منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    التوازي النصي

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    التوازي النصي Empty التوازي النصي

    مُساهمة   الإثنين يناير 18, 2010 10:36 am

    التوازي النصي, مدخل لدراسات التناص قصيدة <<وصول الغرباء>> لأمجد ناصر
    رفقة محمد دودين 2009-07-26







    التوازي النصي, مدخل لدراسات التناص قصيدة <<وصول الغرباء>> لأمجد ناصر

    قد تبدو دراسة تعالقات النصوص بعضها ببعض وفي ظل فتوح المدارس النقدية التي درست النصوص منجزات لفظية ولغوية. وتحققت من أدبية هذه النصوص بدراسة مستويات البناء اللغوي فيها وصولا الى مستويات التعبير الجمالية من الدراسات التي نالت حظا وافرا من البحث والاشتغال ولكن قلما وجدنا دراسات تلقي النظر الناقد في هذه التعالقات من باب إشكالية هذه التعالقات والمغزى الذي تنشده من بناء نص جديد من خلال نصوص سابقة تحققت مقروئيتها وتداوليتها, خاصة وأن خصائص الخطاب الجمالي كما أبرزها الشكلانيون الروس قد باتت في متناول التحليل الأدبي والنصي من حيث المعنى والترتيب والتناظر والتناسب. وبصفة أن النسق والخطاب وهو نسق عضوي لغوي مفتوح ومتغير ومتحول ومنغلق في آن, ولكنه يحافظ على ثوابته التي باتت من المتعارف عليها في الدراسات النقدية الحديثة(1) وهذا لا يعني أن اشكالية التعالقات النصية قد باتت متجاوزة في الدراسة النقدية, فما زال الكثير من التعالقات النصي ة عرضة للتحليل وللاجتهاد وللانفتاح على البحث والتأويل.

    إن التناص في صورته النصي ة في المنجز الشعري يشكل علاقة خطاب أدبي وفكري يتعالق ويتقاطع مع خطاب آخر, وأن الدراسة النقدية في هذه الحالة معنية بشكل أو بآخر بعزل خطاب الآخر وتميزه بالشكل الأكثر وضوحا ودقة, لكي نقصي تنغيمات المؤلف ونستجلي حدود العلاقة بين خطاب المؤلف وخطاب الآخر مدركين أن ثمة علاقة داخلية دينامية بين خطاب المؤلف, وخطاب الآخر, فثمة أسلوب خطي أشار اليه تودروف لبث خطاب الآخر, ويتمثل في خلق خطوط محيطية واضحة وخارجية لخطاب الآخر الذي هو نفسه وفي ذات الآن خطاب أضيفت عليه من الداخل سمات فردية مخصوصة.(2)

    ويشترط النقد أشكالا متعددة ولكنها معنية بالدراسة والتمحيص لأشكال حضور خطاب الآخر في الخطاب الأدبي الجديد, ومن أهم شروط هذا الحضور هو التنويع في درجة حضور خطاب جديد من خلال خطاب سابق وأنموذج, حيث يمتاز هذا التنويع بحضور تام أو حوار صريح أو بواسطة الاستحضار كونه موجودا في الذاكرة الجمعية لمجموعة اجتماعية بعينها يحددها باختين بخطابات من نوع الاخضاع أو تركيب معنى على معنى آخر, وصوت على صوت, وضم أصوات متعددة الى بعضها بعضا .(3)

    ولكن الاشكالية التي تبرز هنا ومن خلال هذه المداخلة في المصطلح تبرز بوصفها متعلقة بتحديد مصطلح التوازي الذي لا يمكننا الاشتغال عليه بوصفه مصطلحا نقديا متحقق المعنى, ومتحقق الشكل في التناول النقدي, وبوصفه مستقلا أيضا وبمعزل عن مصطلحات النقد الأخرى المعنية بدراسة خطاب في خطاب أحدهما سابق او متحقق او يشكل نصا مؤسسا والآخر في سبيله الى الانجاز والى التحقق وهو لن يتحقق كممارسة نقدية بمعزل عن دراسات التناص التي رصدت مختلف أشكال التحالقات النصي ة ودرست دلالاتها وأشكال تناصاتها الأخرى المفتوحة أيضا على البحث والاستقصاء, إلا إذا نظرنا في مصطلح التوازي من باب توازي ما هو خارج النص بالنص .(4)

    لقد أشار النقاد في دراساتهم الى التوازي النصي وحاولوا اجتراح تصور محدد لهذا التوازي في النصوص الأدبية, وأحيانا كان يخرج المصطلح الى حدود التوازي في الدلالة أو المعنى المستخلص من تعالق نص بآخر, ويرى سعيد يقطين: أن التوازي يعني انتاج نص جديد يتقدم إلينا باعتباره قراءة وتفكيكا لنص سابق ونجد أننا أمام عملية هدم وبناء في الوقت نفسه للنص السابق(5) ويشير أيضا ضمن الحديث عن المصطلح الى ان هناك حكايات في حكايات غير أن الأولى حكيت أمامنا, والثانية ستحكى بطريقة أخرى, ويرى أن علاقة التحويل التناصية هي العلاقة الفاعلة في التوازي النصي ذلك أنها آلية يتم من خلالها تحويل النص السابق الى نص جديد لإبراز المشابهة رغم الفروق الموظفة لتشخيص تميز النص السابق عن النص اللاحق, وأنه يتم توظيف التماهي بين الحكائي والواقعي لانتاج علاقة مشابهة توازي بين ما وقع بما ح كي(6) وهنا تكون البنى النصي ة التي تأتي من نص آخر موازية أو مجاورة لبنية النص الأصلية, أي أنها تتوازى والنص, ويفرق سعيد يقطين أيضا بين هذه البنى الموازية وبين ما أسماه جيرار جينت بالعتبات التي تقدم لنا مفاتيح وامكانات هائلة في معرفة خصوصية الكتابة الابداعية, وهذه العتبات تكتب بمعزل عن النصوص وعلى هامشها وهي نصوص موازية أسماها <<المناصات الخارجية>> والتي تجلي طريقة المبدع في الابداع ووعيه واهتماله,(7) وهنا فنحن نفرق في الاشتغال النقدي بين النص الموازي والتوازي النصي شكلا من اشكال التناقص.

    أما مارك انجينو في دراسته مفهوم التناص في الخطاب النقدي الجديد, فقد أشار الى صيغة أسماها بصيغة تخارج النص كما ترد عند لوكان, والتخارج النصي عنده هو تعريف لما هو مكمل للنص, بوصف أن العلاقات الخارج نصي ة لعمل ما يمكن وصفها بمثابة علاقة مجموع العناصر المثبتة في النص بمجموع العناصر التي انطلق منها تم تحقيق اختيار العنصر المستعمل (Cool وبهذه الصيغة يمكننا أن نرى العلاقة التناصية بالتوازي لنص ما بعلاقته بالنصوص التي انطلق منها وتوازى معها دلاليا ولغويا وصولا الى نصه الراهن, برصد سياق النطق الحاضر وسياق النطق الذي مضى, والكاتب هنا يستطيع أن يتصل بخطاب آخر, وبالطريقة التي يريدها ليطبع هذا الخطاب ويوجهه, وهنا ينتهي الخطاب المفرد حاملا توجيهين دلاليين اثني ين.(9)

    وفي الدراسات المحدثة فقد اعتبر التداخل النصي بين نص راهن ونص سابق عليه, وغالبا يكون من التراث توازيا نصيا , وخاصة في التعبير عن مستويات متعددة من الوعي, ذلك أننا نستطيع أن نوازي النصي بتحميله لمصطلح الميتاقص الخفي الذي يشير الى تواطئ ضمني بين الراوي والقارئ يحم ل فيه النص التراثي الموازي دلالات وايحاءات قد لا يستطيع تحميلها للنص الراهن لشتى الأسباب.(10)

    وتبدو قصيدة الشاعر أمجد ناصر وصول الغرباء وهي من ديوان موسوم بهذا العنوان (11) ممثلة للتوازي النصي في صورة التناصية والتي تعني أن حكاية حاضرة توازي حكاية غائبة والغائبة متمثلة في المرهنة موحية بالدلالة , يقول الشاعر:

    فكر في أمير نجا من مقتلة الأعوان ولما استفاق رأى سيارة يحثون غلاما شاحبا على الغناء فروى لهم وقائع ليلة الجواري والسيوف التي لمعت في المرايا فالناظر في هذا المقطع الشعري, سيجد أنه امام حكايتين, حكاية غائبة حاضرة ومستحضرة وحكاية راهنة, تشي بها ملفوظات المقطع التي تحيل عليها, فثمة مقتلة للأعوان, وثمة أمير نجى من هذه المقتلة, وهذا الأمير الناجي رأى سيارة التقطوا غلاما شاحبا يحثونه على الغناء, وكان يروي لهم وقائع ليلة الجواري والسيوف التي لمعت في المرايا, في ليلة الأنس تلك المعممة بالجواري والغلام الشاحب يجبر على الغناء فيذهب الى رواية وقائع تلك الليلة في مكان ما وزمان ما, تغلب على هذا المكان والزمان سمة الاعتياش بالأزمات والظلم والفقر وقلب الحقائق, واعادة انتاج الأزمات بصورة اكثر وحشية ودموية, هذه الحكاية الراهنة, والحكاية الغائبة هي حكاية يوسف مع اخوته الذين كادوا له والقوة في غيابة الجب فأنزل الله عليه سكينته الى أن التقطته بعض السيارة الذين أخذوا وساروا به وباعوه بثمن بخس دراهم معدودة, وهي قصة تميزت بخصوصية حصوله على التأويل والرؤيا التي شكلت البداية والنهاية, والرؤيا كمعرفة استشرافية قادت الأحداث فيها بما في ذلك الصراع المنتظر بين الاخوة, فمفاصل الحدث القصصي مدرجة في سلسلة من الرؤى المحكمة النسيج في سياق القصة, لذلك لم تكن ادعاءات الاخوة بقتل الذئب ليوسف مفاجئة أيضا . (12) كيف تصير هذه القصة الدينية نصا موازيا لقصة أخرى حاضرة. تبدأ بالفعل فك ر أيها المتلقي المتوهم? إعمال الفكر, فكر في.. تعويل على التفكير أكثر مما هو تعويل على الرؤيا والرائي, ثمة خلط متعمد في النص المرهن للحدث وشخوصه, فإعمال الفكر سيكون باتجاه أمير نجا بأعجوبة من مقتلة أعوانه وخاصته, ولما استفاق من حادثة مقتلة أعوانه رأى فيما يرى السيارة الذين عثروا على غلام ولكنهم يحثونه على الغناء والتماجن ليروي لهم وقائع ليالي صخب وطرب ولمعان لسيوف الفتنة والمتعة في المرايا وليس في ساح المعارك وميادين البسالة, معنى جديد ثمة وهو مرهن مستل من معنى ديني متحقق النصية والتداولية, خطاب اخضاع وقلب للحقائق تتعدد أصواته وتتنوع حواريته باستلال حكاية توازيها حكاية تقلب الدلالة, وتجعل تحقق العدل الذي كان مآل الحكاية الدينية الأصل ينقلب الى النقيض تماما, ينقلب, ينقلب الى تآمر بين الأعوان على أميرهم الذي ينجو من المؤامرة كما نجا الغلام من غيابة الجب لأنه كان يمثل الحلم وتحقق الرؤيا, النجاة هنا حر فت لا لتصب في مصاب الحلم بالعدل وزوال الظلم وإحقاق الحق, بل تزيد الظلم ظلما والتماجن والانحرافات تماجنا وانحرافات.

    في مقطع شعري آخر يتوالى توازي النص الشعري بتوازي حكاياته المستلة من عمق التراث وتلك المحولة في الراهن:

    فكر في قائد اتكأ على رمحه أربعين عاما قبالة

    أعداء تحجروا في سفح نظرته.. ولما رأوا الطير تأكل

    من عنقه, استأنفوا الزحف على الد ساكر,(13)

    ما يزال النص في اطار العالق مع الموروث الديني, ببنى مستلة من التراث توازي وتجاور البنى الجديدة في النص لتسهم في انتاج دلالات وايحاءات هذا التوازي مع الموروث, وايضا بالبدء بفصل آخر ينادي بالتفكير والتفكير سيقود الى الخروج بالموعظة من أمر هذا القائد الذي اتكأ على رمحه أربعين عاما , والأربعون هذه تحاكي أربعين التيه الذي كان عقابا لبني اسرائيل لخروجهم عن أمر الرب وهديه, القائد اتكأ على رمحه والمعروف أن الاتكاء على الرمح يعين عدم اشهاره في وجه الأعداء, والاعداء تحجروا في سفح نظراته, تحجروا في المدى المنظور الذي تصله نظرات القائد المتكئ على رمحه, هذا التحجر لم يكن إلا تحجر نظر القائد الذي ظل متكئا على رمحه حتى أكلت الطير من عنقه, وفي هذه البنية النصية الصغرى تعالق من جديد مع قصة يوسف ورؤيا أكل الطير من الرأس البشري, حيث أن الأكل من العنق ينسجم مع وضعية الاتكاء على الرمح, وقد يكون هذا الأكل للطير خاضعا لتأويل يربط ما بين الطائر وما يشبه الهامة التي تخرج من رأس القتيل وتنادي: اسقوني(14) يبدو هذا التخريج معقولا اذا ما علمنا ان الاعداء عندما رأوا هذا المشهد أيقنوا بهلاكه وموته أي موت القائد لذائد عن الحياض, فما كان منهم إلا أن تقدموا وواصلوا الزحف على الد ساكر دون خوف أو رهبة فهو المتحجر وليس هم الذين ظلوا متربصين به.

    ثمة حكاية غائبة تظهر وتختفي لتوازي وتدعم الحكاية الراهنة, وكأنها تشي بأن الشاعر يقف خلفها ليوصل الدلالة الراهنة التي يريد مستلة من دلالات نص سابق ومتحقق ومنجز, يرى الشاعر أنه قادر على اجراء التحويرات المناسبة عليه ليوصل دلالة نصه الجديد.

    وتستمر النصوص الشعرية في هذه القصيدة آتية بحكايات مجاورة لحكايات مستلة من حكايات ومتكئة على حكايات أخرى, ويعاد انتاجها من جديد بدلالات جديدة مما جاء مستكملا هذه القصيدة <<بوصول الغرباء>>.

    فك ر في رجل صالح وصاحبه كلما مرا بقرية

    انضم إليها أفاقون جعلوا أعزة أهلها أذلة

    وحيثما ثقفوا مركبا ليتامى خلعوه

    قال له:

    ألم/ أقل/ لك/ إنك/ لن/ تطيق/ معي

    صبرا(15)

    فهذا المقطع الشعري يحيلنا مباشرة الى قصة موسى والعبد الصالح والنضال في سبيل المعرفة والتي تبدو باهظة الثمن أحيانا ولابد لها من تضحيات, والحكاية الدينية الأصل وهي المحاكاة في هذا النص الشعري تدور حول بحث موسى عليه السلام عن العبد الصالح الذي بلقياه والتتلمذ على يديه سيحصل على الحكمة والمعرفة ليتعلم موسى عليه السلام مما علم هذا الرجل الصالح رشدا, وقد كان الرجل الصالح هذا قد قدر احتمالية ألا يصبر المتعلم وهو يجد نفسه ملزما بدفع ثمن نظير هذا التعلم ونظير تحصيله الحكمة والموعظة, وسنجد أن الشاعر قد نو ع على نص ه واستل من اكثر من حكاية دون ان يلتزم بالتراتب الأصلي للنصوص المؤسسة التي اقام تعالقه النصي معها, وأقام بينها توازي نصوص حاضرة لنصوص غائبة, فأخذ الرجل الصالح وصاحبه حيث تلاقيا عند مجمع البحرين, من قصة موسى والعبد الصالح, وأقام تعالقا مع حكاية أخرى لم يكن موسى وصاحبه شخوصها وهي المرور بالقرية والافساد فيها وجعل أعزة أهلها أذلة, فالشاعر يحول وينوع, ويعدد أصواته ويقيم تداخلات حكاياته مبقيا خيط صلات تناصية بواسطة هذه البنى النصيّة الصغرى التي تقوم بدور الواصل بين النصوص المؤسسة وتلك التي في طريقها الى الصيرورة والانجاز, وكأن مسيرة العبد الصالح وصاحبه المرهنة لم تسلم من التحريف, من الضلالة. من جعل الأعزة أذلة دون مبررات, هؤلاء وفي مسيرتهم كلما مروا بقرية استنوا لأنفسهم الحق في أن يخرقوا مراكب اليتامى ويخلعوها, بالظلم والزور والبهتان, وليس من منطلق تعلم الحكمة وسن العدل ونبذ الظلم والاستعباد, وهنا فإن الشاعر لا يلتزم بمعطيات القصة الدينية في سياقها التاريخي وسياقها المتعالي, وقد نجد ان معطيات الواقع لا تماثل المعطيات الماضية وهذا ليس بالضرورة, إذ أن للشاعر الذي آل إليه ميراث أمته وإرث البشرية ومنجزها الأدبي والفكري الحق في تخير الصورة التي يفع بها هذا الميراث للحضور في نصّه الشعري, ما دام يمتلك آليات أدبية تمكنه من التنويع على هذا الميراث بما يحتم عليه وعيه ومقصديته التي تتخير بشكل واع تماما , ويتوحد التوازي في نص بعينه ومن خلال بنى نصية صغرى استلها الشاعر من حقله النصي ليصبح خطاب الشاعر وخطاب الآخر معا , ذلك يتبدى واضحا حينما يقول:

    ولما أشاح صاحبه بوجهه عنه

    قال له:

    ألم

    أقل لك

    إنك

    لن تطيق

    معي صبرا(16)

    تتوحد الخطابات في هذه البنية النصي ة والتي كتبت شعرا, لتصبح الأفعال المقترفة في هذا النص منكرة في ظاهرها, منكرة في باطنها أيضا , لأنها تعني الظلم والبطش وتسلط الأفاقين الذين لم يثقفوا مركبا بعينه لمساكين لغاية وعظية وذات حكمة, بل حيثما ثقفوا مركبا ليتامى خلعوه, ذلك أنهم غرباء وصلوا الليل بالنهار, وأعانوا السكان على أن يكون الأرق طويلا, الغرباء الذين جاءوا من الضفاف الأخرى, وتمركزوا في قلاع تشرف على طرق البريد.(17)

    من اللافت للنظر أن هذه القصيدة وابتداء من العنوان (وصول الغرباء) هي قصيدة حكاية على حكاية وقد تحقق فيها الكثير من تقنيات وآليات الحكائية بما في ذلك الامكانات السردية, التي وضعت القصيدة في إطار السرد القصصي بكل ما يحتمل هذا المصطلح من وجود سرد وسارد ومسرود لهم بما اتاح لهذه القصيدة امكانية دراسة حكائيتها وفق معيار التوازي النصي الذي أتاح للشاعر اجتراح علاقة مشابهة توازي بين ما وقع بما حكي, وتجترح أيضا حالة من توجيه الحكاية في انتاجيتها الجديدة توجيها باستكناه دلالات هذا التوجيه النصي, بافتراض علاقات المشابهة بين ما جرى في الماضي وما يجري في الراهن, وبافتراض أن ما جرى في الماضي قد يبدو مبررا دينيا في حين أن ما جرى في الراهن يتجاوز الرغبة في ازجاء الحكمة والموعظة الى الولوغ في تصوير الظلم والتعدي, هذا بالاضافة الى الكثير من الدلالات الملتقطة من سطح النص, ولتصبح المقاربة النصي ة النقدية هي قراءة على الكتابة بمعنى تعددية التلقي لهذا النص, وهذا يؤكد ما ذهب إليه بارت من أن النصوص الحكائية لا متناهية, نظرا لأن المحكي فيها حاضرا في كل الأزمنة وفي كل المجتمعات, وأن بنية الحكاية كحكاية مستقلة عن التقنيات التي تتولى تأديتها, إذ يسهل نقلها من واحدة لأخرى دون أن تفقد شيئا من خصائصها الجوهرية,(18) وكذلك الحكاية الناهلة من معين المقدس الديني القابل للتعالق معه بوصفه يشكل منجما لرموز ثقافية تصبح جامعة وقابلة للانتقال من نسق ثقافي الى نسق ثقافي آخر, وتظل محافظة على خصوصيتها وعلى مكوناتها الجوهرية والتي قد ينوع عليها وتتعدد أشكال وآليات التعالقات النصية التي تقام على شكل علاقات تناصية محددة موظفة ومقصدية, كل ذلك داخل منجز ابداعي متحقق هو مظهر من مظاهر الاستعمال اللغوي غير قابل للتحديد, ولكنه قابل للتأويل بوصفه وحدات قابلة للتجزئة متتابعة وذات معنى متعدد.(19)

    إن هذه الدراسة لابد خارجة بالتوصلات التالية:

    - إن دراسة التوازي النصي لا يكون بمعزل عن دراسات التناص وعن ربط النص الراهن بالنص المؤسس الذي يشكل في تأسيسه أنموذجا للمحاكاة ولاعادة الترداد, فالإبداع الرابط الماضي بالحاضر في موروث ما لا يعود فيه النص مجرد قطعة من الماضي,بل يستمر بتمتعه كلما قرأ وتردمت الهوة التاريخية بين الماضي والحاضر بعلاقة المفسر والنص, ويمكن توسيع أفق المفسر ليشمل أفق الماضي وعندها سنرى أن النص ليس بلا إحالة, وستكون مهمة القراءة بصفتها تفسيرا متمثلة بأحداث الإحالة بالضبط(20) هذا على صعيد التعالق مع الموروث بصفته الشمولية وفي حالة استكناه مرامي التوازي النصي في العمل الأدبي, فان حكائية النص بوجود حكايتين أو أكثر في النص الابداعي هو المدخل لدراسة هذا التوازي وليس بدراسة البنى النصية الصغرى المتجاورة في النص.

    - إن حكائية النص الشعري واستناده الى عناصر السرد بكل ما فيها من آليات وتقنيات توظيفية سردية وهذه بدورها توجد حكاية حاضرة راهنة وحكاية غائبة, تجعل الحكاية حكايتين: واحدة نعرفها بوصفها بنية متعالية, وأخرى سترتبط بها وستكون بإزائها بعد فصل الحكايتين وترسيم حدود التعالق بينهما حيث ينقسم المقطع الشعري إلى وحدتين حكائيتين متوازيتين, الأولى الحكاية الدينية التي تشكل نصا مؤسسا ومتعاليا وقد حكيت وتحققت مقرونيتها وتداوليتها وسلطتها الدينية والأدبية وترسخت, والثانية ستقيم وشائجها مع القصة الأصل, وستنحرف بدلالاتها لتلائم الراهن الذي يتجاوز في فيضه عن كل واقع الدلالات المتحققة وينزاح الى ايحاءات ودلالات جديدة تصبح هي الأخرى من شدة خروجها عن الاعراف الى سقوف جديدة من الظلم والبطش في أسطرة جديدة لهذه الأحداث,تعاليها وتجعلها نماذج قابلة هي الأخرى للمحاكاة ولاعادة الترديد, ورغم انها من الواقع الانساني والموضوعي وليست من واقع مقدس أو يحاكي المقدس لتحمل الحكمة والموعظة, ومع ذلك تعرش في فضاء الأسطرة ولأن الانسان وكي يقوى عل مقارعة كل هذا العنت وكل هذا الظلم المتمثل في قدوم الغرباء واعتدائهم على الحياة بكل صورها, اعتدائهم على زرعها وضرعها وحرثها ونسلها, إنما يخرج أفعاله الى أطر التعالي لتصير محتملة من وجهة, ومن وجهة أخرى كي يضمنها التاريخ, كي لا تضيع في ثناياه ويتم تجاوزها ونسيانها وهي الأجدر بالحفظ في الذاكرة والأجدر بالمجابهة والأجدر بإعمال الفكر والتفكير, فهؤلاء الغرباء الجدير أن يفكر بهم وفيهم, هم لصوص في ملفاتهم تجف السدود وتفر القرى أمام جباههم فائقو الدهاء, إنها حكايات الاستبداد التي كانت في التاريخ وعلى مره, ولما كانت كذلك فمن الأجدر ألا تستمر في الراهن بشكل يفوق معطيات ما كان في التاريخ, حكايات يخاتل المؤرخ فيها الشاعر والذي يحفر في كل هذه البنى المعرفية, ويستلها من تراكمها وتراكم التاريخ عليها ويستعين على ابرازها وتأطيرها بمحاكاة زمن البدايات فيها, والذي ما أن, وصلنا حتى التمسنا له التبرير في حين أن الراهن على بشاعته وعلى قوته الغاشمة لا يمدنا بالتبرير المعقول الذي يريح الضمائر ويريح السيوف التي تستل في الظلم والظلمة, وتستل في التهتك والمجون ولا تبالي, وهنا ينغلق النص على نفسه بوصفه بنية لغوية محكمة بأنظمة تعبيرية مخصوصة, وينفتح في الآن نفسه على التأويل وعلى قراءات التلقي المتعددة, التي تتوفر على علاقات مشتركة بين النص والمنتج والمتلقي رغم توهمه, وهكذا تمتاز النصوص بعضها عن بعض موصلة مغزاها الكلي.

    الهوامش

    1 - محمد مفتاح, بعض خصائص الخطاب, علامات, جـ35, مج9, ذو القعدة, 1420هـ, مارس 2000:22.

    2 - تزفيتان تودروف, المبدأ الحواري, درسة في فكر ميخائيل باختين, ترجمة فخري صالح, دار الشؤون الثقافية العامة, ط1, بغداد, 1992 :92.

    3 - نفسه: 96.

    4 - سعيد يقطين, الرواية والتراث السردي, المركز الثقافي العربي, ط1, 1992: 37.

    5 - نفسه: 43.

    6 - نفسه: 44.

    7 - نفسه: 72.

    8 - نفسه: 89.

    9 - مارك انجيتو, مفهوم التناص, في أصول الخطاب النقدي الجديد, تودروف وآخرين, ترجمة احمد المديني, دار الشؤون الثقافية العامة, ط2, 1989: 108 ; تزفيتان تودروف, المبدأ الحواري: 94.

    10- يحيى عبابنة, النص التراثي نصا موازيا, قراءة في رواية ماري روز تعبر مدينة الشمس, بحث مقدم الى ملتقى الرواية والقصة, وزارة الثقافة, 13- 14- 10- 2002م: 13, 14.

    11 - أمجد ناصر, الأعمال الشعرية, المؤسسة العربية للدراسات والنشر, ط1, 2002م: 288.

    12 - سليمان الطراونة, دراسة نصية في القصة القرآنية, ط1, 1992: 272.

    13 - أمجد ناصر, الأعمال الشعرية: 289.

    14 - سليمان الطراونة, دراسة نصية في القصة القرآنية: 278.

    15 - أمجد ناصر, الاعمال الشعرية: 289.

    16 - نفسه: 297.

    17 - نفسه: 287.

    18 - عبدالعالي بوطيب, مستويات دراسة النص السردي, علامات, ج-35, مج9, ذو القعدة 1420هـ, مارس 2000م: 52.

    19 - سعيد حسن البحيري, علم لغة النص, المفاهيم والاتجاهات, مكتبة لبنان, الشركة المصرية العالمية للنشر, ط1, 1997: 160.

    20 - ديفيد كون نرهوي, النص والسياق, ترجمة خالدة حامد,الثقافة الأجنبية, ع1, سنة 19, 1992م, وزارة الثقافة والاعلام: 42.

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس مايو 02, 2024 3:36 pm