منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    لمناهج الغربية وضبابية الرؤية في التفكير النقدى العربي

    أروى55
    أروى55


    عدد المساهمات : 235
    تاريخ التسجيل : 07/10/2009
    العمر : 31

    لمناهج الغربية وضبابية الرؤية في التفكير النقدى العربي Empty لمناهج الغربية وضبابية الرؤية في التفكير النقدى العربي

    مُساهمة  أروى55 الأحد فبراير 14, 2010 9:37 am

    لمناهج الغربية وضبابية الرؤية في التفكير النقدى العربي

    كتبهاد.عيد بلبع ، في 9 نوفمبر 2007 الساعة: 20:49 م

    ألقى د.عيد بلبع الأحد الأول من ذى القعدة 1428 هـ 11 من نوفمبر 2007م محاضرة فى منتدى الأستاذ الدكتور / سليمان الرحيلي الثقافى الذي يعقد شهرياً في المدينة المنورة وهذا نص المحاضرة :

    المناهج الغربية

    وضبابية الرؤية فى التفكير النقدى العربى

    (1) الحقيقة التي لا مناص من إقرارها والاعتراف بها أنه ليس ثم ما يمكن أن يُطلق عليه النقد الأدبي العربي ، فالممارسات النقدية الذائعة في المشهد النقدي العربي ـ في الحقيقة ـ تمثل مظهراً مشوهاً للتفكير النقدي الغربي ، وبذلك يمكننا القول في صدق وصراحة : إن العقل النقدي العربي يتكون من جذاذات متطايرة من المقولات النقدية الغربية ، إذ يسعى التفكير النقدي العربي إلى نقل النظريات الغربية عن طريق الترجمة أو العرض النظري أو التماس ما يتوافق مع هذه المقولات الغربية فى التراث العربي ، هذا على مستوى التنظير ، أما على مستوى التطبيق فلا تتجاوز المحاولات التطبيقية هذا المسلك ، فهي تتلقف المقولات الغربية وتقوم بتطبيقها على النصوص العربية ، وهي تأتي مشوهة أحياناً ومستوية أحياناً ، ولنا أن نشير هنا إلى أن استواء هذه المحاولات التطبيقية في أغلب الأحيان لا يأتي بتأثير المناهج المطبقة ولكنه يأتي غالباً نتيجة القدرات الذاتية التذوقية عند الناقد .

    ولا يأتي انحصار هذه المحاضرة في الحديث عن الخلفيات والتداعيات الفكرية والثقافية بشكل عام تخففاً من الإثقال على الحاضرين ـ وأكثرهم من غير المتخصصين في النقد الأدبي ـ ولكن هذا التخفف من الخوض في أعماق التخصص ومحاولة التبئير على الخلفيات والتداعيات أمر واقع يفرضه واقع النقد الأدبي في التفكير العربي وما آل إليه من تبعية تضاربت فيها الرؤى وخبطت فيها الآراء .

    يختلف مسار النقد الأدبي عند الغرب عن مساره عند العرب ، فهو عند الغربيين يأتي نتيجة حراك فكري متكامل في العقل الغربي متمثلا فى السياقات الثقافية والخلفيات المعرفية والجذور الفلسفية ، وبمقتضى هذا المسار يأتي النقد الأدبي في نهاية هذه سلسلة المنظومة الفكرية الغربية ، أما فى المسار العربي فإن المناهج النقدية تستورد جاهزة ، معزولة ـ في الغالب ـ عن هذه السياقات والخلفيات والجذور ، ومن ثم فلا غرابة أن تصدم الوعي العربي كما تصدم السياق الثقافي العربي ، وقد ينطلق التفكير بعد ذلك بحثاً في الخلفيات الثقافية والمعرفية والفلسفية للمناهج النقدية الغربية وقد لا يعبأ بهذا البحث أبداً ، وكأننا نبدأ من حيث انتهى الغرب ، ولا يذهبن بك الظن مذهبه فترى في البداية من حيث انتهى الآخر مزية اكتساب الوقت ومسابقة الزمن ، فالحقيقة أن هذا المنحى الاستهلاكي الاجتزائي للعقل النقدي العربي ينطوي على مأزقين على جانب كبير من الخطورة ليس للنقد الأدبي عند العرب فقط بل لمسار التفكر العربي بشكل عام :

    ـ المأزق الأول معرفي ، ويتمثل في أن هذه المناهج الغربية ـ لغرابتها وانبتارها عن سياقات ولادتها ـ تفتقر إلى ما يسوغها ، ويمهد لها القبول بوضوح الرؤية في سياق تلقيها العربية .

    ـ أما المأزق الآخر فيتعلق بالخصوصية الثقافية ، ويتمثل في أن هذه المناهج قد تنطوي ـ بأبعادها الثقافية والمعرفية والفلسفية ـ عند الغربيين على قضايا لا تتواءم مع السياق الثقافي العربي بأبعاده المختلفة .

    ولا فرق بين أن يأتي هذان المأزقان بقصد وتعمد من العارفين بهذه الأبعاد الواقفين على خلفياتها ، أو يأتي بجهل من المروجين لها المقيمين لها عند كل باب زفَّة ، فكلا المنحيين ينطوي على خلل معرفي ينسرب ليصبح مكوناً أساسياً من مكونات العقل العربي ، ربما كان من أهم أسباب هذا الخلل المعرفي الاعتماد على الترجمات المجتزأة من سياقاتها المعرفية دونما محاولة للوقوف على مكان هذه الكتب أو الدراسات المترجمة من المنظومة المعرفية الغربية التي انبثقت عنها ، فماتزال الترجمات تتم بقدر غير قليل من العشوائية ، إلى جانب غياب خلفية المصطلحات مما أدى إلى اضطراب المصطلح بين الترجمات المختلفة عن لغات مختلفة ، والأخطر أن أكثر الذين يعتمدون على الترجمات لا ينشغلون بالوقوف على الأصول في لغاتها الأصلية .

    ولا مناص للخروج من المأزقين من ضرورة الوقوف على الخلفيات القابعة وراء هذه المناهج متحكمة في وجودها ، موجهة لمساراتها ، فبالنبش في المسكوت عنه تنكشف الخفايا وتظهر الأسرار المتوارية عن عمد أو عن جهل وعشوائية ، ومن هذه المنطلقات نحاول في هذه المحاضرة مكاشفة خلفيات هذه المناهج ، ومظاهر ضبابية الرؤية في سياق التلقي العربي لهذه المناهج .

    (2) المناهج النقدية الغربية وليدة فلسفات ، والفلسفة ـ ليس بوصفها فرعاً معرفياً ولكن بوصفها رؤية للعالم ـ عند الغرب بديل للدين ، ولا ضير من تلقيها ولكن مع التنبُّه والتنبيه إلى هذا البُعد ، تمتد رؤية العالم ( الفلسفة ) هذه عند الغربيين من الفلسفة إلى الأدب بمذاهبه المختلفة ، فيأتي الأدب حاملا في طيه رؤية العالم وفق الفلسفة المنتمي إليها أو الأكثر تأثيراً فيه ، ثم يأتي دور النقد الأدبي بما ينطوي عليه من الترويج لهذه الفلسفات والرؤى ، فيشرع في بلورة الرؤية الفلسفية للمذهب الأدبي في منظومة تنظيرية تستلهم جذور المذهب الفلسفي وتمثل للتالين من الأدباء دعوة للالتزام ، كما هو الحال في الواقعية الاشتراكية .

    لقد كانت الهزيمة العربية فى الخامس من يونيو ( حزيران ) سنة 1967م فيما عُرف بالنكسة حدثاً ترك أثره النفسى على المثقف العربى فى صورة انهيار الذات التى كانت قد أوشكت على التماسك بعد الحركات التحررية من الاحتلال الغربى للبلاد العربية ، وكان من آثار ذلك أنْ فقد المثقف العربى ثقته بحاضره وماضيه على حد سواء على مستويات متعددة ، فقد فشل هذا الحاضر مرفوداً بالماضى ـ فى نظر غير واحد من المثقفين ـ فى أن يحقق : النصر ، الاستقلال ، الحرية ، الرفاهية ، وما يندرج ضمن قائمة طويلة من المفقودات من الشرف والكرامة .

    وأصبح المثقف العربى مشدوداً إلى النموذج الغربى بكافة أشكاله وصوره بوصفه النموذج المثالى الذى حقق السيادة الحرية والاستقلال والتقدم العلمى والقوة العسكرية والسياسية والاقتصادية ، هو النموذج الذى حقق للإنسان الكرامة والشرف والرفاهية وما إليها من قائمة المفقودات فى الساحة العربية ، أصبح المثقف العربى منجذباً إلى النموذج الغربى انجذاباً على غير أهبة دون تمهيد أعصاب وبلا روية ، برد فعل عشوائى أصبح فيه المثقفون العرب ـ على مستوى التفكير النقدى على أقل تقدير ـ قوى تعمل ولكنها لا تدرى لماذا تعمل ولا كيف تعمل ، ولكنها لا بد أن تعمل ، وقد مثلت السبعينيات فترة الإثقال لهذا الحمل المشوه الذى بدأ مخاضه فى أواخرها وأوئل الثمانينيات ، وكانت الحداثة هي النموذج الرائج عند الغرب من الخمسينيات حتى السبعينيات ، وقد هيأت الظروف التي ذكرنا وغيرها لاصطناع هذا النموذج في المشهد النقدي العربي .

    فأصبح من يتلفظ بمصطلحات البنيوية أو السميوطيقا أو الشعرية وهو يبدو أنه واثق من نفسه هو الذى يحتل موضع الصدارة فى المشهد العربى الغريب ، ولا يهم إن كانت هذه الثقة الظاهرية منبعها العلم والمعرفة أو كان منبعها التبجح والاجتراء والادعاء ، وكأن الأمر أصبح يتعلق بالقدرة السيكولوجية على الاجتراء أكثر من كونه أمر معرفة وعلم ودراية ، فالمسألة لا تتجاوز كونها لعبة نفسية خالصة .

    تلقف النقاد العرب الحداثة وكأنها تحمل حلولا لكل شيء وروجوا لمقولاتها السميوطيقا والبنيوية وما اندرج عنها من مصطلحات المحايثة والشعرية وموت المؤلف والتناص ، وسنحاول الكشف عن الأبعاد المسكوت عنها في هذه القضايا التى راجت في المشهد النقدي عند العرب وما تزال :

    المحايثة :

    لقد اهتمت البنيوية بتحليل العناصر اللغوية التى يتكون منها النص بغض النظر عن الملابسات الخارجية التى صاحبت تكون النص أو الملابسات المتعلقة بالمنشئ أو المتلقى أو الظروف ، أو ما إلى ذلك فيما يندرج تحت كلمة السياق ، " فإذا ما اتبعنا إجراءات التحليل اللغوى بدأب ـ بطريقة آلية لكى نتجنب الانحياز ـ أمكن لنا الحصول على جرد كامل بالأنساق الموجودة فى نص من النصوص ، وتبدو الدعوة أولاً : بأن علم اللغة يقدم لنا حساباً بالوصف الشامل غير المنحاز لأى نص من النصوص ، ثانياً : بأن حساب الوصف اللغوى هذا يؤلف إجراء كشفياً للأنساق الشعرية ، من حيث إنه إذا ما تم اتباعه بشكل صحيح ، فإنه يمنحنا بياناً بالأنساق الموجودة فى النص بطريقة موضوعية " ( جوناثان كلر : الشعرية البنيوية ص 81 ) وبذلك تقر البنيوية المبدأ الصارم للنظرية بموضوعيتها فى التحليل الذى لا يلتفت إلى شىء غير تحليل العلاقات الداخلية اللغوية فى النص بوصفه نصاً بلا عالم وبلا مؤلف ( بول ريكور : من النص إلى الفعل ص 112 ) ، فقد نظر البنيويون إلى النص بوصفه عالماً " مغلقاً على نفسه ، موجوداً بذاته " ( محمد بنيس : ظاهرة الشعر المعاصر فى المغرب ، مقاربة بنيوية تكوينية ص 21 ) ومن ثم يأتى التحليل البنيوى بمثابة مغامرة للكشف عن العلاقات الداخلية بين بنيات النص أو العلامات المتكون منها .

    وقد تنكرت البنيوية للافتراضات العقلية السابقة Presupositions التى قالت بها الفلسفات السابقة عليها ، ومن ثم تأتى البنيوية بمثابة رد الفعل المعرفى على هذه الفلسفات ، وبسقوط هذه الافتراضات أو المعرفة القبلية A-priori تسقط الفلسفة العقلية والماركسية " ويزداد سقوط المعرفة الفلسفية مع البنيوية حين تنكر الذات العارفة ، أو ( الأنا أفكر ) جوهر الكوجيتو Cogito الديكارتى ؛ لأنها تنأى بنفسها عن المعرفة إلى القول بنفسها منهجاً ، أو كما يقول دى سوسير Methodological حين عرف اللغة بأنها نظام من العلامات ، فأسقط المعنى من اللغة ، وأبقى عليها نظاماً أو شكلاً ليس غير ، وهذه هى أصول فكرة الشكلية المقول بهـا فى البنيوية ، ومن هنا سوف لا ينظر النقد البنيوى إلى موضوعات الأدب من جهة جمالها ولا إنسانيتها ، وإنما من جهة العلاقات أو النظام التحتى الذى يحكم هذه الموضوعات ." ( د. حلمى مرزوق : النظرية الأدبية والحداثة ص 78 )

    فالبنيوية ـ إذن ـ نصِّية ، بمعنى أنها دعوة للانغلاق على النص تقوم على تحليل العناصر الداخلية ، والنصية بخلاف ما يعنيه مصطلح علم النص فى المدرسة الفرنسية الذى يقابله المصطلح الإنجليزى : تحليل الخطابDiscourse Analysis فعلم النص أو تحليل الخطاب يقوم على تحليل النص بوصفه خطاباً بين مرسل ومستقبل فى عملية تواصل ، ومن ثم يأخذان فى حسابهما العناصر الخارجية عن النص من ملابسات متعلقة بالمرسل ، وملابسات متعلقة بالمستقبل ، كما يأخذان فى حسابهما الملابسات السياقية المتعلقة بعملية الاتصال من عناصر زمانية ومكانية وغيرها ، على حين تأتى النصية ـ وهى التى تقع من علم النص موقع الضد ، فقد يخلط بعض الباحثين بين النصية وعلم النص فيرونهما شيئاً واحداً ـ منغلقة على العناصر الداخلية فقط ، ومن هنا كان ارتباطها بالبنيوية التى تبنت دعوى الانغلاق على النص ، ومن هنا جاءت النصية Textualism فى مقابل السياقية Contextualism ، كما جاء النصيون Textualists فى مقابل السياقيون Contextualists ، فقد قسم ريتشارد برادفورد مداخل دراسة الأسلوب إلى مرتبتين : النصية والسياقية ، وذهب إلى أن : " الشكليين والنقاد الجدد نصيون ، بمعنى أنهم ينظرون إلى الملامح الأسلوبية لنص أدبى على أنه وحدة تامة وأصلية … أما السياقيون فنظرتهم تتضمن مجموعة من الطرق الأكثر اتساعا ، وتتمثل الخاصية المميزة للسياقية فى تركيزها على العلاقة بين النص والسياق " (Bradford. R : Stylistics , London, 1997, P 13 ) ، وبذلك ارتبطت البنيوية النصية بفكرة الانغلاق على النص التى تتلاقى مع فكرة المحايثة السوسيرية التى كان لها أثرها الذى لا يُنكر فى التحليل البنيوى ، وبذلك يتضح الارتباط الشديد بين فكرة المحايثة والبنيوية إلى حد أصبح يُستعمل المصطلح مرتبطاً بها فيقال : " المحايثة البنيوية " ، كما يتضح لنا أن هذا المصطلح يركز على أمرين : العناصر الأولية للنص التى يُطلق عليها بنية ، وعزلة النص عن السياقات المحيطة ، وإن البنيوية بهذا الشكل نصية ، وهى فى تبنيها للرؤيتين معاً قد أفرزت عدة مصطلحات ومفاهيم ونظريات ترتبط جميعها بفكرتى العناصر الأولية والانغلاق على النص اللتين تتلاقيا مع فكرة المحايثة ، فمما أفرزه هذا المخاض أفكار : الشعرية ، وموت المؤلف ، وفكرة التناص .( د. محمد الناصر العجيمى : النقد العربى الحديث ومدارس النقد الغربية ص 83 )

    الشعرية

    فالشعرية بوصفها بحث فى الخصائص والعناصر الأولية المشتركة بين كل ما يطلق عليه شعر ، أى ما لا يكون الشعر إلا به ، تلك الخصائص المشتركة التى تجعل من شعر امرئ القيس ولبيد بن ربيعة وأوس بن حجر والأعشى والفرزدق وجرير والأخطل وبشار وأبى نواس وأبى تمام والبحترى والمتنبى وغيرهم شعراً ، كما تجعل من شعر شوقى وحافظ إبراهيم وإبراهيم ناجى وصلاح عبد الصبور نزار قبانى وأمل دنقل وغيرهم شعراً ، بل تجعل من شعر فؤاد حداد وصلاح جاهين وعبد الرحمن الأبنودى وغيرهم شعراً ، إنها تبحث فى الخصائص الأولية المشتركة العامة ، ولا تبحث فى الخصائص الفردية والعناصر الذاتية ، فهى لا تهتم بالفردية ، بل ربما تتنكر لها .

    ولك أن تفهم هذا المنحى البنيوى على أن من ورائه قصد علمى يهدف إلى تبنى العلمية فى النقد الأدبى ، أو علمنة النقد ، كما أرادوا هم أن يشيع ويروج ، ولك أن تفهمه على أن من ورائه قصد فلسفى ـ على الرغم من أن البنيوية تُسقط الفلسفات ـ يهدف إلى تجاهل الذاتية والعبقرية الفردية ، والقضاء على سلطة الذات ، وليس سراً أن نقول : إن البنيوية تقصد قصداً إلى إسقاط هذه الذات تماماً من حساباتها ، بداية من الذات البشرية المتمثلة فى الشاعر وانتهاء بالذات العليا ، التى هى من وراء هذا الكون .

    ومن أبعاد هذا القصد الفلسفى إسقاط المضمون ، أو قل المعنى بعامة ؛ فالبحث فى البنية ( العناصر الأولية ) وما بينها من علاقات ، والنظر إلى العلامة وما يضمها من أنظمة ، يقلص وجود الذات المبدعة أو يُلغيها ـ بطموح البنيوية ـ كما يهدف إلى إلغاء المضمون الذى قامت عليه رؤية الفلسفة الماركسية للشعر والفن عموماً ، " فالنص ـ فيما يذهب بارت ـ لا يدل بلفظه الملىء إنما بالعلاقات المنتظمة فى صلبه ، هو قائم على الاختلاف الخالص والتفضية والتأجيل المستمر لزمن كل مقطع وفضائه ودلالته ، فإذا النص مجموعة من الدوال الصادرة عن سياقات ومصادر مختلفة تزيد حركة النص انفصالا ، وفضاءه تقطعاً واضطراباً ، لقد أفرغت اللغة الأدبية من كل مضمون قائم الذات محيل على واقع محسوس إحالة نتيجة على سبب وفق ما كانت تقول به نظرية الانعكاس ، وكأن اللغة الأدبية تحقق جوهرها الخالص أى الخالى من كل مدلول مسمٍّ نفسه " ، وهذا يؤكد بعد المحايثة فى إفادتها الانغلاق على العناصر الداخلية من جانب ، كما يؤكد بعد الفراغ أو الفضاء والخلو من المعنى المحدد المقصود من باثّ الموجه إلى متلقٍ ، وبذلك تتلاقى فكرة الانغلاق على تحليل العناصر الداخلية ، والاستغراق فى البحث عن الشعرية ، والتنكر للخصائص الفردية مع فكرة موت المؤلف

    موت المؤلف

    وهذه الفكرة تنطلق من أن المحلل البنيوى النصى ليس به حاجة إلى معرفة المؤلف والعناصر والملابسات المصاحبة لتكون الرسالة ، وهذا أمر طبيعى من البنيوية لأنها لا ترى النص بوصفه خطاباً مضمونياً يهدف إلى شىء ولكنها تراه مجموعة من العناصر المنغلقة على نفسها المنفصلة حتى عن قائلها ، فهى كما رأينا لا تلقى لهذا القائل بالاً " فلقد أدى اكتشاف الآلية الذاتية للغة وانتظامها فى سنن مجردة مستجيبة لمنطقها الخاص إلى اختفاء هذا الكائن ، والمقصود به المؤلف المعتد فى السابق بنفسه ، والمنتصب فاعلا مريدا معبرا عن ذاته وعن رغباته تعبيراً وفياً أميناً بواسطة آلة اللغة الطيعة ، وحل محل ( الأنا ) المتكلم الواثق بالذات ( الهو ) النكرة المجهول الهوية " ، ليصبح الصوت المنبعث من الكتابة عدة أصوات قد تتباعد أو تتقاطع ، وقد يكون مصدرها اللاشعور أو التاريخ أو المجتمع " فما يعبر عنه الفرد ينسحب على أرضية لغة لا قاع لها ولا مركز ولا جوهر ، فإذا المؤلف أسطورة مادام غير متحكم فى لغته ولا مالك لها ، إنما هو مسكون بها ، خاضع لحكمها ، يحسب أنه يؤلف نصاً والحال أن نصوصاً أخرى صامتة ، لكنها ملحة تتخلله وتسكنه " ، هكذا رأى رولان بارت في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات .

    التناص

    ومن هنا جاءت فكرة التناص التى ربما تقوم أساساً على فكرة موت المؤلف التى قالت بها جوليا كريستيفا ثم رولات بارت في الستينيات ، فما دام الأمر لم يعد بحاجة إلى الاعتراف بالقدرات الفردية ، والملابسات الذاتية ، والعبقرية الفردية ، فإن النتيجة الطبيعية هى أن المؤلف لا يتجاوز كونه وعاء حلت فيه عناصر سابقة واتخذت شكلا آخر من العلاقات ، وجمعتها أنماط أخرى من الأنظمة ، وما النص ـ عندهم ـ إلا مجموعة عناصر فى نصوص سابقة حلت بشكل آخر فى هذا النص .

    وما دمنا قد وقفنا وقوفاً يقينياً على قصدهم فى إلغاء وجود ذات المؤلف ، فينبغى أن نقف وقوفاً يقينياً أيضاً على أن عنصر الإرادة ، بل عنصر الوعى ، مفقود لا وجود له فى رؤيتهم التناصية ، فالتناص عندهم رؤية للنصوص بشكل عام ومطلق ، فالنصوص كلها ـ عندهم ـ إنما هى تناصات ، وليس التناص عندهم ـ على الإطلاق ـ رؤية لبعض الظواهر دون بعض كما هو شائع فى الساحة العربية .

    والعجب كل العجب ممن ينظرون ـ من الدارسين العرب ـ إلى قضايا وظواهر أدبية على أنها تناص على الرغم من توفر الجانب الإرادى القصدى الواعى فيها ، فنظروا إلى ظاهرة السرقات الشعرية ، أو ظاهرة المعارضات ، أو ظاهرة النقائض ، أو ظاهرة حل النظم ، أو التضمين أو الاقتباس على أنها تناص أو أنواع منه .

    ولعل الرؤية الشمولية العامة التى هى قوام فكرة التناص البنيوية ـ من جانب ـ ورؤية عدم وجود القصد والإرادة والوعى ، أى عدم وجود المؤلف ـ من جانب آخر ـ هما اللتان غابتا عن المشهد العربى فى رؤية هذه الظواهر الأدبية ، وهذا الغياب هو الذى ترتب عليه النظر إلى أى مظهر من مظاهر التوارد أو التشابه بين النصوص على أنه تناص ، والغريب الغريب حقاً أن يستعمل بعض الدارسين مصطلح التناص بديلا لمصطلح السرقات وكأنه مرادفه ، وبينهما بون بعيد ، فالمنظور البنيوى ـ فيما يرى موريس بلانشو ـ ينطلق من أن اللغة الأدبية لا تحيل على غير ذاتها " يخال المؤلف أنه يتكلم لغة والحال أن اللغة تتكلم من خلاله وبالرغم منه ، هى تُرَجِّع ذاتها ولا تؤدى مرجعاً غير حضورها الكثيف ، فإذا هى تتبدَّى مشرقة فى كيانها غير عارضة إلا لغز ولادتها وموتها ، غير مبرزة بجلاء إلا تضاريس وجودها الذاتى ." ، فاللغة الأدبية إذن عندهم تؤسس لفراغ وتنفتح على فراغ ، إنها تشتغل بوصفها شفرات وإشارات وعلامات فى المقام الأول ، ومن ثم فإن هذه النظرة تنقض فكرة أن اللغة تعبر عن فكر .

    وبناء على تبنى البنيوية النصية لهذه الأبعاد أهملت فى مقابها أبعاداً أخرى ، وربما كان هذا الإهمال من أهم دواعى تراجعها ، فقد أهملت المؤلف وكل ما يتعلق به من أبعاد الذاتية والإرادة والقصد والوعى ، كما أهملت العناصر السياقية وملابسات الخطاب ، لا نقول المتعلقة بالمؤلف فقط ، بل المتعلقة أيضاً بالمتلقى وسياقات التلقى ، كما أهملت أيضاً المضمون ، أو قل أهملت المعنى تماماً باقتصارها على تحليل العلاقات الداخلية بين العلامات فى النص ، كما أهملت أيضاً الأبعاد الجمالية ، وأهملت تبعاً لها فكرة القيمة ، وذلك بتركيزها على الجانب الشكلى والوصفية الخالصة ، فلا تقيم الرؤية البنيوية السميوطيقية وزناً للفرق بين استعمال اللغة فى نص شعرى ونص شعرى آخر ، وهى بذلك تهمل المستويات الجمالية والخصائص التأثيرية ، ولعلنا لا نجانب الصواب إذا زعمنا أن إهمال البنيوية السميوطيقية لهذه الجوانب والأبعاد كان له أكبر الأثر فى انحسارها ؛ نظراً لما لهذه الأبعاد من وجود حتمى بالقوة فى المركب البشرى .

    وقد تكَشَّف زيف هذه المخايلة المتعلقة بانغلاق النص واقتصار التحليل على العلاقات الداخلية فى الممارسة الفعلية للتعامل مع النصوص والأعمال الأدبية " حيث كانت الممارسة الحقة تُظهر خلل التنظير الذى يركز على بعد علائقى واحد ، وتفرض على داعية الشعرية النظر إلى خارج البنية على نحو واعٍ أو غير واعٍ ، إذ لا يمكن لأحد أن يمضى إلى النهاية فى فحص البنية دون أن يجد نفسه خارجها بأكثر من معنى ، وذلك من حيث هى نسق يُفضى حضوره إلى غيابه ، بالقدر الذى تُفضى دواله إلى مدلولات واقعة فى العالم ، وبالقدر الذى تتكشف به البنية عن نص متناص ينطوى فى داخله على ما يشير إلى خارجه ، هذا الخارج هو التاريخ الذى حاولت البنيوية أن تفر منه ، والذى يعنى على مستوى شعرية البنية ، دوافع التشكل وتقاليد النوع وتناص الوقائع والأحداث والمعطيات ، فضلاً عن آفاق التوقع والاستجابة وشروط التلقى والاستقبال " ( د. جابر عصفور : نظريات معاصرة ص 240 )

    السياق العربى وتضارب الرؤى

    وإذا كان لنا أن نلقى الضوء على بعض الممارسات العربية فى النقد البنيوى وما اتسمت به دعائية وادعائية فى الكشف عن رؤية تأويلية للنصوص تزعم الاضطلاع بعملية التأويل بتحليل العلاقات الداخلية فى الوقت الذى كانت فيه عالة على ممارسة تأويلية ذوقية ماهرة حاذقة تتمثل المنهج الرومنسى وفكرة الوحدة العضوية ، نتخذ مثلا لهذه الرؤية الذوقية الحاذقة د. محمد زكى العشماوى ، ونتخذ مثلا للرؤية البنيوية كل من د. كما أبو ديب ، ود. سامى سويدان ، لقد انطلق د. كمال أبو ديب من الرؤية البنيوية التى يرى من خلالها أن القصيدة تتمتع ببنية متماسكة مع اختلاف العناصر التى تتألف منها ، فالقصيدة مثل مستو من التجربة ـ فى بنيتها العميقة ـ أكثر جذرية وعمقا فى دلالته الوجودية " ( الرؤى المقنعة ص 66 )

    والواقع أننا لا نجد فرقاً كبيراً بين جوهر الفكرة التى فسربها د. العشماوى القصيدة وفكرة د. كمال أبو ديب وإن اختلفت المنطلقات وتباينت الأصول النظرية لمذهبيهما ، فالقصيدة عند الاثنين تنطلق من فكرة الصراع بين إرادة الحياة والموت ، كما جاءت معالجة د. أبو ديب تأكيدا على رؤية هذا الوحدة من خلال بنية كلية للقصيدة ومن خلال ترتيب هذه الفكرة فى كم متزاحم من المصطلحات والرموز ، ولكن هذه المعالجة ـ مع ذلك ـ جاءت أكثر إقناعا وأوفى تفسيرا من محاولة ناقد بنيوى آخر انهال باللوم على أصحاب الدراسات السابقة جميعهم مرددا العلل التى يستنتج منها عجزهم وعجز مناهجهم هذه ، ويكفى أن نشير إلى تعليقة على معالجة د. طه حسين بأن هذا المنحى من التعامل مع النص مزيج من الاعتباطية والمزاجية " وأنه أبعد ما يكون عن منهجية يمكنها أن تسبر أغواره وتبلغ مكتنزاته ، هذا إن لم يشوهه ويسئ إليه ." ( فى النص الشعرى العربى ص 224 )

    وقد امتد رفض د. سامى سويدان ليشمل معالجة د. كمال أبو ديب الذى أعلن رؤيته البنيوية للقصيدة واصفاً إجراءاته فى التحليل بأنها : " تعسف بالغ يسم عمله ، ولايتأتى من الخلل المنهجى والتطبيقى الذى يسرى فى مفاصلة ومركباته وحسب ، وإنما ينتج أيضا عن التناقض الفاضح بين ادعاءاته المبدئية ومغالطاته الإجرائية " (فى النص الشعرى العربى ص 224)

    بذلك يتضح لنا أنه لا يمكن بحال من الأحوال القول بأنه لولا البنيوية ما كان يمكن التوصل إلى الفكرة ومهما تردد من صاحب هذه الفكرة من دعاوى الموضوعية وعلمنة النقد فإن تحليله قد انتهك هذا المبدأ من زواتيـن :

    الأولى : أن الموضوعية تقتضى التفريق بين السمة الفردية والظاهرة ، فالسمة قد تنحصر فى أعمال شاعر واحد وربما فى أحد أعماله ، فإذا ما تكررت فى أعمال غير واحد من الشعراء تخطت هذا الانحسار لتصبح ظاهرة ، وذلك يتطلب نظر الناقد المدقق إليها بشكل أكثر اتساعا وعمقاً ، ومن ثم تقتضى الموضوعية استقراء الظاهرة ومعالجتها فى ظل هذه الظروف المغايرة ، كما تتطلب مقارنة لهذا المظهر المتكرر فى سياقاته وصياغاته المختلفه .

    الأخرى : أن الموضوعية العلمية ـ وبخاصة فى الدراسات الأدبية والفنية ـ لاتدعى لنفسها الكلمة الأخيرة والقول الفصل ، لأن هذا الادعاء بصرامته وحزمه يعنى أن هذا التحليل هو الأمثل ـ من جانب ـ كما يعنى أنه اكتنه جوانب السمة أوالظاهرة حتى لم يعد وراءه تساؤل لباحث ، والحق أن تساؤلات عديدة تثيرها الظاهرة قد وقفت هذه المعالجة واجمة حيالها ، إن المنهجية العلمية يمكن أن تضع خطوطاً ثابتة فاصلة فى العلوم الطبيعية ـ مثلاً ـ التى لا مجال فيها للذوق الفردى ، ولكنها ـ فى النقد الأدبى ـ تضع خطوطاً تقريبية .


      الوقت/التاريخ الآن هو الثلاثاء مايو 07, 2024 2:32 pm