منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    الخصائص الأسلوبية في كتابات ابن قيم الجوزية

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    الخصائص الأسلوبية في كتابات ابن قيم الجوزية Empty الخصائص الأسلوبية في كتابات ابن قيم الجوزية

    مُساهمة   الأحد يناير 03, 2010 3:35 am

    الخصائص الأسلوبية في كتابات ابن قيم الجوزية


    عاش ابن قيم الجوزية (1) رحمه الله في النصف الأول من القرن الثامن الهجري، بين عامي 690 و 751ه. وهي المرحلة التي كانت الأمة الإسلامية قد اجتازت أزمتها الكبرى مع الصليبيين من جهة، ومع المغول من جهة أخرى، فقد عاصر مرحلة مضطربة كثر فيها الجدل حول مسائل عديدة كان شيخه ابن تيمية وإلى جانبه هو، في واجهة المعركة الفكرية التي اشتد أوارها، فاصطليا بنارها، وقد أشار إلى ذلك في كتابه الفوائد فقال في معرض حديثه عن حبس سلمان الفارسي رضي الله عنه من قبل أبيه عندما ناقشه في أمر المجوسية وغلبه بالحجة ".. فلما علاه بالحجة لم يكن له جواب إلا القيد. وهذا جواب يتداوله أهل الباطل من يوم عرفوه، وبه أجاب فرعون موسى لئن اتخذت إلها غيري( 29 ) صلى الله عليه وسلم الشعراء: 29}، وبه أجاب الجهمية الإمام أحمد لما عرضوه على السياط، وبه أجاب أهل البدع شيخ الإسلام حين استودعوه السجن، وهانحن أولاء على الأثر..."(2).

    كان ابن قيم الجوزية نبضاً فكرياً ومنارة مضيئة وسط عواصف من البدع المتراكمة والرؤى الفكرية الضيقة . وقد واجه ذلك بقوة الإيمان مستعيناً بالحجة والبرهان، يساعده علم غزير، ونظر ثاقب، وقلم فنان جمع بين غزارة الإنتاج وجودته، وجاءت أساليبه الكتابية موسومة بخصائص تميزه عن سواه من معاصريه.

    [glow=000000] 1 ) وأولى هذه الخصائص هي الحوار:[/glow]
    وهو ناتج عن معايشته لحقيقة الحوار، والمجادلة مع فرق مختلفة، في مسائل متنوعة، لذلك نرى علاقة كتب ابن قيم الجوزية بأسلوب الحوار في شكلين:
    الأول: بناء الكتاب أساساً على الحوار، وعرض الموضوع عرضاً جدلياً، فمن كتبه التي اتبع فيها الحوار كتابه (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي) واسم الكتاب ينم عن أسلوبه. ومن ذلك كتابه (رسالة التقليد) فبعد المقدمة عقد فصلاً في "...مجلس مناظرة بين مقلد وبين صاحب حجة انقاد للحق حيث كان"، وبدأ المناظرة ب (قال المقلد: نحن معاشر المقلدين ممتثلون قول الله تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون 43 صلى الله عليه وسلم النحل: 43}" (3)إلخ.

    وأجاب على كلام المقلد بطريقة: (ويقال..)، حتى أوصلها إلى: تاسع عشر، ثم انتقل إلى كلمة أخرى في متابعة العد بقوله: (الوجه العشرون)، وعد إلى (الوجه الحادي والثمانين)، وهو آخر الكتاب.
    ومن هذا الشكل كتاب الروح، فإنه جعله مسائل وصلت إلى إحدى وعشرين مسألة، وقسم الجواب على كل مسألة إلى فصول، فجاءت المسألة الأولى بعد مقدمة المحقق التي ذكر فيها " .. لا أدري أسئل مصنفه - قدس الله روحه - عنها فأجاب، أم سئل عن البعض ولكن هو أطال الخطاب ؟! فإني رأيته مجرداً من سؤال أصلاً مبتدئاً فيه بقوله : أما المسألة الأولى وهي : هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا " (4) .

    أما إجاباته على المسائل فهو يبدأ بالجواب المفصل أحياناً، وأحياناً يعطي الجواب من وجهين مجمل ومفصل(5).

    ثانياً: أما الشكل الآخر للحوار فهو إدخال الحوار ضمن فصول الكتاب. ويتبع ابن القيم في إقامة الحوار أسلوب الشرط والجواب بافتراض أسئلة يطرحها الخصم، ويضع جواباً لكل سؤال مفترض، ويبدأ فرض السؤال بقوله : (فإن قيل ...)، ويضع الجواب بقوله : (قيل .. أو فالجواب ...). ومثاله ما ورد في كتاب عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (6). فقد جاء بعض أبوابه.. على شكل مسألة، مثل الباب الثاني والعشرين، والباب الثالث والعشرين، والباب الرابع والعشرين .

    وقد صرح في هذه الأبواب بالاحتجاج بين فريقين . وعقد فيها فصلاً في الاحتجاج بفكرة واحدة بين فريقين، كل فريق يدعيها لصالحه، وأورد اثنين وعشرين احتجاجاً . ومن ذلك قوله : "إذا احتج به الفقير الصابر احتج به الغني الشاكر، وإذا احتج به أرباب التواضع والحلم احتج به أرباب العز والقهر على المبطلين والغلظة عليهم والبطش بهم، وإذا احتج به من لم يعلق قلبه بالأسباب ولا ركن إليها احتج به من قام بالأسباب ووضعها مواضعها وأعطاها حقها .."(7) وضمير هاء الغائب يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وهو هنا يختصر مجالس المناظرة التي أنشأها بين طرفين، حيث جاء في آخر كتابه، وكأنه أحس أن الأمر سيطول به فأوجزعلى غير عادته في المناظرات، والإجابات على ما يرد من أسئلة.


    [glow=000000]2 ) استقصاء المعاني :[/glow]


    والخاصة الثانية لأسلوب ابن القيم في كتاباته هي : استقصاء المعاني، وتتبع دقائق الفكرة تتبعاً شديداً، وهذه سمة بارزة تكاد تضطرد في كتبه إلا في القليل النادر، مما يقصد فيه الإيجاز قصداً كما في كتابه الفوائد من فصول الحكمة والموعظة . وأسلوب الحوار والمناظرة الذي أنشأ عليه كتبه ابتداء أو ضمنه فصول بعض كتبه يدفعه إلى الاستقصاء . فهو يولد المعاني الدقيقة، ويفترض الاحتمالات البعيدة، ويأتي برد الخصم على أجوبته في المسائل، ثم يرد عليها ويناقشها سالكاً في ردوده كل الطرق في إقامة الحجة بالرواية والدراية، وبالشرع والعقل، وبالأدب واللغة، كما في كتاب الروح، خصوصاً، وكتاب رسالة التقليد، وعدة الصابرين .. عموماً.
    ففي رسالة التقليد جعل الرد على المقلدين بغير دليل من واحد وثمانين وجهاً، وقسم الوجه السادس والثلاثين إلى خمسة أوجه، وقسم الوجه الخامس والأربعين إلى أربعة أوجه، وفرع الوجه الثالث من الأربعة إلى إحدى وعشرين فقرة، ثم أحس من نفسه الإطالة فأجمل قائلاً: (.. وأضعاف أضعاف ذلك ..).

    ومثل هذا في كتابه عدة الصابرين.. الباب التاسع في بيان تفاوت درجات الصبر، فجعل الصبر اختيارياً، واضطرارياً، وقسمه من وجه آخر إلى ثلاثة: الصبر على المأمور، والصبر عن المحظور، والصبر على المقدور، وفضل الصبر على المأمور بعشرين وجهاً.

    [mark=FFFFFF]وفي الباب الثاني عشر في الأسباب التي تعين على الصبر جعل تحصيل الصبر ممكناً من مفردين: العلم والعمل، وجعل ذلك من طريقين :[/mark]
    1- تقوية وسائل الصبر بإضعاف الداء الباعث على شهوة الوقوع في الحرام، وعد فيه خمسة أمور، ثم أجمل القول في نهاية الأمر الخامس قائلاً: (تفصيل هذه الوجوه يطول جداً فيكفي ذكر أصولها) مما يشعر القارئ بفوران المعاني في داخل المؤلف فيكبح جماح نفسه رأفة بالقارئ أن يمل فينصرف !!
    2- تقوية باعث الدين . وعد فيه عشرين أمراً، غير أن من أجمل ما في هذا الكتاب من استقصاء المعاني ما أورده في الباب الثالث والعشرين في ذكر ما احتجت به الفقراء .. فقد ذكر لهم تسعة أوجه من الاحتجاج، ثم أتبع ذلك بيان كون حب الدنيا رأس الخطايا ومفسداً للدين من وجوه بلغت عنده سبعة أوجه، وأكملها بعقد فصل في ذكر أمثلة تبين حقيقة الدنيا(Cool بلغت اثنين وعشرين مثالاً، أطال في بعضها، وأوجز بعضها .

    ومن أمثلة الاستقصاء للمعنى ما ذكره في كتاب الوابل الصيب من الكلم الطيب(9) في فوائد الذكر إذ قال: (وفي الذكر أكثر من مئة فائدة .، استطرد في السادسة والثلاثين، ثم عاد ليقول (تكملة فوائد الذكر) ولكنه لم يكمل الفوائد إلى مئة، فوقف عند الثالثة والسبعين، وذكر بعدها فوائد دون أن يعدها. فهذه بعض الأمثلة الموجزة لظاهرة أسلوب الاستقصاء عند ابن قيم الجوزية من كتب مختلفة دون استقصاء !!

    [glow=000000]3) الصور البيانية:[/glow]
    يكثر ابن قيم الجوزية في كتاباته من التصوير البياني لإيضاح الفكرة، وتقريب العبرة، واستخراج العبرة، إكثاراً يطول شرحه بضرب الأمثلة. فالتشبيهات بأنواعها والتمثيلية منها خصوصاً، تأخذ صفحات طويلة في بعض المواضع، ففي كتاب عدة الصابرين.. في ذكر أمثلة تبين حقيقة الدنيا أورد اثنين وعشرين مثالاً استغرقت نحواً من عشرين صفحة،أخذ في بعضها صفحتين، وأوجز بعضها بسطر أو سطرين ومما أوجز فيه :
    " وقد مثلت الدنيا بمنام والعيش فيها بالحلم، والموت باليقظة.
    ومثلت بمزرعة، والعمل فيها بالبذور، والحصاد يوم المعاد.
    ومثلت بدار لها بابان، باب يدخل منه الناس وباب يخرجون منه.
    ومثلت بحية ناعمة الملمس، حسنة اللون وضربتها الموت..." (10).
    ومن أساليب الاستعارات والكنايات القصيرة ما ذكره في كتاب الفوائد تحت عنوان عبر وعظات:
    " - الذنوب جراحات ورب جرح وقع في مقتل.
    - لو خرج عقلك من سلطان هواك عادت الدولة له.
    - دخلت دار الهوى فقامرت بعمرك.
    - بحر الهوى إذا مد أغرق، وأخوف المنافذ على السابح فتح البصر في الماء
    - كم قطع زرع قبل التمام، فما ظن الزرع المستحصد؟!.
    - اشتر نفسك، فالسوق قائمة والثمن موجود. ."(11)
    ومن جميل الصور التمثيلية التي ركبها ما كتبه عن شجرة الإخلاص قائلا: " السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمرها..."(12) إلى آخر ذلك، فليرجع إليها من أراد الزيادة.

    [glow=000000]4) الاقتباس من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية :[/glow]
    يستخدم ابن القيم أسلوب الاقتباس كثيراً في الموضوعات الوعظية والحكم التي يوردها أحياناً بشكل قصة تاريخية، فيوظف جزءاً من الآية القرآنية، وأحياناً كلمة واحدة من الآية للدلالة على معنى واسع بإيجاز شديد، معتمدا على ثقافة القارئ واطلاعه ومعرفته بالآية وموردها وظلالها . فإذا كان القارئ ضعيف الاطلاع والمعرفة بالقرآن الكريم فإنه يفوته المعنى الذي يريده ابن القيم . ويكثر أمثلة هذا النوع من الاقتباس في كتابه الفوائد .

    فمن الأمثلة الموجزة لذلك قوله في:
    " أول منازل القوم \ذكروا الله ذكرا كثيرا 41 وسبحوه بكرة وأصيلا 42 صلى الله عليه وسلم الأحزاب: 41، 42}.

    وأوسطها : هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور 43 صلى الله عليه وسلم الأحزاب: 43}.

    وآخرها : تحيتهم يوم يلقونه سلام 44 صلى الله عليه وسلم الأحزاب: 44}(13).

    فحقق بالاقتباس من الآيات القرآنية الثلاث معاني واسعة لم تكن لتؤدى دونها بهذا الإيجاز الشديد، وما كان ليكون لكلامه هذه الظلال الوارفة التي يستريح فيها القلب المؤمن، وما كان ليتحقق هذا البعد الزماني والمكاني الذي جمع رحلة بدأت في الدنيا وانتهت في الآخرة .

    [mark=FFFFCC]وتطول عبارات الاقتباس في بعض مواعظه حيث يقول :[/mark]
    - (إياك والمعاصي فإنها أذلت عز \سجدوا 34 صلى الله عليه وسلم البقرة: 34} (14).
    - وأخرجت إقطاع \سكن 35 صلى الله عليه وسلم البقرة: 35}.
    - يا لها لحظة أثمرت حرارة القلق ألف سنة مازال يكتب بدم الندم سطور الحزن في القصص، ويرسلها مع أنفاس الأسف حتى جاءه توقيع فتاب عليه 37 صلى الله عليه وسلم البقرة: 37}.
    - فرح إبليس بنزول آدم من الجنة، وما علم أن هبوط الغواص في اللجة خلف الدر صعود.
    - كم بين قوله لآدم إني جاعل في الأرض خليفة 30 صلى الله عليه وسلم البقرة: 30}.
    - وقوله لك قال \ذهب فمن تبعك منهم 63 صلى الله عليه وسلم الإسراء: 63}.
    - ما جرى على آدم هو المراد من وجوده (لو لم تذنبوا) (15).
    - يا آدم لا تجزع من قولي لك فاخرج منها 77 صلى الله عليه وسلم ص: 77} (16) فلك ولصالح ذريتك خلقتها.
    - يا آدم كنت تدخل علي دخول الملوك على الملوك، واليوم تدخل علي دخول العبيد على الملوك.
    - يا آدم لا تجزع من كأس زلل كانت سبب كيسك، فقد استخرج منك داء العجب، وألبست خلعة العبودية وعسى" أن تكرهوا 216 صلى الله عليه وسلم البقرة: 216}.
    - يا آدم لم أخرج إقطاعك إلى غيرك، إنما نحيتك عنه لأكمل عمارته لك، وليبعث إلى العمال نفقة تتجافى" جنوبهم 16 صلى الله عليه وسلم السجدة: 16}.
    - تالله ما نفعه عند معصيته عز \سجدوا 34 صلى الله عليه وسلم البقرة: 34} (17).
    - ولا شرف وعلم آدم 31 صلى الله عليه وسلم البقرة: 31}.
    - ولا خصيصة لما خلقت بيدي 75 صلى الله عليه وسلم ص: 75}.
    - ولا فخر ونفخت فيه من روحي 29 صلى الله عليه وسلم الحجر: 29}.
    - وإنما انتفع بذل ربنا ظلمنا أنفسنا 23 صلى الله عليه وسلم الأعراف: 23}.
    - لما لبس درع التوحيد على بدن الشكر وقع سهم العدو منه في غير مقتل فجرحه، فوضع عليه جبار الانكسار، فعاد كما كان، فقام الجريح كأن لم يكن به قلبة". (18)
    فهذه الموعظة النموذجية تضمنت الاقتباس بالإشارة إلى جزء من الآية ثلاث عشرة مرة، واحدة مكررة هي (اسجدوا)، موزعة على سبع سور وردت خمساً وعشرين مرة بزيادة حرف أو نقص حرف في موضع عن آخر. ومن الحديث مرة واحدة .

    [glow=000000]5) تضمين الشعر في كتاباته النثرية:[/glow]
    لابن قيم الجوزية عناية خاصة بالشعر يزين بالمنظوم منثوره، وينشر به من المعنى مستوره، في أسلوب لطيف، وأدب ظريف. ونجد الشعر مبثوثاً في كتبه جميعها على اختلاف في الكثرة والقلة. ففي المواعظ وما يشبهها من الحكم كثير، وربما أتى بالقصائد الطويلة أو بالأبيات تلو الأبيات في تتبعه لمعنى يستقصيه أو غامض يستجليه. وقلما ينسب الأبيات إلى قائلها، وقد تكون من نظمه هو أو من الشعر المشهور، أو يظن بقائلها ظناً لما فيها من قرائن لفظية أو معنوية في بعض أغراض الشعر.
    ومن ذلك في كتابه الفوائد وصفه حالة سلمان الفارسي رضي الله عنه عندما سمع بمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان سلمان على نخلة، في حديقة ليهودي، يقول: (فعجل النزول لتلقي ركب البشارة، ولسان حاله يقول:
    خليلي من نجد قفا بي على الربا
    فقد هب من تلك الديار نسيم
    فصاح به سيده: مالك؟ انصرف إلى شغلك.
    فقال: كيف انصرافي ولي في داركم شغل؟!
    ثم أخذ لسان حاله يترنم لو سمع الأطروش:
    خليلي لا والله ما أنا منكما
    إذا علم من آل ليلى بدا ليا
    وختم القصة ببيتين معلقاً على أن سلمان إذا سئل عن دليله في الطريق قال: إمام الخلق وهادي الأئمة.
    إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا
    كفى بالمطايا طيب ذكراك هاديا
    وإن نحن أضللنا الطريق ولم نجد
    دليلاً كفانا نور وجهك هاديا" (19)
    وقصة سلمان فيها مجال للشعر للعلاقة بين القصة و الشعر في عالم الأدب. ومثال تضمين الشعر في غير مجاله ما جاء في كتابه رسالة التقليد، إذ يتكلم في مجال بعيد عن الأدب وفنونه، ولكنه لا يفوت فرصة تطرية جفاء المناقشة وتمهيد وعورة المجادلة بأبيات من الشعر تعليقاً على الفكرة التي يريدها في حواره. قال مستشهداً على فضل العلم على التقليد ( قالوا: والمقلد لا علم له، ولم يختلفوا في ذلك ومن هنا - والله أعلم - قال البحتري:
    عرف العالمون فضلك بالعلم
    وقال الجهال بالتقليد
    وأرى الناس مجمعين على
    فضلك من بين سيد ومسود"(20)
    وتوجد أمثلة كثيرة في كتبه عدة الصابرين، والروح، وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح.
    يقول في كتابه عدة الصابرين .. :
    "وقيل الصبر مع الله وفاء، والصبر عن الله جفاء. وقد أجمع الناس على أن الصبر عن المحبوب غير محمود، فكيف إذا كان كمال العبد وفلاحه في محبته، ولم تزل الأحباب تعيب المحبين بالصبر عنهم، كما قيل:
    والصبر عنك فمذموم عواقبه
    والصبر في سائر الأشياء محمود
    وقال آخر في الصبر عن محبوبه:
    إذا لعب الرجال بكل شيء
    رأيت الحب يلعب بالرجال
    وكيف الصبر عمن حل عني
    بمنزلة اليمين مع الشمال
    وشكا آخر إلى محبوبه ما يقاسي من حبه، فقال:
    لو كنت صادقاً لما صبرت عني
    ولما شكوت الحب قالت: كذبتني
    ترى الصب عن محبوبه كيف يصبر؟(21)

    [glow=000000]6) الفنون البديعية الأخرى:[/glow]
    ومن أنواع البديع السجع والجناس والطباق والمقابلة. فقد كان عصر المؤلف عصر ازدهار الزخرفة اللفظية بأنواعها الشكلية والمعنوية. لكن ابن قيم الجوزية ابتعد في معظم كتاباته عن تكلف الزخرفة الذي أفسد المعنى في كثير من كتابات ذلك العصر وما تلاه. فنحن لا نكاد نجد أثراً للبديع في المحاورات الفكرية التي عقد لها ابن القيم المناظرات ورتب لها الأسئلة والإجابات، فأسلوبه فيها مرسل غير مقيد وطبع غير متكلف، ولكنه إذا جاء إلى الوصف والمواعظ والحكم كما مر في حديثه عن الدنيا، أو في وصفه للجنة في كتاب حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح(22) تفنن في ذلك ليدل جمال اللفظ على كمال المعنى في عباراته مسايراً متطلبات الأسلوب لدى أهل زمانه.
    يقول في كتابه حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح: "ولما علم الموافقون ما خلقوا له، وما أريد بإيجادهم رفعوا رؤوسهم، فإذا علم الجنة قد رفع لهم، وإذا صراطها المستقيم قد وضح لهم، فاستقاموا عليه، ورأوا من أعظم الغبن بيع ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، في أبد لا يزول ولا ينفد، بصبابة عيش إنما هو كأضغاث أحلام، أو كطيف زار في المنام، مشوب بالنغص، ممزوج بالغصص، إن أضحك قليلاً أبكى كثيراً، وإن سر يوماً أحزن شهوراً..."(23).
    وعلى هذا المنوال يسير في الوصف فيقدم صورة من النثر الأدبي المعاصر له.
    وبعد.. فإن ابن قيم الجوزية رحمه الله كما كان متقناً لعلوم عصره علماً من أعلام زمانه في الفكر والدعوة والإصلاح وهو صاحب أعلام الموقعين، ومدارج السالكين .. كان أديباً بارعاً، متصرفاً في أساليب الكتابة بقدرة فائقة، مسترسلاً حيناً، ومقيداً ببدائع البديع حيناً، محاوراً مرة ومقرراً أخرى، يستقصي معانيه، ويذكر الخصم من الحجج ما نسيه، ثم يرد عليه مجملاً ومفصلاً ضارباً لذلك الأمثال، مقتبساً من نور القرآن ومشكاة النبوة ما يناسب من المقال لكل مقام.

    [mark=FFFFCC]الهوامش : [/mark]
    [mark=FFFFFF](1) هو شمس الدين محمد بن أبي بكر ..، أبو عبد الله الزرعي، نسبة إلى قرية زرعة، وتعرف الآن بأزرع من قرى حوران بسورية، الدمشقي الشهير بابن قيم الجوزية . والجوزية مدرسة بناها محيي الدين بن الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، بسوق القمح بدمشق .
    (2) كتاب الفوائد، دار الريان للتراث، ط 1، 1407ه - 1987م القاهرة ، ص 55 .
    (3) رسالة التقليد، مكتبة أسامة، الرياض، ط 1، 1403ه -1983م .
    (4) كتاب الروح، دار الريان للتراث، 1404ه - 1984م .
    (5) كتاب الروح، صفحات 134، 136، 137 .
    (6) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط3، 1408ه - 1988م، صفحات 54، 55، 93، 191، 193، وغيرها من المواضع .
    (7) عدة الصابرين ..، ص 319 - 320 .
    (Cool عدة الصابرين ..، ص 276 .
    (9) الوابل الصيب من الكلم الطيب، دار الريان للتراث، القاهرة، ط 1، 1407ه - 1987م .
    (10) عدة الصابرين ...، ص 276- 299 .
    (11) الفوائد، ص 56-57 .
    (12) الفوائد، ص 225-226 .
    (13) الفوائد، ص 51 .
    (14) وردت في سياق قصة آدم عليه السلام في سورة البقرة : 34، والأعراف : 11، والإسراء: 61، والكهف :50، وطه :116 .
    (15) جزء من حديث رواه مسلم . انظر الحديث في رياض الصالحين، باب الرجاء برقم 425 و426 .
    (16) وردت في سياق قصة آدم في سورة الأعراف : 13 و 18، والحجر : 34، و ص :77 .
    (17) انظر هامش رقم 14 .
    (18) الفوائد، ص 52-53 .
    (19) الفوائد، ص 55-56 .
    (20) رسالة التقليد، ص 22 .
    (21) عدة الصابرين ...، ص 66 .
    (22) حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، دار الفكر، عمان - الأردن، ط 1، 1987م، ص 48 .
    (23) حادي الأرواح ..، ص 28 .[/mark]





    عاش ابن قيم الجوزية (1) رحمه الله في النصف الأول من القرن الثامن الهجري، بين عامي 690 و 751ه. وهي المرحلة التي كانت الأمة الإسلامية قد اجتازت أزمتها الكبرى مع الصليبيين من جهة، ومع المغول من جهة أخرى، فقد عاصر مرحلة مضطربة كثر فيها الجدل حول مسائل عديدة كان شيخه ابن تيمية وإلى جانبه هو، في واجهة المعركة الفكرية التي اشتد أوارها، فاصطليا بنارها، وقد أشار إلى ذلك في كتابه الفوائد فقال في معرض حديثه عن حبس سلمان الفارسي رضي الله عنه من قبل أبيه عندما ناقشه في أمر المجوسية وغلبه بالحجة ".. فلما علاه بالحجة لم يكن له جواب إلا القيد. وهذا جواب يتداوله أهل الباطل من يوم عرفوه، وبه أجاب فرعون موسى لئن اتخذت إلها غيري( 29 ) صلى الله عليه وسلم الشعراء: 29}، وبه أجاب الجهمية الإمام أحمد لما عرضوه على السياط، وبه أجاب أهل البدع شيخ الإسلام حين استودعوه السجن، وهانحن أولاء على الأثر..."(2).

    كان ابن قيم الجوزية نبضاً فكرياً ومنارة مضيئة وسط عواصف من البدع المتراكمة والرؤى الفكرية الضيقة . وقد واجه ذلك بقوة الإيمان مستعيناً بالحجة والبرهان، يساعده علم غزير، ونظر ثاقب، وقلم فنان جمع بين غزارة الإنتاج وجودته، وجاءت أساليبه الكتابية موسومة بخصائص تميزه عن سواه من معاصريه.

    [glow=000000] 1 ) وأولى هذه الخصائص هي الحوار:[/glow]
    وهو ناتج عن معايشته لحقيقة الحوار، والمجادلة مع فرق مختلفة، في مسائل متنوعة، لذلك نرى علاقة كتب ابن قيم الجوزية بأسلوب الحوار في شكلين:
    الأول: بناء الكتاب أساساً على الحوار، وعرض الموضوع عرضاً جدلياً، فمن كتبه التي اتبع فيها الحوار كتابه (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي) واسم الكتاب ينم عن أسلوبه. ومن ذلك كتابه (رسالة التقليد) فبعد المقدمة عقد فصلاً في "...مجلس مناظرة بين مقلد وبين صاحب حجة انقاد للحق حيث كان"، وبدأ المناظرة ب (قال المقلد: نحن معاشر المقلدين ممتثلون قول الله تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون 43 صلى الله عليه وسلم النحل: 43}" (3)إلخ.

    وأجاب على كلام المقلد بطريقة: (ويقال..)، حتى أوصلها إلى: تاسع عشر، ثم انتقل إلى كلمة أخرى في متابعة العد بقوله: (الوجه العشرون)، وعد إلى (الوجه الحادي والثمانين)، وهو آخر الكتاب.
    ومن هذا الشكل كتاب الروح، فإنه جعله مسائل وصلت إلى إحدى وعشرين مسألة، وقسم الجواب على كل مسألة إلى فصول، فجاءت المسألة الأولى بعد مقدمة المحقق التي ذكر فيها " .. لا أدري أسئل مصنفه - قدس الله روحه - عنها فأجاب، أم سئل عن البعض ولكن هو أطال الخطاب ؟! فإني رأيته مجرداً من سؤال أصلاً مبتدئاً فيه بقوله : أما المسألة الأولى وهي : هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا " (4) .

    أما إجاباته على المسائل فهو يبدأ بالجواب المفصل أحياناً، وأحياناً يعطي الجواب من وجهين مجمل ومفصل(5).

    ثانياً: أما الشكل الآخر للحوار فهو إدخال الحوار ضمن فصول الكتاب. ويتبع ابن القيم في إقامة الحوار أسلوب الشرط والجواب بافتراض أسئلة يطرحها الخصم، ويضع جواباً لكل سؤال مفترض، ويبدأ فرض السؤال بقوله : (فإن قيل ...)، ويضع الجواب بقوله : (قيل .. أو فالجواب ...). ومثاله ما ورد في كتاب عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (6). فقد جاء بعض أبوابه.. على شكل مسألة، مثل الباب الثاني والعشرين، والباب الثالث والعشرين، والباب الرابع والعشرين .

    وقد صرح في هذه الأبواب بالاحتجاج بين فريقين . وعقد فيها فصلاً في الاحتجاج بفكرة واحدة بين فريقين، كل فريق يدعيها لصالحه، وأورد اثنين وعشرين احتجاجاً . ومن ذلك قوله : "إذا احتج به الفقير الصابر احتج به الغني الشاكر، وإذا احتج به أرباب التواضع والحلم احتج به أرباب العز والقهر على المبطلين والغلظة عليهم والبطش بهم، وإذا احتج به من لم يعلق قلبه بالأسباب ولا ركن إليها احتج به من قام بالأسباب ووضعها مواضعها وأعطاها حقها .."(7) وضمير هاء الغائب يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وهو هنا يختصر مجالس المناظرة التي أنشأها بين طرفين، حيث جاء في آخر كتابه، وكأنه أحس أن الأمر سيطول به فأوجزعلى غير عادته في المناظرات، والإجابات على ما يرد من أسئلة.


    [glow=000000]2 ) استقصاء المعاني :[/glow]


    والخاصة الثانية لأسلوب ابن القيم في كتاباته هي : استقصاء المعاني، وتتبع دقائق الفكرة تتبعاً شديداً، وهذه سمة بارزة تكاد تضطرد في كتبه إلا في القليل النادر، مما يقصد فيه الإيجاز قصداً كما في كتابه الفوائد من فصول الحكمة والموعظة . وأسلوب الحوار والمناظرة الذي أنشأ عليه كتبه ابتداء أو ضمنه فصول بعض كتبه يدفعه إلى الاستقصاء . فهو يولد المعاني الدقيقة، ويفترض الاحتمالات البعيدة، ويأتي برد الخصم على أجوبته في المسائل، ثم يرد عليها ويناقشها سالكاً في ردوده كل الطرق في إقامة الحجة بالرواية والدراية، وبالشرع والعقل، وبالأدب واللغة، كما في كتاب الروح، خصوصاً، وكتاب رسالة التقليد، وعدة الصابرين .. عموماً.
    ففي رسالة التقليد جعل الرد على المقلدين بغير دليل من واحد وثمانين وجهاً، وقسم الوجه السادس والثلاثين إلى خمسة أوجه، وقسم الوجه الخامس والأربعين إلى أربعة أوجه، وفرع الوجه الثالث من الأربعة إلى إحدى وعشرين فقرة، ثم أحس من نفسه الإطالة فأجمل قائلاً: (.. وأضعاف أضعاف ذلك ..).

    ومثل هذا في كتابه عدة الصابرين.. الباب التاسع في بيان تفاوت درجات الصبر، فجعل الصبر اختيارياً، واضطرارياً، وقسمه من وجه آخر إلى ثلاثة: الصبر على المأمور، والصبر عن المحظور، والصبر على المقدور، وفضل الصبر على المأمور بعشرين وجهاً.

    [mark=FFFFFF]وفي الباب الثاني عشر في الأسباب التي تعين على الصبر جعل تحصيل الصبر ممكناً من مفردين: العلم والعمل، وجعل ذلك من طريقين :[/mark]
    1- تقوية وسائل الصبر بإضعاف الداء الباعث على شهوة الوقوع في الحرام، وعد فيه خمسة أمور، ثم أجمل القول في نهاية الأمر الخامس قائلاً: (تفصيل هذه الوجوه يطول جداً فيكفي ذكر أصولها) مما يشعر القارئ بفوران المعاني في داخل المؤلف فيكبح جماح نفسه رأفة بالقارئ أن يمل فينصرف !!
    2- تقوية باعث الدين . وعد فيه عشرين أمراً، غير أن من أجمل ما في هذا الكتاب من استقصاء المعاني ما أورده في الباب الثالث والعشرين في ذكر ما احتجت به الفقراء .. فقد ذكر لهم تسعة أوجه من الاحتجاج، ثم أتبع ذلك بيان كون حب الدنيا رأس الخطايا ومفسداً للدين من وجوه بلغت عنده سبعة أوجه، وأكملها بعقد فصل في ذكر أمثلة تبين حقيقة الدنيا(Cool بلغت اثنين وعشرين مثالاً، أطال في بعضها، وأوجز بعضها .

    ومن أمثلة الاستقصاء للمعنى ما ذكره في كتاب الوابل الصيب من الكلم الطيب(9) في فوائد الذكر إذ قال: (وفي الذكر أكثر من مئة فائدة .، استطرد في السادسة والثلاثين، ثم عاد ليقول (تكملة فوائد الذكر) ولكنه لم يكمل الفوائد إلى مئة، فوقف عند الثالثة والسبعين، وذكر بعدها فوائد دون أن يعدها. فهذه بعض الأمثلة الموجزة لظاهرة أسلوب الاستقصاء عند ابن قيم الجوزية من كتب مختلفة دون استقصاء !!

    [glow=000000]3) الصور البيانية:[/glow]
    يكثر ابن قيم الجوزية في كتاباته من التصوير البياني لإيضاح الفكرة، وتقريب العبرة، واستخراج العبرة، إكثاراً يطول شرحه بضرب الأمثلة. فالتشبيهات بأنواعها والتمثيلية منها خصوصاً، تأخذ صفحات طويلة في بعض المواضع، ففي كتاب عدة الصابرين.. في ذكر أمثلة تبين حقيقة الدنيا أورد اثنين وعشرين مثالاً استغرقت نحواً من عشرين صفحة،أخذ في بعضها صفحتين، وأوجز بعضها بسطر أو سطرين ومما أوجز فيه :
    " وقد مثلت الدنيا بمنام والعيش فيها بالحلم، والموت باليقظة.
    ومثلت بمزرعة، والعمل فيها بالبذور، والحصاد يوم المعاد.
    ومثلت بدار لها بابان، باب يدخل منه الناس وباب يخرجون منه.
    ومثلت بحية ناعمة الملمس، حسنة اللون وضربتها الموت..." (10).
    ومن أساليب الاستعارات والكنايات القصيرة ما ذكره في كتاب الفوائد تحت عنوان عبر وعظات:
    " - الذنوب جراحات ورب جرح وقع في مقتل.
    - لو خرج عقلك من سلطان هواك عادت الدولة له.
    - دخلت دار الهوى فقامرت بعمرك.
    - بحر الهوى إذا مد أغرق، وأخوف المنافذ على السابح فتح البصر في الماء
    - كم قطع زرع قبل التمام، فما ظن الزرع المستحصد؟!.
    - اشتر نفسك، فالسوق قائمة والثمن موجود. ."(11)
    ومن جميل الصور التمثيلية التي ركبها ما كتبه عن شجرة الإخلاص قائلا: " السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمرها..."(12) إلى آخر ذلك، فليرجع إليها من أراد الزيادة.

    [glow=000000]4) الاقتباس من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية :[/glow]
    يستخدم ابن القيم أسلوب الاقتباس كثيراً في الموضوعات الوعظية والحكم التي يوردها أحياناً بشكل قصة تاريخية، فيوظف جزءاً من الآية القرآنية، وأحياناً كلمة واحدة من الآية للدلالة على معنى واسع بإيجاز شديد، معتمدا على ثقافة القارئ واطلاعه ومعرفته بالآية وموردها وظلالها . فإذا كان القارئ ضعيف الاطلاع والمعرفة بالقرآن الكريم فإنه يفوته المعنى الذي يريده ابن القيم . ويكثر أمثلة هذا النوع من الاقتباس في كتابه الفوائد .

    فمن الأمثلة الموجزة لذلك قوله في:
    " أول منازل القوم \ذكروا الله ذكرا كثيرا 41 وسبحوه بكرة وأصيلا 42 صلى الله عليه وسلم الأحزاب: 41، 42}.

    وأوسطها : هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور 43 صلى الله عليه وسلم الأحزاب: 43}.

    وآخرها : تحيتهم يوم يلقونه سلام 44 صلى الله عليه وسلم الأحزاب: 44}(13).

    فحقق بالاقتباس من الآيات القرآنية الثلاث معاني واسعة لم تكن لتؤدى دونها بهذا الإيجاز الشديد، وما كان ليكون لكلامه هذه الظلال الوارفة التي يستريح فيها القلب المؤمن، وما كان ليتحقق هذا البعد الزماني والمكاني الذي جمع رحلة بدأت في الدنيا وانتهت في الآخرة .

    [mark=FFFFCC]وتطول عبارات الاقتباس في بعض مواعظه حيث يقول :[/mark]
    - (إياك والمعاصي فإنها أذلت عز \سجدوا 34 صلى الله عليه وسلم البقرة: 34} (14).
    - وأخرجت إقطاع \سكن 35 صلى الله عليه وسلم البقرة: 35}.
    - يا لها لحظة أثمرت حرارة القلق ألف سنة مازال يكتب بدم الندم سطور الحزن في القصص، ويرسلها مع أنفاس الأسف حتى جاءه توقيع فتاب عليه 37 صلى الله عليه وسلم البقرة: 37}.
    - فرح إبليس بنزول آدم من الجنة، وما علم أن هبوط الغواص في اللجة خلف الدر صعود.
    - كم بين قوله لآدم إني جاعل في الأرض خليفة 30 صلى الله عليه وسلم البقرة: 30}.
    - وقوله لك قال \ذهب فمن تبعك منهم 63 صلى الله عليه وسلم الإسراء: 63}.
    - ما جرى على آدم هو المراد من وجوده (لو لم تذنبوا) (15).
    - يا آدم لا تجزع من قولي لك فاخرج منها 77 صلى الله عليه وسلم ص: 77} (16) فلك ولصالح ذريتك خلقتها.
    - يا آدم كنت تدخل علي دخول الملوك على الملوك، واليوم تدخل علي دخول العبيد على الملوك.
    - يا آدم لا تجزع من كأس زلل كانت سبب كيسك، فقد استخرج منك داء العجب، وألبست خلعة العبودية وعسى" أن تكرهوا 216 صلى الله عليه وسلم البقرة: 216}.
    - يا آدم لم أخرج إقطاعك إلى غيرك، إنما نحيتك عنه لأكمل عمارته لك، وليبعث إلى العمال نفقة تتجافى" جنوبهم 16 صلى الله عليه وسلم السجدة: 16}.
    - تالله ما نفعه عند معصيته عز \سجدوا 34 صلى الله عليه وسلم البقرة: 34} (17).
    - ولا شرف وعلم آدم 31 صلى الله عليه وسلم البقرة: 31}.
    - ولا خصيصة لما خلقت بيدي 75 صلى الله عليه وسلم ص: 75}.
    - ولا فخر ونفخت فيه من روحي 29 صلى الله عليه وسلم الحجر: 29}.
    - وإنما انتفع بذل ربنا ظلمنا أنفسنا 23 صلى الله عليه وسلم الأعراف: 23}.
    - لما لبس درع التوحيد على بدن الشكر وقع سهم العدو منه في غير مقتل فجرحه، فوضع عليه جبار الانكسار، فعاد كما كان، فقام الجريح كأن لم يكن به قلبة". (18)
    فهذه الموعظة النموذجية تضمنت الاقتباس بالإشارة إلى جزء من الآية ثلاث عشرة مرة، واحدة مكررة هي (اسجدوا)، موزعة على سبع سور وردت خمساً وعشرين مرة بزيادة حرف أو نقص حرف في موضع عن آخر. ومن الحديث مرة واحدة .

    [glow=000000]5) تضمين الشعر في كتاباته النثرية:[/glow]
    لابن قيم الجوزية عناية خاصة بالشعر يزين بالمنظوم منثوره، وينشر به من المعنى مستوره، في أسلوب لطيف، وأدب ظريف. ونجد الشعر مبثوثاً في كتبه جميعها على اختلاف في الكثرة والقلة. ففي المواعظ وما يشبهها من الحكم كثير، وربما أتى بالقصائد الطويلة أو بالأبيات تلو الأبيات في تتبعه لمعنى يستقصيه أو غامض يستجليه. وقلما ينسب الأبيات إلى قائلها، وقد تكون من نظمه هو أو من الشعر المشهور، أو يظن بقائلها ظناً لما فيها من قرائن لفظية أو معنوية في بعض أغراض الشعر.
    ومن ذلك في كتابه الفوائد وصفه حالة سلمان الفارسي رضي الله عنه عندما سمع بمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان سلمان على نخلة، في حديقة ليهودي، يقول: (فعجل النزول لتلقي ركب البشارة، ولسان حاله يقول:
    خليلي من نجد قفا بي على الربا
    فقد هب من تلك الديار نسيم
    فصاح به سيده: مالك؟ انصرف إلى شغلك.
    فقال: كيف انصرافي ولي في داركم شغل؟!
    ثم أخذ لسان حاله يترنم لو سمع الأطروش:
    خليلي لا والله ما أنا منكما
    إذا علم من آل ليلى بدا ليا
    وختم القصة ببيتين معلقاً على أن سلمان إذا سئل عن دليله في الطريق قال: إمام الخلق وهادي الأئمة.
    إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا
    كفى بالمطايا طيب ذكراك هاديا
    وإن نحن أضللنا الطريق ولم نجد
    دليلاً كفانا نور وجهك هاديا" (19)
    وقصة سلمان فيها مجال للشعر للعلاقة بين القصة و الشعر في عالم الأدب. ومثال تضمين الشعر في غير مجاله ما جاء في كتابه رسالة التقليد، إذ يتكلم في مجال بعيد عن الأدب وفنونه، ولكنه لا يفوت فرصة تطرية جفاء المناقشة وتمهيد وعورة المجادلة بأبيات من الشعر تعليقاً على الفكرة التي يريدها في حواره. قال مستشهداً على فضل العلم على التقليد ( قالوا: والمقلد لا علم له، ولم يختلفوا في ذلك ومن هنا - والله أعلم - قال البحتري:
    عرف العالمون فضلك بالعلم
    وقال الجهال بالتقليد
    وأرى الناس مجمعين على
    فضلك من بين سيد ومسود"(20)
    وتوجد أمثلة كثيرة في كتبه عدة الصابرين، والروح، وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح.
    يقول في كتابه عدة الصابرين .. :
    "وقيل الصبر مع الله وفاء، والصبر عن الله جفاء. وقد أجمع الناس على أن الصبر عن المحبوب غير محمود، فكيف إذا كان كمال العبد وفلاحه في محبته، ولم تزل الأحباب تعيب المحبين بالصبر عنهم، كما قيل:
    والصبر عنك فمذموم عواقبه
    والصبر في سائر الأشياء محمود
    وقال آخر في الصبر عن محبوبه:
    إذا لعب الرجال بكل شيء
    رأيت الحب يلعب بالرجال
    وكيف الصبر عمن حل عني
    بمنزلة اليمين مع الشمال
    وشكا آخر إلى محبوبه ما يقاسي من حبه، فقال:
    لو كنت صادقاً لما صبرت عني
    ولما شكوت الحب قالت: كذبتني
    ترى الصب عن محبوبه كيف يصبر؟(21)

    [glow=000000]6) الفنون البديعية الأخرى:[/glow]
    ومن أنواع البديع السجع والجناس والطباق والمقابلة. فقد كان عصر المؤلف عصر ازدهار الزخرفة اللفظية بأنواعها الشكلية والمعنوية. لكن ابن قيم الجوزية ابتعد في معظم كتاباته عن تكلف الزخرفة الذي أفسد المعنى في كثير من كتابات ذلك العصر وما تلاه. فنحن لا نكاد نجد أثراً للبديع في المحاورات الفكرية التي عقد لها ابن القيم المناظرات ورتب لها الأسئلة والإجابات، فأسلوبه فيها مرسل غير مقيد وطبع غير متكلف، ولكنه إذا جاء إلى الوصف والمواعظ والحكم كما مر في حديثه عن الدنيا، أو في وصفه للجنة في كتاب حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح(22) تفنن في ذلك ليدل جمال اللفظ على كمال المعنى في عباراته مسايراً متطلبات الأسلوب لدى أهل زمانه.
    يقول في كتابه حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح: "ولما علم الموافقون ما خلقوا له، وما أريد بإيجادهم رفعوا رؤوسهم، فإذا علم الجنة قد رفع لهم، وإذا صراطها المستقيم قد وضح لهم، فاستقاموا عليه، ورأوا من أعظم الغبن بيع ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، في أبد لا يزول ولا ينفد، بصبابة عيش إنما هو كأضغاث أحلام، أو كطيف زار في المنام، مشوب بالنغص، ممزوج بالغصص، إن أضحك قليلاً أبكى كثيراً، وإن سر يوماً أحزن شهوراً..."(23).
    وعلى هذا المنوال يسير في الوصف فيقدم صورة من النثر الأدبي المعاصر له.
    وبعد.. فإن ابن قيم الجوزية رحمه الله كما كان متقناً لعلوم عصره علماً من أعلام زمانه في الفكر والدعوة والإصلاح وهو صاحب أعلام الموقعين، ومدارج السالكين .. كان أديباً بارعاً، متصرفاً في أساليب الكتابة بقدرة فائقة، مسترسلاً حيناً، ومقيداً ببدائع البديع حيناً، محاوراً مرة ومقرراً أخرى، يستقصي معانيه، ويذكر الخصم من الحجج ما نسيه، ثم يرد عليه مجملاً ومفصلاً ضارباً لذلك الأمثال، مقتبساً من نور القرآن ومشكاة النبوة ما يناسب من المقال لكل مقام.

    [mark=FFFFCC]الهوامش : [/mark]
    [mark=FFFFFF](1) هو شمس الدين محمد بن أبي بكر ..، أبو عبد الله الزرعي، نسبة إلى قرية زرعة، وتعرف الآن بأزرع من قرى حوران بسورية، الدمشقي الشهير بابن قيم الجوزية . والجوزية مدرسة بناها محيي الدين بن الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، بسوق القمح بدمشق .
    (2) كتاب الفوائد، دار الريان للتراث، ط 1، 1407ه - 1987م القاهرة ، ص 55 .
    (3) رسالة التقليد، مكتبة أسامة، الرياض، ط 1، 1403ه -1983م .
    (4) كتاب الروح، دار الريان للتراث، 1404ه - 1984م .
    (5) كتاب الروح، صفحات 134، 136، 137 .
    (6) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط3، 1408ه - 1988م، صفحات 54، 55، 93، 191، 193، وغيرها من المواضع .
    (7) عدة الصابرين ..، ص 319 - 320 .
    (Cool عدة الصابرين ..، ص 276 .
    (9) الوابل الصيب من الكلم الطيب، دار الريان للتراث، القاهرة، ط 1، 1407ه - 1987م .
    (10) عدة الصابرين ...، ص 276- 299 .
    (11) الفوائد، ص 56-57 .
    (12) الفوائد، ص 225-226 .
    (13) الفوائد، ص 51 .
    (14) وردت في سياق قصة آدم عليه السلام في سورة البقرة : 34، والأعراف : 11، والإسراء: 61، والكهف :50، وطه :116 .
    (15) جزء من حديث رواه مسلم . انظر الحديث في رياض الصالحين، باب الرجاء برقم 425 و426 .
    (16) وردت في سياق قصة آدم في سورة الأعراف : 13 و 18، والحجر : 34، و ص :77 .
    (17) انظر هامش رقم 14 .
    (18) الفوائد، ص 52-53 .
    (19) الفوائد، ص 55-56 .
    (20) رسالة التقليد، ص 22 .
    (21) عدة الصابرين ...، ص 66 .
    (22) حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، دار الفكر، عمان - الأردن، ط 1، 1987م، ص 48 .
    (23) حادي الأرواح ..، ص 28 .[/mark]

      الوقت/التاريخ الآن هو الثلاثاء مايو 07, 2024 8:21 pm