منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    تابع للحقول الدلالية

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    تابع للحقول الدلالية Empty تابع للحقول الدلالية

    مُساهمة   الجمعة يناير 15, 2010 8:34 am

    الفصل الثانينظرية الحقول الدلالية في التراث اللغوي العربي


    عندما نؤرّخ لنظرية الحقول الدلالية العربية، فإنّنا لا نجد في التراث اللغوي العربي ما يشير من بعيد أو قريب إلى المصطلح، والذي يذكر بالضرورة هو أنَّ اللغويين العرب القدماء تفطّنوا تطبيقاً وممارسةً في وقت مبكر إلى فكرة الحقول.
    وهو أمر لا مجال لإنكاره أو إغفاله، على الرغم من أنَّهم لم يعرفوا النظرية بالمفهوم المتداول عند الدارسين العرب أو الغربيين في العصر الحديث.
    ويعود ذلك إلى "أنَّ منهج تصنيف المدلولات حسب الحقول الدلالية صار أكثر المناهج حداثةً في علم المعاني، لأنَّه يتجاوز تحديد البنية الداخلية لمدلول الكلمات بكشفه عن بنية تؤكّد القرابة الدلالية بين مدلولات عدد منها"(1).
    فقد عرف علماء اللغة القدامى الحقول الدلالية انطلاقاً من اللغة نفسها إذ تضمّنت تصنيفاً شاملاً لألفاظها منذ العصر الجاهلي إلى ظهور الإسلام، فالدارس يلفي ما يدلّ على تصنيف الموجودات بمجموعها كالعالم ـ بفتح اللام ـ والعالمين، ويشتمل على الخلق كلّه، والتقسيم للوجود إلى ما يدلّ على الحسّ والشهادة والرؤية والملموس، وماهو مغيّب عن الحسّ، ويجد ألفاظاً تدلّ على الوجود والعدم والمكان والزمان والدهر والأبد والأزل.
    ومنها ما يدلّ على أنواع الموجودات كالنبات والحيوان، وللحيوان أنواع منها الإنسان والوحوش والطير، وأنواع أخرى فيما عدا الإنسان من السباع والهوام والسوام والحشرات والجوارح والبغات، وضمّ هذا التصنيف الأخلاق والمشاعر مثل المكارم والمثالب والمحاسن والمساوئ والفرح والحزن(2).
    ويدلّ هذا التصنيف الذي يدعو إلى الدهشة والإعجاب على المستوى الفكري الذي بلغته العقلية العربية، والتي قلّما وصلت إليها الأمم في مثل هذا الطور المبكّر من تاريخ حياتها(3)، على الفهم لمفردات لغتها التي توحي للباحث بمعرفتهم بالحقول الدلالية والعلاقة الموجودة بينها والاتّصال القائم بينها.
    وفكرة التصنيف عينها قديمة في التأليف العربي، إذ نلفي الجاحظ يشير إلى جانب منها في كتابه "الحيوان"، حين صنّف الموجودات الرئيسية في الكون قائلاً: "إنّ العالم بما فيه من الأجسام على ثلاثة أنحاء: متّفق، ومختلف، ومتضادّ، وكلّها في جملة القول: جماد ونام.. ثمَّ النامي على قسمين: حيوان، ونبات، والحيوان على أربعة أقسام: شيء يمشي، وشيء يطير، وشيء يسبح، وشيء ينساح، إلاَّ أنَّ كلّ طائر يمشي، وليس الذي يمشي، ولا يطير يسمّى طائراً. والنوع الذي يمشي على أربعة أقسام: ناس، وبهائم، وسباع وحشرات"(4).
    والجاحظ بهذه الإشارة موفّق في التحليل التكويني أو السيمي للمعنى الذي أصبح منهجاً متداولاً لدى كثير من الباحثين.
    ولا ريب في أنَّ اللغويين العرب القدامى حينما جمعوا اللغة من مصادرها الأصلية، ومنابعها الصافية، وتمييزهم بين أرباب الفصاحة، وانتهائهم من البحث الميداني، غلبت عليهم نزعة التصنيف والتنظيم والتبويب، فأخذ كلّ عالم يجمع مادّته في الموضوع الذي يودّ التصنيف فيه(5).
    وهو التأليف الخاص الذي يعنى بالحذق الشامل والإدراك لمختلف صوره؛ لأنَّ العامَّة لا يعنيهم من اللغة إلاَّ القدر الضئيل الذي عليه يعيشون، وبه يتفاهمون(6). وهي جهود تبيّن أنَّ العرب كانوا سبّاقين إلى تصنيف المفردات بحسب المعاني أو الموضوعات.
    وتوّجت مرحلة التجميع للألفاظ العربية، بالخطوة الأولى لهذا التصنيف وهي مرحلة الرسائل الكثيرة التي احتوت كلّ واحدة منها على ألفاظ خاصة في مجموعات دلالية صغيرة تتعلّق كلّ منها بموضوع مفرد في موضع مفرد، وهي رسائل من صميم الحقول الدلالية، وإن لم يشر القدماء إلى المصطلح.
    وتشكّل رسائل "اللبن" و"المطر لأبي زيد الأنصاري(7)، و"النبات" و"الشجر" و"خلق الإنسان" للأصمعي (ت 216هـ)، و"الخيل" لأبي عبيدة معمر بن المثنّى(9)، أهمّ الأعمال التي طبعت مرحلة تدوين اللغة، فكانت اللبنة الأولى لمعاجم العربية كما عرفت فيما بعد(10).
    بالإضافة إلى رسائل في "النخل" و"الكرم"، و"الشاء"، و"الإبل" وأسماء "الوحوش"، و"الخيل"، و"النبات"، و"الشجر"، و"النبات" لأبي حنيفة الدينوري.
    وكتب أبو عبيد القاسم (ت 224هـ)، عن "الغنم" (النعم)، و"البهائم"، و"السباع" و"الطير"، و"الهوام"، و"حشرات الأرض"، واشتهر ابن السكيت (ت244هـ)، في هذا اللون من التأليف.
    كما اشتهر ـ أيضاً ـ أبو حاتم السجستاني (ت248هـ)، وابن خالويه وكتب أحمد بن وتد (ت299هـ)، عن "النبات والأنواء"، وألّف ابن دريد (ت321هـ)، في "السرج"، و"اللجام"، و" المطر" و"السحاب"، والزجاج (ت 415هـ)، وعبد الله بن سعيد الخوافي (ت480هـ)، ومن المتأخّرين الصاغاني (ت659هـ)، وشرف الدين علي بن يوسف بن حيدرة الطبيب (ت 667هـ)، (11).
    ويقال إنَّ أوَّل من ألّف في الحيوان هو أبو خيّرة الأعرابي، إذ أخذ عنه أبو عمرو بن العلاء، ثمَّ أبو عمرو الشيباني، فكتب عن النخل والعسل، كما كتب أبو عبيد عن الحّيات والعقارب، وألّف في ـ الخيل ـ خاصة ـ أبو مالك عمرو بن كركرة، والنضر بن الشميل (ت204هـ)، وهشام الكلبي (ت 204هـ)، والأصمعي(12).
    وتتابعت الرسائل الموضوعية فعمدت بعضها إلى التصنيف الصرفي، وكثرت الرسائل اللغوية في الإبدال والأبنية ليونس بن حبيب، وابن مرار الشيباني كرسائل الهمز والأبنية نحو (فعلت) و(أفعلت)، وألّف في هذه المواضيع الفرّاء أيضاً.
    وتطوّرت الرسائل إلى التفريع الصرفي المبني على الأصوات الذي أضحى في ضوء النظرية الدلالية مقياساً يعوّل عليه في توزيع النظام اللساني إلى مجموعات متميّزة، تكوّن في مجملها نسقاً أو شبكة ا لعلاقات لهذا النظام.
    وتبنّى منذ القديم كثير من الباحثين هذا المقياس، فوظّفوه في تصنيف الحقول الدلالية انطلاقاً من بنية صرفية صوتية تعدّ نواة لتشكيل نظام الكلمة، وهو الأمر الذي جعل بعضهم يفرد كتباً لأنواع هذه الحقول نحو(المقصور والممدود) لـ(ابن دريد) (ت321هـ)، فضّمنه مجموعات فرعية قائمة على التقابل الصرفي الصوتي، ويمكن توضيح ذلك بالشكل الآتي:

    ـ ما يفتح أوّله فيقصر ويمد والمعنى مختلف.
    ـ ما يكسر أوّله فيقصر ويمدّ والمعنى مختلف.
    حقل المقصور والممدود ـ ما يكسر أوّله فيقصر ويفتح ويمدّ والمعنى واحد.
    ـ ما يضمّ أوّله فيقصر ويكسر فيمدّ والمعنى واحد.
    ـ ما يفتح أوّله فيقصر ويكسر فيمدّ والمعنى واحد(13).

    وظهرت رسائل البلدان والمواضع كجبال العرب لـ(خلف الأحمر)، ومنازل العرب لـ(ابن المطرّف)، والبلدان لـ(ابن هشام الكلبي)، فبهذه الأعمال يكون العرب قد بلغوا في هذا الميدان الغاية والمبتغى والقصد(14).
    "ويلاحظ أنَّ التصنيف الدلالي توسّع في اتّجاه آخر، إذ وجد بعض اللغويين حاجة المتأدبين إلى انتقاء ألفاظ معيّنة لمعان محدّدة تحديداً دقيقاً، فكان من ذلك كتب متعدّدة مثل (جواهر الألفاظ)، لـ(قدامة بن جعفر)، و(سحر البلاغة وسرّ البراعة) لـ(الثعالبي) وغير ذلك".(15).
    وتعدّ كتب الحشرات ولى أولى الرسائل من حيث الظهور، والظاهر أنَّهُ التفت إليها اللغويون وألّفوا فيها بسبب تأثّرهم بالمفسّرين الذين تطرّقوا إلى أنواعها لأنَّ القرآن الكريم أشار إلى طائفة منها مثل النحل، والنمل، والذباب، والعنكبوت، والجراد والبعوض...(16).
    والثابت أنَّ معاجم المعاني أو الموضوعات التي تنطلق من "ماهية الفكر إلى المفردات، أو ترصد التسميات المختلفة التي تنطبق على مفهوم معيّن أو على منظومة من المفاهيم ترتبط ببعضها البعض بوحدة الحال"(17). أي أنّها "ترتّب الألفاظ في مجموعات تنضوي كلّ منها تحت فكرة واحدة، فالأسرة كفكرة، أو محور عام، يجد فيه الباحث جميع الألفاظ الدالّة على الأقارب سلفاً كانوا أم أنداداً، أم خلفاً، وهذا بطبيعة الحال يسهّل مهمّته ويساعده في البحث عن مطلبه والحصول عليه في أسرع وقت ممكن"(18).
    وكانت نتيجة مرحلة الرسائل الدلالية ذات الموضوعات المفردة، أن سعى بعض اللغويين إلى ضمّها إلى معاجم مع الإبقاء على التصنيف الدلالي، كـ(الغريب المصنف) لـ(أبي عبيد القاسم بن سلاّم الهروي)(ت224هـ)(19)، و(كتاب الألفاظ)، لـ(ابن السكيت)(ت224هـ)(20)، و(مبادئ اللغة للإسكافي)(ت421هـ)، و(فقه اللغة وأسرار العربية) لـ(الثعالبي) (ت429هـ)، و(نظام الغريب في اللغة)، لـ(الربيعي) (ت480هـ)،(21) و(المخصّص) لـ(ابن سيده) (ت485هـ)، و(كفاية المتحفّظ ونهاية المتلفّظ في اللغة العربية)، لـ(ابن الأجدابي) (ت600هـ)(22).
    ويصرف (الهمذاني) (ت 320هـ)(23) في كتابه "الألفاظ الكتابية" همّه إلى انتقاء تعبيرات، بعضها جمل كاملة، مرتّبة بحسب الموضوعات لإمداد الكتّاب بها ومساعدتهم فيما يكتبون، ولا سيّما كتّاب الدواوين الذين يحتاجون إلى أساليب فصيحة يضعونها في خطاباتهم(24).
    ولا ريب في أنّ عمل اللغويين العرب القدامى يختلف عن مثيله لدى الأوربيين في العصر الحديث، لأسباب أهمّها الزمان وتوسّع آفاق الدرس وعمق تقنياته ومناهجه، وليس في هذا ضير يلحق بهم، إذ كانوا في عصرهم سبّاقين مبتكرين، وما زال في آثارهم كثير من الأفكار الرائدة التي تحتاج من أجيال الأمّة العربية دراستها والدعاية لها حتّى تصل إلى حلقات الدرس اللساني المعاصر(25)، وتوضيحها للّذي لم يتمكّن من الاطلاّع على تراثهم في أصله، وذلك بترجمته ونقل معارفهم بأنفسهم إلى غيرهم من الأمم حتّى لا يصيبها التشويه، وتكون إنتاجاتهم المعرفية بين غيرهم ويشعرون بمساهمتهم في الثقافة الإنسانية.
    ولا يمكن القول إنّ التأليف العام المتعلّق بالمعاجم المختلفة كـ "العين" للخليل ابن أحمد الفراهيدي لم يبدأ إلاّ حين انتهى التأليف الخاص بالرسائل، ولكن ما يمكن الإشارة إليه هو أنّ تلك المرحلة الخاصّة سبقت المرحلة العامّة في التفكير أوّلاً ثمّ في التأليف ثانياً.
    ولا يمكن اعتبار التدوين الخاص معاصراً للتدوين العام وكأنّهما نشأا معاً، لأنّ ما وصلنا من ذلك التراث في هذا أو ذاك، ضاع منه كثير من المؤلّفات، ولا ننسى أنّ التأليف الخاص كان في عصر الرواية، حتّى إذا جاء عصر التدوين، أخذ التأليف المعجمي العام طريقه ابتلع من هذا التأليف الخاص ما ابتلع، وعوق أكثره عن أن يأخذ وجوده المستقل.
    وحين نشأ التأليف العام، نشا متأثّراً بهذه الخصوصية، فلم تخضع تلك المعاجم العامة للمنهج اللفظي، أي الترتيب الأبجدي الذي يعدّ مفتاحها الطبيعي، ثمّ من ناحية أخرى وما يجب أن يتّصف به كلّ ما هو عام يفيد العامّة في يسر، إذ خضعت تلك المعاجم لمناهج خاصة ذات أسلوب عقلي يستلزم جهداً خاصاً هو للخاصة"(26).
    ونظراً لأهمّية المعاجم المتخصّصة في تأسيس نظرية الحقول الدلالية عند العرب، نعطي أمثلة ممّا ألّف في مجال "خلق الإنسان" وهي:
    1- كتاب خلق الإنسان للأصمعي (ت216هـ).
    2- كتاب خلق الإنسان لثابت بن أبي ثابت (ت 270هـ).
    3- خلق الإنسان للزجاج (ت310هـ).
    4- مقالة في أسماء أعضاء الإنسان لأحمد بن فارس (ت 395هـ).
    5- كتاب خلق الإنسان للإسكافي (ت 421هـ) –مخطوط (27).
    كتاب خلق الإنسان للأصمعي:
    هو أوّل كتاب يصل متكاملاً في هذا الموضوع، وهو يضمّ الحمل والولادة، وأعمار الإنسان، أسماء جماعة الخلق، جسم الإنسان وتسمية كل الأعضاء، الرأس، العنق، الكتف، الظهر، القلب، الصدر، البطن، اليد، الرجل، أعضاء التناسل عند الرجل والمرأة، وأوصاف عامة عن كلّ منهما.
    وممّا تميّز به هذا الكتاب هو عناية الأصمعي بالوصف التشريحي لجسم الإنسان من الخارج ومن الداخل على السواء، وإشارته إلى وظائف هذه الأعضاء، وأدقّ خصائصها، وعيوبها وأمراضها وطرق مداواتها.
    ويعتمد في كتابه على إيراد الكلمات الخاصّة بكلّ عضو دون ترتيب، وذكر كلّ معنى على حدة، كما يكرّر أحياناً عن طريق ذكر شيء ثمّ الاستطراد إلى شيء آخر ثمّ العودة إليه مرّة أخرى وهكذا.
    والأصمعي مبدع في هذا التأليف، إذ جمع مفرداته وعرف معانيها من الأعراب والبادية، وإن كان لا يسجّل الإحالات، اللهمّ إلاّ الاستشهاد بالشّعراء والرجّاز وممن يحتج بلغته(28)، فكان بحثه أصيلاً.
    ويعدّ كتاب الأصمعي مصدراً لغوياً مهمّاً، استقى منه العلماء الذين ألّفوا في الموضوع نفسه، فمنهم من أشار إلى إفادته منه، ومنهم من نقل عنه دون توثيق يذكر.
    وألّف ثابت بن أبي ثابت كتاباً على منوال الأصمعي في "خلق الإنسان"، فخطا خطوات جيّدة تمثّلت في التنسيق والتبويب وكثرة الشواهد ومناقشتها، وتفوّق في تأليفه بإيراد آراء علماء اللغة والنحو والصرف على خلاف الأصمعي الذي كان يهمّه المعنى أكثر من أيّ شيء آخر.
    ولاحظت "وجيهة السطل" تشابهاً كبيراً بين كتاب الأصمعي وكتاب ثابت الذي رجحت أنّه نقله عن الأصمعي دون الإشارة إليه(29).
    أمّا الزجاج فقسّم مؤلّفه على أبواب وهي:
    - باب كلّ عضو ومن تحدّث عنه.
    - باب في صفات هذا العضو أو ذاك.
    والملاحظ أنّه نقل عن الأصمعي وثابت فيما يتعلّق بالمادّة اللغوية، وطريقة عرضها أو منهجها، إلاّ أنّه حذف الحمل والولادة وأسماء الإنسان في مختلف مراحل عمره(30).
    والتطوّر الذي طرأ على التأليف في "خلق الإنسان" واضح وجليّ، فعلى حين يخلط الأصمعي بين الحديث التشريحي حول الأعضاء وصفاتها، يخصّص ثابت أبواباً من كتابه لصفات بعض الأعضاء، ولمّا كان الزجّاج متأخراً عنهما، لجأ إلى تنسيق أفضل حيث تحدّث عن كلّ عضو في باب ثمّ عن صفاته في باب آخر(31).
    أمّا مقالة أحمد بن فارس في أسماء أعضاء الإنسان فهي صغيرة الحجم، ولا تتعدّى عشر ورقات، وعن سبب تأليفها يقول في مقدّمتها: "إنّه ألّف فيما ينبغي على المرء حفظه من خلق الإنسان، حتّى لا يشكو من وجع يعتريه في عضو من أعضائه، ولا يعرف اسمه"(32).
    واتّبع ترتيب سابقيه فبدأ من الرأس، وعرّج على أعضاء التناسل عند الرجل والمرأة، ثمّ ذكر أسماء الشخص عامّة، وموجز رحلة العمر البشرية بقولـه: "يكون ابن آدم طفلاً رضيعاً، ثمّ فطيماً، ثمّ يافعاً"، وينهي مقالته قائلاً: "هذا أوجز ما يقال في خلق الإنسان"(33).
    ولاحظت وجيهة السطل أنّ أحمد بن فارس أهمل ذكر بعض الصفات فقط، وأرجعت ذلك إلى الإيجاز الذي اعتمده، ممّا جعل مقالته تخلو من أيّ شاهد أو استطراد لغوي أو أيّ اسم لغوي آخر(34).
    وألّف الإسكافي –أيضاً- كتاباً في "خلق الإنسان"، وبدأه بمرحلة ولادة الولد، فسمّى مراحل طفولته المبكّرة، وتابع سلسلة أسماء الإنسان مع تدرّجه في السنّ ونموّه، ووقف عند مرحلة الشيب وقفة لغوية، وعرض لجسم الإنسان عرضاً تشريحياً عضوياً مفصلاً، بادئاً بالرأس ومنتهياً بالقدمين، وخصّص في الأخير باباً للحمل والولادة.
    وما تميّز به الكتاب هو التنظيم والأسلوب المتماسك المفضي بعضه إلى بعض دون تكلّف أو عناء.
    وعلى الرغم من وحدة الموضوع واللغة والمعاني إلاّ أنّ الإسكافي يتميّز عن متقدّميه بذكر مرادف اللفظ وشرحه التفصيلي، وأورد أسماء العضو المتحدّث عنه أوّلاً، ثمّ تحدّث عنه من الناحية التشريحية، وصفاته وعيوبه(35).
    ومن التعريفات الغريبة في هذا المجال: "البكر: التي لم تتزوّج، والبكر التي ولدت ولدا واحداً"، وهو يندرج ضمن المشترك اللفظي الذي تتعدّد فيه معاني الكلمة الواحدة.
    وإذا كان الإسكافي قد تأثّر بسابقيه فإنّه لم يراع الروح العلمية لأنّه غمط حقّهم ولم يشر إليهم بإحالة أو ذكر.
    من المعاجم المرتّبة على أبواب المعاني أو الحقول الدلالية: "كتاب الألفاظ لابن السكيت" (ت 244هـ)، إذ ذكر فيه باب الغنى والخصب، وباب الفقر والجدب، وباب الجماعة وهكذا، وهو من أهمّ الكتب التي وصلتنا، ويحتوي على مائة وخمسين(150) باباً، ضمّت كلّ واحدة الألفاظ ذات الصلة بالموضوع عينه. مثل باب في الطول، وباب في القصر، وباب في الجوع(36).
    وهو ثروة لغوية هامة جعلته يصنّف ضمن مصادر اللغة، وأضاف إليه التبريزي(502هـ) بعض الإضافات وسمّاه "تهذيب الألفاظ".
    ويرى محمد حسين آل ياسين أنّ ابن السكيت لم يخرج عن المألوف في أسسه المنهجية، بل لم تكن له شخصية واضحة، ذلك أنّه حين يستشهد بالشعراء لم يخرج عن الطبقات الثلاثة الأولى:
    - الجاهليين مثل امرئ القيس والأعشى.
    - المخضرمين مثل الحطيئة وحسان بن ثابت.
    - والإسلاميين مثل الأخطل وابن هرمة(37).
    وروى عن لغويي المدرسة البصرية مثل يونس وأبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد، والكوفية مثل الكسائي والفّراء وأبي عمرو الشيباني وابن الأعرابي، وسجّل ما روي عن أعراب فصحاء، واستشهد بأمثال العرب، ونسب بعض الألفاظ والاستعمالات إلى لغات القبائل العربية مثل بني أسد، وأهل الحجاز، وبني العنبر، كما استشهد بالحديث الشريف أحياناً(38).
    ونشره الأب لويس شيخو في بيروت، وطبعه الطبعة الأولى سنة 1895م، وضمّ إلى حواشيه شرح التبريزي المسمّى "تهذيب الألفاظ"، كما أردف في الصلب بعض زيادات التبريزي وسمّى عمله "كنز الألفاظ"، ثمّ طبعه مرّة أخرى، وأفرد الصلب وحده مع بعض الزيادات وسمّى عمله "مختصر الألفاظ" ونشره سنة 1897.
    وكان عمل ابن السكيت فتحاً جديداً لكلّ اللغويين الذين جاؤوا بعده، والذين اهتمّوا بالظاهرة نفسها، فنسج على منواله ابن قتيبة "أدب الكاتب"، وعبد الرحمن ابن عيسى الهمذاني الذي ألّف "الألفاظ الكتابية" على أبواب المعاني، واقتفى أثرهم الثعالبي (ت429هـ) في فقه اللغة وأسرار العربية"، ووصلت الظاهرة إلى قمّتها في المخصّص لابن سيده (ت485هت)(39).
    ومن الأمثلة التي يمكن الاستشهاد بها من كتاب فقه اللغة للثعالبي في مجال الحقول الدلالية ما أفرده لألوان الإبل فهو يقول:
    "إذا لم يخالط حمرةَ البعير شيء فهو أحمر، فإن خالطها السوادُ فهو أرمك، فإن كان أسود يخالط سوادَه بياضُ كدخان الرمت فهو أورق، فإن اشتدّ سواده فهو جون، فإن كان أبيض فهو آدم، فإن خالطت بياضَه حمرة فهو أصهب، فإن خالطت بياضه شقرة فهو أعيس، فإن خالطت حمرته صفرة وسواد فهو أحوى، فإن كان أحمر يخالط حمرته سواد فهو أكلف"(40).
    ويلاحظ في النصّ وجود حقلين وهما:
    - الأوّل: رئيسي وهو خاص بالألوان المطلقة كالسواد والبياض ونحوهما.
    - والثاني: فرعي خاص بألوان الإبل دون سواها(41).
    والشكل الآتي يوضّح ما سبق:

    المخصّص لابن سيده
    يعدّ المخصّص أشمل وأضخم معجم متوّج لمرحلة الرسائل، ومعاجم الموضوعات التي سبقته، وهو مرتّب بحسب المعاني، متضمّن الحقول الدلالية في أرقى مناهجها وتصنيفاتها، وله أهمّية خاصة لوفرة مادّته، وإحكام بنائه ونضج منهجه ووحدته.
    ويتألّف من كتب تندرج فيها أبواب، وتحمل –أحياناً- الأسماء نفسها التي عرفت بها المفردات القديمة، وتتمحور حول خمسة موضوعات وهي:
    - وجود الإنسان ومظاهره.
    - الحيوانات.
    - الطبيعة بعامّة.
    - الإنسان في المجتمع.
    - المسائل النحوية والصرفية(42).
    وجمع ابن سيده بعض المحاور الرئيسية المختلفة من حيث الطول ووفرة المادّة، وسار على أساس التدرّج المعتمد على المنطق والعقل، وأوضح ذلك قائلاً:
    "فأمّا فضائل هذا الكتاب، من قبل كيفية وضعه، فمنها تقديم الأعمّ فالأعمّ على الأخص فالأخص، والإتيان بالكليّات قبل الجزئيات والابتداء بالجواهر والتقنية بالأعراض، على ما يستحقّه من التقديم والتأخير، وتقديمنا كمّ على كيف، وشدّة المحافظة على التقييد والتحليل..."(43).
    ووفّق ابن سيده إلى حدّ كبير في إتقان معجمه وإحكامه على الرغم من ضخامة المادّة اللغوية المجموعة فيه، وذلك حين اتّخذ من الإنسان محور معجمه الأوّل، ومركز التنسيق فيه، فأدار حوله وبكيفية منطقية متدرّجة مختلف الموضوعات المرتبطة به، وساير حياته خطوة خطوة من المهد أو ما قبله، ودرس نشاطاته الاجتماعية والفكرية والدينية والمادية، وهذا ما جعل عمل ابن سيده مثيراً لإعجاب معاصريه واللغويين الذين جاؤوا بعده(44).
    وصرّح ابن سيده بمثل هذا في مقدّمة معجمه قائلاً: "لمّا وضعت كتابي الموسوم "بالمحكم" مجنّساً لأدلّ الباحث على مظنّة الكلمة المطلوبة. أردت أن أعدل به كتاباً أضعه مبوّباً، حين رأيت ذلك أجدى على الفصيح المدره، والبليغ المفوّه، والخطيب المصقع، والشاعر المجيد المدقع، فإنّه إذا كانت للمسمّى أسماء كثيرة وللموصوف أوصاف عديدة، تنقّى الخطيب والشاعر منهما ما شاءا، واتّسعا فيما يحتاجان إليه، من سجع أو قافية، على مثال ما نجده نحن في الجواهر المحسوسة، كالبساتين تجمع أنواع الرياحين، فإذا دخلها الإنسان أهوت يده إلى ما استحسنته حاسّتا نظره وشمّه"(45).
    والذي يتتبّع أبواب هذا المعجم وفصوله يدرك التشابه بينه وبين المعجمات الموضوعية الحديثة المؤسّسة على نظرية الحقول الدلالية، على الرغم من الفارق الزمني الذي يفصل بين العملين.
    مع العلم أنّ هذا النوع من المعاجم لم يظهر في أوربا إلاّ بعدما نشر روجيه (ROGET) معجمه (THESAURUS OF ENGLISH WORDS AND PHRASES) الذي طبع لأوّل مرّة سنة 1852، وكذلك معجم الكلمات المتناظرة في الفرنسية لبواسيير (BOISSIERE).
    ومن الحقول الدلالية التي احتواها حقل الإنسان: فرع الحمل والولادة، وما يخرج من الولد، الرضاع والفطام، والغذاء، وسائر ضروب التربية، الغذاء السيّئ للولد...(46).
    ونجد الأصول الرائدة للتفريع المبني على الصيغ الصرفية عند ابن سيده في كتابه "المخصص" الذي يعدّ معجماً للحقول الدلالية دون منافس في التراث اللغوي العربي، وهو الكتاب الذي يضمّ في ثناياه زخماً كثيفاً من الحقول المصنّفة وفق مقاييس متنوعة منها: تفريع الكلمات من حيث العلامات الصوتية فأفرد له قسماً هاماً، وهو يتنوع بتنوّع الأبنية المحورية للتفريع، ومن ذاك حقل خاص بالثنائية /فُعلٌ وفَعَلٌ/ الذي يمكن توضيحه بالشكل الآتي:

    وتأتي كتب الفروق نموذجاً لمعاجم المعاني أو الموضوعات وقد حوت تصنيفاً للحقول الدلالية، ولكن لم يبق منها إلاّ بعضها مثل كتاب قطرب (206)م وآخر للأصمعي(50).
    وسمّى قطرب كتابه "الفروق"، ما خالف فيه الإنسان البهيمة في أسماء الوحوش وصفاتها، وعلى الرغم من أن الكتاب يحمل عنوان الإنسان إلا أنّه لم يتكلّم عنه، وتحدّث عن أسماء الحيوان؛ وأسماء الجماعات وأصواتها.
    والفروق تعني اختلاف الألفاظ وحدة المسميات بين نوع من المخلوقات ونوع آخر، أو بين فصائل النوع الواحد –أحياناً- مثل إطلاق الشفة للإنسان، المشفر لذوات الخف، المجفلة لذوات الحافر، والمقمة والمرمة لذوات الظلف، والفنطسة للخنزير خاصة.
    أما الأصمعي فجاء تقسيم كتابه على ثلاثة وعشرين باباً، عرض فيه لما هو خاص بالذكر وما هو خاص بالأنثى، يليه المخاط فالبصاق فالعرق فالجلوس، والتغوّط، ثم الغلمة والنكاح، فالحمل والولادة، ثم أسماء الأولاد، فأسماء الجماعات وأخيراً الأصوات(51).
    ولا نبالغ إذا قلنا إنّ الحقول الدلالية قد تجلّت –أيضاً- في كتاب "الزّينة" لأبي حاتم السجستاني (ت248هـ) الذي انفرد بمنهج مميّز في درس اللغة؛ واتّسم بالمعالجة التاريخية للألفاظ، وتتبّع اللفظ وتطوّر دلالته من العصر الجاهلي إلى الإسلامي وما أضفاه الإسلام من معان جديدة على الألفاظ، واضعاً بذلك لبنة المعجم التاريخي لألفاظ العربية، واقتصرها على جانب واحد من مفردات اللغة الخاصة بألفاظ الحياة الدينية؛ ودعا إلى بحثها بحثاً يلتزم بمجالاتها الدلالية أو قطاعاتها المختلفة، فكلّ مجال أو قطاع أو حقل لغويّ على حدة يحدّد دلالة كلّ كلمة تحديداً أدقّ.
    وكان أبو حاتم قريب المنحى من بعض النظريات التي عرفها البحث اللغوي المعاصر كنظرية السياق أو نظرية المقام.
    وسمّى كتابه "الزينة" لأنّ الذي كان يعرفه، يتزيّن به في المحافل، ويكون منقبة له عند أهل المعرفة، ولعلّ أكثر الناس عقلوا عن الواجب عليهم في تعليمها، واللازم في معرفتها(52).
    وكان الهدف من تأليف الرسائل التي تطوّرت إلى معاجم المعاني تعليمياً بالمعنى الواسع للمصطلح، لأنّها تعتبر أداة تمدّ الكاتب بالكلمات التي يراها أكثر ملاءمة من غيرها لعرض أفكاره في دقّة وأناقة حول موضوع معين(53)، فهي تساعده على اختيار وانتقاء ما يناسب أفكاره من كلمات للتعبير بها عمّا يختلج في صدره.
    وليس غريباً أن نجد مؤلّفي المعاجم يصرّحون بهذا الهدف التعليمي، لما شعروا به من مسؤولية اتّجاه اللغة العربية، واتّجاه الأجيال لتعلّمها وتعليمها، وهي الغاية التي دفعت كلّ واحد إلى المساهمة بحبّة حصاة في بناء صرح علوم العربية وبالتالي بناء المعارف والعلوم في الحضارة العربية الإسلامية.
    فالهمذاني (ت320هـ) في مقدمة كتابه "الألفاظ الكتابية" يقول: "ووجدت من المتأخّرين في الآلة قوماً أخطأهم الاتّساع في الكلام، فهم متعلّقون في مخاطباتهم وكتبهم باللفظة الغريبة والحرف الشاذ، ليتميّزوا بذلك من العامّة ويرتفعوا عند الأغبياء عن طبقة الحشو. والخرس والبكم أحسن من النطق في هذا المذهب الذي تذهب إليه هذه الطائفة في الخطاب.
    وألفيت آخرين قد توجّهوا بعض التوجّه، وعلوا عن هذه الطبقة، غير أنّهم يمزجون ألفاظاً يسيرة –قد حفظوها من ألفاظ كتاب الرسائل- بألفاظ كثيرة سخيفة من ألفاظ كتاب العامة، استعانة بها، وضرورة إليها، لخفّة بضاعتهم، ولا يستطيعون تغيير معنى بغير لفظه لضيق وسعهم، فالتكلّف والاختلال ظاهران في كتبهم ومحاوراتهم، إذ كانوا يؤلفون بين الدرّة والبعرة في نظامهم.
    فجمعت في كتابي هذا لجميع الطبقات أجناساً، من ألفاظ كتّاب الرسائل والدواوين، البعيدة، من الاشتباه والالتباس، السليمة من التقعير، المحمولة على الاستعارة والتّلويح، على مذاهب الكتّاب وأهل الخطابة –دون مذاهب المتشدّقين والمتفاصحين، من المتأدبين والمؤدّبين المتكلفين البعيدة المرام، على قربها من الأفهام، في كل فنّ من فنون المخاطبات، ملتقطة من كتب الرسائل، وأفواه الرجال، وعرصات الدواوين، ومحافل الرؤساء، ومتخيّرة الألفاظ من بطون الدّفاتر، ومصنّفات العلماء، فليست لفظة منها إلاّ وهي تنوب عن أختها في موضعها من المكاتبة، أو تقوم مقامها في المحاورة: إما بمشاكلة أو بمجانسة أو بمجاورة. فإذا عرفها العارف بها وبأماكنها التي توضع فيها كانت له مادة قوية وعوناً وظهيراً"(54).
    فمنهج الهمذاني في النص واضح وكذا الغرض التعليمي الذي من أجله ألّف كتابه، وهو الوصول إلى معرفة المعنى الدقيق للفظ ومكان وضعه، ومرادفه حتى يحسن الكاتب التعبير عن أفكاره وأحاسيسه.
    ونال كتاب الهمذاني حظوة كبيرة بين علماء اللغة مثلما عبّر عن ذلك ألوسي زيادة في مقدمته: "هذا الكتاب الجليل الذي ليس له في باب مثيل، يحتاج إليه كل كاتب نبيل، أو أديب يطلب التفنّن في الأقاويل"(55).
    وما يلاحظ هو أن اللغويين اتّجهوا إلى جمع اللغة من البادية وتحديد معانيها على غرار ما فعل المحدّثون والفقهاء حين اتّجهوا إلى جمع الحديث وفتاوي الصحابة والتابعين يدوّنونه منذ السنوات الأولى من الإسلام ودراسة الحديث وحفظه ثمّ بدأت حركة التدوين بشكل منظّم في القرن الثاني للهجرة.
    واتّبع اللغويون نمط المحدّثين في تجريح الرجال وتعديلهم متأثّرين بعلماء الحديث فعدلّوا الخليل بن أحمد، وأبا عمرو بن العلاء، وجرّحوا قطربا، الذي قال فيه ابن السكيت: "كتبت عنه قمطراً ثمّ تبيّنت أنه يكذب في اللغة، فلم أذكر عنه شيئاً"(56).
    ووضع اللغويون شروط منهجهم لأخذ اللغة عن الرواة والأعراب مثل العدل، ووضعوا شروط الأخذ السليم حتّى تكون حجّة تعتمد في تفسير التراث العربي سواء كان حديثاً أو شعراً أو نثراً مثل ذكر السند "لأنّ الجهل بالناقل يوجب الجهل بالعدالة"(57).
    ويعدّ العدل السمة الأساسية التي ينبغي أن تتوافر في ناقل الحديث الصحيح، وسبب جعل رواية اللغة في مرتبة واحدة من الأهميّة مثل رواية الحديث، هو أنّ اللغة وسيلة لا غنى عنها في تفسيره وتحليله وتأويله، فإذا لم يتوافر عنصر الصدق والأمانة في حامل اللغة سقطت قيمة ما يؤخذ عنه، وإن انتسب إلى أفصح القبائل لغة.
    وفي هذا يقول ابن فارس: "تؤخذ اللغة سماعاً من الرواة الثقات ذوي الصدق والأمانة ويتّقي المظنون، فحدّثنا علي بن إبراهيم عن المعداني عن أبيه عن معروف ابن حسّان عن اللّيث عن الخليل، قال: إنّ النحارير ربمّا أدخلوا على الناس ما ليس من كلام العرب، إرادة اللبس والتعنيت..."(58).
    وظهر تأثّرهم في تنظيم وترتيب وتصنيف رسائلهم ثم معاجم المعاني بالمحدّثين الذين جمعوا أحاديث "الصلاة" ووضعوها في كتاب سمّوه "الصلاة"، وأحاديث البيع وسمّوه "كتاب البيع" كما فعل ذلك مالك في "الموطأ".
    ولذلك يعد التصنيف للغة إلى حقول منهجاً عربياً أصيلاً، نابعاً من اللغة ذاتها التي رتّبت مفرداتها وصنّفتها بالطريقة التي رأيناها سابقاً، وما حوته من ألفاظ متقاربة المعنى أو متضادة، ممّا دعا اللغويين إلى جمعها في موضع واحد، ومثال ذلك ما روي عن الأصمعي: "من أصوات الخيل الشخير والنخير، والكرير: فالأوّل من الفم، والثاني من المنخرين، والثالث من الصدر"، ومثل قوله: "الهتل من المطر أصغر من الهطل".
    ولمّا رأوا كلمات متقاربة في اللفظ ومتقاربة في المعنى حدّدوا معانيها بدقة، كذكر الكسائي ما يأتي: "القضم للفرس، والخضم للإنسان، والقدّ طولاً، والقطّ عرضاً"..
    ووجدوا الكلمة الواحدة ومعناها متعدّداً، فحدّدوا معانيها، مثل قول الأصمعي: "العَينُ النقد من الدراهم، العين: عين البئر؛ والعين عين الميزان؛ العين عين النفس؛ أن يعين الرجل، الرجل ينظر إليه فيصيبه بعينه(59)، وهو ما يطلق عليه بالمشترك اللّفظي الذي يعدّ خاصيّة من خصائص العربية.
    وبدأ علماء اللغة في رواية اللغة كما بدأ أهل الحديث، فكانوا يذكرون السند، فيقول ثعلب مثلاً في أماليه: حدّثني أبو بكر بن الأنباري عن أبي العباس عن ابن الأعرابي، قال: "لحن الرجل يَلحَنُ لحناً فهو لاحن؛ إذا أخطأ، ولحن يلحنُ لحناً فهو لحن، إذا أصاب وفطن"، ولكن علماء اللغة لم يستمسكوا بذلك طويلاً كما استمسك المحدّثون، فلم يكن لهم معجم لغة للسند كمسند البخاري ومسلم.
    والسبب في هذا أن اللغة أوسع من الحديث فكلّ أفراد المجتمع يتكلّمونها، أمّا الحديث فهو لبشر واحد يوحى إليه، فلو اتّبع الإسناد في كلّ كلمات اللغة وكلّ اشتقاق لبلغ الجمع حداً لا يقدر، ولأن اللغة فيما عدا ألفاظ القرآن ليس لها من التقديس ما للحديث.
    وممّا اتبع في اللغة على نمط الحديث أنّهم رتّبوا ما ورد منها ترتيب أهل الحديث، ففصيح وأفصح، وجيّد وأجود، وضعيف ومنكر ومتروك، كما في الحديث من صحيح وحسن وضعيف، فقالوا إنّ اللغة التي ورد بها القرآن أفصح مما وردت في غيره، فقالوا: "أوفى بالعهد أفصح من وفى بالعهد" لأن الأولى لغة القرآن(60).
    وإذا كان القدماء قد أبدعوا في مجال اللغة التصنيف وفق الحقول الدلالية فكانت لهم الرسائل التي مهّدت للتأليف المعجمي الشامل، وعلى الرّغم من تميّزها فإنّه لا يشكّ أحد من الدارسين في أنّ العرب لم يقلّدوا فيها غيرهم، وكانت من إبداعهم، خاصّة إذا علمنا أنّ هذا النوع من التأليف لم تعرفه الأمّة اليونانية والرومانية ولم تشهد مثيله أوربا إلا في الفترات المتأخّرة.
    والغريب هو أن النظرة إلى كتب الموضوع الواحد أو كتب المعاني لم توف حقّها، ذلك أنّها درست باعتبارها حلقة عابرة يجتاز منها إلى القواميس الشاملة.
    ويعود عدم الاهتمام الجدّي بها إلى عدّة أسباب منها:
    - إن المعجم العربي الشامل مثل "العين" للخليل بن أحمد شغل الدارسين عن المؤلّفات الأخرى، فأهملوها ولم يخصّصوا العناية اللاّزمة لها ولكن مهما يكن من أمر فلا يمكن اعتبارها معبراً للتأليف المعجمي الشامل فحسب، لأنّها لو لم تكن مهمّة وضرورية شأنها شأن معاجم الألفاظ لما استمّر تأليفها بعد ظهور عدد من القواميس في فترات متعاقبة.
    ويلاحظ أنّ المستشرقين هم الأوائل الذين وجّهوا عنايتهم إلى هذا التراث (تراث الرسائل) في العصر الحديث، فحقّقوه ونشروه منذ بداية القرن العشرين، فنشر "أوجست هفنر" ضمن كتاب "الكنز اللغوي في اللسان العربي" الذي صدر في 1903، وفي ليبزج 1905، كتاب "خلق الإنسان للأصمعي"، كما نشر له كتاب "الشاء"، وكذلك نشر له كتاب الإبل في ليبزج 1905، وفي سنة 1908 نشر له –أيضاً- كتاب "النبات والشجر".
    كما نشر فريتش كرتكوي كتاب "الخيل" لأبي عبيدة معمّر بن المثنّى، ونشر وليام رايت كتاب "صفة السرج واللجام لابن دريد(61).
    ولمّا كانت هذه الرسائل ومعاجم الموضوع الواحد ومعاجم المعاني ذات أهميّة قصوى في إبراز الجذور والتأسيس لنظرية الحقول الدلالية، فقد ألفينا بعض العرب المحدثين ممّن اتّجه إلى نشر هذا التراث، فكان منهم، عزّة حسين الذي نشر كتاب النوادر لأبي عبد الأعرابي في سنة 1961 بدمشق، وإبراهيم السامّرائي الذي حقّق كتاب "خلق الإنسان للزّجاج" وطبعه في بغداد عام 1963، ونشر رمضان عبد التوّاب كتاب البئر لابن زياد الأعرابي في 1970، وحقّق ونشر عبد الله يوسف كتاب النّبات للأصمعي في عام 1972.
    وإذا كنا لا نعثر على بحث يحمل عنواناً لنظرية الحقول الدلالية فإن، الدراسة اللسانية المعاصرة بدأت تستند إلى التراث والإفادة ممّا وصل إليه الغربيون في هذا المجال لإعادة صياغة تلك الجهود المؤسّسة لنظرية الحقول الدلالية ومعاجم المعاني.
    ونذكر على سبيل المثال ما قامت به أبركان فاطمة في بحثها الموسوم بـ "بعض الجوانب النظرية في المعجم العربي –معجم الألوان نموذجاً- "(62).
    وتزداد العناية بهذا الموضوع لما لـه من أهميّة في صناعة المعاجم الحديثة، والتحليل اللغوي العلمي، والخطابات الأدبية والإعلامية وغيرها.
    ومما سبق يتضح أنّ اللغويين العرب القدامى عرفوا الحقول الدلالية، فتجلّت في ذلك التراث الضخم الذي تركوه للأجيال التي لم تستطع أن تضيف إليه ما يستحق الذكر.
    وهذا ممّا يؤسف له أنّ الفكرة الرائدة تبقى دائماً حبيسة مبدعها أو مبدعيها شأن هذه النظرية شأن النظريات المهمّة التي نلفيها في علم النحو وعلم التراكيب وعلم الأصوات، وعلوم البلاغة..
    وظلّت فكرة الحقول الدلالية حبيسة الرسائل والمعانيّ ولم تتطوّر عبر العصور إلى الدراسة التحليلية للغة في حدّ ذاتها، و إلى النص الأدبي أو علاقة نظرية الحقول الدلالية بالعلوم الإنسانية الأخرى، فكان أن انتظرنا الغربيين ليضيفوا إلى التراث العربي القديم إبداعاتهم لتحقيق عصرنة عمل القدماء، على الرغم من أنّهم لم يعرفوا هذه النظرية إلاّ في فترة متأخّرة كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
    ¡¡
    ¡ الهوامش
    1- ينظر عمار شلواي، درعيات أبي العلاء، ص:36.
    2- ينظر محمد المبارك، فقه اللغة وخصائص العربية، ص: 307- 308.
    3- ينظر محمد المبارك، المرجع نفسه، ص:308.
    4- الجاحظ، الحيوان، ج:1، ص: 26- 27.
    5- ينظر د.عز الدين اسماعيل، المصادر الأدبية واللغوية في التراث العربي، ص:295.
    6- ينظر أبو زيان طالب، المعاجم اللغوية بين ماضيها وحاضرها، ص: 311.
    7- أبو زيد الأنصاري، اللبأ واللبن (ضمن البلغة في شذور اللغة)، أبو زيد الأنصاري.
    8- الأصمعي، كتاب النبات والشجر.
    9- أبو عبيدة معمر بن المثنى، كتاب الخيل.
    10- ينظر أحمد أمين، ضحى الإسلام، ج:1، ص:365 وينظر إبراهيم أنيس، دلالة الألفاظ، ص: 226- 228.
    11- ينظر د.حسن ظاظا، كلام العرب، من قضايا العربية، ص:128.
    12- ينظر د.حسين نصار، المعجم العربي، نشأته وتطوّره، ص:118.
    13- ينظر أحمد حساني، مباحث في اللسانيات، ص:16، عن أبي دريد، المقصور والممدود، ص:21، وما بعدها.
    14- ينظر عمار شلواي، درعيات أبي العلاء، ص:51.
    15- د.أحمد محمد قدور، مبادئ اللسانيات، ص:36.
    16- ينظر عمار شلواي، درعيات أبي العلاء، ص:51.
    17- ريمون طحان، فنون التقعيد وعلوم الألسنية، ص:196.
    18- ينظر عمار شلواي، درعيات أبي العلاء، ص:36.
    19- أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي، الغريب المصنّف في اللغة.
    20- ابن السكيت، أبو يوسف يعقوب بن إسحاق، كتاب الألفاظ.
    21- عيسى بن إبراهيم بن محمد الربيعي، نظام الغريب.
    22- ابن الأجدابي، إبراهيم بن اسماعيل، كفاية المتحفظ ونهاية المتلفّظ في اللغة العربية.
    23- الهمذاني، عبد الرحمن بن عيسى، الألفاظ الكتابية، راجعه وقدّم له الدكتور السيّد الجميلي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط:2، 1998، ص:12- 13.
    24- ينظر د.حسن ظاظا، كلام العرب، ص:128.
    25- ينظر د.أحمد محمد قدور، المدخل إلى فقه اللغة العربية، ص:186.
    26- أبو طالب زيان، المعاجم اللغوية بين ماضيها وحاضرها، ص:316.
    27- ينظر، د.أحمد طاهر حسنين، نظرية الاكتمال اللغوي، ص:160.
    28- ينظر، المرجع نفسه، ص:164.
    29- ينظر، د.وجيهة السطل، التأليف في خلق الإنسان، ص:61- 62.
    30- ينظر، د.أحمد طاهر حسنين، نظرية الاكتمال اللغوي، ص:165.
    31- ينظر المرجع نفسه، ص164- 166.
    32- ينظر، د.وجيهة السطل، التأليف في خلق الإنسان، ص:61.
    33- ينظر المرجع نفسه، ص:62.
    34- ينظر المرجع نفسه، ص:75.
    35- ينظر، د.أحمد طاهر حسنين، نظرية الاكتمال اللغوي، ص:164- 166.
    36- ينظر، د.عز الدين إسماعيل، المصادر الأدبية واللغوية في التراث العربي، ص:304.
    37- ينظر، د.محمد حسين آل ياسين، الدراسات اللغوية عند العرب إلى نهاية القرن الثالث الهجري، ص:307.
    38- ينظر، د.بلعيد صالح، مصادر اللغة، ص:99- 100.
    39- ينظر، د.أحمد طاهر حسنين، نظرية الاكتمال اللغوي، ص:200.
    40- الثعالبي، فقه اللغة، ص:54.
    41- ينظر، د.عز الدين اسماعيل، المصادر الأدبية واللغوية في التراث العربي، ص:304، وينظر، عمار شلواي، درعيات أبي العلاء، ص:54، وينظر د.إبراهيم أنيس، دلالة الألفاظ، ص:23.
    42- ابن سيده، المخصّص، ج:1، ص:10.
    43- ابن سيده، المخصّص، ج:1، ص:10.
    44- ينظر، عمار شلواي، درعيات أبي العلاء، ص:54.
    45- ينظر ابن سيده، المخصّص، ج:1، ص:15
    46- ينظر، أحمد حساني، مباحث في اللسانيات بالنسبة للشكل، ص:70، أمّا المادّة فالمخصّص، ج:4، ص:77.
    47- الرادّة هي الطوّافة في بيوت جاراتها، شوشاء: تعاب بذلك إذا كانت تدخل بيوت الجيران، طلعة قبعة: تطلع ثمّ تقبع رأسها كثيراً، متنمّلة –نملى: لا تستقرّ في مكان.
    48- ينظر، ابن سيده، المخصّص، ج:1، ص:29.
    49- ينظر أحمد طاهر حسنين، نظرية الاكتمال اللغوي، ص:198.
    50- ينظر، د.أحمد طاهر حسنين، نظرية الاكتمال اللغوي، ص:199.
    51- ينظر محمد رياض العشيري، التصوّر اللغوي عند الإسماعيلية، ص:6- 7.
    52- ينظر عمار شلواي، درعيات أبي العلاء، ص:53.
    53- الهمذاني، عبد الرحمن بن عيسى، الألفاظ الكتابية، ص:12- 13.
    54- ينظر، د.إبراهيم أنيس، دلالة الألفاظ، ص:226- 228.
    55- ينظر، أحمد أمين، ضحى الإسلام، ج:2، ص:252- 254.
    56- السيوطي، المزهر، ج:1، ص:141.
    57- المصدر نفسه، ج:1، ص:137- 138.
    58- ينظر أحمد أمين، ضحى الإسلام، ج:2، ص:264.
    59- ينظر المرجع نفسه، ج:2، ص:258.
    60- ينظر، د.أحمد طاهر حسنين، نظرية الاكتمال اللغوي، ص:161.
    61- ينظر، أبركان فاطمة، بعض الجوانب النظرية في المعجم العربي –معجم الألوان نموذجاً.

    ¾¡¾



    الفصل الثالث
    نشأة نظرية الحقول الدلالية عند الغربـيين وتطورها


    تطوّرت نظرية الحقول الدلالية في العشرينيات من هذا القرن، خاصة بعدما فرّق دي سوسير بين الدراسة التاريخية التعاقبية (DIACHRONIE)، والدراسة الوصفية (SNYCHRONIE) للغة التي أولاها أهمية قصوى من البحث، حيث رأى أنّ ما يمكن وضعه من مقارنات فإنّ أوضحها بياناً وأسطعها برهاناً هي تلك التي يمكن أن نقيمها بين كيفية قيام اللغة بدورها وبين كيفية اللعب أثناء مباراة من مباريات الشطرنج، فنحن في كلتا الحالين أمام نظام من القيم نشهد ما يلحقها من تغيّرات... فالذي نلحظه أوّلاً أنّ أيّة مرحلة من مراحل هذه اللعبة توافق كلّ الموافقة حالة من حالات اللغة، فقيمة كلّ قطعة بالنسبة إلى بقية القطع، هي رهينة موقعها من الرقعة، وذلك كما أنّ لكلّ عنصر من عناصر اللغة تتحدّد قيمته بتقابله مع جميع العناصر الأخرى"(1).
    واعتبار اللغة نظاماً من العلامات ترتبط بعلاقة عضوية فيما بينها ابتكار حديث، وثورة لسانية قام بها دي سوسير على منهج دراسة اللغة وتحليل مكوّناتها، ذلك "أنّ قيمة كلّ عنصر لا تتعلق بسبب طبيعته أو شكله الخاص ولكن بسبب مكانه وعلاقاته ضمن المجموع"(2).
    وأوحت فكرة القيمة بتصنيف المدلولات إلى حقول دلالية طبقاً لمبادئ دي سوسير اللسانية وذلك بوضع "تحديد وصفي بنائي للمعنى(3)، وأقرّ بوجود علاقة دلالية بين عدد من مدلولات الألفاظ في النسق اللغوي أسماه في فصل من كتابه "العلاقات السياقية والعلاقات الترابطية والقيمة اللغوية"(4).
    وبيّن أنّه في نطاق اللغة الواحدة تحدّد الكلمات المعبّرة عن الأفكار المتقاربة فيما بينها انطلاقاً من القيمة التي تتضمنّها كلّ واحدة منها، فالمترادفات من قبيل REDOUTER أي "هاب" CRAINDRE "أي خشي" AVOIR PEUR "خاف" ليس لها قيمة خاصة بها إلاّ بتقابلها، ولو انعدمت كلمة REDOUTER من اللغة الفرنسية لا تنقل محتواها إلى منافستيها"(5).
    فالكلمات السابقة (هاب- خشي- خاف) ترتبط دلالياً فيما بينها، ولا نفهم الواحدة منها إلاّ بالنظر إلى دلالة الأخريتين، ومن ثمّ يمكن معرفة قيمة كلّ واحدة منها.
    ولمّا كانت جميعها تشكّل حقلاً دلالياً تتعلّق وحداته الواحدة بالأخرى، فافتراض وجود كلمتين فقط من هذا الحقل مؤدّاه أنّ معنى كلمة منه سينتقل، إلى كلمة أخرى تنافسها لتصبح محتوية على معنى أوسع ممّا كانت تشتمل عليه سابقا.
    ويمكن تشبيه هذا الحقل بالحواس الخمس عند الإنسان التي ترتبط فيما بينها ليتعرّف بها الإنسان على العالم الذي يحيط به، فحرمان فرد من حاسة البصر يجعلها تعوّض في حاسّة أخرى وإن كانت لا تقوم وظيفتها بمهمّتها.
    ويطلق على هذه الكلمات المعبّرة عن الأفكار المتقاربة بالروابط المتشابكة أو علاقات التداعي، أي أن "معنى الكلمة يجب أن يحدّد من خلال الكلمات المتّصلة بها دلالياً، فمعنى الكلمة هو محصلة علاقاتها بالكلمات الأخرى داخل الحقل المعجمي كما يقول ليونز Lyons(6).
    وعلى الرغم من قلّة عدد الكلمات في الحقل السابق الذكر إلاّ أنّها تشكّل مجموعة دلالية صغيرة يضمّها مفهوم عام وهو الخوف، "ومثل هذا صار بعد التطوّر والتحسّن يعرف بمنهج بناء الحقول الدلالية"(7).
    إنّ الكلمات تشكّل نسقاً يأخذ عنصر فيه قيمته ومكانه بالنظر إلى العناصر الأخرى، فالكلمة الفرنسية (MOUTON) أي خروف لها الدلالة نفسها التي تحملها الكلمة الإنجليزية (SHEEP)، إلاّ أنّ قيمة اللفظين ليست متساوية وهذا لعدّة أسباب منها على الخصوص:
    - يسمّي الإنجليز القطعة من اللحم عندما تطبخ وتقدّم للآكلين وكذلك لحم الجزار (MOUTTON) لا (SHEEP) الذي يقصد به "الحيوان الحيّ"، فالاختلاف بين (SHEEP) في الإنجليزية و(MOUTON) في الفرنسية من حيث القيمة راجع إلى أنّ الإنجليزية بازّاء كلمتين متقاربتين في المعنى وهما: (MOUTON) و (SHEEP)، وهذا ما لا نجده في اللغة الفرنسية(Cool.
    وعلى هذا الأساس يستنتج ممّا سبق أن المفردة لا تفهم من خلال علاقاتها الإيجابية التي تقوم بينها وبين باقي مفردات اللغة فحسب، بل قد يتمّ فهمها عن طريق العلاقة السلبية أو الخلافات التي تبعد عن غيرها من المفردات".
    فالمفردة تفهم من خلال مرادفاتها مثل (هاب- خشي- خاف)، أو التخالف مثل (أحمر- أخضر)، أو على أساس العلاقة التحتية مثل (الخزامى تنتظم تحت الزهرة) أو الفوقية (الزهرة تنتظم فوق الخزامى) أو على أساس العلاقة العكسية (باع –اشترى).. الخ(9).
    ويؤدّي بنا ما سلف إلى القول: إنّ المفردات لا تختلف عن الجسم الإنساني المتكوّن من مجموعة من الخلايا التي تشكّل النسيج المكوّن للأعضاء (قلب- كبد- إلى آخره)، وهي تجتمع ضمن نسق (دوراني، تنفسي، إلى آخره)، ويشكّل مجموعها بنى متجانسة تكون عناصرها متعلّقة ببعضها البعض، مثلما يتعلّق شكل النسق الدوراني ووظيفته بعناصر النسق التنفّسي إلى آخره(10).
    وركّز دي سوسير عنايته على العناصر المجموعة الترابطية التي ليست معلومة العدد بل لها ما لا نهاية المفردات، وعدَّ الكلمة المعيّنة بمنزلة المركز في كوكبة من النجوم أو اللفظة التي تلتقي عندها كلمات أخرى مرتبطة بها ولا يمكن تحديد عددها(11) أو "تعد كلّ كلمة مركزاً لكوكبة من المجموعة الترابطية"(12).
    وأدّت رؤية دي سوسير إلى اللغة على أنّها نظام إلى دراسة بنيوية لنسق الأصوات أو الصيغة، ونفدت أكثر فأكثر في النحو، وفتحت آفاقاً جديدة أمام علم الدلالة.

    وبالنظر إلى الرسم التالي، فسيجد الباحث كلمة "تعليم" متّصلة معنى وشكلاً بـ (علم، تعلم..الخ)

    تعليم

    علّم تربية تسليح عليم

    تعلّم ثقافة تبديل كليم

    الــخ الــخ الــخ الــخ

    الخ الخ الخ الخ

    كما "أن المجموعات التي تتكوّن عن طريق الربط بين عناصرها ذهنياً لا يقتصر فيها الإنسان على التقريب بين العناصر التي تشترك في بعض الخصائص، بل يدرك الذهن بالإضافة إلى ذلك طبيعة العلاقات التي تربط بينها في كلّ حالة من الحالات، فينشئ بذلك عدداً من السلاسل الترابطية يوافق عدداً من العلاقات المختلفة"(13).
    وهكذا فالكلمات التالية: تعليم –علّم- تعلّم.. الخ، يجمعها عنصر مشترك هو (الجذر) أي العلاقات بينها مبنية على الصيغة(14)، فكلمة "تعليم" توحي بكلمات أخرى كـ(علّم)، (يعلم)، وهو تصنيف يعتمد على الطرائق

      الوقت/التاريخ الآن هو الإثنين أبريل 29, 2024 7:07 am