منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    تلقّي النّص الأدبي

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    تلقّي النّص الأدبي Empty تلقّي النّص الأدبي

    مُساهمة   الأربعاء يناير 06, 2010 10:44 am

    تلقّي النّص الأدبي بين التأسيس والآفاق ـــ د.محمد ملياني- الجزائر









    تلقّي النّص الأدبي بين التأسيس والآفاق ـــ د.محمد ملياني- الجزائر

    أستاذ بكلية الآداب، اللغات والفنون ـ جامعة السانية وهران ـ الجزائر.‏

    أخذ
    الحديث عن نظرية تلقي النّص الأدبي حيّزاً واسعاً في الدراسات النّقدية
    الحديثة وهذا خلال العقود الأربعة الأخيرة، حيث كانت الانطلاقة من مدرسة
    كونستانس الألمانية (Constance) على يد العالم الألماني هانس روبرت ياوس
    Hans Rabert Jauss، ثم تلاه في ذلك فولفجانج إيزر Wolfgang Iser الذي
    تبنّى آراء مواطنه ياوس لبلورة مفهوم جديد يحتفي بالعلاقة المتبادلة بين
    النّص والقارئ، إيماناً بما للقارئ من دور فاعل ومهمّ في صياغة معنى
    النّص. لكن في زخم هذه المفاهيم والأدوات المعرفية لنظرية التّلقي التّي
    هي من ابتكار الغرب ومضمار نشاطه الفكري، ما هي مكانة الرأي النّقدي
    العربي؟ أكان غائباً أم حاضراً فاعلاً؟‏


    تقتضي
    منّا الضرورة المنهجية في البداية وقفة مع المصطلح المعتمد عنواناً لهذا
    المقال، ولعلّ الرجوع إلى المعاجم يمدنا بنظرة ندرك من خلالها‏


    كيف
    أخذ مصطلح التلقي بعده التداولي في الأنظمة الثقافية، وحينها ندرك ـ لا
    محالة ـ بأنه اكتسب بعده النظري والجمالي في المعاجم الألمانية الحديثة،
    في حين اقتصر في الدراسات الفرنسية والأنجلو أمريكية على الأوساط العلمية
    والأكاديمية(1).‏


    أما إذا بحثنا عن مصطلح
    التلقي في معاجمنا العربية فإننا نجده في وضعه اللغوي يفيد الاستقبال، وقد
    ورد لفظ التلقي في القرآن الكريم للدلالة على التعليم والتلقين والتوفيق،
    ومنه قوله تعالى: (وما يلقّاها إلا الذين صبروا وما يلقّاها إلا ذو حظّ
    عظيم((2)، وقوله تعالى: (إذ تلقّونه بألسنتكم((3)؛ أي يأخذ بعض عن بعض؛
    وأمّا قوله تعالى: (فتلقّى آدم من ربّه كلمات((4)؛ فمعناه أنّه أخذها
    عنه(5).‏


    وتأسيساً على هذا الطرح، يتضح لنا
    أن الاستعمال القرآني لمادة التلقي إشارة على عملية التفاعل النّفسي
    والذّهني مع النّص، لأنّ لفظ التّلقي يرد ـ أيضاً ـ مرادفاً لمعنى الفهم
    والفطنة، كما جاء مفهوم التلقي في المعاجم العربية القديمة مرتبطاً بما
    استعمل في كلام العرب الفصيح؛ شعره ونثره، نجد التّراث الفكري العربي يزخر
    بما يماثل هذا المصطلح، مثل السامع والمستمع والمخاطب والجمهور، وقد يتمّ
    التّعبير عنها من خلال كلمة "المقام" كما هي الحال عند الجاحظ (ت
    255هـ)(6)، وكانت تمثل هذه المصطلحات غاية العملية الإبداعية وهدفها، قال
    الجاحظ: "لأنّ مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع، إنّما
    هو الفهم والإفهام"(7).‏


    ويتبيّن ممّا سبق
    أنّ أسلافنا لم يغفلوا في دراساتهم طبيعة الصلة والتفاعل بين المبدع
    والمتلقي وعلاقتهما الوثيقة التي تسهم في إضفاء شرعية فهم النّص وتحديد
    فضائه، فالفرزدق مثلاً ما فتئ يؤكّد هذا الطّرح عندما أجاب ابن الأعرابي:
    "علينا أن نقول وعليكم أن تؤوّلوا". فهذه إشارة واضحة إلى تعدد قراءات
    النص الواحد وتنوعها، والفكرة نفسها عبّر عنها بول فاليري بتعدد النّص،
    والنّص الاحتمالي، وأسماها رولان بارت بالنص المنجّم(Cool (Etoile)(9)، وهذا
    يعني أنّ المبدع ينقل المتلقي إلى تجربته لمشاركته في أحاسيسه ومشاعره،
    ولذا فمن واجب المبدع لتحقيق هذه الغاية أن يراعي الإحساس اللغوي عند
    المتلقي المتفاعل مع أجواء النص الفسيحة للإسهام في إنتاج المعنى، وهذا ما
    يؤكده ت، س إليوت بقوله: "إنّ القصيدة تقع في مكان ما بين الكاتب
    والقارئ"(10). كما عليه أن يهتمّ بالمستويات الاجتماعية والثّقافية
    والنّفسية للمتلقي الذي يشاركه في خلق النص، ويساهم معه في بناء معناه.‏


    وبناء
    على ما سبق فإنّ كون المتلقي من أهل الذوق والمعرفة والدراية يعد من
    الأركان الرئيسة في العملية الإبداعية، إذ يشكّل الغاية والهدف في هذا
    المجال، يقول عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ): "واعلم أنّه لا يصادف القول
    في هذا الباب موقعاً من السّمع ولا تجد لديه قبولاً حتى يكون من أهل الذوق
    والمعرفة"(11).‏


    أضف إلى ذلك إلحاح النّقاد
    في توجيه الشّعراء على مراعاة افتتاحيات قصائدهم بحيث تكون منقّحة وجيّدة
    حتى يضمنوا جلب انتباه المتلقي، وبعدها تأتي المقصدية، وأضفى قول لتدعيم
    هذا الطرح قول عبد القاهر الجرجاني: "وقد وطأت له وقدّمت الإعلام فيه،
    فدخل على القلب دخول المأنوس به، وقبله قبول المتهيء له المطمئن إليه"(12)
    كما هو الشأن في المقدمة الطللية عند شعراء الجاهلية، وفي هذا المضمار قال
    ابن الأثير: "ومن أدب هذا النوع ألاّ يذكر الشاعر في افتتاح القصيدة
    بالمديح ما يتطير منه"(13).‏


    ونلفي عبد
    القاهر الجرجاني يتبنّى رأي الجاحظ الدّاعي إلى اعتبار الشّعر قولاً
    نوعياً مخصوصاً، ينماز بصياغته وتصويره ونظمه. والنظم في مفهوم صاحبه معنى
    مشكّل تشكيلاً فنياً يقوم في جوهره على قدر كبير من الصنعة والغرابة
    والتقديم والتأخير والحذف: "سبيل المعاني أن ترى الواحد منها غفلاً ساذجاً
    عامياً موجوداً في كلام النّاس كلّهم ثم تراه نفسه وقد عمد إليه البصر
    بشأن البلاغة وإحداث الصّور في المعاني فيصنع فيه ما يصنع الصّنع الحاذق
    حتى يغرب في الصنعة... ويبدع في الصياغة"(14).‏


    وجملة
    الأمر أنّ المعنى لا يدرك إلاّ في سياق آلياته اللّغوية وعلاقته بالمتلقي،
    أي حين تتضافر المكونات النحوية والمجازية في النّص، وترتبط بالمتلقي
    فيتحقق التأثير الجمالي؛ هذه المسألة أولاها النقد العربي أهمية متزايدة
    لا سيما الجاحظ والجرجاني في حديثهما عن مفهوم اللذة الأدبية وكيفية
    الوقوف عليها في النّص، وفي هذا الشأنّ قال الجاحظ: "الشَّيء من غير معدنه
    أغرب، وكلّما كان أغرب كان أبعد في الوهم وكلّما كان أبعد في الوهم كان
    أطرف وكلّما كان أطرف كان أعجب، وكلّما كان أعجب كان أبدع"(15).‏


    وعبّر
    عبد القاهر الجرجاني عن هذا الأثر ووظيفته الجمالية بعدة مصطلحات تشكل
    جميعها خصائص الأثر الجمالي، وهي: التأثير ـ القراءة ـ التأمل ـ التأويل ـ
    بوصفها وظائف المتلقي نحو النّص الأدبي ترتبط بتقنيات أسلوبية قوامها
    التفاعل المتبادل، فالتأثير الذي أومأ إليه صاحب دلائل الإعجاز يكشف عن
    وعي متقدم بطبيعة النص وخصوصية تلقيه: "لا يكون لإحدى العبارتين مزية على
    الأخرى، حتى يكون لها في المعنى تأثير لا يكون لصاحبتها"(16).‏


    إنّ
    متعة النّص (la jouissance du texte) ولذة القراءة (le plaisir de la
    lecture) لا تتحققان بمفهومهما العميق إلاّ بعد التأمل وإعمال الفكر وكدّ
    الذّهن من أجل الفهم، وإذا تحقق له ذلك أحسّ بوقع المتعة الجمالية في
    نفسه، وهذا ما عبّر عنه شيخ البلاغة بقوله: "ومن المركوز في الطبع إذا نيل
    بعد الطّلب له أو الاشتياق إليه، ومعاناة الجنين نحوه، كان نيله أحلى
    وبالميزة أولى، فكان موقعه من النّفس أجل وألطف، وكانت به أضن وأشغف"(17).‏


    ويقول في موضع آخر: "فإذا رأيتها قد راقتك وكثرت عندك، ووجدت لها اهتزازاً في نفسك، فعد فانظر في السبب، واستقص في النّظر"((18.‏

    أمّا
    القراءة بوصفها ممارسة فعلية تساهم في بناء وتشكيل النّص فحظيت بأهمية
    خاصة في دراسات العرب الأقدمين، كما اهتمّوا ـ أيضاً ـ بالتأويل بوصفه
    فعالية فكرية ينهض بها المتلقي لاكتشاف آليات النّص وفهم أسراره والوصول
    إلى دلالاته، وتحديد إيحاءاته الفكرية، وما دامت البنية الأدبية بنية
    مجازية أمكن تصور علاقة الأدب بالتأويل، فالمجاز هو الفضاء الذي يتحرّك
    فيه التأويل(19).‏


    اهتمام أسلافنا بجماليات
    التلقي جاء مبثوثاً في جملة أحكامهم بقضايا النّص عبر حقب زمنية مختلفة،
    من أمثال الجاحظ (ت 255هـ) ابن قتيبة (ت 276هـ) وعبد القاهر الجرجاني (ت
    471هـ) الذين يشكّلون تطوراً لحركة الفكر النّقدي العربي بشكل عام،
    ويمثّلون طفرة هائلة فيما يتعلّق بجماليات التّلقي، وبخاصة في رحاب تلقي
    القرآن الكريم والشعر العربي، اللّذين أوجدا نوعين من التّلقي هما التلقي
    الشفاهي والقراءة، أحدهما مرتبط بالآخر، ويتعلّق الأمر بالسماع والإنصات
    والإنشاد والتلاوة(20)، والمتتبّع لتاريخ هذه الطفرة يدرك ـ لا محالة ـ
    أنّه من السّهل إدراك المفارقات البيّنة في طبيعة التّعامل مع النّص في
    الحركة النّقدية على تعدد الضوابط واختلاف مستويات الإدراك والذّوق(21).‏


    وفي
    ضوء ما سبق يتبيّن لنا أنّ النقد العربي القديم تعامل مع النّصّ من خلال
    ثلاث عناصر هامة (النّص ـ المتلقي ـ المبدع) ولم يهمل المتلقي (مستمعاً أو
    قارئاً أو مخاطباً) في عملية التفاعل مع قدرات النّص الفنية الكامنة فيه،
    ولمحاته الجمالية اللاّزمة لـه لكشف غوامضه وفهم أسراره.‏


    وأصبح
    اليوم من مهمة المعاجم الحديثة والمشتغلين في هذا المجال ان ينقلوا التلقي
    من مفهومه اللغوي إلى فضاءات جديدة، اكتسبت بعداً نظرياً وجمالياً في
    الدراسات النظرية والنقدية المعاصرة كما هو الشأن في المعاجم الألمانية،
    مراعين في ذلك التمايز الموجود بين طبيعة النص العربي وطبيعة النص الغربي،
    ودلالاتها التعبيرية، وكذا خصائص اللغة العربية، كما رآها عبد القاهر
    الجرجاني: "استعارة وقعت موقعها، وأصابت غرضها، أو حسن ترتيب تكامل معه
    البيان، حتى وصل المعنى إلى القلب، مع وصول اللفظ إلى السمع، واستقرّ في
    الفهم مع وقوع العبارة في الأذن(22).‏


    وهذا
    ليس معناه أنّ نظرية التلقي تختص بالأدب الألماني وحده دون سواه من الآداب
    الإنسانية الأخرى، وإنما التوجه الفلسفي والنظري الذي اهتمت به نظرية
    التلقي وما نتج عنه من اقتراحات نظرية وممارسات تطبيقية هو الذي جعل من
    جهود ألمانية رافداً مرجعياً أساساً في هذا المجال، وأصبح من الضروري على
    الباحثين والمشتغلين بهذه النظرية أن يتدارسوا الأعمال والإنجازات التي
    جادت بها مدرسة كونستانس (Constance) الألمانية في هذا الشأن والإفادة
    منها.‏


    ولعلّ أهم ما يبرر الاهتمام بهذه
    المدرسة بغية الإفادة منها، هو أنها اكتسبت مفهوماً نظرياً جديداً في نسق
    الفكر الألماني المعاصر قبل أن يأخذ ذلك في أنساق المعرفة الإنسانية
    الأخرى، رغم محاولة بعض الدراسات الفرنسية والأنجلو الأمريكية إيجاد بعض
    ملامح النظرية(23).‏


    وبعد ما كان التحليل
    منصباً على تحليل ثنائية: المؤلف/ النص، تحول وبقوة إلى تحليل العلاقة بين
    النص /المتلقي، وعرف هذا الاتجاه: جمالية التلقي، الذي ظهر على يدي
    الناقدين الألمانيين: هانس روبرت ياوس Hans Robert Jauss وفولفجانج إيزر
    Wolfgang Iser في نهاية الستينات من القرن العشرين؛ وجاءت هذه النّظرية
    لتصحيح زوايا انحراف الفكر النقدي والعودة به إلى قيمة النص، وأهمية
    القارئ، وهذا ـ طبعاً ـ إسهام واضح في إيجاد نظرية تحقق المتعة الفنية
    والجمالية في التعامل مع النص، وبالتالي تكشف غوامضه وتفهم أسراره.‏


    وظهرت
    جمالية التلقي بسبب رفضها اقتراحات البنيوية المتحدرة من أصول لسانية
    وعقلانية، نتج عنه تعارض معرفي ومنهجي بين المقاربتين، بين معرفة عقلية،
    تستند إلى منطق الأشياء في ذاتها، ومعرفة أخرى ترى أن الظواهر لا تحتوي
    على المضامين في ذاتها، بل إن الذي تنتجه الذات هو ما يبرز المعنى في
    صورته الكاملة(24). أي إن معنى النص لا يتشكل بذاته أبداً، فلا بد من عمل
    القارئ لإنتاج المعنى، ويذهب إيزر إلى أن النصوص الأدبية تحتوي دائماً على
    فراغات لا يملؤها إلا المتلقي، وذهب إلى هذا الطرح أمبرتو إيكو Umberto
    Eco في كتابه دور القارئ، حين اعتبر النصوص المفتوحة تتطلب مشاركة القارئ
    في إنتاج المعنى(25)، فالنص حسب هذا الرأي" معطى غير تام، معطى ينقصه
    الكثير لتضمنه بياضات، ولاحتوائه على مناطق غير محددة تنتظر القارئ
    المناسب لملئها وتوجيهها وجهة تأويلية(26)".‏


    إن
    مفهوم إيزر للقراءة وعملية ملء الفراغات يجعل النص هيكلاً يقوم القارئ
    بملئه وفق ميولاته ورغباته، ووفق ثقافة عصره، وهذا يعني أن النص مفتوح على
    التأويل والتفسير والتجديد باستمرار مع كل ممارسة قرائية جديدة.‏


    ويتضح
    أن الفينومينولوجيا(phenomenologie)(27) تشكل قطب الرحى عند إيزر، لأن
    مخزون التجربة الخاص بالقارئ هو الذي يشكل العملية الأدبية، بمعنى أن
    القارئ يتلقى النص بوعيه، ويحوله إلى تجربة خاصة به، لما يقوم به من توفيق
    بين وجهات النظر المختلفة في النص القائمة في الكثير من الأحيان على
    التناقضات من جهة، أو باختياره لطرائق متباينة لملء الفراغات الكامنة وراء
    وجهات النظر من جهة ثانية.‏


    ومن هذا
    المنطلق، فإنّ القراءة لا تعدو أن تكون حواراً جدلياً خلاّقاً بين مخزون
    تجربة المتلقي والتجربة الموضوعية كما يجسدها النص من خلال الشكل الفني
    الذي يؤدي دور الوسيط بين الباث والمتلقي(28).‏


    ويستقبل
    القارئ النص بحمولته القائمة أساساً على التناقضات واختلاف وجهات النظر،
    والقواعد الأساسية التي يتحقّق المعنى على أساسها، بوعي قائم على التفحص
    والتأمل بغية المعالجة والتكييف، لأنّ القراءة في مفهوم إيزر تمنحنا
    الفرصة لصياغة ما ليس مصوغاً.‏


    ووفق هذا
    المنظور يكون المتلقي مكمّلاً للنّص، لأنّه يفضي إلى التّعديل والتّغيير
    في مقاصد نص المبدع، ويكون مستعدّاً لإبداعٍ مُوازٍ، لأنّه بهذا الصّنيع
    يضفي على النّص المقروء من ذاته ونفسه وعقله، وهذا هو القارئ الإيجابي
    الذي يعيد النّص إلى دائرة الضوء، بل يحييه من جديد(29).‏


    وإذا
    حاولنا حصر أهم الأسس الفلسفية والثّقافية والمعرفية التّي تؤطر الخلفية
    المرجعية التي يستند إليها كلّ من ياوس وإيزر في تأسيس نظرية التّلقي،
    نجدهما يحاوران الفلسفة الظاهراتية كما تناولها رومان إنقاردن R.Ingarden
    تلميذ فيلسوف الظاهراتية الكبير إدموند هوسرل E.Husserl الثّائر على
    النّزعتين التّجريبية والمثالية(30). كما تظهر معالم الفلسفة الآرسطية
    والكانطية والتّحليل النّفسي في جهود ياوس وإيزر، إذ الأوّل اعتمد مفهوم
    التّطهير، أمّا الثاني فيرى أنّ القارئ يوظِّف إسقاطاته المرضية الموجهة
    بواسطة المخيّلة الغريزية(31).‏


    كما ظهر في
    حقول جمالية التّلقي الفلسفة الذاتية المثالية، وهي من الاتجاهات المغرقة
    في الذاتية، والتي تعطي الدّور الأكبر للوعي في إدراك الظّواهر، وتتخذ من
    الموضوع ذريعة لاكتشاف الذّات. كما حظيت التأويلية بجانب كبير من الأهمية
    عند ياوس والتي تعتبر نقلة متميزة بعد مرحلة الفهم الموسومة بالطّابع
    التجريبي المعتمد في إعادة تشكيل آفاق القراءات.‏


    أمّا
    كلامنا السابق عن جهود رواد النّقد العربي فليس الهدف منه كشف النّقاب عن
    أصول نقدية في التراث الفكري العربي لمفهوم جمالية التّلقي، على نحو ما
    تناولته الدّراسات النّقدية في الغرب، وإن كان في جوهره عملاً مشروعاً
    وطموحاً ويسير المطلب، وليس المهم أن نقف على مفهوم عبد القاهر الجرجاني
    للتلقي الذي يناظر به المفهوم الجمالي الحديث، ولكن الذي يعنينا بالدرجة
    الأولى هو فهم التصور العربي للنقد من خلال الرؤية البلاغية القائمة على
    دقة الملاحظة وعمق التفكير، ومحاولة تفسيرها في ضوء انشغالات تفكيرنا
    الراهن مع استثمار المفاهيم والأدوات المعرفية في الفكر الغربي، التي ربما
    أغفلت في الدراسات القديمة أو لم تؤلف استثماراً قائماً على التفاعل
    الإيجابي لا الإقصاء التعسفي. حتى نتمكن من اختراق الواجهة الفاصلة بين
    التراث الفكري العربي والتراث الغربي، ولمس ما وراء اختلاف الثقافات
    والتراثات وفروع المعرفة، وذلك لإضاءة جوانب كثيرة في النص الفني
    الإبداعي، بوصفه فعالية لغوية ومحوراً لجماليات التعبير المؤثر ودافعاً
    قوياً لتذوق هذه الجماليات.‏


    نخلص إلى أن
    التلقي ظل ملازم للنص الأدبي لا يفارقه، إذ يوجد بوجوده وينعدم بانعدامه،
    ومن الصعب تصور انصراف الدراسات النقدية الحديثة عن مفهوم مهم مثل
    التلقي((32،‏


    ولذا نجد النظرية اليوم في
    البحوث الجامعية حاضرة بقوة، فهناك رسائل جامعية ومشاريع مخبرية عديدة
    يشرف عليها أساتذة مهتمون بهذا المجال، ولعل ما يثير الانتباه في هذا
    الصدد هو تشعب وتمايز الخلفيات الفلسفية لجمالية التلقي، وهذا ـ طبعاً ـ
    ما يدعونا إلى التحلي باليقظة في التعامل مع مختلف حقول النظرية في
    الثقافة الغربية، واستغلالها في الدراسات النقدية واللغوية بشكل إيجابي.‏


    قائمة المصادر والمراجع‏

    1
    ـ ابن الأثير ضياء الدين، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق أحمد
    الحوفي وبدوي طبانة، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة ط2 سنة 1933.‏


    2 ـ أحمد بوحسن، نظرية التلقي إشكالات وتطبيقات، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، ندوات ومناظرات رقم 24 سنة 1993.‏

    3 ـ حسين خمري، نظريات القراءة وتلقي النص الأدبي، مجلة العلوم الإنسانية، جامعة قسنطينة، الجزائر، العدد 12 سنة 1999.‏

    4 ـ رامان سلدن، النظرية الأدبية المعاصرة، ترجمة جابر عصفور، دار قبّاء للطباعة والنشر، القاهرة سنة 1998.‏

    5 ـ روبرت ماجليولا، التناول الظاهري للأدب، ترجمة عبد الفتاح الديدي، العدد 3 سنة 1981.‏

    6 ـ سماح رافع محمد، الفينومينولوجيا عند هوسرل، دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد ط1/1991.‏

    7 ـ صالح هويدي، النقد الأدبي الحديث، قضاياه ومناهجه، ليبيا ط1 سنة 1426هـ.‏

    8
    ـ عبد القادر شرشار، نظرية القراءة وتلقي النص الأدبي، الموقف الأدبي،
    مجلة أدبية شهرية يصدرها اتحاد الكتاب العرب بدمشق سوريا العدد 367 سنة
    2001.‏


    9 ـ عبد القاهر الجرجاني:‏

    ـ أسرار البلاغة في علم البيان، تصحيح وتعليق الشيخ محمد رشيد رضا، دار المعرفة بيروت، لبنان.‏

    ـ
    دلائل الإعجاز في علم البيان، صححه الشيخ محمد عبده والشيخ محمد محمود
    التركزي الشنقيطي، ووقف على تصحيح طبعه وعلق على حواشيه الشيخ محمد رشيد
    رضا، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.‏


    10 ـ أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، البيان والتبيين، دار الفكر للجميع، سنة 1968.‏

    11 ـ محمد المبارك، استقبال النص عند العرب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ط1 سنة 1999.‏

    12
    ـ محمود عباس عبد الواحد، قراءة النص وجماليات التلقي بين المذاهب الغربية
    الحديثية وتراثنا النقدي ـ دراسة مقارنة ـ دار الفكر العربي، القاهرة ط 1
    سنة 1996.‏


    13 ـ مقدمة مجلة دراسات سيميائية أدبية لسانية، الدار البيضاء، المغرب العدد 6 سنة 1991.‏

    14 ـ ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، لبنان، ط 3 سنة 1994.‏

    15
    ـ مي أحمد يوسف، النص القديم والتلقي الجديد، إحدى رسائل أبي العلاء
    المعري أنموذجاً، مجلة الآداب والعلوم الإنسانية والتربوية، جامعة دمشق،
    المجلد 15 العدد 4 سنة 1999.‏


    16 ـ نجيب فايق أندراوس، المدخل في النقد الأدبي، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة سنة 1984.‏

    (1)ينظر نظرية التلقي والنقد الأدبي العربي الحديث، أحمد بو حسن، نظرية التلقي ـ إشكالات وتطبيقات ص 11 رقم 24.‏

    (2) سوةر فصلت/ 35.‏

    (3) سورة النور/15.‏

    (4) سورة البقرة/37.‏

    (5) ينظر لسان العرب، ج15/256.‏

    (6) البيان والتبيين ج1/136.‏

    (7) المصدر نفسه ج1/55.‏

    (Cool ينظر نظريات القراءة وتلقي النص الأدبي، حسين خمري، مجلة العلوم الإنسانية، العدد 12/1999 ص 177.‏

    (9)المقصود بالمنجّم هنا إرسال إشعاعات وإشارات ضوئية توجّه القارئ.‏

    (10) المدخل في النقد الأدبي ص 156.‏

    (11)دلائل الإعجاز ص 156.‏

    (12)دلائل الإعجاز ص 102.‏

    (13)المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر 3/97.‏

    (14) دلائل الإعجاز ص 324.‏

    (15) البيان والتبيين ج1/65.‏

    (16) دلائل الإعجاز ص 199.‏

    (17) أسرار البلاغة ص 118.‏

    (18) دلائل الإعجاز ص 68.‏

    (19) ينظر استقبال النص عند العرب ص 220.‏

    (20) المرجع نفسه ص 284.‏

    (21) ينظر قراءة النص وجماليات التلقي ص 80.‏

    (22) أسرار البلاغة ص 16.‏

    (23) ينظر نظرية التلقي، إشكالات وتطبيقات: أحمد بوحسن مجلة كلية الآداب، ص 11 الرباط 1993.‏

    (24) المرجع نفسه ص 14.‏

    (25) ينظر النظرية الأدبية المعاصرة: رامان سلدن، ترجمة جابر عصفور، دار قباء للطباعة والنشر ـ القاهرة ـ سنة 1998، ص 168.‏

    (26) نظرية القراءة وتلقي النص الأدبي، عبد القادر شرشار، مجلة الموقف الأدبي ص 41.‏

    (27)
    الفينومينولوجيا تعمل على تأكيد موضوعية المعنى وتأكيد دور الذات الفاهمة
    من خلال اهتمامها بدراسة الشعور الخالص والكشف عن مبادئه ومضمونه باعتباره
    مبدأ كل معرفة، ينظر الفينومينولوجيا عند هوسرل ص 134.‏


    (28) ينظر النقد الأدبي الحديث، قضاياه ومناهجه، ص 124.‏

    (29) النص القديم والتلقي الجديد، مجلة الآداب والعلوم الإنسانية والتربوية، المجلد 15 العدد 4/1999، ص 94.‏

    (30)
    التجريبية ترى أن للوعي دوراً سلبياً في إدراك الظواهر، والمثالية تستهجن
    العالم الخارجي؛ أما هوسرل فيولي أهمية متكافئة لكلّ من الوعي والموضوع
    الخارجي، ينظر التّناول الظّاهري للأدب، روبرت ماجليولا، ترجمة عبد الفتاح
    الدّيدي، فصول، العدد 3/1981 ص 183.‏


    (31) ينظر مقدمة مجلّة دراسات سيميائية أدبية لسانية، العدد 6/1991 ص 08.‏

    (32) ينظر استقبال النص عند العرب ص 10.‏

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس مايو 16, 2024 12:56 pm