منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    أبعاد دلالية في رواية "أبنية الفراغ"

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    أبعاد دلالية في رواية "أبنية الفراغ" Empty أبعاد دلالية في رواية "أبنية الفراغ"

    مُساهمة   الأربعاء فبراير 24, 2010 12:58 am

    أحمد زنيبر: أبعاد دلالية في رواية "أبنية الفراغ" لمحمد عز الدين التازي PDF طباعة إرسال إلى صديق

    تحظى أعمال الكاتب والأديب المغربي محمد عز الدين التازي بمكانة مرموقة في الساحة الثقافية، المغربية والعربية، من حيث التداول والقراءة والمتابعة النقدية، وذلك بالنظر لما تطرحه هذه الأعمال، الإبداعية منها خاصة، رواية وقصة، من قضايا فكرية واجتماعية من جهة، ومن أسئلة وإشكالات فنية وجمالية من جهة ثانية.

    فبعد سلسلة من الإصدارات الروائية جاوزت الخمس عشرة رواية منها: "أبراج المدينة" و"رحيل البحر" و"المباءة" وأيام الرماد" و"أيها الرائي" ومهاوي الحلم" ومغارات" و"ضحكة زرقاء" و"كائنات محتملة" و"الخفافيش" و"زهرة الآس" وبطن الحوت".. وغيرها، يطالعنا الكاتب بعمل إبداعي جديد تحت عنوان: "أبنية الفراغ"، ليؤكد، بصورة أو بأخرى، حضوره المتألق في مجال الكتابة الروائية ويدفع بالقارئ المتلقي إلى إعمال المزيد من الفكر والتأمل في جديده، لغة وتخييلا وحكاية.

    فماذا عن هذه الرواية؟ وماذا عن أبعادها الدلالية في سياق مقترحها السردي؟ وبالتالي، ما القيمة الأدبية التي تحمل في طياتها، كمنزع جديد في تجربة الكاتب الروائية؟..
    لاشك أن أول ما يلفت الانتباه قبل ملامسة الفضاء الداخلي للرواية، شخوصا وأحداثا، هو العنوان الذي اختاره الكاتب لمنجزه الإبداعي: "أبنية الفراغ". وهو عنوان دال ومثير يتألف من كلمتين: مضاف (أبنية) جمع قلة للفظ بناء أو بناية، ومضاف إليه (الفراغ) وهي كلمة تحيل مباشرة إلى البياض والخواء. ومن ثمة، تتناسل الأسئلة من قبيل: ما هي ملامح الفراغ؟ كيف يتحول الفراغ إلى فكرة؟ ثم كيف يبنى الفراغ؟ وهل للفراغ معنى غير الفقدان؟ ومن يبكي الفراغ أو يملأه إذا صار طللا أو خرابا؟ وبالتالي، هل تبنى الأفكار والذوات مثلما تبنى المباني والمحلات؟..
    أسئلة وأخرى تشكل لحظات كبرى داخل الرواية، في توظيفها لفكرة الفراغ، من جهة، وفي بحثها عن حقيقة الذات الإنسانية وفي رصدها لطبيعة العلاقة بينها وبين الوقائع والأحداث، من جهة ثانية.
    تمتد الرواية المذكورة عبر مساحة ورقية تجاوز المائتي صفحة من الحجم المتوسط. وتشمل عشرة فصول تحمل أسماء أعلام بشرية هي على التوالي: علي المكاوي، بديعة الزواوي، إدريس الغازي، سعاد الدردوري، سليمة بوشارب، مريم حنتات، فارس عنتر، رشيدة عنتر، إبراهيم المكحول ثم علي المكاوي، مرة أخرى.
    هكذا بتأمل عناوين الفصول، التي تفاوتت بتفاوت أسمائها، سنا وجنسا وهوية ووظيفة، واختلفت باختلاف محكياتها، بناء ومحتوى، نفترض أن الرواية توحي بالكتابة السيرية، بمفهومها العام، حيث النهل من الذاتي والجمعي ومن المسموع والمرئي ومن غير ذلك. ففي كل فصل من فصول هذه الرواية، يعلن الكاتب عن صوت سردي يجعل منه (بطل) الفصل المقترح، وبالتالي يسند إليه، كشخصية روائية، ضمير المتكلم حتى يعبر بنفسه عن تجربته الذاتية في الحياة ويحدد علاقته بمحيطه الاجتماعي؛ فيما هو (أي الكاتب) يدبر أمر فعل الكتابة.
    فكيف ألم الكاتب بانفعالات أبطاله؟ وكيف تم له رصد تحولاتهم الوجدانية والوجودية انطلاقا من علاقاتهم بالأنا من ناحية، وباتصالهم وتواصلهم بالغير من ناحية ثانية؟
    تأخذنا الرواية عبر فصولها المقترحة، صوب رحلة وجودية أبطالها نماذج بشرية تتقاطع في ما بينها هوية وموضوعا وتجربة، كما يؤثث فضاءها التخييلي توالد أحداثها وتعاقب مشاهدها بين ماض وحاضر ومستقبل. فخلال كل فصل، على حدة، نتعرف إلى شخصية، رجالية تارة ونسائية تارة أخرى، تقدم نفسها كصوت سردي مستقل بذاته، داخل فضاء مكاني محدد له خصوصياته وتجلياته، الواقعية منها والرمزية. ولعل أول صوت سردي افتتحت به الرواية حكايتها، كان صوت علي المكاوي وهو داخل مقصورة الـقطار في رحلة سفر من مدينة الدار البيضاء إلى مدينة طنجة. وخلال تلك الرحلة تنشط الذاكرة ليستعيد صاحبها أحداثا مرت ووقائع حصلت. يقول السارد: "أنا وحيد في مقصورة القطار. أجلس بجوار النافذة. نظري يسرح في الخارج. أتأمل مناظر الحقول المترامية والسماء التي لا تحدها حدود. أستعيد ما وقع في الملهى الليلي (كوبا كابانا) التابع لأحد الفنادق الكبرى التي تقع على (كورنيش عين الذئاب)، والراسخ فوق لسان صخري يمتد داخل البحر" (ص7).. وتبعا لذلك، يواصل السارد التعريف بشخصه ومهنته وتطلعاته، كما يستحضر علاقاته وشخصياته وسائر توتراته. فمهنته كصحافي جعلت منه شخصية قريبة من أناس كثيرين "جاؤوا إلى جريدة التعاقب ليتحدثوا عن أنفسهم، وليعروا ذواتهم بكل شفافية" (ص36) شريطة أن ينشر حالاتهم على القراء. وهي حالات اجتماعية كثيرة أثارت القلق والسؤال مثلما أثارت الشفقة واستدعت التأمل والتدخل السريع. حالات اجتماعية يستحضرها السارد، وهو يستمع لأشرطته الصوتية (37-40). تلك الأشرطة التي تختزل سيرة المدينة وسيرة الشخصيات، في أدق التفاصيل والجزئيات. يقول: "في الجريدة نستقبل عدة حالات من هذا النوع. أناس يأتون إلى مقر الجريدة لبث شكاو من ورائها فضائح من ورائها فضائح عائلية وتعرية للذات.../ ميم نون. فتاة في السابعة عشرة قالت اسمي حنان. أعمل خادمة في أحد البيوت، وصاحب البيت يستغل وجود زوجته في الخارج فيأتي إلي وأنا في المطبخ أو في غرفة النوم أقوم بالأشغال ليصب على جسدي من قارورة عطر هي لزوجته ثم يحاصرني بذراعيه. أهرب منه من غرفة لأخرى وهو يلاحقني. أنا أحب شابا من أولاد الحومة، وأخشى أن يتخلى عني بعد أن افتض بكارتي." (ص37-38).
    وفي خضم حالات التذكر والاسترجاع تلك، يعرض السارد لأهم حدث شكل تحولا جذريا في مسار حياته المهنية، يتعلق الأمر بتعرفه على شخصية عبد الرحمان المسكوف، الذي طلب منه مصاحبته، كصحافي إلى ملهى كوبا كابانا ليطلعه عن كثب على ما يجري داخل هذا الفضاء الليلي من سلوكيات وانحرافات وصفقات مشبوهة، وليعرفه أيضا على ابنته ميلودة، التي غرر بها ذات يوم فصارت بائعة هوى ضربت بكل القيم والمبادئ بما في ذلك تنكرها للوالد؛ غير أن السارد يفاجأ بالرجل وهو يهم بإحراق الملهى بمن فيه بدءا بابنته ميلودة. يقول السارد: "فجأة نهض واتجه نحوها. بخفة أخرج من جيبه القارورة ودلق ما فيها من بنزين عليها ثم أشعل النار. اندلعت الحرائق بسرعة كبيرة في المرقص. بحثت عن مخرج للفرار. وجدت أناسا كثيرين يتزاحمون على الخروج. رأيت صبايا محروقات الوجوه والأجساد والشعور، ورأيت أناسا هلعين وحركات رعناء ودموعا على الخدود وحالات إغماء. رغم الهلع فقد التقطت بعض الصور للقيامة التي قامت في الملهى." (ص20).
    حينها شعر السارد علي المكاوي بالضياع والحيرة، فقد صار في لحظة، شاهد عيان على ما حدث صوتا وصورة؛ بل وعارفا بالفاعل، لكنه لا يستطيع الإدلاء بالشهادة بتحذير من مدير الجريدة، فقد طلب منه، هذا الأخير، مغادرة البيضاء إلى طنجة والاكتفاء بإنجاز تقرير حول ما حصل وإنكار وجوده بالمكان ساعة وقوع الحريق.
    وبذكر حدث الحريق، تعرض الرواية، في فصل لاحق، حدثا مشابها تعرضت له شخصية أخرى هي رشيدة عنتر، حين فوجئت بخبر الحريق الذي اندلع بمحلها التجاري (محل القفطان الذهبي). تقول الساردة: "خرجت من الشقة بلباس النوم وركبت السيارة وأنا هلعة حتى وصلت إلى المحل. دخان كثيف يتسرب من الداخل. رجال الإطفاء دخلوا وخراطيم المياه في أيديهم. وضعت يدي على رأسي. تهاويت على الأرض، ولا أدري كيف حملوني بالسيارة إلى البيت. عندما عاد إلي الوعي وجدت نفسي مشلولة اليدين." (190-191). هذا المحل التجاري الذي ما كان ليوجد لولا مساعدة عباد الطوسي صديق زوجها فارس عنتر، فهو صاحب الفكرة وهو من ساهم برأس المال. شخصية اغتنت في وقت قصير جدا وفي ظروف مشبوهة غامضة؛ ومن ثمة، كان لها حضور قوي في تشكيل أبعاد الحكاية. وحين عاد عباد الطوسي، بعد غياب دام عامين، طالب بنصيبه من الأرباح، غير أن رشيدة تنكرت له وأبت محاسبته. فكان الانتقام أن اعتقل زوجها في قضية وأحرق محلها. غلبتها الصدمة وتذمرت حياتها. وهي لحظة، من بين لحظات كثيرة في الرواية، أبانت، بشكل فني مليء بالرموز والتأويلات، عن قلق الأوضاع الاجتماعية وعمق الصراع بين العلاقات الإنسانية، في اتصالها أو انفصالها عن فكرة الفراغ، التي قاربها الكاتب روائيا.
    حدثان إذن، متباعدان في الزمان وفي المكان، غير أن دافعهما كان واحدا تجلى في رد الاعتبار وفعل الانتقام من الحياة ومن البشر. يقول السارد: "تعجب وقال: حريق في الدار البيضاء وآخر في طنجة. قلت: هي حرائق هذا الوطن. قال: حرائق يشعلها رجال سياسة انتهازيون، وتجار مخدرات، ومتاجرون بالبنات الصغيرات، وإرهابيون يفجرون أنفسهم بأحزمة ناسفة، من أجل لا شيء، أو من أجل كل شيء" (ص217). هكذا، تصبح المدينة/ المكان حديثا بضمائر متكلمين عنها وعن أنفسهم وتجاربهم. تصبح المدينة بتعبير الكاتب نفسه، ذات حوار، ليس فقط خرائط للمكان وإنما "رؤية للرائي".
    وفي سياق استكمال بناء المعنى، دائما، يحضر صوت المرأة، بشكل قوي، من خلال تجارب نسائية أخرى (بديعة الزواوي، سعاد الدردوري، سليمة بوشارب ومريم حنتات) تلتقي جميعهن في مظاهر الغربة والوحدة والضياع، ومن أجل ذلك، منحهن الكاتب فرصة الحديث عن تجربتهن الأليمة في علاقتهن بالجسد، تارة، وبالآخر، زوجا كان أم صاحبا أم ولي نعمة، تارة أخرى. تقول إحداهن: "أنا أداري اليوم بالغد. أكذب على نفسي. كل ليلة يدعوني إدريس إلى الحانات والمطاعم والمراقص. أشرب وأتعشى وألتقي بمعارفه وأصدقائه فأتحدث وأملأ فراغ حياتي. بدون إدريس لا أتصور شيئا آخر يمكن أن أفعله بحياتي. حياتي ذهبت مع الريح." (ص134). وتقول أخرى في مقام آخر: "أنا أعاني من مرحلة صعبة تمر بها المرأة، وتحتاج إلى صبر زوجها، ولكن أنا متزوجة من علي ولا زوج لي. هو لا يشعر بحالي." (ص49).
    تبعا لذلك، تضعنا الرواية أمام حالات نفسية مختلفة، بطلاتها نساء تناوبن على منصة الحكي لتقلن الحياة وترسمن واقعهن المأساوي قهرا وعنفا وانكسارا، سواء في علاقتهن بالرجل أم بالمرأة ذاتها، حيث الحب والكراهية والمكر والدهاء والخديعة، وما سوى ذلك من طبائعهن وكيدهن.
    ومثلما حضر صوت المرأة يحضر صوت الرجل أيضا، مع نماذج أخرى ذات صلات قريبة أو بعيدة بالأصوات النسائية السابقة. فعلي المكاوي وإدريس الغازي وفارس عنتر وإبراهيم المحكول شخصيات تهاوت أحلامها وبارت مواقفها وتباينت مصائرها. قاومت الحياة في تناقضاتها المختلفة ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، إلا أن سلطة الواقع كانت أقوى منها ومن أية مقاومة. فرغم ما عرف عن إدريس الغازي، المحامي والفنان مثلا، من مكر وانتهازية وثراء ومهارة مهنية لم يسلم، بدوره، من وجع الحيرة وقسوة الزمن، وقلق الوجود، فكانت الهزيمة النكراء والشعور بالعجز وتصدع الذات. يقول السارد: "لكني حائر. قلق جدا. على وشك الانفجار. فأنا أحيا بين امرأتين، واحدة هي زوجتي سعاد الدردوري، التي سوف تتعرفون عليها فيما بعد، والثانية هي سليمة بوشارب، التي عشت معها العلاقة لأكثر من عشر سنوات. سليمة سكنت بعض أوجاعي في وقت من الأوقات، لكنها صدعت ذاتي." (ص71). إنها شخصيات سعت كلها نحو التحرر الذاتي ودفع الضرر، فصارت بذلك رمزا من رموز التنوع والاختلاف والتعدد في الأصوات. ومن ثمة، تبدت ملامح الفراغ، كفكرة داخل الرواية، من خلال بحث الشخصيات عن ملئه وسد ثغراته، كل حسب طبيعته وانشغالاته.
    هكذا تقدم الرواية نفسها ليس بوصفها رواية مشاعر فحسب؛ وإنما رواية أحداث وفضاءات وشخصيات تضج بالحركة، تقول الحياة من خلال شخوصها وتقدم موقفا من خلال مساراتها وتجعل من الفضاء (الدار البيضاء، تارة وطنجة، تارة أخرى) مكانا رمزيا لتمرير متخيل الذات في وعيها وصراعها مع ذوات أخر. يقول السارد: "ثم قال لي: اسمع يا صديقي علي. نحن في السيرك نبني الفراغ. سألته: وكيف تبنونه؟ قال الفراغ هو الفراغ. الفراغ هو العالم. العالم يعيش حروبا ومجاعات ونحن في السيرك نوهم الناس أننا نبني الفراغ. نعطيهم لحظات من المتعة والنسيان. كان القطار يقترب من الوصول إلى طنجة، وقد تجاوز قبل قليل (محطة أصيلة) وأنا أفكر في معنى بناء الفراغ. درس علمني إياه مصطفى صديقي القزم." (ص212).
    ولكي يسدل الكاتب الستار على محكي الرواية ويستكمل بناءها الفني، فقد حط رحاله عند ذات الشخصية الروائية التي ابتدأ بها الرواية. وهي شخصية علي المكاوي، الذي خرج من الدار البيضاء في اتجاه طنجة لكنه عاد أدراجه من حيث أتى، بعدما اقتنع أن لا جدوى من البقاء في طنجة المدينة، وأنه ذاهب مع الريح. يقول السارد: "الآن وقد انتصف الليل في (حانة التجار)، وأخذتم نصفه، فلتتركوا لي نصفه الباقي." (ص224). فخلال هذا السفر، ذهابا وإيابا، اشتغلت الذاكرة واستحضرت وجوها وأصواتا وأماكن وطقوسا متفاوتة الرؤى والدلالات، وهو ما شكل في العمق رؤية الكاتب في بناء الحكاية، حتى غدت فصول الرواية كأنها فصل واحد.
    وبهذا المعنى أو ذاك، شكلت كل شخوص الرواية، رجالا ونساء، قوى فاعلة تضاربت أسرارها وحكاياتها وتباينت أبعادها وصراعاتها، بالإضافة إلى القوى الفاعلة الأخرى المجردة كالحب والخيانة والصداقة والدعارة والفساد والمخدرات والدين والسياسة والأدب وغيرها، مما كشفت عنه شخصيات الرواية كل باسمه وصفته، وفي أسيقة متباعدة ومتقاربة أحيانا.
    لقد نجحت الرواية وهي تعرض لنماذج بشرية متفاوتة الأعمار والرؤى في تقديم صورة عن الواقع المجتمعي القلق، في تبدلاته وتحولاته وفي صراعاته وانكساراته، دون أن تغفل علاقة هذه النماذج بالمكان كفضاء استراتيجي يستضمر الوقائع ويعرض الأحداث، في تناميها واندماجها. مكان يشي بالأهمية والالتباس وتعدد الوجوه. يقول السارد:
    "ما الذي رأيته من طنجة؟
    طنجة إبريق مهشم
    ساحة قديمة للكوريدا
    لهب
    نار
    أو ذهب
    معنى شرقي أو غربي
    فراسة
    نهوض رماد من رماد الوقت
    سيف أموي مفلول
    نهوض للأساطير
    طنجة لا تفتح أبوابها للعابرين
    تنسج الأقاويل
    تنسج الريح
    وها أنا أذهب مع الريح." (ص222-223).
    تبقى رواية "أبنية الفراغ" للكاتب محمد عز الدين التازي رواية ذوات فردية وجماعية تعاني قلق الوجود وقلق التحول الذي يشهده المجتمع بشكل مباغث ودون سابق إنذار، أحيانا. وهو ما يجعل الذات الكاتبة دائمة التوتر والاضطراب، لغة وتخييلا، تنتقد واقعا مريضا وهو يتجه بالإنسان نحو الموت والمحنة والضياع والفراغ. فراغ الروح وفراغ المكان.
    إن الكاتب في هذه الرواية، يعي تمام الوعي أن فعل الكتابة مدخل أساس لنقد الذات والمجتمع اعتقادا وسلوكا وممارسة. وأن فعل الكتابة أيضا، مساحة ضرورية للحرية حين تسمح بتعدد الأصوات والمواقف واللغات؛ بل حين تستطيع إنشاء العالم وبناءه من فـراغ.

    إحــالــة:
    * محمد عز الدين التازي، أبنية الفراغ، منشورات سليكي إخوان، طنجة، 2009.


      الوقت/التاريخ الآن هو الإثنين أبريل 29, 2024 3:04 am