منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    النقد المغربي والمناهج العلمية المعاصرة:

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    النقد المغربي والمناهج العلمية المعاصرة: Empty النقد المغربي والمناهج العلمية المعاصرة:

    مُساهمة   الثلاثاء يناير 19, 2010 1:21 pm


    النقد المغربي والمناهج العلمية المعاصرة:

    من الاستقدام إلى الاستخدام

    (محاولة لقراءة "دينامية النص" لمحمد مفتاح)

    فريد أمعضشو

    farid-88@hotmail.com
    تصدير:

    يعد القرن العشرون "القرن الذهبي للنقد الأدبي"([1]) بصفة عامة على حد عبارة الدكتور صلاح فضل. ففيه ازدهرت الحركة النقدية وتبلورت، وتشعبت إلى تيارات عدة، وانفتحت على آفاق معرفية وحقول علمية شتى. ولا جدال في أن الغرب كان سباقا إلى النهوض في ميدان النقد الأدبي، وذلك بفضل الإقلاع الثقافي والتقدم العلمي العام الذي حققه منذ عصر النهضة.

    ومما يميز المشهد الثقافي الحديث والمعاصر أنه أضحى يتجه أكثر فأكثر نحو إلغاء الحواجز المختلقة بين الأجناس الأدبية منذ أرسطو، ونحو توثيق الجسور بين العلوم والآداب. إذ صار المبدع الآن ميالا إلى الأخذ بمبدإ " تداخل الأجناس" في إبداعاته، وأصبح الناقد أكثر نزوعا نحو كسر الحدود بين الإنسانيات والعلوم البحتة؛ إيمانا منه بوجاهة أطروحة " التكامل المعرفي"، وأهميتها في ضمان تحصيل مقاربة علمية شمولية للظاهرة الأدبية.

    وعلى هذا الأساس، انفتحت الشعرية - باعتبارها نظرية النقد الأدبي حسب تودوروف – على التخصصات العلمية الحديثة محاولة الإفادة من مناهجها ومفاهيمها وإوالياتها الإجرائية في معالجة الآثار الأدبية ومدارستها. وهكذا، فقد استعان – مثلا - الشكلاني الروسي فلاديمير بروب (V. Propp) في دراسة الحكاية (Conte) بمفاهيم مستوحاة من علم النبات (Botanique) وعلم الأحياء (Biologie)([2]). واعتمدت نيلّي كورمو (N. Cormeau) مفاهيم مقبوسة من علم وظائف الأعضاء (Physiologie) لقراءة الرواية([3]). وأفاد نورثروب فراي (N. Frye) من علم التشريح (Anatomie) في مقاربة النقد الأدبي([4]). ويعد الناقد الفرنسي فرديناند برونتيير (F. Brunetière) من أكثر الدارسين المحدثين تأثرا بالبيولوجيا، ومن أشدهم اقتناعا بالتعالق الوطيد بين التطورية الأدبية والتطورية البيولوجية؛ إذ إنه نقل فكرة الصراع بين الأنواع التي نظّر لها داروين في المجال البيولوجي إلى ميدان الأدب ونقده، فقارن تطور الأجناس الأدبية بتطور الكائنات الحية (كالفصائل الحيوانية)، واعتبر العمل الأدبي بمثابة كائن عضوي يولد وينمو ثم يفنى. وعليه، فقد دافع باستماتة على أهمية البيولوجيا التطورية الداروينية بالنسبة إلى الأدب، ودعا إلى ضرورة الانتفاع بها في مجال النقد لما لها من نتائج إيجابية على المقارنات بين الأدب القومي وغيره من الآداب. وقد طبق برونتيير (1849-1906م) نظريته تلك على ثلاثة أجناس أدبية، هي: الدراما والشعر الغنائي والنقد الأدبي، وذلك في كتابيه الشهيرين"l'Evolution des genres dans l'histoire de la littérature" الذي صدر في باريس سنة 1892، و"Manuel de l'histoire de la littérature française" الصادر سنة 1897م...

    ولم تكن الشعرية العربية - ومنها الشعرية المغربية - بدعا من هذا التوجه القائم على الإفادة من معطيات العلم الحديث ومناهجه القرائية المختلفة. إذ إنها أخذت في العقود الماضية تنفتح وتنتفع بالنظريات والمناهج العلمية الحديثة في مقاربة النصوص على اختلاف أشكالها وأزمنتها.

    ويعتبر الناقد المغربي محمد مفتاح أنموذجا حيا للناقد العربي الحداثي الذي استطاع أن يستقدم جملة من المفاهيم والنظريات والمناهج العلمية محاولا استخدامها واستثمارها - عمليا – في قراءة النص الأدبي العربي بقطع النظر عن الجنس والزمن الذي ينتمي إليه.

    لقد آمن مفتاح بأن التقدم في مجال الإنسانيات متوقف على التقدم في العلوم الدقيقة، حيث يقول في حوار أجري معه أواخر الثمانينات: "إن التقدم في ميادين العلوم الإنسانية رهين بالتقدم في العلوم البحتة. والنتيجة المنطقية هي أن التقدم في ميدان البحث الأدبي مدين لهذه العلوم. لذا، يبدو لي بعيد المنال جعل مصطلحات الأدب كاملة الانفصال عن هذه العلوم"([5]). وانطلاقا من هذا المبدإ، انبرى مفتاح في مشروعه النقدي ينادي بكسر الحواجز بين العلوم الإنسانية والعلوم البحتة، ويدعو إلى ضرورة انتفاع النقد الأدبي العربي بالعلوم المعاصرة ومناهجها ومفاهيمها.

    إن مفتاحا لَصاحبُ مشروع نقدي علمي طموح يراهن على إضافة "لبنة في صرح البحث العلمي الذي يشيده الخطاب الفلسفي والخطاب اللساني والخطاب التاريخي والخطاب التأويلي والنقدي لصياغة فكر أصيل متحرر متفتح"([6]). وقد كتب الناقد في إطار مشروعه هذا مجموعة مهمة من الأبحاث والدراسات بلغت الآن – حسبما أعلم - عشرا([7]). فضلا عن عدد من المقالات المنشورة في صحف وطنية وعربية معروفة. ويلمس قارئ هذه الكتابات - من كتب - أنها تمتاز "بوضع أسئلة كبرى منشغلة بقضايا نظرية وفكرية أساسية، لها ارتباط وثيق بما تحقق ويتحقق اليوم من نظريات وأبحاث ومقاربات ذات ثراء وتنوع معرفيين"([8]).

    إن مشروع مفتاح النقدي متسلسل المراحل، مترابط الحلقات. بحيث يعد اللاحق فيه تعميقا وتوسعة للسابق، والسابق تمهيدا وتوطئة للاحق. وفي هذا المضمار ذاته، يرى الأستاذ عبد المجيد نوسي أن أعمال مفتاح "تميزت بالتفاعل. فكل دراسة تثير قضايا منهجية وإبستمولوجية تخضع للبحث والتعميق... هذه الملامح العامة تجعل الأعمال تندرج في إطار مشروع مترابط الحلقات غني بالمقاربات الثقافية والفكرية، وبالإسهام المعرفي الخصب الذي يقدم المناهج ويسائلها ويستوحيها تحليلا ويكشف عن أصولها، ويضعها أيضا على محك النقاش"([9]).

    يعد كتاب "في سيمياء الشعر القديم" - 191 ص - نقطة الانطلاق واللبنة الأساس في صرح التجربة النقدية المفتاحية، لأنه "حمل بين دفتيه، في حينه، ويحمل إلى حد الساعة، تباشير مغامرة أوديسية منهجية كبرى ستظل قائمة وواردة ومستمرة على الدوام"([10]). وبعد ثلاث سنوات من صدور هذا الكتاب-اللبنة، أنجز مفتاح دراسة ثانية خصها بتحليل نص شعري لابن عبدون، أسماها "تحليل الخطاب الشعري". وهي – في العمق- "ارتقاء منهجي بالتعميق وتوسيع مجال التطبيق لما ورد في كتاب "في سيمياء الشعر القديم"([11]). أما الحلقة الثالثة في سلسلة مشروع مفتاح، فهي دراسته الموسومة "بدينامية النص". وبعدها، كتب الباحث كتابا آخر بعنوان "مجهول البيان"، سعى فيه إلى إعادة قراءة المسألة البيانية في ضوء النظرية التفاعلية. وقد واصل مفتاح بناء مشروعه المتميز، تابع رحلته الشاقة الممتعة التي حطت رحالها الآن عند محطة "الشعر وتناغم الكون" في انتظار إتمام المسير.

    إن الهمّ الذي ظل يراود الناقد طَوال حياته النقدية كلها هو كيفية قراءة النص واستيعابه وتأويله. وهو يهدف من وراء مشروعه إلى محاولة صياغة نظرية لمعالجة النص العربي، قديمه وحديثه، شعره ونثره. وذلك عن طريق الجمع والتوفيق "بين المكتسبات العلمية العالمية ليصير لنا علم للنصوص، وبين الأخذ بعين الاعتبار خصوصية الثقافة القومية وتفرد النص وتميزه داخل الثقافة وداخل الجنس الأدبي نفسه"([12]).

    ولما كانت دراسة المشروع النقدي المفتاحي كله أمرا في غاية الصعوبة، وتحتاج من الباحث إلى مساحة زمنية طويلة، وجهود جهيدة. فقد ارتأيت أن أقف في هذا البحث عند واحد من أبرز كتب مفتاح التي تجسد ذلك التلاقح القوي بين النقد العربي والعلم المعاصر؛ ويتعلق الأمر بكتابة" دينامية النص" الذي يمكن النظر إليه على أنه "فتكة بكر وفتح نادر وارتياد ما بعد حداثي لآفاق النقد الأدبي أو للشعرية المتأثرة بالفلسفات والنظريات والعلوم المعاصرة"([13]). وسأحاول التركيز أكثر على ما يتعلق بالمنهج وجهازه المفاهيمي ومرجعياته العلمية والنظرية. والهدف من وراء هذا البحث يتجلى في محاولة رصد العلاقة بين الشعرية المغربية أو النقد الأدبي المغربي الحديث (ممثَّلا في عمل مفتاح المعني بالقراءة) وبين ما استجد في ميدان العلوم البحتة. وذلك بدءا من الاطلاع على مناهج هذه العلوم واستقدام مفاهيمها، مرورا بتحديدها ونقدها وتطويعها، وانتهاء إلى استخدامها واستثمارها في قراءة نصوص عربية مختلفة ومتعددة.
    أولا: في سبيل تقديم "دينامية النص":

    إن كتاب "دينامية النص" هو العمل الثالث في مشروع مفتاح النقدي المتكامل. وقد صدر لأول مرة عام 1987في 224 صفحة من القِطْع المتوسط عن المركز الثقافي العربي. وبعد ثلاث سنوات، ظهرت الطبعة الثانية للكتاب لنفاد طبعته الأولى وتزايد الإقبال عليه، ولأهميته منهجيا ومعرفيا. وتجدر الإشارة إلى أن الطبعة الثانية هي صورة مطابقة للطبعة الأولى، إذ لا تحوير فيها ولا إضافة ولا تغيير.

    لقد استهل محمد مفتاح كتابه هذا بمقدمة مقتضبة أفردها لبعض ما تفرد له المقدمات عادة من طرح موضوع الكتاب ومنهاج قراءته وغيرهما. وبعد خطاب المقدمة، وضع الناقد مدخلا نظريا لتبيان الخلفيات العلمية والحيثيات الفكرية والمعرفية التي يستند عليها منهجه في مقاربة النصوص ومدارستها؛ وذلك إيمانا منه بجدلية النظري والإجرائي، وأهمية توضيح الأسس النظرية بالنسبة إلى ما يليها من ممارسات نقدية. يقول:" ربما لم يبق مستحسنا- بعدما بدأت المناهج الحديثة تشيع بين المهتمين، والطلبة، وعموم المثقفين- أن يكتفي الكاتب فيها بتقديم تطبيقات بدون الكشف عن الخلفيات الإبستمولوجية والتاريخية التي نمت وترعرعت فيها تلك المناهج، وإنما صار متعينا عليه أن يبين قواعد اللعبة وآلياتها، ويهتك خبايا أسرارها"([14]). وقد قسم الرجل هذا المدخل إلى عنصرين بارزين يجسدان نمطين من الأسس؛ إذ خص أولهما بتوضيح الأسس العلمية التي تنبني عليها تطبيقاته، وأبرز في الثاني الأسس الفلسفية والإبستمولوجية التي تنطلق منها النظريات العلمية التي بسط القول فيها في العنصر السابق.

    تناول مفتاح في العنصر الأول ست نظريات علمية تحديدا وتحليلا ونقدا. وراح يرصد تمظهرات الدينامية في كل منها. وهكذا، فقد بدأ بالنظرية السيميوطيقية، وتوقف عند مكوناتها الرئيسة التي تحكمها الدينامية والتفاعل. ثم انتقل إلى الحديث عن نظرية الكوارث التي انتقدت النظرية السيميوطيقية الغريماصية وكشفت استشكالاتها. وعالج بعدها الرجل نظرية الشكل الهندسي التي نظر لها طوماس بالمر، ونظرية الحرمان، ونظرية الذكاء الاصطناعي. وأخيرا تطرق إلى الحديث عن نظرية التواصل والعمل. وستكون لنا عودة إلى هذه النظريات بالتفصيل لاحقا. وكخلاصة لهذا العنصر النظري يؤكد مفتاح أن ثمة قاسما مشتركا بين هذه النظريات جميعها؛ وهو "دينامية النص". فالنظرية السيميوطيقية لمّحت إلى ذلك وأخذت في تطبيقه ضمنيا، وخاصة في عناصرها الإجرائية المركزية المتمثلة بالمقصدية والمربع السيميائي والعوامل الستة. وبنت النظرية الكارثية كيانها الفكري والإجرائي على أساس البنوية الدينامية. وبالغت نظرية الشكل الهندسي في الربط بين اللغة ومفاهيم البيولوجيا ومقولاتها. ودافعت نظرية الحرمان عن قوة الأواصر بين البيولوجي والسيميوطيقي. وارتكزت نظرية التواصل والعمل على الدينامية والتفاعل موضحة أن كل فعل تواصلي مترابط الأعضاء يتأثر بعضها ببعض، ويتداعى بعضها بتداعي بعض([15])...

    لا جدال في أن كل نظرية تقوم على فلسفة وخلفية معرفية مسبّقة. ومن هذا المنطلق، عمد مفتاح في العنصر الثاني من المدخل النظري إلى تبيين الأسس الفلسفية والإبستمولوجية التي تقوم عليها النظريات المتقدمة. وقد حصر الكلام هنا في مسألتين رئيستين، هما:
    أ- مسألة الثابت:

    تؤكد النظرية البيولوجية الكانطية أن ثمة غايات طبيعية تشكل سببا وعلة لذاتها؛ وهي قوانين التكون والانتظام وإعادة الإنتاج والتفاعل مع المحيط. وتعد هذه القوانين ذاتية التنظيم؛ تنظم نفسها بنفسها، وتحكمها العلاقة القوية التي تربط الجزء بالكل.

    ويقول كانط - المعروف باتجاهه العقلاني - بتجذر المعرفة في العقل، وبأنها وليدة الأفكار الفطرية التي يخلق الإنسان مزودا بها. وقد حاول الجمع بين العقلانية والتجريبية باستخدام مفهوم التسامي؛ بمعنى أن المعطيات الحسية قائمة وموجودة، يتم تنظيمها بالمقولات العقلية المجردة. وهذا عينه ما تتبناه الفينومينولوجيا التي تمزج بين الذات والواقع ابتغاء تحصيل المعرفة، وتقوم على التجربة والإحساس المباشر بالظاهرة.

    وهناك من جمع بين الكانطية والظاهراتية / الفينومينولوجيا. ونستحضر هنا كلود ليفي شتراوس (C.L. Strauss) الذي انطلق من المجتمع ونشاطه التواصلي-كظاهرة- للاستدلال على الثوابت الإنسانية اللاواعية المتجذرة في الفكر البشري. وقد عرف هذا الاتجاه" بالوضعية الجديدة" التي تدرس الوقائع الموضوعية والأحداث الاجتماعية لاستخلاص القوانين العامة الصالحة للتفسير والتوقع. ويوضع مفتاح ذلك من خلال جملة من النقط، أهمها:

    * تقوم النظرية السيميائية لغريماص على التمييز بين البنية السطحية والبنية العميقة. على أن الأهم بالنسبة إليه هو البنية الثانية التي تتكون من مورفولوجيا تصنيفية قوامها المربع السيميائي والبنية العاملية. أما البنية السطحية فما هي إلا تجليات لإسقاط مكوِّني البنية العميقة. ولكن المستويين (أو البنيتين) معا ليسا سوى إظهار وتحويل للخطاطة (Schéma) بتعبير جوته(Goethe) أو للبنيات الأنثروبولوجية للمتخيل بتعبير دوراند (Gilbert Durand).

    * تتبنى النظرية الكارثية مفهوم المورفولوجيا المتغيرة باستمرار، وذلك ضمن بنية سطحية ظاهرة وبنية عميقة خفية. ولا ريب في أن بين البنيتين تعالقا أكيدا وترابطا جدليا، بيد أن شكل أولاهما مظهر محسوس للبنية الثانية الدينامية.

    * تصنف نظرية الشكل الهندسي (بالمر) الوسائل المحقِّقة للمعرفة الإنسانية إلى خمس، أبرزها ما يسمى" النماذج الأولية" (Archetypes) التي تتفرش وتتشعب عند نقطة التفاعل تشعبا مزدوجا (أوليا وديناميا) يكشف عنه الانطلاق من الظاهر.

    *تستعمل نظرية الحرمان اللغة استعمالا لا يشي بتبنيها لثنائية الأصل/الفرع. وتسير نظرية الذكاء الصنعي في المُتَّجَه نفسه، فتوظف مفهوم الإطار (cadre) وما يتصل به من مفاهيم. أما نظرية التواصل والعمل، فتقوم على مبدإ أساس هو التسلسل والترابط.

    إن مسألة الثابت مهمة في هذه النظريات كلها، مع وجود تفاوت في درجتها من نظرية إلى أخرى. ومهما كان الأمر فهذه النظريات دائما" تنطلق منه (أي الثابت) معتبرة إياه مفروضا على الفكر، مثل الحياة والتغذية والجنس بالنسبة للإنسان....ثم تتبع تجلياته بواسطة المورفولوجيا، والتجليات تنطلق من ثابت يبنى عليه الشكل والمضمون بحسب مبدأ المشابهة، ولكن الثابت والمتغير كليهما تحكمهما علة مادية أولى هي: الدينامية"([16])
    ب- مسألة الهدف:

    تتباين النظريات الست المذكورة آنفا فيما بينها من حيث المنهاج وطرق الإجراء وكيفية توظيف العلم. وفيما يأتي بيان ذلك:

    * إن نظرية غريماص نظرية مفاهيمية علاقية وصفية، تنطلق من أكسيومات ومفاهيم أولية غير محددة بدقة تعدها كليات فرضية (الاتصال / الانقطاع-التمايز- الكلية / الجزئية...). ومن هذه المفاهيم المركزية تُستخلص مفاهيم أخرى ترتكز عليها، وتتخذ موقعا وسطا بين المفاهيم الأولية والمعطيات التجريبية. ولكنها تسلم " بالاستقلال الوجودي للشكل السيموطيقي"([17]).

    * إن هذه النظرية – بصفاتها المذكورة- لم تقنع أصحاب النظرية الكارثية، فحاولوا حل بعض مشكلاتها العالقة؛ وذلك بإعادة بناء رياضياتي لواقع ظاهراتي متجلٍّ في السيميائيات اللسانية، متخذين من التَّهَنْدُس (Géométrisation) أساسا لتوليد المفاهيم، وجاعلين من الموقع (Site) منطلقا لإقامة العلاقات بين المفاهيم التي يتم توليدها.

    * إن نظرية الكوارث تستهدف كسر الحواجز المصطنعة بين الإنسانيات والعلوم البحتة. وقد توسع بالمر في هذا الأمر، وبلوره إلى حد بعيد، واستطاع أن يخرج بنظرية "تؤلف بين البيولوجيا التطورية والتنظير الرياضي، وتهدف إلى خدمة السياسة والاقتصاد"([18]).

    * إن هذا الاتجاه البيولوجي الرياضياتي المرتبط بالاقتصاد والسياسة هو ما نلفيه يتحكم في نظرية الذكاء الاصطناعي النابعة من فلسفة تجريبية رياضياتية تبجل الآلة وتحلها المحل الأول للسيطرة على الطبيعة والإنسان معا. ولا غرابة في ذلك، إذا علمنا أن هذه النظرية ما هي إلا استغلال أقصى لنتائج الأبحاث البيولوجية والرياضياتية والإعلامية والمعلوماتية.

    وبعد أن رصد مفتاح- من خلال ما سبق – الثوابت التي ترتكز عليها النظريات المتقدمة (بيولوجية النص - استغلال الرياضيات، وخاصة شق الهندسة منها، لتوليد المفهومات وصياغة النظريات – النزعة الفلسفية التوليفية أو التجريبية المحض)، انتقل إلى مستوى التركيب. حيث استنتج -انطلاقا مما سلف- ثوابت بعينها هيمنت على تفكير أصحابها في النظر إلى اللغة وإلى تحليل الخطاب؛ ويتعلق الأمر بالمقصدية، والفضاء / الزمان، والإبداع / إعادة الإنتاج، والهيمنة / الجدال، والمشابهة / التفرد، والظهور / الكينونة. وبعد هذا، دَلَف مفتاح إلى المستوى الإجرائي. وفيه توقف عند مفاهيم هامة توظف في مقاربة النص- وأي نص-؛ ويتعلق الأمر بالمقصدية، والتفاعل، والمعرفة الخلفية المشتركة، والفضاء/الزمان.

    وبعد هذا الفرْش النظري الغني الذي مهد به مفتاح لكتابه، انتقل إلى قسم التطبيقات الذي جاء موزعا على ستة فصول ممنهجة وغنية بمعطياتها العلمية وأفكارها النقدية. بحيث حلل الناقد في الفصل الأول المعنون "بنمو النص الشعري" قصيدة "القدس" لأحمد المجاطي (1936-1995م) على ضوء مجموعة من المبادئ الكلية والمفاهيم النوعية والمحلية التي شرحها في مفتتح الفصل. وحاول في الفصل الثاني أن يرصد مظاهر الحوارية الخارجية بين نصين شعريين؛ أحدهما لأبي نواس(ق2هـ)، والآخر لابن الخطيب السلماني (ق8هـ). كما تتبع في الفصل نفسه آليات الحوارية الداخلية وأبعادها في سينيةٍ لابن الخطيب. واحتفل مفتاح في الفصل الثالث بالحوارية-أيضا- من خلال قصيدة" قصائد إلى ذاكرة من رماد" لمحمد الخمار الگنوني (1941-1991م). ويحمل الفصل الرابع عنوان" سيرورة النص الصوفي"، وفيه أولى الناقد اهتماما واضحا للجانب التنظيري (الحديث عن الكتابة الصوفية وأركانها وأشكالها –الحديث عن القوانين الاحتمالية المميزة لكتب التصوف-الحديث عن الكرامة...)، غير أنه لم يغفل الجانب الإجرائي؛ إذ إنه قارب بعض العجائب والخوارق والحكايا المأخوذة من تشوف ابن الزيات؛ وعالج رائية تعليمية للشريسي وفق المناهج المعاصرة. وفي الفصل الخامس، درس مفتاح نصا قصصيا مغربيا معاصرا محاولا إبراز جوانب الصراع وأبعاده فيه، باعتماد منهج حداثي. وخصص الرجل الفصل السادس- وهو الأخير – بدراسة قضية الانسجام في بعض الآيات القرآنية الكريمة... ولنا عَوْدٌ إلى القضية المنهاجية في هذه التطبيقات في مبحث لاحق.

    والملاحظ أن مفتاحا لم ينه كتابه-قيد القراءة-بخلاصة جامعة يلملم فيها الخلاصات والاستنتاجات التي توصل إليها. بل إنه كان يختم كل فصل بخاتمة مركزة. وهذا الصنيع يؤشر على أن هذا الكتاب إنما هو مجموعة من الأبحاث النقدية المستقلة التي جمعها صاحبها، ونظمها، وصنع منها مؤلَّفا موحدا.

    لقد بدا لي من خلال القراءة الأولى العجلى لهذا الكتاب أنه صعب الفهم، عسير الاستيعاب، متشعب الأفكار... ولم تتوضح لي بعض خيوطه إلا بمعاودة قراءته. ولكن القراءة الثالثة المتأنية له هي التي أعانتني على فهم عدد من نظرياته ووضع الإصبع على مناهجه وطرق توظيفها في مقاربة الخطاب. ولعل صعوبة فهم هذا الكتاب متأتية من تشعب فِكَره وحداثة المناهج الموظفة فيه والتي تستقي مفاهيمها من مستجدات العلوم المعاصرة ونظرياتها الحداثية.

    إن "القراءة الانتخابية" لكتاب مفتاح لا تجدي ولا تعين القارئ على فهم الكتاب واستيعابه الاستيعابَ الجيد. وقد حذر مفتاح نفسه من مغبة الوقوع في شرك هذه القراءة، داعيا إلى قراءة الكتاب كاملا. يقول:" إن القراءة بالطفرة لا تجدي، والانتقاء المتعسف لا يغني. وإنما ما فيه جدة وغناء هو المتابعة الخطية الاستدلالية العلاقية"([19]). فالقراءة المطلوبة له- إذاً- هي القراءة الفاحصة التي تطال الكتاب من ألفه إلى يائه، والتي تنصب على تنظيره وتطبيقه معا.
    ثانيا: مرجعيات المنهج في "دينامية النص"

    ونقصد بها الخلفيات النظرية التي استند إليها الشعريوي المغربي محمد مفتاح في مقاربة النص الشعري وغيره.

    من المبادئ المتعارف عليها في النقد الحديث أنه" لا منهج جديد بلا نظرية جديدة"([20]). وبناء على هذا المبدإ، نقول إن المنهج الذي وظفه مفتاح في فصول "دينامية النص" قائم على نظرية (أو نظريات) معينة يستمد منها مفاهيمه وميكانيزماته. وقد حصر الناقد أسس منهجه في ست نظريات علمية ولغوية، كالآتي:
    أ- النظرية السيميوطيقية:

    إن السيميوطيقا أو السيمولوجيا هي "العلم العام الذي يدرس كل أنساق العلامات (أو الرموز) التي بفضلها يتحقق التواصل بين الناس"([21]). ومن المؤكد أن السيميوطيقا شهدت تطورات مهمة منذ جون لوك (J. Locke) وشارل سندرس بيرس (Ch.S. Peirce) وغيرهما... وهناك اتجاهات عدة في المجال السيميائي، أبرزها: الاتجاه البيرسي القائم على ثلاثية العلامة، واتجاه سوسير الذي تنبأ بميلاد علم جديد (السيميولوجيا) يدرس حياة العلامات داخل الحياة الاجتماعية([22])، والاتجاه الغريماصي.

    اعتنى مفتاح بإبراز تجليات الدينامية في كل مكونات النظرية السيميوطيقية ومفاهيمها (المقصدية- المربع السيميائي بمختلِف علاقاته- العوامل في تفاعلها). وقد استعان بهذه المفاهيم في مقاربة النص العربي.
    ب- النظرية الكارثية:

    يراد بالكارثة في الأصل اليوناني الانقلاب؛ أي الانتقال من حال إلى حال مغايرة([23]). أما نظرية الكوارث (

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد أبريل 28, 2024 7:43 pm