منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    الأسلوبية في النقد والحداثة

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    الأسلوبية في النقد والحداثة Empty الأسلوبية في النقد والحداثة

    مُساهمة   الأحد نوفمبر 01, 2009 12:51 pm

    الأسلوبية فــــــــي "النقد والحداثة" للدكتور عبد السلام المسدي
    الكاتب: ذ.سعيد عبيد

    ذ.سعيد عبيدمقدمة: كما يتبدّى جليا من عنوان المؤلَّف قيد الدرس: "النقد والحداثة"، فإن هذا الكتاب النقدي الذي جمع بين التنظير والتطبيق، يُعد من أوائل المؤلفات العربية التي جاءت تبشر بـ"الحداثة النقدية "التي تَصوّرها دعاتُها بمثابة اصطناع المناهج "العلمية" الغربية الحديثة، بدل الاحتكام إلى الذوق، والاستناد إلى الحدس والسليقة، بحثا عن عَلمنة الخطاب النقدي على غرار باقي الخطابات في باقي العلوم الإنسانية.

    وإذا كان الكتاب المدروس في هذه الورقات يثير من القضايا النقدية والبلاغية والفكرية الشيء الكثير، فإن جانب المنهج هو المقصود من وراء دراسته. لذلك انعقدت النية –في البداية- على إيفاء هذا الجانب حقه من الفحص والمحص، تحليلا ومناقشة ونقدا وتقييما؛ غير أن إكراه الوقت حال دون بلوغ ذاك الهدف العلمي الأسمى، فاكتفى الباحث –بعد القراءة الحرفية الفاحصة للكتاب- بإثارة بعض القضايا ذات العلاقة بموضوع المنهج المعتمد، في نوع من التكثيف والاختزال. ولعل النقاش المنتظر حول منهج المؤلَّف وقضاياه سيتكلف بسد ثغرات هذا البحث ونقائصه.
    وباستثناء المقدمة غير ذات البال، والبيبليوغرافيا الخارجة عن هدف البحث، فإن الورقات الآتيات ستقدم عرضا لمجمل الفصول الخمسة المكوَّنة منها الدراسة، قبل أن تثير بعض قضايا المنهج ومشكلاته فيها... وإنْ ذلك إلا جُهْدُ المُقِلِّ.

    الفصل الأول: الحداثة بين الأدب والنقد:
    مدار هذا الفصل على أمرين اثنين: أولهما ما يتعلق بما دعاه المسدي "أعراض الحداثة"؛ وثانيهما البنية المفهومية لهذه الحداثة في الأدب والنقد، ومحاولة الباحث توصيفها وتدريجها.
    يُستهل الحديث في المبحث الأول أعلاه، بتقرير أن الحداثة مقولة ذهنية كونية، فهي –إذاً- من المقولات التي يصوغها العقل، ثم يتخذها أدوات إدراكية وآلات تصنيفية يسلطها على كل ما هو ساعٍ لإدراكه . بيد أن الباحث يستدرك على هذا التحديد المطلق، بما هو واقع في واقعنا العربي من التباس مركَّب حول هذا المصطلح ومفهومه؛ فعلى مستوى اللغة، يقع التلابس بين اعتبار لفظ (الحداثة) مصدراً، وبين اعتباره وصفا أو اسما خالص الاسمية. أما على صعيد المعنى، فتتعدد المعاني والمفاهيم المعطاة إلى درجة أنها قد تتجاوز درجة التنوع والاختلاف، إلى درجة التعارض، و"الحاصل من كل ذلك التلابس أن "الحداثة" عندنا مفهوم يوظف عند الاستخدام توظيفا يحمِّله المعنى وضدّه، فيغدو مطية لمحامل دلالية متدرجة"، بين معاملته معاملة المشترك اللفظي، ومعاملته معاملة المصطلح الفني، واعتباره دالا على مقولة ذهنية، أو مجرّد شعار ثوري، أو قد يساق للإبهام والإلغاز ليس إلا. بل إنه –أحيانا- يُحمل على الحكم المعياري عند القدح فيما ليس حداثة. وسط هذا التضارب والتعاظل الاصطلاحي، يتعذّر أي تأسيس لـ"معضلة الحداثة"، لذلك يضطلع الباحث –أول ما يضطلع به- بفك بعض الملابسات عن المفهوم، قبل سعيه لضبطه وتدقيقه.
    أول هذه الملابسات الملازمة لمفهوم "الحداثة"، ارتباطه بالزمن الحاضر، وهذا ما يفنّده المسدي بقوله:"فكرة الحداثة -في أصلها- لا ترتهن بمجال الزمن الحاضر ضرورة، إذ يمكن لها أن تتجول على أطراف المحور الفيزيائي" . بين الماضي والحاضر والمستقبل، أي يمكن لها أن تحقق على محور الزمن المطلق أو الافتراضي، في تفاعل بين هذا المفهوم الزمني، وبين مفهومها الذهني الذي بيّناه أعلاه، و"الذي يخلص من هذا التفاعل العضوي... هو أن نواة الكثافة الدلالية المحدّدة لمفهوم الحداثة كامنة في مبدإ النسبية"، نسبية الزمن والاعتبار، ونسبية الحكم والحقيقة، ونسبية التصور والتصديق، و أكثر من ذلك نسبية المرجع نفسه الذي تستند إليه. انطلاقا من رفع هذا اللبس الأولي عن مفهوم الحداثة، يتضح تضارب ما يستعمل عادة من تراكيب، من مثل "الحداثة والتراث"، و"مصير الحداثة"، و"تاريخ الحداثة"...
    اللبس الثاني الملازم للمفهوم عندنا، هو ذاك الاختلاط الحاصل بين مفهومي "القراءة والحداثة"، ومردُّه إلى اتساع مفهوم "القراءة" نفسه، إذ يمتد من أبسط عمليات النقد (التذوق و الموازنة ...) إلى أرقى صيغ التجريد في المبادئ والأحكام. وحتى لا يختلط المفهومان، يقترح المسدي اعتبار كل من "الحداثة" و"القراءة" مقولتين منهجيتين، لكل واحدة منهما جوهرها المفهومي (نظرياً)، وقدرتها الإجرائية (تطبيقيا). أما موطن التقابل بين هاتين المقولتين المنهجيتين فكامنٌ في كون منهج القراءة يتدرّج على سلم ثلاثي أول مدارجه التنظيرُ، (أي الاستناد إلى رصيد فلسفي أو غيره)، وثانيها المواصفة (أي الحوار الجدلي بين المنطلق النظري والنص المراد قراءته)، وثالثها الممارسة (أي مباشرة الفحص والتحليل).
    أما منهج الحداثة "فإنه إذ يحتفظ بنفس [هذه] المنظومة الثلاثية، يعكس ترتيب مدارجها...[فـ]ينطلق من الممارسة التي توحي بالعدول عن النمط السائد، والمعيار المطّرد، فيتجه صوب المواصفة لتفسير هذا التجاوز والانزياح، إلى أن يستقر في التنظير حيث يؤسس قواعد الحداثة باعتبارها تجديدا للرؤية".
    وثالث قضايا الحداثة عند العرب المحدثين، هو الغموض المصاحب لها. ومرد ذلك الإبهام –في نظر الباحث إلى أمرين اثنين: -غياب الملفوظ: ومعناه ضبابية اللغة المستعملة من لدن المبدع أو الناقد. –فرط حضور الدال: ومعناه الإغراق في الحديث عن الحداثة دون تحديد المقصود من تلك الحداثة. "وبين الغياب وفرط الحضور، تتراكب سجوف بين المتلقي والمقاصد، فيغدو الكلام ضبابا، وينشأ الغموض" العاقر لا المخْصِب.
    كان ذلك اختزالا للمبحث الأول من هذا الفصل، أما المبحث الثاني فقد تمحور حول البنية المفهومية لـ"الحداثة"، معتبرا أنها بنية "تتركب من ثنائيتين متداخلتين: فهي- من جهة – تذعن لثنائية الأدب والنقد؛ وهي –من جهة ثانية- وفي نفس الوقت، ترتهن بثنائية المضمون والصياغة". أو لنقل "إن مقولة الحداثة تتأسس على ازدواج قاعدي، يركبه ازدواج فوقي؛ فالازدواج الأول طرفاه الأدب من حيث هو نص إبداعي، والنقد من حيث هو كلام في الأدب؛ والازدواج الثاني طرفاه مضمون ما يقال –سواء في النص الأدبي أو في النص النقدي- وصيغة ما يقال به هذا أو ذاك". وتفصيل ذلك أن:
    1- "الحداثة في مضمون الأدب تعني سعي الأديب إلى معالجة الأغراض الفنية التي تحرره من تبعية التواتر المألوف".
    2- "أما الحداثة في الصياغة فتتحدد بمدى قدرة الأديب على ابتكار أسلوبه الأدائي، مما لا يتقيد بأنماط سائدة، ولا معايير مطّردة" ؛ ولذلك مراتب ومظاهر، كالتحديث في البناء اللغوي (الألفاظ والعلاقات بينها، والأسلوب...)، وكالتحديث على مستوى الشكل الفني (إما ابتكارا، وإما كسرا للحواجز بين الأنواع الأدبية...). و أظهر نموذج لهذا التحديث " حركة الحداثة في الشعر [ التي ] إنما ترسخت يوم فجرت قوالب الصوغ، و ابتعثت مسالك جديدة في الأداء التعبيري".
    وبعد بيان المسدي مفهومَ النقد عنده، وتوضيحه سلطةَ النقد المعرفية على الحركة الفكرية والأدبية، وكذا اشتغاله بالوسيلة كما بالغاية، (أي جمعه بين الوصفية والمعيارية) اللتين بهما تكتمل هويتُه... يتابع بيان مظهري حداثة النقد:
    3- فمن حيث مضمون النقد، يجزم الباحث "أن النقد لا يتجدد إلا إذا تجدَّدَ نظامه المفهومي، ...[و] "يستحدث" جهازا معرفيا يباشر به النص الأدبي، كما لم يباشره به السابقون". ومن هذا الصنف التنظيرُ الذي يفترض الباحث أنه "قطب الرحى لحداثتنا المعاصرة، في ضوئه يمارس الشرحُ، ويحد النص، وترسم أدبية الإبداع".
    4- أما حداثة صياغة النقد، فتعني لغته أساسا. فتحديث لغة النقد ضرورة - عند المسدي- لذلك يدعو إلى ابتكار مصطلحات نقدية جديدة، ويرفض –بالمقابل- الاقتصار على تجديد المفاهيم، ثم إرغامها على لبس ثياب المصطلحات القائمة... إن الباحث يدعو –فوق ذلك- النقدَ إلى ابتكار لغة ونمط تعبيري لخطابه، في بحثه عن أسرار أدبية النص، فيصير –بذلك- هو أيضا ذا حدّ أدنى من تلك "الأدبية" و"الإبداعية". وبعبارة أوجز، يصير النقد بحثا باللغة عن اللغة التي تبحث عن اللغة [أو في اللغة]، فتجمع لغة النقد بذلك بين الوصف والإبداع، فتحتاج إلى نقد آخر يفسرها ويؤولها... والمسدي –في هذا- يتبنَّى وظيفتي اللغة: الانعكاسية (الحديث باللغة عن اللغة)، والشعرية (وهي التي تكون فيها اللغة مقصودة لذاتها عند التأليف، فتتحول إلى نسيج ثخن حاجز يستوقف الذهن، بدل أن تكون تقريرية شفافة عما وراءها)، كما وردتا عند ياكوبسون. ومن كل هذا يتحصلُ أن النص النقدي يصيرُ –بدوره- نصا إبداعيا آخر من خلال تناوله نصا إبداعيا أوليا.
    بعد هذا البيان لمكامن الحداثة في النقد الأدب، يقوم الباحث بحصر الاحتمالات الممكنة لحداثتهما انطلاقا من المقوّمات الأربعة السالف بيانها، فيتحصل لديه ستة عشر 16 احتمالا، يستعرضها تنازليا، بدءا بالمرتبة السادسة عشرة التي تمثل –في الحقيقة- عتبة خارج باب الظاهرة الحداثية، لأن "الأركان الأربعة خالية جميعا من مقوّم الحداثة في دلالة الأدب ولغته، ومقولات النقد وصياغته"، وانتهاءً بالمرتبة الأولى التي "هي سنم الحداثة، وبؤرة الكثب في إبداعية النقد ساعة تلتف على إبداعية الأدب"، فكلاهما –فيها- مُبدعٌ، أسلوبا ومقولات. وعند هذه المرتبة يكون قد تحقق الانتقال من "نص الأدب إلى نقد الأدب، ومن نقد الأدب إلى أدب النقد، ومن أدب النقد إلى نص النقد. فإذا بالحداثة –في آخر مطافها- راسية على نص النص الذي هو مفتاح لنقد النقد".

    الفصل الثاني: اللسانيات ولغة الأدب:
    يسعى هذا الفصل إلى بيان التآزر الحاصل بين اللسانيات بمختلف مدارسها، وبين النقد الحديث؛ كما يوضح بعض المرتكزات اللسانية التي أضحت تشكل أسس "نظرية الخطاب الأدبي".
    يستهل الباحث هذا الفصل بتقرير مسألة غزو الثورة العلمية جميع مناحي الحياة، ومن هذه المناحي العلومُ الإنسانية، بما في ذلك الأدب والنقد. ومنبع تماس الأدب بالعلم هو ما أضحى يسمى "علم اللسان"، ولا سيما عند تفاعله مع الطريقة البنيوية، مما جعل اللسانيات هذه تدخل –بتفاعلها هذا- طورا جديدا في تاريخها. وهكذا أضحى الدرس الأدبي المتأثر باللسانيات البنيوية في أمس الحاجة إلى تتبع مكتشفات اللغويين في مختلف مشاربها واختصاصاتها اللغويةن بحثا عن الانضباط الموضوعي، والتدقيق العلماني، والتقنين لأدبية الأدب.
    وهكذا صارت اللسانيات العامة الرّافد الرئيس، بل الأول، لناقد الأدب. وغني عن الذكر أن هذه اللسانيات "تختص بالبحث عن مقومات الكلام باعتباره ظاهرة بشرية مطلقة، بغية تحسس النواميس المشتركة الرابطة بين مختلف أبنية الخطاب". ومن مظاهر تفاعل النقد الحديث مع هاته النظرية تكسير ثنائية مرتبتي الكلام: مرتبة الاستعمال النفعي، ومرتبة التكريس الفني، وإقامة اللسانيات تصنيفا آخر مكانه: تصنيفا توليديا لا يتحدّدُ عدداً بين الأدب وغير الأدب، وإنما نوعا وكيفا. وبذلك أصبح الخطاب الأدبي مجرّد نوع من أنواع كثيرة: الخطاب الديني والخطاب القانوني والخطاب السياسي... "ومعنى هذا التصنيف أن الدراسة فيه تنطلق من فرضية مبدئية تتمثل في القول بوجود خصائص قارة تتحكم في كل صنف من تلك الأصناف، حسب نوعيته، فتجدها قائمة في نسيجه مهما كان انتماؤه مكانا وزمانا". .
    وإلى جانب استثمار النقد الحديث لمكتسبات اللسانيات العامة، أضحى يستلهم من "علم الدلالة" مناهجه واختياراته. "ورغم المفارقات الجوهرية التي تفصل بين أمهات النظريات في هذا العلم [ولا سيما في ماهية الدلالة]، فإن النقد الحديث قد وجد في جميعها معينا خصبا زَوّده بتقديرات دقيقة"، وخاصة في استعانته بالعناصر الستة لجهاز التواصل: الباثّ والمتلقي والسياق وأداة الاتصال ومجموع السَّنن والرسالة.
    ومن العلوم التي رفدت النقد الحديث كذلك "علم العلامات" أو "السيميائيات" التي تعكف "على دراسة أنظمة العلامات مما يفهم به البشر بعضهم عن بعض"، باعتبارها اللغة نظاما من العلامات قبل كل شيء.
    ويبدو المسدي متحمسا لتفاعل النقد مع هذه العلوم، عاقدا أملا كبيرا على نتيجة ذلك التفاعل المتمثلة "في بروز المنهج الاختباري المتكامل الذي يسمح بتحديد أدبية الخطاب الفني"، مما لا يتحقق إلا بتضافر جهود عالم اللسان وعالم الأدب.
    بناء على ما تقدم، يجلّي الباحث بعض المنطلقات النظرية لما دعاه "نظرية الخطاب الأدبي" الحاصلة من التفاعل السابق ذكرُه.
    أولى تلك المنطلقات "اعتبار اللغة قائمة على وظيفة دلالية هي بمثابة الرباط الحتمي الحاصل من مجموع الألفاظ الواردة في الكلام... وينتج عن هذا التقدير –بطبيعة الحال- أن النظرية الأدبية في النقد تحتكم رأسا إلى البعد اللغوي في النص"، دون الأبعاد التاريخية والنفسية وغيرها. وثاني المنطلقات "دراسة الخصائص اللغوية التي بها يتحول الخطاب عن سياقه الإخباري إلى وظيفته التأثيرية والجمالية". وثالثها تفادي الثنائية المصطنعة: لغة الأدب ومضمونه.
    ورابعها السعيُ إلى استقصاء بصمات الشحن التأثيري في النص، إذ العمل يدور على ما في لغة النص من جانب تصويري أو عاطفي لاستقصاء كثافته الشعورية في ذلك الاستعمال النوعي". وخامس تلك المنطلقات اعتبارُ الكاتب هو صاحب البث في الرسالة الإبداعية، "لا يتسنى له الإفصاح عن حسه ولا تصويره للوجود إلا انطلاقا من تركيب الأدوات اللغوية تركيبا يفضي إلى صوغ الصورة المقصودة والانفعال المقصود."
    ويعمل المسدي على إكساب استناد النقد على اللسانيات مشروعية منهجية، فيلتمسها في "أن اللسانيات قد حّددت اللغة بكونها ظاهرة اجتماعية وكائنا حيا، مع اعتبار أنها تركيبة قائمة في ذاتها؛ أي إنها "كلٌّ" يقوم على ظواهر مترابطة العناصر، ماهيةُ كل عنصر وقْفٌ على بقية العناصر، بحيث لا يتحدَّد أحدها إلا بعلاقته بالعناصر الأخرى، فتكون اللغة جهازا تنتظم في كيانه عناصر مترابطة عضويا، بحيث لا يتغير عنصر إلا انجرَّ عن تغيره تغيُّرُ وضع بقية العناصر، وبالتالي كل الجهاز". ونتيجة هذا التصور أن سمة الأدبية في النص "لم تعد محصورة في بعض أجزائه دون أخرى، ولا فيما يتولّد عن بعضها من صور وانزياحات، وإنما هي ثمرة لكل بناء النص، حتى ولو تجلّت في شكل مقطع مُحدَّدٍ منه...[إنها] مِلك مشاع بين جميع أجزائه، لأنها وليدة التركيبة الكلية لجهازه، انطلاقا من الروابط القائمة فيه، والضابطة لخصائصه البنيوية".
    هكذا فرضت اللسانيات العامة تصوّرها ومنهجها على النقد، كما فرضت السيميائيات اعتبار الهيكل الكلي للنص نفسه أداة من أدوات التخاطب متميزةً عن الأداة اللغوية الأولى: (فاستخدام السجع مثلا علامة، واختيار نظام التفعيلة علامة، والرسم بالكلمات علامة...)، وكما فرضت نظرية علم الدلالة عليه اعتبار أدبية النص نابعة من تغلب الوظيفة الشعرية على باقي الوظائف الإبلاغية في اللغة، فراح يفكك العناصر المكوّنة لجهاز النص لتتبع ما يحدث بينها عند التفاعل، وما ينقطع عند الانفصال.
    وعلى اعتبار أن اللغة ذات وظيفتين: وظيفة إخبارية تصريحية تستمد قدرتها من الدلالة الذاتية للألفاظ، ووظيفة إيحائية تستمد معناها من الدلالات السياقية التي تحمل اللغة بكثافات متنوعة، "فإن السمة الإبداعية في الخطاب الأدبي، تتحدد بنسيج الروابط بين الطاقتين التعبيريتين: طاقة الإخبار وطاقة الإيحاء" ؛ ذلك بأن الظاهرة اللغوية ائتلاف بين الألفاظ في ذاتها، وانتظامها في تركيب معيّن.
    و في ختام هذا الفصل، يضيف الباحث مبدأ آخر من مبادئ نظرية الخطاب الأدبي، هو " اعتبار الطاقة الإبداعية متولدة مما توقعه في نظام اللغة من اضطراب يصبح هو نفسه جديدا. فالسمة الفنية هي – إذا – حصيلة المفارقات التي نلاحظها بين نظام التركيب اللغوي للخطاب الأدبي، و غيره من الأنظمة اللغوية " ، أو هو ذاك "اللحن المحبب" المقصود.

    الفصل الثالث: في تعريف الخطاب الأدبي:
    خصص الباحث هذا الفصل لطرح كثير من وجهات نظر الباحثين الأسلوبيين الغربيين حول تعريف الخطاب الأدبي ومكوناته. ورغم أنه حاول في البداية استخلاص الجوهر الجامع بين مختلف تلك التيارات (بالي، اسبيتزر، ريفاتير، كولين، ستاروبينسكي، جماعة MU، جاكوبسون...)، فإن استعراضه بعد ذلك لآرائهم تميز بالتكرار والاستطراد.
    يقرّر المسدي –في البدء- أن للغة وجهين: عاطفي ذاتي، واجتماعي؛ غير أن الوجه العاطفي هو الأطغى على عملية التفكير –فالتعبير- عند الإنسان، أكثر من الوجه العقلي. ويقرّر كذلك أن التقديرات الأسلوبية تتجه نحو لغة الخطاب العادي اليومي، لا لغة الأثر الأدبي؛ "إن لغة التخاطب عندنا هي التعبير العضوي عن الأفكار المتصلة بواقع الحياة، بعيدا عن كل تأمل معقّد". وذلك لأن الاستعمال يخرج اللغة من عالمها الافتراضي إلى حيز الوجود اللغوي... فالأسلوب هو الاستعمال ذاته. كما يضيف الباحث أن الاقتصار على إبراز العلاقات اللسانية بين الألفاظ غير كافٍ. لذلك على الأسلوبية أن تكتشف العلاقات الجامعة بين التفكير والتعبير معاً. انطلاقا من هاته العناصر يصل إلى ما يأتي:"ولمَّا كانت الشحنة العاطفية هي الغالبة في الكلام، وأن الجانب الذهني فيها دونها بكثير، فإن الأسلوبية تتحدَّدُ بدراسة ظواهر التعبير، وفعل ظواهر الكلام على الحساسية؛ فكل فكرة تتجسد كلاما، إنما تحل فيه من خلال وضع عاطفي، سواء أكان ذلك من منظور من بثها، أم من منظور من تلقاها. وعلى هذا، فإن العمل الأسلوبي ينبغي أن يتتبع –أولا- الشحن العاطفي في الكلام، ثم يدرس خصائص الأداء انطلاقا من دراسة نفسية للغة، تبتغي ملاحظة ما يحدث في عقل المتكلم لدى تعبيره. وهنا تتم الاستعانة بطريقتين (لاستخراج تلك الخصائص): طريقة مقارنتها بوسائل تعبير أخرى (مقارنة خارجية)، وطريقة مقارنتها بأنماط تعبيرية فيما بينها، داخل اللغة و الظروف نفسها. وبعد الوقوف على الخصائص التعبيرية بفضل تينك المقارنتين، نتوصل إلى تعيين الكثافة العاطفية اعتمادا على مفعولها، وهذا المفعول ضربان:- مفعول طبيعي ينتج عن نوعية البنى اللغوية في حد ذاتها، (مثل اختلاف آثار صيغ التصغير: تحقير أو تحبيب أو تقريب... ومثل اختلاف آثار تركيب الأصوات...) –مفعول مصاحب: وهو ما تحمله الكلمات ضمنيا من إشارة إلى الباث، أو إلى الباث والمتلقي معا: (كمعرفة البيئة الاجتماعية، أو الوسط المهني، أو غيرهما، انطلاقا من استعمال المتكلم مستوى معين من اللغة دون آخر، أو أنماط تعبيرية مخصوصة...). وهكذا يحصر المسدي مهمة دراسة الأسلوب في "البحث عن الأنماط التعبيرية التي استعملت في ظرف معين لأداءٍ ما للفكرة والعاطفة من المتكلم الباث... كما تتحدد كذلك في دراسة الأثر الذي يحدث بصفة عفوية لدى السامعين المتقبلين".
    بعد ذلك يدعو المسدي إلى وجوب تضافر النقد واللسانيات عن طريق علم الأسلوب، رفضا للتجزئة التقليدية بين هذه التعاضدات. هذا التعاضد يظهر في أن اللسانيات تهب الأسلوبية ثمار بحثها لتستثمرها؛ فالمعارف اللغوية المتعلقة بكيفية تكون الأسلوب تحتفظ بقيمة المؤشر الموصل إلى كشف أسباب الاستعمال، مما يفضي إلى دراسة الظواهر الأدائية، فإلى استشفاف الأسلوب الخاص"، الذي بواسطته تتميز شخصية الأديب.
    كما يدعو الباحث إلى تعضيد العمل الأسلوبي بعلم الدلالة، لأن الأثر الأدبي تنكشف فيه الدلالات الخارجية للكلمات؛ فهذه الكلمات تحمل بصمات مبدعيها، كما تحمل –في الوقت نفسه - بصمات حضارتهم وثقافتهم... لذلك وجب النظر إلى الآثار الفنية –أولا- كعوالم مغلقة مستقلة، ثم –ثانيا- تلاحظ من وجهة التطور التاريخي. "إن أسلوبيةً تخلو من المعلومات التاريخية، لهي أسلوبية مقفرة؛ وإن نقدا يغرف في تاريخ الأفكار، فيبالغ في الاهتمام بجزئيات دلالية مكرسا آثارا ثانوية على حساب الآثار الخالدة لهُوَ نقد منحرف".
    ومن بين مبادئ الأسلوبية التي يعتني المسدي بذكرها: -فرادة الأثر الفني؛ فكل أثر فريد لا يقاس عليه غيره. –وجوب الانطلاق من الأثر ذاته، لا من انطباعاتنا حوله.- وحدة كل أثر و تماسكه بفعل فكر صاحبه الذي هو الخيط الناظم له؛ فكأن الفكر شمس، وكأن الأطراف الأخرى من لغة وتركيب وصور كواكب تدور في فلك ذاك الجوهر.- الانطلاق من الجزئيات داخل النص للنفاذ إلى الأثر برمته، والكشف عن خصائصه.-إدراج الأثر ضمن المجموعة التي ينتمي إليها زمنيا، لأن الكاتب صورة من روح زمنه... وكل ذلك يكون مفتاحنا إليه هو "الحدس" أو "التعاطف" مع الأثر، و"هذا الحدس ثمرة كفاءة الناقد وتجاربه، إذ هو ومضة ذهنية نصيب بها سويّ الطريق في العمل النقدي".
    بعد هذا التفصيل لأسس الأسلوبية وعملها، يقوم الباحث بجرد بعض آراء كبار الأسلوبيين الغربيين حول مسائل مختلفة بخصوص هذه النظرية النقدية. وأبرز هذه الآراء اعتبار أن الوظيفة الأسلوبية هي وحدها الموجّهة للرسالة الأدبية، على حين توجّه الوظائف الخمس الأخرى إلى شيء خارج الرسالة. وكذلك اعتبار الاستعانة بالقارئ أمرا مهما، على اعتبار أنه المدرك للأدوات الأسلوبية المركبة بطريقة متميزة، في خطاب فني ما، رغم ما يعترض هذه الاستعانة من صعوبات تكمن –أساسا- في اختلاف مقاييس القراء باختلاف أذواقهم وثقافات عصورهم. كما يقرّر الباحث أن قيمة كل خاصية أسلوبية تتناسب مع حدّة المفاجأة التي تُحدثها تناسبا طرديا، بحيث كلما كانت المفاجأة غير متوقعة، كان التأثير أعمق (إخراج اللامنتظر من المنتظر). وكذلك يقرّر ما سماه مبدأ التشبُّع، ومعناه أن الطاقة التأثيرية لخاصية أسلوبية ما تتناسب عكسيا مع تواترها، فالتكرر يفقدها شحنتها التأثيرية تدريجيا. كما يقرّر أن العدول عن المتعارف عليه من اللغة من خصائص الظاهرة الأسلوبية؛ وهنا يقترح العدول عن السياق بدل العدول عن القاعدة العامة للغة، والسياق يختلف من نص إلى آخر. ومؤدى هذا الاقتراح عدم اعتبار أي خروج عن القاعدة العامة حدثا أسلوبيا، واعتبار كل تأثير أسلوبي ليس بالضرورة خروجا عن القاعدة؛ فالسياق هنا هو المعتبرُ، لذلك فالتحليل الأسلوبي يهتم بدراسة ما هو في علاقة تقابل مع السياق، أي في تقابل العناصر التي ينتج عنها الحدث الأسلوبي مع بقية عناصر السياق"، كما قرره ريفاتير.
    ويتابع الباحث استعراضه لمختلف آراء الأسلوبيين الكبار، منبها إلى ما بين الأسلوبية والبلاغة القديمة من ائتلاف ومن اختلاف. فإذا كانت كلتاهما تتناول موضوعا واحداً: فن الكتابة وفن التركيب، فإن ثمة فوارق جوهرية بينهما، مما يستحيل معه أي جمع بينهما. فمنحى البلاغة متعال، بينما تتجه الأسلوبية اتجاها اختياريا؛ وذلك أنه إذا كانت البلاغة القديمة تنطلق من نماذج بلاغية متعالية، ومن ثمة فالماهية أسبقُ عندها من الوجود، فإن الأسلوبية تتسم بتصور وجودي، حيث لا تتحدّد ماهية الأشياء إلا بوجودها. كما أن المفارقة بينهما تكمن في أن البلاغة علم معياري حكمي تقييمي تعليمي، بينما الأسلوبية تتقيد بقيود المنهج الوصفي الذي لا يسعى إلى تقييم ولا إلى حكم ولا إلى تعليم. ثم يشيد المسدي –أخيرا- بصرامة المنهج الأسلوبي ودقته، رغم ما يعتري إجراءاته ومصطلحاته من تردُّد.

    الفصل الرابع: التضافر الأسلوبي وإبداعية الشعر: أنموذج "ولد الهُدى":
    الفصل الحالي معاضدة للتنظير بالتطبيق دفاعا عن حداثة المعرفة النقدية وشرعيتها. وقبل الشروع في الدراسة الأسلوبية للنص المقترح، يوضح المسدي اتجاهي الأسلوبية: الاتجاه التطبيقي الذي نشأ عقب الاستقراء، والاتجاه التنظيري الذي تولد من الاستنباط. ويبين أن وجهات النظر في الاتجاه الأول هي من الكثرة بحيث يكاد يكون لكل دارس أسلوبي اتجاهه الخاص، "ولكنها تتلخص –كما بدا لنا من استقراء إجمالي- في اتجاهين كبيرين":
    أما الاتجاه الأول فهو "أسلوبية التحليل الأصغر"، أو ما يسميه "أسلوبية السياق"، وكذا "أسلوبية الوقائع"، (لاهتمامها بالوقائع الفنية في حقلها الضيق). وفي هذا الاتجاه، يعمد الباحث الأسلوبي إلى "الوقوف على كل حدث تأثيري يعرض له في تتبعه النصَّ الأدبي، فيفصل القول في مقوّماته بحثا عن السمات التي حولت مادته اللغوية إلى مادة أسلوبية.
    وأما الاتجاه الثاني، فهو "أسلوبية السياق الأكبر"، أو "أسلوبية الأثر"، أو "أسلوبية الظواهر"، (لاهتمامها بالظاهرة الفنية التي يجسمها الأثر الواردة فيه)؛ ويهتم فيها الباحث بالإقبال على الأثر دفعة واحدة، سعيا إلى استكناه خصائصه الأسلوبية، متراوحا بين الاستقراء والاستنتاج في حركة دائمة، منطلقا تارة من الوقائع اللغوية، وتارة أخرى من الخاصية التي يستشفها من النص، فيعطف بها على أطراف النص الأخرى، استقصاء لما يدعمها بعد تمحيصها.
    وبعد أن يعترف المسدي بالمأزق الذي وقعت فيه الأسلوبيتان التطبيقيتان من حيث عدم إمدادهما الأسلوبية التنظيرية بما تستطيع به تحقيق هدفها الأسمى الذي هو تفسير أدبية الخطاب الإبداعي، وتحديد هوية الأسلوب؛ إذ هناك قطيعة بين الطرفين، يذكر أنه سينطلق –في عمله الأسلوبي- من موقع النقد لمواضع الوهَن في الاتجاهين معا، ومن ثمة فإنه يقترح وصل ما انفصل، وردم المسافة الفاصلة بين أسلوبيتي الأثر والسياق، وذلك باقتراحه ما دعاه "أسلوبية النماذج"؛ يقول:"وبين هذه وتلك مجال لتصور نمط جديد تحت مجال الأسلوبية التطبيقية، إذ يمتثل لقواعد العمل الميداني، ولكنه يسعى إلى إدراك محور الدوران بين الجزء والكل، فيصطنِعُ جسرا من التواصل يفيد فيه الشرحُ النصي قواعدَ التأسيس النظري". وهذا النمط التوفيقي سيعين الباحثين الأسلوبيين على تجميع النماذج الإبداعية، لاستكناه حقائق الإبداع، والإمساك بزمام أدبية الخطاب الأدبي.
    في بداية دراسته التطبيق لهمزية شوقي في مدح الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم، يذكر المسدي أن الاستقراء الأولي لأنماط الصوغ الإبداعي قد أوقفه على جملة من النماذج التركيبية التي تنتظم وفقها مكوّنات الأسلوب، وهي "التفاصل" و"التداخل" و"التراكب". غير أن مطوّلة شوقي أوقفته على نموذج آخر سماه "التضافر"، و"نعني به أن تنتظم العناصر انتظاما مخصوصا" يتخذ صورا متعددة، كمثل ما تجسمه اللغة الصورية الآتية:
    (أب+أب) × ( ج+ ب ج)، أو (س ص + س ص) × (س ص +س ص)...
    وعلى هذا النمط التضافري تركبت قصيدة "ولد الهدى".
    بعد ذلك يكشف الباحث عن ذلك التضافر على أربعة مستويات: المفاصل والمضامين والقنوات والبنى النحوية. فأما معيار المفاصل، فتضافره يقصد به "تشابك مواطن الانتقال من شحنة إخبارية إلى أخرى". وهكذا، فإن القصيدة احتوت 131 بيتا، موزعة على ثماني مجموعات دلالية ترتبط بسبعة مفاصل. وأما تضافر المضامين –أو تصاهرها- فبيّن في توزع النص إلى محاور ثلاثة، هي هويات نوعية لا عناصر متجزئة، وهي دلالات تتصل بالرسول صلى الله عليه و سلم، وأخرى بالإسلام، وثالثة بالأمة. وأما ثالث التضافرات فهو تضافر القنوات الذي يقصد به "مجاري الأداء الإبلاغي، مما يتخذه الشاعر مرتكزا حواريا يصطنع به التواصل حيث لا تواصل". ويكشف الباحث عن أنواع من هاته القنوات، أهمها: الضمائر (هو-أنت)، وتشاكل الأصوات، والسلك الدلالي الرّابط. غير أن التضافر ها هنا ليس مطلقا، إذ يستثني الباحث أحد المقاطع لأنه شذ عن القاعدة، معللا ذلك بأنه جاء نسيج وحده، من حيث استلهامه عادة العرب في النظم الجزل، لاستدعاء مضامينه ذلك. (الجهاد وتاريخ العرب...). وأخيرا يبرز الباحث مظاهر التضافر التركيبي في الأبيات (من 30 إلى43) القائمة على أسلوب الشرط.
    تحليل قصيدة شوقي هنا، لم يكن مستهدفا لذاته، "فغايتنا الأولية –في هذا المقام- هي إيضاح مبدإ "النموذج" في حد ذاته، بغية الإقناع بفاعليته التحليلية، أكثر من استقصاء مردوده النوعي" عمليا؛ لذلك كان هدف البرهنة على فعالية "النموذج الأسلوبي" الثاوي وراء بنية الأثر الفني الصياغية، والذي يستصفى من خلال مراتب البناء، بدءاً بالأصوات والمقاطع والألفاظ فالمضامين والتراكيب... هو هاجس الباحث أكثر من استقصاء الخصائص النوعية للنص قيد التحليل.

    الفصل الخامس: الأدب العربي ومقولة الأجناس الأدبية:

    نموذج السيرة الذاتية في كتاب "الأيام"
    رغم إقرار المسدي بأن توضيح المنطلقات النقدية النظرية قبيل مباشرة العمل النقدي التحليلي هو من بِدع الحداثة، فهو يفعل الفعل نفسه، موضحا أنه سينطلق في دراسته لـ "الأيام" من موقع عالم اللسان "الذي يهتم بكل تجليات الظاهرة اللغوية، مهما تنوعت صيغ الإفضاء، وهيئات التشكل، وصور الوظيفة". ويسمي هذا الضرب من النقد "نقدا إنشائيا"، يحدد قواعده في ثلاثة معايير: -انطلاق العملية النقدية من البسيط إلى المركب، أي من الاستقراء إلى التأليف في مراتب تصاعدية من الشرح إلى التفسير فإلى التأويل... -إرساء قواعد النقد على معيار النص من حيث هو نقطة التقاء الكاتب والقارئ. –العمل بمبدأ تمازج الاختصاصات في المعرفة الإنسانية كليا، إيمانا من الباحث بأن فروع الشجرة اللسانية لا يتسنّى لها النماء ما لم تدك أمامها حواجز التخصص الضيق. ثم يصرح الباحث أنه سيستند إلى علم النفس اللغوي الذي "يدرس كيف تطفو مقاصد المتكلم ونواياه" على سطح الخطاب في شكل إشارات لسانية تنصهر في اللغة التي تتواضع على أنماطها وسنن تأليفها مجموعة بشرية معينة يحولها الرابط اللغوي إلى مجموعة ثقافية، كما يدرس سبل توصل المتقبلين لذلك الخطاب إلى تأويل تلك الإشارات".
    بعد تلك المقدمة المنهجية، يتحدث الباحث عن التصنيفات الأدبية وأهميتها، وسبب اختلافها بين الأشخاص والمدارس النقدية والتأريخية، وبين الحضارات والثقافات، مبينا الأخطاء العلمية، والانحرافات المنهجية التي تقع خلال عملية التصنيف. كما يوضح أن العرب لم يعرفوا مقولة الأجناس الأدبية، وإنما انبنى تصورهم للأدب على تصنيف ثنائي مرتبط بنوعية الصوغ الفني: شعر ونثر، فكان بذلك تصنيفا نوعيا أكثر منه تصنيفا نمطيا. وبناء على هذا ينتقد الباحث إسقاطية بعض النقاد والمؤرخين للأدب العربي، الذي سحبوا على التراث العربي الإبداعي أنماطا من الأجناس غربية غريبة عليه، ناسين أنه تراث ابن بيئته، لا ابن بيئة غيره أو بيئة تلك الأجناس الأُخَر.
    ومن أجل تصور سليم لمسألة "الأجناس الأدبية"، يدعو المسدي إلى ابتعاث تصنيف تجنيسي من صميم التراث نفسه، ويجعل لذلك ثلاثة معايير: -معيار الصياغة من حيث هي تشكيل للمادة الخام التي هي اللغة. –معيار المضمون، وهو الذي يتقيد بالدلالة المقصودة. –معيار التركيب، ويختص بالسُّبل الإبداعية التي يتوسل بها الأديب لبلوغ غرضه الدلالي والفني في الوقت نفسه. ، ويذكر الباحث أنه باعتماد هاته المعايير أمكنه أن يرصد تصانيف متلونة في التراث، منها فن الخطبة وفن الخبر وفن الأغاني وفن التأريخ للأمثال وفن المقامة وفن الرحلة وفن الوصية وفن المناظرة، وغيرها كثير.
    وبعد أن يبيّن أصالة فن السيرة في الأدب العربي، وأهم ملامحه الفنية، وانبناءه على عنصرين: ذاتي فني، وتاريخي وثائقي، يسعى إلى إبراز هذين المقوّمين معا في أيام طه حسن، منطلقا من الأثر الفني ذاته عباراتٍ وأسلوباً، ورابطا إياه بحياته الشخصية، منطلقا من أنهما وجهان لعملة واحدة، وأنهما "نص" متكامل: مادته موضوعه، وموضوعه مادته. وواصِلا إلى أنه لم يستقم لطه حسين هذا التماهي بين الذات وأدبها إلا بفضل "أسلوبٍ" في القص والتصوير صاغه على نمط من الإنشاء، تبدّدت فيه حواجز الدلالة، فغدا دالا ومدلولا؛ حتى إنك تتخذ النص منطلقا، فيغدو لك مَصَبًّا. وهكذا تتضح معامل تفرُّد نسيج "الأيام" من باقي إنتاج الكاتب، استلهم فيه حسين نفَسه الإبداعي من معين الغزارة النفسية التي تتكشف في ثنايا الثراء اللغوي، حتى تتحد البنيات في إخصاب متبادل... إنه اتحاد بنية التعبير ومقومات المضمون وحواجز النفس، تذوب خلالها الذات الحاكية ضمن الذات المحكي عنها.
    ومن مقوّمات شخصية الكاتب التي يكشف المسدي عن بعض خصائصها انطلاقا من أسلوبه: -الفضول وقوة الحساسية إلى درجة الحدة. هذان المقوّمان هما العمودان القارّان اللذان تنفعل الشخصية بوقعهما، إذ يمثلان الطاقات الباطنة في الذات، المحركة لانفعالاتها. أما أهم حوافز تحريك هذين المقوّمين، فهي آفة العمى. فقد كان للعمى أثر عميق في طبع الذات بسماتها. "إن عاهة العمى قد جاءت في شريط "الأيام" بمثابة السلك الرابط بين كل أنسجته وبناه، حتى لتخالها البطل الخفي." ثم يتقصى الباحث أثر هذا المحفز في أسلوب طه حسين، فيرصده في "التصوير" الذي تجاذبه قطبان رئيسان: السعادة والشقاء، فكان التصوير بذلك قناة التوصيل الرئيسة بين الكاتب وقارئه.
    وأخيرا، يدعو الباحث إلى عدم اعتماد المقومات المنهجية للتفسير التكويني المتصل بذات الكائن في شخصيته وعناصرها الوراثية، لأنه يخرج عن نقد الأدب، فمداره على الأديب لا الأدب. كما يدعو إلى تطبيق هذه المنهجية التي سلكها في تحليل "الأيام" على سائر الآثار الكاملة لطه حسين. كما يلخص سر حداثة كتابة هذا الأديب في "أنه كان يكتب الأدبَ، وفي أدبه النقدُ، ويكتب النقد وصياغةُ نقده أدب، فلمّا كتب "الأيام" التقت الجداولُ على مصبٍّ أزاح الحدود، وهتك الحواجز، فامتزجت الأجناس، فجاءت "الأيام" ثوبها السيرةُ، وقوامها الأدب، ومهجتها النقد، وأما لفظُها فمن صياغة الشعر".

    أبعــاد:
    رغم أن الباحث تحدث في الفصول النظرية الثلاثة الأولى عن اللسانيات والأسلوبية والعَلامية، فإن المنهج الذي استضاء به في الفصلين التطبيقيين الأخيرين، لدى دراسة "الهمزية النبوية" لشوقي، و"الأيام" لطه حسي، إنما هو المنهج الأسلوبي مع استعانة قليلة باللسانيات؛ أما علم العلامات فلم يأت له ذكر فيهما.
    ومعلوم أن نشأة علم الأسلوب قد ارتبطت بالتطور الذي لحق الدراسات اللغوية بداية القرن العشرين؛ ويعتبر الفيلسوف الإيطالي الكبير "بينديتو كروتشيه"(1866-1952) من أوائل منظِّريه، منذ طلع على الناس بكتابه "علم الجمال كعلم للتعبير، واللغة العامة". ففيه لفت كروتشيه علماء اللغة إلى أنه "كلما قمنا بتحليل قطاع من التعبير، وجدنا أنفسنا أمام ظاهرة جمالية؛ فاللغة نفسها في جميع مظاهرها إنما هي تعبير خالص، ومن ثمة فهي علم جمالي". وإذا كان كروتشيه هو قطب المدرسة الإيطالية، فإن "شارل بالي" (1865-1947) -وهو خليفة سوسير بجامعة جنيف- هو رأس المدرسة الأسلوبية الفرنسية؛ فقد نشر كتابه "بحث في علم الأسلوب الفرنسي" عام 1902. وفيه عرّف علم الأسلوب بأنه:"العلم الذي يدرس وقائع التعبير اللغوي من ناحية محتواها العاطفي؛ أي التعبير عن واقع الحساسية الشعورية من خلال اللغة، وواقع اللغة غبر هذه الحساسية". أما المدرسة المثالية الألمانية، فهي ممثلة بأسلوبيِيها الكبيرين:"كارل فوسلير" (1872-1949)، و"ليو سبيتسر" (1887-1960)؛ فقد تلقى أولهما كتاب كروتشيه بحساسية بالغة، وسار به بعيدا في مجال التحليل الأسلوبي.
    وإذا كان هذا هو شأن المدارس الأسلوبية المؤسِّسة، فإن المناهج الأسلوبية من الكثرة حتى إنها تكاد لا تنحصر. ولعل ذلك راجع –كما ذكر المسدي نفسُه- إلى أنه يكاد كل محلِّل أسلوبي يُعد مدرسَة في ذاته، ولوحده ، وكذلك إلى اعتبار بعضهم أن كل أثر فني كبير "إنما هو عالَم متفرد، غير قابل للتكرار، مما يقتضي منهجا فريدا في تناوله".
    على أن تلك المناهج وإن تعددت بين ستيفان أولمان وريفاتير وموتان وكولين وستاروبنسكي وجماعة MU وجاكوبسون وتودوروف وفان ديك وشميت SCHMIDT ويودين UDEIN ودوبوا وأل DUBOIS ET AL وكبدي فاركا KIBEDI VARGA وسبيربر SPERBER وغيرهم... فإنها تجمع على جوهر ثابت مُفَادُه "أنه يمكن أن يقال عن جمل أو نصوص إن لها أسلوبا ما...[أي] ملامح مختلفة اختلافا بيّنا من ملامح النص". فتتحدث عن أسلوب نص معين "عندما تمنحه بنيات معينة طابعا خاصا، أو عندما تُفَرِّدُهُ بالنسبة لنصوص أخرى. وهذه الخصوصية كثيرا ما تمنح أيضا لأجناس من النصوص، أو لكتابات كاتب محدّد، أو لنصوص حضارة من الحضارات أو فترة من الفترات".
    وإذا كان عبد السلام المسدي من أوائل الذين استثمروا الدراسات الأسلوبية في العالم العربي، فإن اهتمامه بها ليس وليد "النقد والحداثة" فقط. ذلك بأنه أنجز عدة دراسات تصب في باب اللسانيات عموما، وأخرى أسلوبية محضة كما ألف ببلوغرافياً فيما ألف. وهذا ما يجعلنا نقول إن الباحث يشتغل ضمن مشروع متشابك متداخل. ففي سنة 197 ألف "الأسلوبية والأسلوب، نحو بديل ألسني"، وفي سنة 1981 كتب "التفكير اللساني في الحضارة العربية"، وكذلك:"قراءات مع الشابي والمتنبي والجاحظ وابن خلدون"، وهي دراسات متفرقة الجامع بينها هو التحليل الأسلوبي. وفي السنوات التالية ألف قاموسا للسانيات، ودراسة لسانية وصفية للشرط في القرآن الكريم، كما طلع عليها ببليوغرافيتين منفصلتين في السنة نفسها، (1989) هما "مراجع اللسانيات"، و"مراجع النقد الحديث" الذي يصرح فيه أنه قد جمع فيه –بصفة خاصة- الدراسات التي تناول فيها أصحابها العلاقات القائمة بين العلم اللغوي والنقد الأدبي، بحثا عن الرابطة المعرفية والمنهجية بينهما؛ "ولهذا السبب، اهتممنا بكل الدراسات التي اتخذ فيها أصحابها لغة الأدب منفذا إلى ماهية الإبداعية، ولا سيما الأبحاث التي احتكمت إلى الأسلوب".
    وإذا كان فاضل تامر يحصر الاتجاهات الأسلوبية العربية في اثنين، معتبرا عبد السلام المسدي من الاتجاه الثاني الذي أدمج التحليل الأسلوبي بالتحليل النقدي الشامل؛ فإن قراءته لـ"النقد والحداثة" وحده، في معزل عن كلِّية "المشروع". تثبت عكس ذلك: فالتحليل الأسلوبي فيها هو الأول وهو الأخير. وليس مجرّد فرع من شجرة النقد المتفرعة: الفروع والأغصان، رغم أن تامرا يؤكد أن المسدي لم يحاول أبدا التقليل من الفعالية النقدية لحساب تضخيم دور الفعالية الأسلوبية التي لم ترق لأن تكون نظرية أدبية تحل محل النقد ذاته، وبالتالي، فهي قاصرة على تخطي حواجز التحليل إلى تقييم الأثر الأدبي بِرُمّتِه.
    وبالنظر إلى الدراستين التطبيقيتين الاثنتين اللتين أُدرجَتَا ضمن "النقد والحداثة"، فإنه يمكن رصد بعض مميزات التحليل الأسلوبي عند المسدي. وأول هذه المميزات "التوفيقية"؛ فالمسدي يذكر –منذ البداية- أنه قد عاد إلى عدة مراجع أوربية، آخذا من كلٍّ طرفا، من "بالي" إلى "تودوروف"، جامعًا بين أكثر من عشرة مراجع في الفصل الثالث، دون الإشارة إلى ما يميز بعضهم عن بعض، وكأنه أخذ جوهر كل مرجع والثابتَ عندَه، مما قد لا يصطدم وما عند غيره. ولعل هذا ما دفع صاحب "اللغة الثانية" إلى أن يقول: "ويمكننا القول إنه يمكننا أن نجد في دراسات المسدي النظرية، وفي تطبيقاته وتحليلاته الأسلوبية والنقدية، جوانب تمثل أكثر المناهج الأسلوبية المعروفة؛ فهناك مظاهر واضحة لأسلوبية "بالي"، وملامح واضحة لمنهجية جاكوبسون الوظيفية، وعناصر مهمة من أسلوبية ريفارتير العاطفية، بل نجد صدًى لمقولة "بوفون" ذائعة الصيت:"الأسلوب هو الرجل ذاته"، التي حاولت الاتجاهات الأسلوبية الحديثة أن تتجاوزها".
    غير أن المسدي لم يقتصر على تلقٍّ ساذج للأسلوبية، وتوفيق بسيط بين أهم اتجاهاتها ومراجعها، وإنما اجتهد – و للمجتهد المصيب أجران – محاولا بصم دراسته الأسلوبية ببصمته الخاصة. و يظهر اجتهاد الباحث في تعامله النقدي مع كل من اتجاهي الأسلوبية التطبيقية: اتجاه أسلوبية الوقائع، واتجاه أسلوبية الظواهر، اللتين اتهمهما بالقصور عن إدراك الظاهرة الأسلوبية ككل، مما يُحدث بينهما وبين الأسلوبية التنظيرية فجوة وقطيعة... وقد دفعه هذا التعامل النقدي مع الأسلوبيتين آنفتي الذكر إلى اقتراح أسلوبية وسط جامعة بينهما سماها "أسلوبية النماذج"، وهي الطريق التي تجمع بين دراسة الحدث الفردي في النص، أي الواقعة الفنية في حقلها الضيق، وبين اكتشاف الظاهرة الفنية من خلال المثال الذي يجسمها في الأثر الفني الواردة فيه. وفي ضوء هذا الاجتهاد نظر إلى قصيدة شوقي "ولد الهدى".
    ومن المميزات الأخرى التي طبعت أسلوبية المسدي مرونتُه في التعامل مع النص المدروس؛ ففي الوقت الذي استند فيه إلى البلاغة العربية مدعومة بالنحو في دراسته لقصيدة "ولد الهدى"، وجدناه يستند إلى علم النفس اللغوي، ومقاطع واسعة من شريط حياة طه حسين في دراسته لـ"الأيام". و لئن كان قد غاب الإحصاء واللغة الرياضية الصورية هنا، فإن ذلك كان حاضراً في دراساته الأخرى (عن الشابي والمتنبي...)؛ وهذا ما لاحظه ثامر إذ قال:"كان ينطلق وفقا لما يمليه عليه النص الذي يُحلِّلُه، فتارة يتقيد بالتحليل اللساني الصرف، وتارة أخرى يفيد من مستويات التحليل البلاغي التقليدي، وفي بعض الأحيان يلجأ إلى بعض مستويات الأسلوبية الإحصائية، مقيما إحصاءات وجداول وقياسات رياضية صارمة، وقد ينساق إلى نوع من التحليل النفسي للكشف عن طبيعة تشكل الملفوظ الشعري" ...ولعل هذه المرونة الأسلوبية في صالح النص نفسه أولا وأخيرا، إذ تضحي السلطةُ سلطتَه ، بدل أن تكون للمنهج سلطة قاهرة عليه.
    غير أن ما ذكرناه من مميزات التحليل الأسلوبي عند المسدي، لا ينفي عنه بعض الهنات المنهجية، وأبرز هذه الهنات اعتمادُ الحدس وسيلة من وسائل النفاذ إلى تذوق النص المدروس؛ يقول:"فالأثر ننفذُ إليه بضربٍ من الحدس... وهذا الحدس ثمرة كفاءة الناقد وتجاربه؛ إذ هو ومضة ذهنية نصيبُ بها سويَّ الطريق في العمل النقدي". وغني عن الذكر أن القول بالحدس ينفي القول بالمنهج: هما ضربان من وسائل إدراك المعرفة: العملُ الممنهج ذو المنطلقات والوسائل والأهداف، والحدسُ الذي يتجاوز كل ذلك، ويقفز إلى الحقيقة مباشرة، وهما لا يلتقيان. كما أن الحدس غير مطلق، وغير قابل للضبط والقياس، فهو يختلف باختلاف الذات الحادسة. ومن أمثلة ذلك أن ما رآه المسدي من كون حرف الهاء المتكرر في قول شوقي:
    أَدَرَى رَسُولُ اللَّهِ أَنَّ نُفُوسَهُمْ ***** رَكِبَتْ هَوَاهَا، وَالنُّفُوسُ هَوَاءُ؟
    إنما هو تعويض لضمير الغائب "هو" غير المصرَّحِ به ؛ فإنه أمر يبدُو لي قريبا من التمحل وليّ عنق التأويل لتصديق فرضية التقسيم الذي اقترحه الباحث لمفاصل القصيدة بناءً على توزع ضمائر "أنت" و"هو" فيها.
    والحاصل –هنا- أن الحدس محل اختلاف كبير بين القُرّاء والدارسين للنص نفسه! لكن الأمر لا ينبغي أن يفهم هنا على أنه زلّة منهجية صِرفة من المسدي؛ فالأسلوبية نفسها قائمة على "ضرورة توفر حد أدنى من القدرة على التذوق الشخصي لدى الدارس، قبل أن يتذرع بـ"التكنيك" "العلمي في التحليل"، كما يذكر صلاح فضل الذي ينقل عن "كايسر" قوله:"البحث الأسلوبي ليس عملية برهنة رياضية على مقولات مسبقة؛ ولكي تَبْدَأَهُ، فأنت محتاج لشحذ كلّ حساسيتك وقوتك على الحدس، دون أن تتخلى عنهما في المراحل التالية". وهذا ما ينذر بتحويل التحليل الأسلوبي إلى عملية تذوق شخصي بحت!
    ومن بين المزالق الأخرى التي تحدّق بطريق الباحث الأسلوبي؛ ذلك الربط المباشر بين الأسلوب وصاحبه أخذا بمبدأ بوفون "الأسلوب هو الرجل نفسه". فهذا النوع من التحليل "يمكن أن يؤدي إلى تزييف سيرة الكاتب بالافتراض الساذج لوجود علاقة حتمية بين شخصية المؤلف وأسلوبه". مما قد تُجنى معه أخطاء علمية وتاريخية غير يسيرة. أفترى المسدي وقع في ذلك المحذور حين استشف نفسية طه حسين من أسلوبه في "الأيام"؟

    خاتمـة:
    إن كان عبد السلام المسدي صوتا أسلوبيا مميزا وبارزا على ساحة النقد المغاربي، فإن صورة تلقي الأسلوبية وتنزيلها على دراسة النصوص العربية في هذا الإقليم من الوطن العربي لا تكتمل إلى بمقارنة عمله أو مجموع أعماله بناقد آخر بارز على الصعيد المغاربي، إنه "معمد العمري" صاحب "في بلاغة الخطاب الإقناعي" (1986)، و"تحليل الخطاب الشعري" (1990)، و"الموازنات الصوتية في الرؤية البلاغية" (1991)، ومترجم "بنية اللغة الشعرية" لجان كوهن، و"البلا

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد مايو 19, 2024 7:29 am