاتيّ: فإذا هو لا
    يلتفت إلا قليلاً إلى العالم الخارجي، ولا يكترث بما حوله، ولكنّ التعبير عن
    عالَمَه هو الذي يعنيه في المنزلة الأولى.





    رابعاً: زخرفيّات نسجيّة
    أخرى


    وممّا يمكن أن يكون له صلة بنظام النسج اللغويّ
    في المعلّقات ما لاحظناه من طفور بعض الأدوات الإنشائيّة، بتعبير البلاغيّين،
    وأدوات الزخرفة اللفظيّة باصطلاحنا: وذلك مثل الاستفهام، والقَسَمَ، والنداء،
    والتعجّب ونحوها.


    وقد لاحظنا أنّ الاستفهام، بنوعيه البسيط
    والإِنكاري، يأتي في المرتبة الأولى بثلاثة وثلاثين استفهاماً، والنداء يتبوأ
    المنزلة الثانية بتسع عَشْرَةَ حالَةَ نداءٍ، والقسمَ يَردُ في المرتبة الثالثة
    بإِحدى عشرة حالة قَسَمِ، من حيثُ يتبوَّأُ التعجُّبُ المرتبةَ الأخيرة بسبع حالاتٍ
    تعجّبٍ فحسب.


    والذي لاحظناه أيضاً حول هذه الظاهرة أنّنا
    ألفينا كلّ المعلّقاتيّين مستفهمين، مع تفاوت بينهم في كثرة الاستعمال: كثرة تتراوح
    بين تسعة استفهامات لدى الحارث بن حلّزة، واستفهاميْن فحسب لدى امرئ القيس.


    ولعلّ أداة الاستفهام أن تكون زخرفة كلاميّة تجلو
    الرتابة عن النسج، وتنفض غبار السكون الأسلوبيّ عن الكلام، وتحمل المتلقيّ على
    التيقّظ والتّحفّز، وتدفعه إلى استعمال مَلَكَته الذوقيّة، وطاقته الذهنيّة من أجل
    أن يجيب عمّا أثير من تساؤلات، وطُرِحَ من استفهامات. إنّ الاستفهام، وخصوصاً
    الإنكاريَّ منه-وهو كثير- مُساءَلَةٌ، وَحَيْرةٌ، وقلق. ولعلّ المُساءلة أن تكون
    دعوة إلى المعرفة، والمعرفة أرقى مستويات الإدراك.


    والاستفهام إبداءٌ لما في النَفْس من فضول
    معرفيّ، وَبَوْح بما في القلب من وجدان الذات، وكشْف عمَّا في الضمير من حَيرة
    حَيْرَى: فإِذا ما كان مخبوءاً يغتدي مكشوفاً، وإذا ما كان مستكيناً يُمْسِي
    مُعرّىً.


    وبينما كنّا ألفينا امْرَأ القيس يتبوَأ المنزلة
    الثانية بالقياس إلى زَخْرَ‌فَةِ التشبيه (واعتبرناه الأوّل من حيث تنويع تشبيهاته،
    وجمالها، وإِصابتها-كما يعبّر الجاحظ- وابتكارها وابتداعها): نلفيه الأخير في زخرفة
    الاستفهام. فكأنّه وقع تبادلٌ في المواقع النسجيّة بين المعلّقات فإذا هذه تُغْرِقُ
    في التشبيهات، وتلك تغرق في الاسْتِفَهامات، والأخراة تجنح لِلْقَسَم، وهلمّ
    جرّا...


    وإنما ألفينا الحارث بن حلزة يغرق في استعمال
    الاستفهامات فيبلغ بها تِسْعَ حالاتٍ متبَّوئاً المنزلةَ الأولى بين المعلقّاتيين
    لأنه كان يدافع عن قضيّة، وَيَنْضَحُ عن مَوْقِفٍ. لقد كان قصاراه إِقْنَاعَ
    المتلقّين بظلم قبيلة تغلِب مجسَّدَةً، أو مُجَسَّداً، في موقف عمرو بن كلثوم،
    وتجاوزه كل طَوَرْ، وعَدَوه كل حدٍ: في الادِعِاءِ على بَكْر، وذهابه في كلّ ذلك
    المذاهب المستحيلة من سَوْقِ التُّهَمِ بالباطل...


    وقد لاحظْنا أن الحارث لم يندفع في نسج
    الاستفهامات من ذاته إلاّ مرة واحدة:


    لا أرى مَنْ عَهِدْتُ فيها فأَبْكِي الـ
    ـيوم، وما يُحيِرُ الْبُكَاءُ؟


    وعلى أنّ هذا الاستفهام وارِدٌ ضمنياً، إذ يمكن
    أن تُقَرَأَ عبارة: "وما يُحَيُر الْبُكَاءُ" على معنى النفْي، لا على معنى
    الاستفهامِ؛ على الرغم من أنّ قراءتها على معنى الاستفهام يمنحها قوةًً دلالية أجمل
    وأقلق وأغنى؛ وكأن الحارث كان يريد أن يقول بالتسطيح النثري: وهل رأيتم، قط، بكاءً
    حارَ جَواباً، وردَّ خِطاباً؟ وهو كما يقرر الزوزنيّ: "استفهام يفيد الجحود"(16)
    فهذا الاستفهام: الشعريّ، الانزياحيُّ، الجميل(وهو جميل حقّاً لأنه خَرَقَ قواعد
    الصياغة المألوفة فاستفهم في غير مكان الاستفهام؛ وهي سيرة نعهدها لدى كبار
    الشعراء، وفصحاء الأبيناء) أفضى إلى الاستنكار والقَلَقِ، والحَيْرة والسُّمود.


    وأمّا بقيّة الاستفهامات فتنطلق، في عامّتها من
    الضمير الجمعيّ: من صرخة القبيلة، ومن صوت العشيرة، مثل:



    أم علينا جَرَّى قُضاعَةَ أم ليـ
    ـس علينا، فيما جَنَوْا، أَنْدَاءُ؟


    إنّ معظم التشبيهات لدى الحارث بن حلّزة واردة في
    معنى الإنكار والحجود، والرفض والنفي. وهو مازاد هذه التشبيهات فَيْضَاً جماليّاً
    بديعَاً، لأنّه يحمل جماليّة في نفسه من حيث هو مُساءلة، أي إيقاظٌ لانتباهِ
    المتلقّي ودَفْعَه إلى المشاركة في تشكيل الرسالة المطروحة، كما يحمل جماليّة أخراة
    تتمثّل في أنّه يحمل مُخادَعةً للمتلقّي، ومُغَالطَةً للمستقبل الذي يعتقد، لأول
    وهلة، أن الرسالة أُلقِيَتْ عليه ليجيب عنها، بينما هي تحمل جوابَها في نفسها،
    وإقناعَها في ذاتها، وإنكارَها في نسجها.


    على حين أنَّنا ألفيْنا كُلَّ الاستفهامات
    الواردة لدى طرفة بن العبد، وهي ستّة، وهي تمثّل المرتبة الثانية بعد الحارث بن
    حلّزة، تنطلق من ذات الناصّ، وتنبع من نفسه، وتنبثق عن جَوَّانيته، لأنه كان بصدد
    نَعْيِ نَفْسِه، فيما يزعم مؤرخّو الأدب (17): فكان مُضطَرَّاً إلى التساؤل عن كثير
    ممّا يَحْدُثُ مِنْ حَوْلِهِ، أو قُلْ: ما يحدث له، أو قل: ما يحدث له عبر هذا
    العالم الغريب، وما يتعرّض له من ظلم ومَضاضَةٍ:


    * وأنْ أَشْهَدَ اللّذّاتِ هَلْ أَنْتَ
    مُخِلْدِي؟


    * ستَعْلَمُ، إن متْنا غَداً، أَيُّنا، الصَّدِي؟


    وأمّا منطلق مُساءلات عمرو بن كلثوم، وقد تواترتْ
    خمسَ مرّاتٍ، وهو الشاعر الذي كان يبشّر بقضيّة القبيلة، ويدافع عن مجدها، وينضَحُ
    عن شَرَفها: فإنّها وردت، هي أيضاً، وعلى سبيل الإطلاق، في معرض التحدّث عن
    الجماعة، والتكلّم باسمِها، ورفع العقيرة بصوتها:



    بأيِّ مشيئةٍ، عمرو بْنَ هِنْدٍ
    تُطيع بنا الوُشاةَ وتَزْدَرِينا؟
    أَلَمَّا تَعْلَمُوا، مِنَّا ومنكم،
    كتائِبَ يَطَّعِنَّ ويَرْتَمينَا؟


    بينما انطلقت استفهامات عنترة، وهي خمسة أيضاً، من أعماق نفسه؛
    إذْ كان بصدد النَّضْحِ عن حَقِهِ في الحريّ‍ة، وَجدارته بالوجودِ؛ وإذْ كان على
    شجاعته وَحُسْنِ بَلائه في الحروب كان أبوه يتردّد في إلحاقِه بنَسَبِه، كما أنّ
    حُبَّهَ عَبْلَةَ أَجَّجَ في قلبه رسيس الهوى فأنطقه بما أنطق، وألهمه بما ألهم:
    فجعله يخاطبها، وهي بعيدةٌ عنه، معاتباً إيّاها عن عدم مُساءَلَتِها عن بَلائه في
    الحروب، ومتابعتها لمقاماتِه في الوغى؛ وكيف أنّ الخيل كانت تعرفه لفُروسيّته، وكيف
    أن الفرسان كانت تتَهَيَّبُه لشجاعته: إلاّ هي التي ظلّت جاهِلَةً، أو متجاهلةً،
    بما كان يجب عليها أن تعلم من أمره، وتعرفَ من شأنه:



    هَلاَّ سأَلْتِ الخيلَ يا ابنةَ مالكٍ
    إن كنتِ جاهلةً بما لم تَعْلَمِي؟


    وقد أثار انتباهَنا، هنا، شيءٌ آخرُ في نظام
    النسيج اللغويّ للمعلّقات؛ وهو هذه النداءات المتكررة، والأصوات المتعالية: الدالّة
    على الدَّلَهِ وَالْوَلَهِ، والقَلق والفَزَع، والتخوّف والترقّب. وكانت هذه
    النداءاتُ ربما خرجت عن إطارها الاستعمالِيّ المألوفِ، لتخرق القاعدة، ولتغتدي
    مُنزاحةً مُنساحةً، مثل ما نلفيه لدى امرئِ القيسِ الذي خاطب الليل فجعله يَعْقِلُ
    نداءه، ويعي خطابه (وإن كنّا شكَكْنا في أنّ الأبيات الأربعة التي يصف فيها الملك
    الضليل الليل، قد تكون له... وقد عللّنا ذلك في موقعه من هذه الدراسة...)، ومثل ما
    نجده لدى زهير الذي يخاطب الرَّ‍بْعَ ويدعو له بالسَّلامة، وكأنّه عاقِلٌ واعٍ،
    وسامِعٌ سَاعٍ.


    ذلك، وقد ألفينا هذه النداءات الصريحة، أو
    النداءات المنزاحةَ الواردة في صور التعجب، تبلغ زهاء تِسْعَةَ عَشَرَ. وقد توزّعت
    على عامّة نصوص المعلقات إلاّ معلقة الحارث بن حلّزة إنها خَلَتْ من أيّ نداء أو
    تعجّب. أمّا التواتر فكان يتراوح بين ستّةِ نداءاتٍ (عمرو بن كلثوم)، ونداءٍ واحدٍ
    (زهير بن أبي سُلمى).


    وإذا كنّا زعمنا أنّ الاستفهام يعبّر عن مدى
    القلق الناشئ عن فضول المُساءلة النائشة عن الحَيرة والتعجّب، فإنّ النداء لا
    يَقِلُّ جماليّة من حيث هو مظهرٌ تعبيريّ أنيق رشيق، وخصوصاً حين ينزاح النداء
    فينصرف إلى ما لا يعقل، أو حين يَحَارُ فينصرف إلى التعجّب كقول امرئ القيس:



    ألا أَيُّها الليلُ الطويلُ ألا انجلِِ
    بِصُبْحٍ، وما الإصباحُ منك بأَمْثَلِ


    فهذا الليل لطول زمنهِ، وكثافة ظلمته، وكثرة
    هُمومه، وشِدّة أهواله، ولمُلازِمة النَّاصِّ له، ولملازِمة الليل للنَّاصّ:
    مسافِراً يتسقَّطُ المجْد، وظاعِناً يحاول السُّؤُدْدُ، وأرِقاً يتجرّع العِشّق،
    وساهِراً يَحْتَسِي كؤوس الرَّاح، وشاعراً يلتمس بناتِ الشعر: اندمج في هذا الليل،
    واندمج الليل فيه، فذاب، ما كانَ بينهما من فروق: أحدهما إنسان حيّ عاقلٌ واعٍ،
    وأحدهما الآخر زمن مظلم غير عاقل ولا واع: فإذا هذا ذاك؛ وإذا ذاك هذا؛ وإذا
    النَّاصُّ يُلفي سبيلَه على ليله؛ فتنزاح له الحُجُب، وتتكشّف له الأسرار،
    وَيُؤْتَى من هذه الأسرار ما يُتيح له الفهمَ عن الليل؛ بل يُتيح له ما يجعله: يجعل
    هذا الليلَ يفهم عنه، وَيَعِيَ خطابه، ويستجيب لندائه... وإنه لِسِحْرُ الشعر! وإنه
    لَجمال النسْج الأدبي العبقريّ. وإنّها لَعُذْرِيَّةُ الخيال، ووحشيّة اللغة
    الشعريّة...


    وإذا كنا توقّفنا لدى نداء امرئ القيس، هذا،
    فلِمَا رأَيْنا من اشتماله على انزياح لغويّ عجيب، وانسياج نسْجيّ مبكِرٍّ في الشعر
    العربيّ. أمّا النداءات الأخراة وعلى كثرتها في معلّقة عمرو بن كلثوم مثلاً؛ فإنها
    لا تجاوز حدود الاستعمال المألوف الذي إن كان يعني قلقَاً وعجَبَاً، وَحيرةً
    وتطلّعاً؛ فإنه، مع ذلك، وعلى الرغم من ذلك، لا يستطيع أن يرقى إلى مستوى الاستعمال
    المنزاح، مثل قوله:



    أَبَا هِنْدٍ فلا تعْجَلْ عليْنا
    وأَنظِرْنا نُخَبِّرْكَ اليقينا؟


    وربما كان أجمل نداءات عمرو بن كلثوم حين قَرَنَ بين الاستفهام
    والنداء، في مثل قوله:



    بأيِّ مشيئةٍ، عمرو بْنَ هندٍ،

    تُطيع بنا الوُشاةَ، وتَزْدَرينا؟


    أمّا المظهر النسجيّ الآخر الجديرُ
    لِلَّتَوَقُفِ، والقمينُ للْمُلاحظة؛ فهو القَسَمُ الذي هو زينةٌ من زيناتِ النسج
    الأدبيّ في الأدب العربيّ: شعره ونثره. فقد كان الفصحاء يتفنّنون في هذه الأقسام،
    ويتأبَّهُونَ بها، ويتبجّحون باستعمالها لِمَا كانوا يُحسِّون، إحساساً فطريّاً،
    فيها من الجمال الدافق، والوهَج الطافح: فكانوا يسحرون المتلقّين سحراً، ويأْسرونهم
    أسْراً.


    فلا عجب أن نلفي هذه المعلّقاتِ تُنَمِّقُ
    نُسِوجَها ببعض هذه الأقسام فنلفيها تتكرّ‍ر لدى ثلاثة معلقّاتيّين هم طرفة، وزهير،
    وامرؤ القيس. بيد أنّها لم تكد تتكرّر لدى هؤلاء إلاّ عشرَ مرات: أربعاً لدى
    الأوّلين، واثنتَيْنِ لدى الآخر.


    وقد وردت تلك الأقسام في صورة العبارات التالية:


    *لعَمْرُكَ، ولَعَمْرِي(أربع مرات)،

    *آليت، وأقسمت، وحلفت (ثلاث مرات)،

    *يميناً، ويمين الله(مرتين اثنتين)،

    *وجَدِّكَ(مرة واحدة).


    وقد وردت هذه الأقسام الثمانية، لدى طرفة وزهير،
    على لساني هذين المعلقّاتيّين أنفسهما، بينما القَسَمان الاثنان الآخران الواردان
    في معلّقة امرئ القيس ورداً على لسان إحدى النساء اللواتي شبَّب بهنّ:



    *ويَوْماً على ظَهر الكثيب تعذَّرَتْ
    عَلَيّ، وآلَتْ حَلْفَةً لم تَحَلَّلِ
    *فقالت: يَمِينَ اللّهِ مالكَ حيلَةٌ

    وما إِنْ أَرَى عَنكَ الغِوايَةَ تَنْجَلِي


    ولكن يبدو أنّ القسم، هنا، ومن الوجهة الدلالية
    الخالصة، لا يعني الرفض، ولا يعني التقديس؛ بمقدار ما هو كلام تقوله المرأة حين
    تريد باطناً ولا تريد ظاهراً. فالتَّأَبِّي، والتَّأَلِيَّ لدى هذه المرأة لم يكن
    يُقْصَدُ منه التمنُّعُ الحقيقيّ، ولا التأييسُ منها، ولا التزهيدُ فيها؛ بمقدار ما
    كان ضَرْبَاً من الغَنَجِ والإِغراء بها، حتّى قيل: إنّ البيت الثاني هو أغنج بيت
    قيل في الشعر العربيّ على سبيل الإطلاق(18).


    فكأنّ النسيج الشعريّ لدى امرئ القيس أبداً
    يَسْتَمِيزُ عن النسوج الشعريّة لدى زملائه المعلّقاتيّين، ويتفرّد عنها، إن لاّ
    نقل يتسامى عليها. فالقَسَم لديه، هنا، مُنْزاحٌ لأنّه لا يحتمل ظاهِرَ الدلالة،
    بينما نلفي الأَلاَيَا، لدى طرفة وزهير، لا تخرج عن وَضْعِها اللغويّ، المألوف لدى
    الناس مثل قول زهير:



    فأقسمتُ بالبيتِ الذي طاف حوله
    رِجالٌ بَنَوْهُ مِنْ قُريشٍ وجُرْهُمِ
    يَميناً لَنِعْمَ السيّدان وجَدْتُما


    فالتَّالِيَّ، هنا في بيت زهير، مسلوكٌ في
    مَسْلَكِهِ المألوف؛ بحيث إنّ النَّاصُّ يُقْسِمُ يميناً بالبيت العتيق الذي كان
    تعاقب على بنائه أقوامٌ وأمم منها جُرْهُمٌ وقريش (ولأمر ما كانت قريش تؤثر شعرَ
    زهير على صِحَابِه، زاعمةً أنّه"لا يعاظِلُ بين الكلاميْن، ولا يتتبّع وحشيّ
    الكلام، ولايمدح أحداً بغير ما فيه" (19)، بينما قد يكون ذلك عائداً إلى أنّه لأنه
    ربما ذكر قريشاً في معلقته؛ وإلاّ فأين المُعَاظَلَة التي نجدها، مثلاً، في شعر
    امرئ القيس... فهناك شعراء لم يمدحو قطّ منهم عمرو بن كلثوم، وربما عنترة
    أيضاً(بينما مدائح امرئ القيس-وهي قليلة- لا يمكن أن ترقى إلى مستوى شعره في
    المعلّقة أو المطولّة-، فالمَدْح في مسألة تفضيل زهير غير وارد إذن، فلماذا ذكر؟
    إلا أن تكون المفاضلة كانت بينه وبين سَوَاءِ المعلقّاتِيّينَ، والحال أنها كانت
    بينه وبينهم؛ فهم أَكْفَاؤُه وأَنْدَادُه. وهناك شعراء ظلت لغة شعرهم جاريةً على
    كلّ لسان، ومعانيهم مسرعةً إلى كلّ جَنان؛ منهم امرؤ القيس، فأين الوحشيّة اللغويّة
    المزعومة التي تتحدّث عنها تلك الرواية...؟ وَلِمَ قَدَّمَ الرسولُ الكريم، صلى
    الله عليه وسلم، امرَأَ القيس(20)، ضمناً، بينما لم تقدّمه قريْشٌ...؟) إنّ هذين
    السيّدين اللذين هما هرم بن سنان، والحارث ابن عوف: لَكَرِيمان ماجدان، بسعيهما إلى
    وقف سَفْكِ الدماء"بين عبس وذبيان، وتحمّلهما أعباءَ دِيَاتِ القَتْلَى"(21).


    فالقَسَمْ، على شرف مستعملِه، لا يخرج هنا عن
    الإطار المألوف للنسْج الأدبيّ؛ فليس فيه خرّق ولا انْزِيَاحٌ. ومثل ذلك يقال في
    بقية الأَ‌لاَيَا الأخراةِ التي لا تكاد تخرج عن الاستعمال المألوف إلا ما رأينا من
    قَسَمَي امرئِ القيس على لسان فاطِمته.


    وعلى أنّ هناك مُزَخْرَفِاتٍ أخراةً صادفتنا ونحن
    نقرأ نصوص المعلّقات وهي التعجّب، والدُّعاء، والتحيّة والتمنّي... وقد صادَفنا بعض
    ذلك، خصوصاً، لدى زهير، وعنترة، ولبيد، وامرئِ القيس، وطرفة. ولكنّ ذلك كلّه لم
    يجاوز تسع مزخرفات مثل قول امرئ القيس حكايةً عن حبيبته وهي تدعو إليه: دعاء
    المتدلِلَّةِ المتغِنّجَة، الوامقة العاشقة، لا الحاقدة الحانقة؛ فكأنّها كانت،
    إذن،
    تدعو له:


    *فقالَتْ: لَكَ الوَيْلاتُ، إنَّكَ مُرْجِلي


    وهنا، أيضاً، نُلفي هذا الدعاءَ مارِقاً عن نظام
    الاسْتعمال المألوف، ونازحاً عن أصل الاستخدام المعروف: فإذا هو معدول به عن وضْعه
    الأصليّ. ذلك بأنّ الدعاء إمّا أن يكون عليك، وإمّا أن يكون لك؛ فإذا كان عليك فهو
    بالويل والثبور، وهو بالشقاء والتِّبارِ؛ وهو بكلّ ما هو سيّء ضار... وأمّا إذا كان
    لك فهو بالسَّقْيا والخَيْر، والرحمة والسعادة، والتوفيق والفَلَجْ. والويل، في
    ظاهره، مصروف إلى مصارف الشرّ، ومدفوع إلى وجوه الضَّيْر، لكنّ ذلك كله مجرّد
    مغالطة أسلوبيّة يحملها سطْح النسج: إذا كان السياق يقتضي أنّ الوبل، هنا، لا يزال
    يفقد من غُلُوَاءِ شِرّهِ وضيْره إلى أن يغتدِيَ مجرّدَ كلامٍ أبيضَ، أي إلى أن
    يغتدِيَ عبارةً تَحَبُّبٍ وَتَوَدُّدٍ، وقولَةِ إِغْراءٍ وتقرُّبٍ، وإعلانَ دُعاءٍ
    وتَوَمُّقٍ؛ فكأنَّ معنى هذا الدعاء الجميل: ارْفُقُ بِي أيها الحبيبُ الغالِ؛
    والتزِمْ شيْئاً من الحِذَارِ حينُ تُقَبِلُّني؛ وأنا في غبيطيَ الصغير؛ فإنّك توشك
    أن تُوقعني أَرْضَاً، وإنّي أخشى أن تَقَعَ، قبل أن أَقَعَ أنا أيْضاً، أرْضاً! ومع
    ذلك، فامْضِ فيما أنتَ فيه ماضٍ؛ فإني مُلْفِيَةٌ فيه اللذاذَةَ، ومُحِسَّةٌ فيه
    بالنعيم!... فامْضِ، إذن، فيما أنت فيه، وَلأُرْجَلْ، أثناء ذلك، أَلْفَ
    إِرْجَالَةٍ!...ويَحْكَ امْضِ... ويحك ادْنُ..


    ونُلْفِي زُهيراً يُحِيّي طَلَلَه الْبَالِ،
    وربْعَه الدارِسَ، فيخاطبه:



    فلَمَّا عرْفتُ الدارَ قلت لربْعِها، تَكَلَّمي
    أَلا عِمْ صباحاً، أيُّها الربْعُ، واسْلَمٍِ


    كما نلفي عنترة يخاطب حبيبته، يحيّيها، ويدعو لها:



    يا دارَ عَبْلَةَ، بالجَواءِ، تَكَلَّمِي
    وعِمِي صَباحاً، دارَ عَبْلَةَ، واسْلَمِي


    وقد يكون هذا البيت من أجمل الشعر العربيّ
    زخرفةً، فقد جمع فيه الناصّ بين عدّة مُزَخْرَفاتٍ:


    المزخرِفُ الأوّلُ يَمْثُلُ في النداء الذي تكرر
    مرتيْن اثنتين:


    يا دارَ...+ دار عَبْلَةَ (نداء بالياء، ونداء
    آخر بحذف حرف النداء).


    ولقدْ يمكن أن نُؤَوِّلَ استعمالَ أدَاةِ النداء
    أوّلاً، ثم العدول عنها آخِراً، في موقف واحد، وفي بيت واحد؛ لم يكن إلاّّ تجسيداً
    لِمَا كان يلتعج في نفسْ الشّخصية الشعريّة التي كانت ترى مُبْتَدأَ الأمِر، أنّ
    دار الحبيبة، فِعْلاً، بعيدةٌ من حيث الحيزُ، من أجل ذلك كان الأليقُ بالنسج
    استعمالَ أداة النداء الدالّة على بعيد. ولكن لَمَّا دَعا لدار الحبيبة، عاد في
    موقفه، وكأنه اسْتَحَى أنْ يُخاطِبَها بأداة النداء الدالّة على البعيد، فناداها،
    تارةً أخراةً، بوجهٍ آَخَرَ من الكلام، واصطنع زَخْرَفَةً دالة على الاقتراب
    والالتصاق؛ فكأنّ عَبْلَةَ كانت مستقِرَّة في نفسه، وكأنها كانت كَظِّلهِ لا
    تُزايلهِ، وتقارفه ولا تفارقه، فقال: دارَ عبلة...


    وأمّا المزخرِفُ الثاني فَيْمثُلُ في تَحيَّةِ
    الحبيبة والتسليم عليها، وقد اصطنع الناصّ عبارة أهل الجاهليّة في التحيّة، وهي:


    عِمِي صباحاً.

    والمزخرف الثالث يَمْثُلُ في الدعاء، وهو قوله:

    اسلَمِي!

    على حين أنّ المزخرِف الرابع يَمْثُل في استعمال
    الطَلب الوارد، ظاهريّاً، في صورة الأمر، وهو قوله:


    تَكَلَّمي.

    وعلى أنّ ذكر الحيز الذي كانت تقطنه عبلة أمرٌ
    واردٌ ضمن الإغراق في هذا التحبّب وهذا التومّق؛ إذْ ذِكْرُ المكان تخصيصٌ لِلاسْمْ؛
    فكأنّه ذِكْرٌ لَعَبْلَةَ مرتين اثنتين... فما يدري المتلِقّي وقد تكون العَبَلاَتُ
    كثيراتٍ... فلمّا خصّ عَبْلَتَه بمكان الجَواءِ، بمقامها زادَ دلالةَ التسميةِ
    تَخْصيصاً. وأمّا المزخرِف الذي يُحَسَّ ولا يَلْمَسُ، وَيُفْهَمَ ولا يُنْطَقُ؛
    فهو مخاطبةُ الشخصيّة الشعريّة ما لا يعقل إذا خاطب دارَ عبلة وكأنها كائِنٌ حَيٌّ
    عاقل يَفْهَم عنه، ويَسْمع منه، وذلك غاية الدَّلَهِ والسُّمود.... ونكاد نلاحظ في
    بيت زهير ما لاحظناه في بيت عنترة حيث إنّ النّاصّين يَدْعُوانِ من خلال الدعوة
    لداريَ الحبيبتيْن، في الحقيقة، للحبيبتيْن...


    إحالات وتعليقات


    1. ابن منظور، لسان العرب، حقق.
    2. م. م. س.
    3. ديوان المتنبي(شرح البرقوقي)، 4.
      43- 61 .

    4. زكيّ مبارك، مقدمة زهر الآداب،
      1. 6-9.

    5. أحمد مصطفى المراغي، علوم
      البلاغة، 219- 220. وعلى أنّ الشيخ خرج في تقرير هذه المسألة من التشبيه إلى
      وجه آخر من الكلام.

    6. ابن طباطبا، عيار الشعر، ص. 15
      وما بعدها.

    7. ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر
      وآدابه ونقده، 1. 43 .

    8. الزمخشري، الكشّاف عن حقائق
      غوامض التنزيل، وعيون الأقاويل، في وجوه التأويل، 1. 2.

    9. سورة هود، الآية: 41، وانظر
      الزمخشري، م.م.س، 2. 394 - 395.

    10. الجاحظ، البيان والتبيين، 1. 58-
      59 .

    11. م. س.، 1. 297- 298
    12. م. س.، 2. 142 .
    13. سورة الرحمن، الآية: 1.
    14. سورة النور، الآية: 45 .
    15. عبد الملك مرتاض، القصّة في
      الأدب العربي القديم، 37 -88.

    16. الزوزني، شرح المعلّقات السبع،
      155 .

    17. ابن قتيبة، الشعر والشعراء، 1.
      118.

    18. الزوزنيّ، م. م. س.، 18 .
    19. أبو زيد القرشيّ، جمهرة أشعار
      العرب، 25؛ وابن قتيبة، م. م. س، 1. 76-81 .

    20. القرشيّ، م. س.

    الزوزنيّ، م. م. س.، 78 .







      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس مايو 16, 2024 4:35 pm