[b][center]
الــذات والــروايــة
المفهوم النظري والتطبيق
" القارورة " ليوسف المحيميد نموذجا
د. أحمد صبرة
بينما يبدو مهما أن نقول إن للمرء طبيعته ، فإن الأكثر أهمية القول إنه ينشئ طبيعته ، أو بشكل أكثر بساطة إنه ينتج ذاته .
بيرجر ولوكمان
إن الذات ليست شيئا عضويا له مكان محدد ، إنها تأثير درامي يظهر منتشرا من المشهد المعروض .
جوفمان
تطرح الرواية المسرودة بضمير المتكلم إشكالات ذات شأن داخل النظرية النقدية ، حلت بعضها السرديات حين ميزت بين السارد البطل والسارد المصاحب والسارد المُعلِق ، وبقيت أخرى دون حل بسبب أن استيلاء السرديات على نظرية الرواية مدة من الزمن حال دون طرح هذه الإشكالات التي لا تستطيع السرديات – بسبب طبيعتها البنيوية – الإجابة عنها بمعزل عن الاستعانة بحقول معرفية أخرى ، لعل أهم هذه الإشكالات أن ضمير المتكلم في هذه الرواية يحيل إلى ذات لا يمكن الإمساك بها وفق آليات التحليل السردي ، ومن ثم فإن الحديث عنها يترك من الأسئلة أكثر مما يقدم من إجابات ، فما هذه الذات التي تظهر حين يكون السارد بطلا على وجه الخصوص ؟ وما علاقتها بمؤلف الرواية ؟ وإذا كانت الذات الروائية تُنتج في عالم متخيل ، فهل هناك فروق أساسية بينها وبين الذات في العالم الواقعي ؟ ثم ما المرجعية التي نحيل إليها الذات حين نريد أن نتصورها ؟ هل هي مرجعية العالم الواقعي ، أم مرجعية العالم المتخيل ؟ وإذا كان المؤلف ذكرا والسارد أنثى – أو العكس – كما في رواية القارورة ليوسف المحيميد فهل يمكن تجاوز هذا التعارض الجنوسي ؟ كيف تتحول الذات الواقعية الذكر إلى ذات تخييلية أنثى ؟ هذا إذا كان هناك تحول أصلا ، وهل يمكن أن تنشئ الذات الواقعية ذاتا متخيلة ؟ ما طبيعة الحبل السري الذي يربط بين الذاتين ؟ هل يمكن الإمساك بالذات وفق آليات غير آليات التحليل السردي ؟ ما الذات ؟
يتصور بعض علماء النفس الذات أنها مجموعة من الشعور والعمليات التأملية التي يُستدل عنها من خلال سلوكها ، أو من خلال الخبرات والاتصالات التي تكونها نتيجة احتكاكها بالآخرين ، ويتصورها آخرون أنها تتكون من خلال اتصالها بالآخرين ، التصوران يحيلان إلى مفهومين مختلفين للذات : مفهوم يرى أنها جوهر كامن في الفرد ، وآخر لا يرى أنها جوهر ، كلا المفهومين تترتب عليه نتائج مهمة في التعامل مع الذات ، وفي رؤية العالم الذي يحتويها ، وهو ما سيتضح بعد ذلك .
يرى هيجل أن الذات جوهر وأن المحرك الأساسي لها هو الصراع من أجل الاعتراف ، يوضح ذلك فيرى أن للكائنات الإنسانية – شأن الحيوانات – حاجات ورغبات طبيعية لأشياء خارجة عن ذاتها : الغذاء والشراب والمسكن ، وكل ما يحافظ على الجسد الذاتي ، إلا أن الإنسان يختلف جذريا عن الحيوانات ، لأنه – بالإضافة إلى ذلك – يرغب في " رغبة " الناس الآخرين ، أي أنه يريد أن يتم الاعتراف به ، يريد الاعتراف بذاته ، أي كائن مزود بكفاءة معينة وبكرامة معينة ، هذه الكرامة ترتبط بالدرجة الأولى بإرادته ، وباحتمال تعريض حياته إلى صراع من أجل الاعتبار فحسب ، بالنسبة لهيجل فإن رغبة الاعتراف هي التي قادت أول خصمين مصارعين إلى السعي المتبادل كي " يعترف " الآخر بطبيعة الكينونة الإنسانية لخصمه ، مع تعريض حياتهما لصراع مميت ، وعندما يؤدي الخوف الطبيعي من الموت بأحد الخصمين إلى الخضوع ، فإن علاقة السيد والعبد تولد إذ ذاك ، إن أسباب هذه المعركة الدامية في بدايات التاريخ ليست الغذاء ولا المأوى ولا الأمن ، ولكن الهيبة والاعتبار فحسب ، إن لدى الإنسان نزوعا نحو شحن الأنا بقيمة معينة ، وإلى طلب الاعتراف بهذه القيمة ، وهو يتوافق مع ما نسميه في اللغة الدارجة " احترام الذات " ، هذه النزوع لاحترام الذات يولد من هذا الجزء في الكائن الذي يسميه أفلاطون " تيموس " ، فهو يشبه عند الإنسان نوعا من الإحساس الفطري بالعدالة : يعتقد الناس أن لهم قيمة معينة ، وإذا عاملهم الآخرون وكأن قيمتهم أقل من ذلك ، فإنهم يشعرون بانفعال الغضب ، وفي المقابل عندما لا يرفع الناس حياتهم إلى مستوى ما يعتبرونه قيمتهم ، فإنهم يشعرون بالخجل ، وأخيرا عندما يُقيَّمون تقييما يتناسب مع قيمتهم ، فإنهم يشعرون بالاعتزاز ، فرغبة الاعتراف والانفعالات التي تصاحبها ( الغضب والخجل والاعتزاز ) تشكل جزءا لا يتجزأ من حياة أية شخصية ، وبحسب هيجل ، فإنها محركات السيرورة التاريخية بأكملها .
لكن " الرغبة " في الاعتراف ليست الركيزة الوحيدة التي ترتكز عليها الذات ، هناك أيضـا " الرغبة " في الاكتمال التي صاغ أهم أفكارها الأساسية جاك لاكان .
مفهوم الذات عند جاك لاكان :
استطاع جاك لاكان أن يقدم تصورات عن الذات استقرت الآن في التحليل النفسي في مرحلة ما بعد البنيوية ، من خلال تطبيقاته ودراساته على المرضى في الثلاثينيات والأربعينيات ، ثم بدأ في الخمسينيات تطبيق منظوره الخاص في التحليل النفسي الذي تأسس على اللغوية البنيوية ، والأنثروبولوجية البنيوية ، بحيث يمكن أن نقول عن لاكان إنه مزيج من فرويد ودي سوسير وليفي شتراوس ، مع بعض التأثيرات لجاك دريدا عليه ، لكن التأثير الأكبر كان من فرويد الذي شرحه على ضوء من النظريات البنيوية وما بعد البنيوية محولا التحليل النفسي من فلسفة إنسانية humanist philosophy إلى فلسفة ما بعد بنيوية( ).
لقد كانت المنطلقات الأساسية للإنسانيات أن هناك شيئا اسمه الذات الثابتة ، تملك إرادة حرة وتحديدات خاصة بها ، أما أفكار فرويد عن اللاوعي ، فقد خلخلت النموذج الإنساني للذات ، التي رآها منقسمة بين حقلي الوعي واللاوعي ، كان فرويد يأمل أن يسد الفجوة بين الوعي واللاوعي ، ومن ثم تحل الأنا ego محل اللاوعيid ، أي أن يكون الوعي أكثر قوة من اللاوعي .
هذا المشروع – بالنسبة للاكان – مستحيل ، لأن الذات ego لا يمكن أبدا أن تحل محل الوعي id أو تتحكم فيها أو تفرغها من محتواها ، لأن الذات عند لاكان مجرد وهم ، أو نتاج للاوعي نفسه ، وهو – أي اللاوعي – يعد أساسا لكل الوجود .
وبينما اهتم فرويد ببحث الكيفية التي يشكل بها الطفل لاوعيه وذاته العليا ليصبح إنسانا متحضرا بالغا ومنتجا ، فقد اهتم لاكان بكيفية حصول الطفل على هذا الوهم المسمى الذات ، ودراسته عن مرحل المرآة Mirror Stage تصف هذه العملية ، وتبين كيف يشكل الطفل وهم الـ ego : وهم الذات الواعية المتماسكة المرتبطة بالضمير " أنا " .
والفكرة المركزية عند لاكان أن اللاوعي الذي يتحكم في كل الوجود الإنساني قد بُنينstructured is مثل اللغة ، وقد أسس هذه الفكرة من خلال تفسير فرويد للآليتين الرئيسيتين في عمليات اللاوعي : التكثيفcondensation والإحلال displacement ، كلتا الآليتين ظاهرة لغوية ، حيث يتكثف المعنى في الآلية الأولى من خلال الاستعارة ، ويحل محله شيء في الآلية الثانية من خلال المجاز المرسل metonoymy ، لاحظ لاكان أن تحليل فرويد للحلم ، ومعظم تحليله للرمزية اللاواعية التي يستخدمها مرضاه تعتمد على ألفاظ اللعب والتورية والمتلازمات إلخ ، وقد رأى لذلك أن محتويات اللاوعي فيها إدراك حاد للغة ، وبخاصة بنية اللغة .
اعتمد لاكان على أفكار دي سوسير في نقاشه لفرويد ، تحدث دي سوسير عن العلاقة بين الدال والمدلول التي تشكل العلامة ، وأكد على أن بينة اللغة ذات علاقة سلبية بين العلامـات ( العلامة تكون على ما هي عليه لأنها ليست علامة أخرى ) ، أما لاكان فقد ركز على العلاقة بين الدوال ، ورأى أن عناصر اللاوعي – الأماني والرغبات والصور المتخيلة – كلها تشكل الدوال ، ويتم التعبير عنها من خلال مصطلحات لفظية ، هذه الدوال تشكل سلسلة دوالية signifying chain : دال له معنى فقط بسبب أنه ليس دالا آخر ، عند لاكان ليست هناك مدلولات ، لا توجد ما تشير إليه الدوال أبدا ، ولو كان هناك ما يمكن الإشارة إليه ، فإن معنى أي دال سيكون ثابتا نسبيا ، فوفقا لمصطلح دي سوسير ستكون هناك علاقة دالية بين الدال والمدلول ، وهذه العلاقة سوف تخلق أو تضمن نوعا من المعنى ، يرى لاكان أن هذه العلاقة الدالية لا يمكن أن توجد ( على الأقل في اللاوعي ) هناك فقط علاقات سلبية ، أو علاقات قيم حيث يصبح الدال على ما هو عليه لأنه ليس شيئا آخر .
يقول لاكان إنه بسبب هذا النقص في المدلولات ، فإن سلسلة الدوال x = y = z = b = q = o إلخ تنزلق وتتحول وتستدير ، ليس هناك مرتكز لها ، لا شيء يعطي معنى أو ثباتا للنظام كله ، إن سلسلة الدوال أساسا في حالة لعب بتعبير دريدا ، ولا توجد وسيلة لإيقاف هذا الانزلاق للسلسلة ، لا توجد وسيلة للقول " آه ، إن x تعني هذا " ومن ثم يمكن تحديدها ، ما نجده أن دالا يقود إلى دال آخر ، ولا يقود إلى مدلول ، إنه مثل المعجم ، حيث تقود الكلمة فيه إلى كلمة أخرى ، ولا تقود أبدا إلى الأشياء التي من المفترض أن تعبر عنها هذه الكلمة .
في رأي لاكان ، فإن هذه هي حالة اللاوعي : سلسلة دائرية مستمرة من الدوال لا يوجد فيها مرتكزanchor ، أو بمصطلح دريدا لا يوجد مركزcenter ، وهذه هي ترجمة لاكان اللغوية لصورة فرويد عن اللاوعي بوصفه حقلا مشوشا للدوافع المتحولة المستمرة والرغبات ، اهتم فرويد بكيفية جلب هذه الرغبات والدوافع المشوشة إلى الوعي حتى يكون لها نظام ومعنى ، أما لاكان فرأى أن عملية أن يصبح الإنسان ناضجا ، أن يصبح ذاتا – وهي العملية التي يحاول فيها تثبيت وإيقاف سلسلة الدوال من أجل الحصول على المعنى المستقر بما فيه معنى الأنا الذي يراه البعض أمرا ممكنا – هذه العملية مجرد وهم ، وصورة تخييلية تتخلق من خلال سوء الإدراك للعلاقة بين الجسد والذات .
تحدث فرويد عن ثلاث مراحل يمر بها الأطفال : المرحلة الفمية ، ثم المرحلة الشرجية ، ثم المرحلة القضيبية ، ثم تحدث عن عقدة أوديب وعقدة الخصاء التي تبدأ بعدها الكائنات في البلوغ ، أما لاكان فقد أبدع تصنيفات مختلفة ليشرح المسار نفسه : مسار الطفل إلى البلوغ ، لقد أوضح ثلاثة مفاهيم : الحاجةNEED ، والطلبDEMAND ، والرغبة DESIRE التي تناسب تماما ثلاث حالات من التطور ، أو ثلاث حقول يتطور داخلها البشر : الواقعي ، والمتخيل ، والرمزي ، وبموازاة المفاهيم والحقول ، فإن الرغبة توازي الرمزي الذي هو بنية اللغة نفسها ، ونحن ندخل إليها حتى نصبح ذواتا Subjects متكلمة ، من أجل أن نقول " أنا " ، وأن نمتلك الأنا التي تبدو أنها ثابتة .
مثل فرويد ، لا يبدأ الطفل – عند لاكان – منفصلا عن أمه ، فلا تمييز بين الذات والآخرين عنده ، ولا تمييز بين الطفل وأمه ، فهو يأتي إلى العالم بلا أنا ego ، بلا هوية ، بلا معنى للذات منفصل عن الآخر ( عن أمه ) ، إنه في هذه المرحلة يشبه كتلة ليس لديها أي تصور لجسدها على أنه كل موحد متماسك ، هذا الطفل يتحرك من خلال الحاجة ، فهو يحتاج إلى الطعام والراحة والأمان ، يحتاج إلى كل شيء ، ويتم إشباع هذه الحاجات من خلال أشياء مادية ، فهو يلقم ثدي أمه إذا احتاج إلى طعام ، وهو يتعلق بها إذا احتاج إلى الأمان ، ولا يدرك الطفل في هذه الحالة من الحاجة أي تمييز بينه وبين الأشياء المادية التي تلبي حاجاته ، فهو لا يدرك مثلا أن هذا الشيء المادي الذي يحتاج إليه – وليكن الثدي – جزء من شخص كامل ( لأنه ليس لديه أي مفهوم عن الشخص الكامل ) وليس لديه أي تمييز بينه وبين أي شخص ، أو أي شيء ، لديه فقط حاجات وأشياء تُشبع هذه الحاجات .
على الطفل – من وجهة نظر فرويد ولاكان – أن ينفصل عن أمه ، وأن يكون هوية منفصلة ، حتى يدخل إلى الحضارة ، هذا الانفصال يستلزم نوعا من الفقد LOSS ، فعندما يعرف الطفل الاختلاف بينه وبين أمه ، ويبدأ في أن يصبح كائنا متفردا ، فإنه يفقد المعنى الأولي للوحدة ( الأمان ) الذي يمتلكه أصلا ، وهذا هو الجزء التراجيدي في نظرية التحليل النفسي ( سواء عند فرويد أو لاكان ) ، فلكي تصبح كائنا متحضرا ، عليك أن تشعر بحالة فقد لا مفر منها للوحدة الأصلية للاندماج ، وبخاصة مع الأم .
إن الطفل الذي لم ينفصل عما حوله ، والذي يتم إشباع حاجاته فقط ، والذي لا يميز بين ذاته والأشياء التي تشبع حاجاته ، هذا الطفل يوجد في حقل الواقعي ، وطبقا للاكان ، فإن الواقعي هو مكان ( مكان نفسي وليس مكانا ماديا ) توجد فيه هذه الوحدة الأصلية ، ومن أجل ذلك ، فإنه لا يوجد فيه غيابabsence أو فقد loss أو نقص lack ، إن الواقعي ممتلئ تماما وكامل ، حيث لا توجد فيه حاجة لا يمكن إشباعها ، وبسبب أنه لا يوجد غياب أو فقد أو نقص ، فإنه لا توجد لغة في الواقعي .
يعلق لاكان على موضوع الفقد من خلال دراسة حالة ظهرت في كتاب فرويد " ما وراء مبدأ اللذة " ، تحدث فرويد عن ابن أخته البالغ من العمر ثمانية عشر شهرا ، والذي يلعب بكرة من الخيوط مربوطة بغزل من الصوف ، إن الطفل يلقي الكرة بعيدا ، ويقول " راحت Fort " ، تعود الكرة إليه مرة أخرى فيقول " جاءت da " ، يقول فرويد إن هذه اللعبة رمزية بالنسبة للطفل ، أسلوب للتخلص من القلق حول غياب الأم ، فهو عندما يلقي الكرة ويقول Fort ، فإنه يكرر تجربة الفقد للشيء الذي يحبه ، وعندما يستعيد الكرة ، ويقول da ، فإنه يستمتع بالإبقاء على هذا الشيء ، أخذ لاكان هذه الحالة وركز على شكل اللغة الذي تعرضه ، قال لاكان إن لعبة " Fort / da " التي قال فرويد إنها حدثت لابن أخته البالغ من العمر ثمانية عشر شهرا هي حول دخول الطفل العالم الرمزي ، أو دخوله إلى بنية اللغة نفسها ، إن اللغة – كما يرى – تتحدث عما هو مفقود أو غائب ، فأنت تحتاج إلى الكلمات عندما تكون الأشياء التي تريدها غائبة ، ولو كان عالمك ممتلئا بلا غياب فيه ، فأنت لا تحتاج إلى اللغة ( وقد أشار جوناثان سويفت إلى شيء من هذا في رحلات جيلفر حين تحدث عن ثقافة ليس فيها لغة ، الناس فيها يحملون على ظهورهم كل الأشياء التي يحتاجون إلى أن يشيروا إليها ) .
وهكذا ، فإن حقل الواقعي – في رأي لاكان – لا توجد فيه لغة ، لأنه لا يوجد فيه فقد ولا نقص ولا غياب ، يوجد فيه فقط امتلاء كامل وحاجات ، وإشباع لهذه الحاجات ، ومن ثم فإن الواقعي هو دائما ما وراء اللغة ، غير ممثل في اللغة ، ولا يمكن استعادته أبدا إذا ما دخل المرء إلى عالم اللغة .
في سن 6 شهور إلى سن 18 شهرا يبدأ الطفل في الانفصال عن العالم من حوله ، ومن ثم يتحول من طور الحاجات إلى طور الطلباتdemands ، والطلبات لا يتم إشباعها من خلال الأشياء ، إن الطلب هو طلب التقدير من الآخرين : الحب من الأم مثلا ، وتحدث العملية كالتالي ؛ الطفل يبدأ في إدراك أنه منفصل عن أمه ، وأنه توجد أشياء في هذا العالم ليست جزءا منه ، وهكذا تنشأ فكرة " الآخر " ، لكن الطفل لا يدرك في هذه المرحلة التعارض الثنائي بين الذات والآخر ، لأنه حتى هذا العمر لا يستطيع التعرف على معنى متماسك للذات ، هذا الإدراك للانفصال أو حقيقة الأخروية يخلق قلقا لديه ، يخلق معنى الفقد ، لذلك يطلب الطفل التوحد مرة ثانية ، أن يعود إلى المعنى الأصلي للامتلاء واللانفصال الموجود في الواقعي ، لكن هذا غير ممكن بمجرد أن يعرف الطفل أن فكرة الآخر موجودة ( وكل هذا يحدث في مستوى اللاوعي ) إن الطفل يطلب الامتلاء من الآخرين ، وأن يعود إلى معنى الوحدة الأصلي ، إنه يطلب من فكرة الآخر أن تختفي ، والطلب بهذا المعنى طلب للامتلاء والاكتمال من الآخرين أن يوقفوا النقص الذي يعاني منه الطفل ، لكن هذا بالطبع غير ممكن ، لأن النقص أو الغياب ومعنى الأخروية شروط لأن يصبح الطفل ذاتاSelf /Subject ، كائنا متحضرا فعالا .
ولأن الطلب هو طلب التقدير من الآخرين ، فإنه لا يمكن إشباعه ، لأن الطفل من 6 – 18 شهرا لا يستطيع أن يقول ما يريده ، إنه يصرخ فتعطيه الأم ثديها أو زجاجة لبن ، أو أي شيء آخر ، لكن لا يوجد شيء يشبع طلبه ، لأن الطلب هو استجابة على مستوى مختلف ، فالطفل لا يستطيع أن يقدر الأساليب التي تستجيب بها الأم له ، ويقدر هذه الاستجابة ، لأنه ما يزال لا يمتلك بعد مفهوما عن ذاته بوصفها شيئا ـ إنه يعرف فقط أن هذه الفكرة عــن " الآخر " موجودة ، لأنه منفصل عن هذا الآخر ، لكنه لا يمتلك فكرة عن كينونة الذات .
في مرحلة المرآة في سن 6 – 18 شهرا ، لا يمتلك الطفل سيطرة على كل جسده ، كما لا يستطيع التحكم في حركته ، إنه لا يمتلك فكرة عن جسده ككل ، فهو يختبره متجزءا ، أو في قطع تكون في متناول يده ، لكنها تختفي بمجرد أن الطفل لا يستطيع أن يراها ، إنه يمكن أن يرى يده ، لكنه لا يعرف أن هذه اليد تتعلق به ، إنها يمكن أن تتعلق بأي شخص آخر ، أو لا تتعلق بأي أحد ، مع أن الطفل في هذه المرحلة يستطيع أن يتخيل ذاته ككل ، لأنه يرى الآخرين ، ويدركهم ككائنات كاملة .
يقول لاكان إن الطفل في هذه الفترة تتكون ذاته من خلال المرآة ، فهو يتطلع إلى انعكاس الأشخاص عليها ، ثم يعود ليتطلع إلى الشخص الحقيقي – أمه أو أي شخص آخر ، ثم يتطلع مرة ثانية إلى الصورة المرآوية ، إنه يتحرك في هذا الفعل من القصور إلى الحدس : من صورة المرآة إلى الشخص ، والعكس ، هذا يعطيه فكرة أن هناك كائنات متكاملة ، أشخاصا كاملين ، لكن الطفل يظل غير قادر على أن يكون كلا ، ومن ثم ينفصل عن الآخرين ( على الرغم من أنه يمتلك هذه الفكرة عن الانفصال ) في مرحلة المرآة يبدأ في توقع الكامل ، إنه يتحرك من الجسد المتجزئ إلى رؤية مشوهة لكليته ، إلى رؤية ذاته ككل متكامل ، وهي مشوهة لأنها تستخدم كدعامة أو أداة تصحيح ومساعدة للطفل كي ينجز حالة الكلية .
يعرف الطفل في هذه المرحلة معنى الذات بوصفها كلا منفصلا متحدا ، فهو يرى نفسه في المرآة يشبه الآخرين ، يرى كينونته في المرآة ، هذه الكينونة التي ستصبح ذاتا ، ويتم التخطيط لهذه الكينونة من خلال كلمة " أنا " ، أما ما يحدث حقيقة فإن هذه المماثلة ليست سوى سوء تمييز misrecognation ، فالطفل يرى صورة في المرآة ، وهو يعتقد أن هذه الصورة هي أنا me ، لكنها في الحقيقة ليست الطفل ، إنها مجرد صورة ، ينظر الطفل إلى المرآة ، ثم يعود لينظر إلى أمه ، تقول له أمه " نعم ، هذا هو أنت " إنها تؤكد على واقعية العلاقة بين الطفل وصورته ، وتؤكد على فكرة التكامل بين الجسد الكلي المتكامل الذي يراه الطفل ويتماهى معه. إنه أحيانا يحدق في المرآة ويقول " تعال هنا " وشكسبير يقول " عندما نولد نصرخ لأننا جئنا إلى هذا المسرح الكبير من الحماقة " لكن هذا الفعل من الإدراك يوسم بالنقص
يأخذ الطفل هذه الصورة في المرآة على أنها خلاصة كينونته الكاملة كذات ، وتخلق هذه العملية من سوء تمييز ذات المرء في صورة المرآة – تخلق الأناego ، هذا الشيء الذي يقول " أنا " ، وبتعبير لاكان ، فإن سوء التمييز هذا يخلق درعا للذاتsubject ، يخلق وهما أو سوء إدراك للكلية والتكامل والشمولية التي تحيط بالجسد المتجزئ وتحميه ، وبالنسبة للاكان فإن هوية الـ ego ، أو هوية الذات ، أو هوية الأنا مجرد وهم ، إنه تماثل مع صورة خارجية ، وليس معنى داخلي للهوية الكلية المنفصلة .
بهذا المعنى تتخلق الذات في حقل التخييلي Imaginary ، من خلال هذا التماثل التخييلي مع الصورة في المرآة ، ويقع حقل التخييلي حيث تتخلق العلاقة الغريبة للذات مع صورتها الخاصة وتصان ، إن التخييلي هو حقل الصور سواء أكان الوعي أو اللاوعي ، وهو ما قبل لغوي ، وما قبل أوديبي ، لكنه مؤسس على إدراك بصري ، أو ما يسميه لاكان تصور تأملي Specular Imaging .
تعرف الصورة المرآوية – أي الشخص الكامل الذي يخطئ الطفل في معرفة أنه هو نفسه – في مصطلحات التحليل النفسي على أنها الأنا العليا Ideal Ego ، الذات التامة التي لا تمتلك أي نقص ، هذه الأنا العليا تصبح باطنية ، ونحن نبني هويتنا أو نبني معنى الذات من خلال سوء تماثلنا مع هذه الأنا العليا ، ومن خلال ذلك – كما يقول لاكان – نتخيل الذات التي لا تعاني أي فقد ، وليس لديها أي فكرة عن الغياب ، ولا عن عدم الاكتمال ، إن تخييل الذات الثابتة الكاملة المتحدة التي نراها في المرآة يصبح تعويضا عن فقد الواحدية الأصلية مع جسد الأم ، بكلمة مختصرة – عند لاكان – فإننا نفقد اتحادنا مع جسد الأم ( حالة الطبيعة ) كي ندخل إلى الحضارة ، لكننا نحمي أنفسنا من معرفة هذا الفقد من خلال سوء إدراك لأنفسنا على أننا لا ينقص منا شيء .
يرى لاكان أن مفهوم الذات عندالطفل ( أناه أو هويته ) لا تتلاءم مع كينونته الخاصة ، فصورته الذهنية في المرآ ة أصغر ، كما أنها أكثر ثباتا ، ثم إنها بالنسبة له هي الآخر ، إنها شيء ما خارج عنه ، ولذلك فإن الطفل – لبقية حياته – سوف يسيء تمييز ذاته على أنها الآخر ، على أنها صورة في المرآة تمده بوهم الذات ، وبوهم السيطرة .
إن التخييلي مكان نفسي ، أو حالة يسقط فيها الطفل أفكاره عن الذات في صورة المرآة ، وإذن فإن مرحلة المرآة توطد ثنائية الذات / الآخر ، حيث يعرف فيها الطفل الآخر ، لكنه لا يعرف الذات ، وبالنسبة للاكان فإن تماثل الذات يتم دائما وفق مصطلح الآخر ، هذا لا يشبه تعرضا ثنائيا حيث الذات = كل ما ليس آخر ، والآخر = كل ما ليس ذاتا ، عند لاكان الذات هي الآخر ، وأما فكرة الذات ووجودها الباطني الذي يتشكل من خلال كلمة " أنا " ، فهو مؤسس على صورة ، مؤسس على آخر ، ومن ثم فإن مفهوم الذات يعتمد على سوء تماثل الفرد مع هذه الصورة عن الآخر .
يستخدم لاكان مصطلح الآخر بعدة طرق يجعله صعبا في الإدراك ، لكن أولها – وربما أكثرها سهولة – يستخدمه في ثنائية الذات / الآخر ، حيث الآخر ليس " أنا not me " ، في مرحلة المرآة يصبح الآخر هو " أنا me " ، كذلك يستخدم لاكان مصطلح الآخر Other بحرف O كبير ليميز بين مفهوم الآخر والآخرين الواقعيين ، إن الصورة التي يراها الطفل في المرآة هي آخر ، وهي تعطي الطفل فكرة عن مفهوم الآخر كاحتمالية بنيوية .
وعندما يصوغ الطفل بعض الأفكار عن مفهوم الآخر ، وعن الذات المتماهية مع آخرها الخاص : صورتها في المرآة ، فإن الطفل يبدأ في دخول الحقل الرمزي ، وفي هذه الحالة يتشابك الرمزي والتخييلي معا ويتعايشان على الرغم من بعض أفكار لفرويد في هذا الصدد ، إن النظام الرمزي هو بنية اللغة نفسها ، ونحن نريد أن ندخل فيه كي نصبح ذواتا متكلمة speaking subjects ، وأن نشكل أنفسنا من خلال كلمة " أنا " إن أساس امتلاك الذات يقع في الإسقاط التخييلي للذات على الصورة التأملية : الآخر في المرآة ، وامتلاك الذات هو التعبير بكلمة " أنا " التي تقع فقط في النظام الرمزي ، وهذا هو السبب في تعايش الرمزي مع التخييلي .
إن لعبة Fort / da - في رأي لاكان علامة على الدخول إلى النظام الرمزي ، لأن هذا الولد يستخدم اللغة كي يتغلب على فكرة الغياب ، وعلى فكرة الأخروية كفئة أو احتمالية بنيوية ، إن كرة الخيط – في رأي لاكان – تستخدم كشيء صغير أو كشيء صغير خارجي ، وعندما يلقيها بعيدا ، فإن الطفل يدرك أن الآخرين من الممكن أن يختفوا ، وفي حالة استرجاعها ، فإنه يدرك أن الآخرين من الممكن أن يعودوا ، وقد اهتم لاكان بالجزء الأول مؤكدا على أن هذا الطفل الصغير معني بفكرة النقص أو الغياب للأشياء الصغيرة الخارجية .
إن الآخر الصغير يوحي للطفل بفكرة النقص أو الفقد أو الغياب مُظهرا الطفل أنه ليس كاملا في نفسه ولنفسه ، كما أنه وسيلة عبور إلى النظام الرمزي ، أي إلى اللغة ، حيث إن اللغة نفسها نتيجة منطقية لفكرة النقص أو الغياب ، يرى لاكان أن هذه الأفكار عن الآخر ومفهوم الآخر ، وعن النقص والغياب ، وعن سوء تماثل الذات مع الآخر ومفهوم الآخر – كلها تحدث عند المستوى الفردي لكل طفل ، لكنها تشكل بنى أساسية للنظام الرمزي للغة التي يجب أن يدخلها الطفل حتى يصبح عضوا بالغا في الحضارة ، وهكذا فإن الأخروية التي تؤثر في لعبة Fort / da تصبح أفكارا تصنيفية أو بنيوية ، وهكذا ففي النظام الرمزي هناك بنية للأخروية أو مبدأ بنيوي ، وهناك مبدأ بنيوي للنقص .
إن لاكان نفسه مهتم بفكرة النقص بوصفها مركزا للنفس البشرية ، فعندما يتطلع الطفل إلى المرآة ويرى صورة كاملة لنفسه ، فإن هذه الصورة Image تبدو في حالة تعارض مع خبرته الواقعية عن العالم والذات كشيء متجزئ ، في هذه الحالة يُنشئ الاختلاف بين الصورة النموذجية والخبرة المتجزئة للطفل النقص الذي يعاني منه طوال حياته ، ربما كانت أول حالة نقص يعاني منها الطفل هي حالة الفطام الذي يواجه فيه أول حالة انفصال بين شيئين : الغذاء والحب ، يقول لاكان إن الرغبة تظهر حينئذ مميزة حياته كلها ، دافعة إياه للبحث عن الرجل النموذجي أو المرأة النموذجية أو الوظيفة النموذجية إلخ .
إن مفهوم الآخر موقع بنيوي في النظام الرمزي ، إنه مكان يحاول كل شخص أن يؤثر فيه ويندمج معه ، حتى يمكن التخلص من الانفصال بين الذات والآخر ، إنه بتعبير دريدا مركز center النظام الرمزي ونظام اللغة نفسها ، إن مفهوم الأخروية شيء ترتبط به كل العناصر ، لكنه بوصفه مركزا لا يمكن أن يندمج معه شيء ، لا يمكن أن يكون هناك شيء في المركز مع مفهوم الآخر ، ولذلك فإن موضع الأخروية يخلق ويدعم نقصا لانهائيا يسميه لاكان الرغبة desire ، إن الرغبة هي رغبة أن تكون الآخر ( مفهوم الآخر ) ، ومن ثم فإن الرغبة لا يمكن إشباعها ، فهي ليست رغبة في بعض الأشياء ، أو رغبة في الحب ، إنها رغبة أن تكون مركزا للنظام الرمزي ومركز اللغة نفسها ، هذا المركز له عدة أسماء في النظرية اللاكانية ، فهو مفهوم الآخر ، كما أنه القضيب Phallus الذي يستعيره من نظرية فرويد عن عقدة أوديب .
إن مرحلة المرآة ما قبل أوديبية ، والذات فيها يتم بناؤها في علاقتها بالآخر ومع مفهوم الآخر ، والذات فيها تريد أن تندمج مع هذا المفهوم ، إن الآخر / المركز عند فرويد هو الأب ، والأب هو القضيب ، والقضيب بوصفه مركزا يدعم الطبيعة البطريركية للنظام الرمزي ، إن القضيب يقيد لعب العناصر المختلفة ، ويعطي ثباتا للبنية كلها ، كما أنه يدعم سلسلة الدوال المنسابة وغير المستقرة في اللاوعي التي تنزلق دائما وتتحول ، كما أنه يوقف اللعبة لأن الدوال يمكن أن تمتلك بعض المعاني الثابتة .
إن القضيب ليس هو الذكر penis ، فإذا كان الذكر يتعلق بالأفراد ، فإن القضيب يتعلق ببنية اللغة نفسها ، فلا أحد يملكه ، مثلما لا يوجد أحد يتحكم في اللغة ويقعد لها ، بالأحرى ، القضيب مركز ، إنه يتحكم في البنية كلها ، إنه ما يريد كل شخص أن يكونه أو يملكه ، لكن لا أحد يستطيع ذلك ( فلا يوجد عنصر في النظام يمكن أن يأخذ مكان المركز ) هذا هو ما يسميه لاكان الرغبة : الرغبة التي لا يمكن إشباعها لأنها لا يمكن أن تكون مركزا ، أو أن تتحكم في النظام .
هناك مشكلة أخرى تتعلق بطبيعة دخول كل من الولد والبنت إلى النظام اللغوي ، فالولد يشعر – لأنه يمتلك القضيب – أنه يمتلك اللغة أي المركز ، والبنت تشعر بالفقد لأنها لا تمتلك هذا القضيب ، ينشأ عندها ما يسميه فرويد عقدة الخصاء ، لكن لاكان يقول إن كل ذات subject في اللغة مرتبطة بالنقص ارتباطا وثيقا ، والسبب الوحيد الذي يجعلنا نمتلك اللغة هو الشعور بالفقد أو النقص أو الرغبة في التوحد مع الجسد الأمومي ، وفي الحقيقة فإن هذا ضروري كي نصبح جزءا من الحضارة ، أن نصبح ذواتا subjects في اللغة ، أن نواجه هذا الغياب والفقد والنقص . إن التمييز بين كلا الجنسين مهم جدا في نظرية لاكان ، لكنه ليس كذلك عند فرويد ، يرى لاكان أن كل من الولد والبنت يدخل إلى بنية اللغة بشكل مختلف ، فكل منهما لايرى إلا الدال الذي يرتبط بالجنس الآخر ، وكل منهما ينشئ رؤيته الخاصة للعالم من خلال فهمه للعلاقة بين الدال والمدلول .
إن مرحلة المرآة دراما شديدة التأثير ، فقد خلقت أوهاما عن الجسد المتجزئ وعن الهوية المعزولة ، كما أنها جعلتنا نجد أنفسنا في غربة مع أنفسنا ، وتصبح الغرائز والرغبات – من ثم – أشياء يمكن أن تدمر الأنا النموذجية(*) .
إن النتائج التي ترتبت على أفكار لاكان كثيرة جدا ، فنحن نلاحظ أن نموذج لاكان عن الذات قريب جدا من تحليل دريدا لفكرة الاختلاف ، إن ضمير أنا ينتج ذاتا مترابطة ( كما تفعل العلامات ) ، ربما تُظهر الذات في بعض الأحيان نقصا خاصا بها ، أو تظهر مجزأة ، لكنها – في الحقيقة – مهددة بفكرة التفتيت ، أو أن تُكتشف لاواقعيتها ، وقد أخذ نقاد الأدب هذه المفاهيم للحديث عن التأثير المتواصل للآخرين على الشخصية ، وللحديث عن الأساليب التي تؤثر بها الرغبة المستحيلة في الاتحاد والاكتمال ( أي أن تكون بلا نقص ) على الشخصيات ، وأحيانا على النصوص الأدبية ، كيف يمكن أن نقرأ عملا مثل القارورة ليوسف المحيميد على ضوء من هذه المفاهيم ؟
الذات بوصفها مفهوما سرديا
من نحن ؟ ما الذي يفهمه علم النفس من فكرة الذات ؟ ما طبيعة هويتنا ؟ هذه أسئلة طرحتها الفلسفة ، لكنها أصبحت الآن قضايا أساسية في علم النفس ، أما المعالجة السرديـة( )في دراسة الهوية والذات فإنه تركز على الأسئلة التالية :
هل يتضمن الأفراد ذاتا واحدة أو أكثر ؟
تحت أي ظروف يتغير الناس ؟ كيف يعرف الناس ذواتهم ؟ هل يمكن أن نعرف في الحقيقة من نحن ؟
كيف يصوغ الناس قصصا شخصية ليعبروا بها عن ذواتهم ؟
كيف تتكامل الثقافة مع الذات الفردية ؟
في كتابة السيرة الذاتية ، هل يخفي الكاتب أكثر مما يكشف ؟
ما مدى دقة ذاكرة الأطفال ؟( )
إن هناك جدلا بين من يرى سبق الذات للغة ، أي يراها ذاتا ثابتة مستقرة ، ومن يرى أنها تتشكل من خلال الممارسة اللغوية ، وبخاصة قدرتنا على تأليف القصص ، هذه الرؤية الأخيرة تظهر من خلال رؤية معينة لطبيعة اللغة ، وجوهر هذه الرؤية يرفض فكرة أن اللغة تستخدم كوظيفة مرجعية ، وكتب في ذلك كيربي " إن اللغة ببساطة ليست أداة للاتصال أو انعكاس ما نكتشفه في واقعنا ، إنها نفسها جزء مهم من هذا الواقع ، جزء من نسيجـه " ( )
إن الذات منتَج للممارسات السردية ، ولإثبات هذه القضية ، هناك في أطروحات علم النفس الفلسفي الحديث ما يسمى بنظرية المحاكاة Simulation Theory ، وهي تعني أننا في محاولتنا تفسير الحالة العقلية لشخص ما ، فإننا نتشارك قليلا فيما يشبه مسرحية ، ومنظرو المحاكاة يقولون إننا نفهم أعمال الآخرين من محاولة تخيل كيف يبدو العالم من منظورهم ، إنهم يرون أننا حين نحاول فهم أعمال الآخرين ، فإننا في الحقيقة نوظف مهاراتنا التخييلية في محاولة معالجة كيف تبدو الأشياء من وجهة نظر الآخرين ، ولفهم كيف يتصرف الآخرون ، فإننا نتشارك في نوع من المحاكاة العملية( )، مثل هذه المحاكاة تُرى بشكل أفضل على أنها نوع من المسرحة : محاولة لتبني شخصية الآخرين تبنيا تخييليا .
لكن المسألة ليست هينة ، هناك صعوبات كثيرة تواجه منظري المحاكاة في تفسير هذه المشاركة ، وهناك محاولات لتجاوز هذه الصعوبات ، منها محاولة اقتراح مفهوم للذات الديكارتية التي ترى الذات شديدة الوضوح ، وهناك من يقدم الاقتراح السردي الذي يراه جديرا بفهم الطبيعة الكامنة للمحاكاة .
هناك سؤالان أساسيان يطرحهما منظرو المحاكاة : كيف تُنجز المحاكاة ؟ وكيف تُكتسب القدرة علي المحاكاة ؟ وفي محاولة الإجابة عن السؤال الأول هناك من يرى – وهو رأي شائع – أننا نستخدم أنفسنا نموذجا للآخرين ، وطبقا لهذه الرؤية فنحن نضع أنفسنا تخييليا في أحذية الآخرين ، وعلى أساس من هذا الإسقاط نتخذ قرارات من المفترض أن الآخرين سوف يتخذونها ، مثلما يفعل بعض العلماء حين يصنعون نموذجا للمجموعة الشمسية ، ويحركون الكواكب فيها مفترضين أن حركة الكواكب في النموذج تماثل حركة الكواكب الحقيقية ، يسمي هؤلاء ما يفعلون نموذج الاستبطان الواعي Conscious introspective modelling ، وهم يرون أن المحاكاة هي فهم تصوري جانبي من خلال تشغيل نموذج فعال للعقل ، ثم قراءة النتائج ، هذا النموذج مؤسس على رؤية ديكارتية للذات تفترض أن عقولنا يمكن نقلها ومعرفتها بسهولة ، كما يفترض أيضا أن لدينا مبررا في الاعتقاد أن الآخرين يمكن أن نقيسهم على أنفسنا( ).
وعلى الرغم من شيوع هذا النموذج ، فإننا يجب أن نكون حذرين في تقدير هذا النوع من الادعاء ، لأن هناك غموضا كبيرا في الطريقة التي يكشف بها أي انعكاس واع بسيط عن الطريقة التي تُنجَز بها المحاكاة ، وعلماء النفس يقولون دائما إن الناس ليسوا دقيقين تماما في التبعير عن الطريقة التي ينجزون بها أعمالهم ، ومن ثم فإن هذا الأسلوب لا ينجز شيئا ، أيضا فإنه من المهم التذكر أن المحاكاة ليست عملا واعيا تماما ، إنها – مثل أي مهارة أخرى – يمكن تعلمها بشكل واع ، ومن خلال الخبرة يتبين أننا لا نفسر أفعال الآخرين من خلال مقارنة أنفسنا بهم ، أو باستخدام أنفسنا نموذجا لهم ، لأن المحاكاة ببساطة ليست هي إسقاط أنفسنا لنحل محل الآخرين ، هذه العملية تسمى الإسقاط الكامل في الأدب ، وهي تفشل في أن تأخذ في الحسبان الاختلافات بين ذواتنا وذوات هؤلاء الذين نرغب في أن نفسر أفعالهم ، إن المحاكاة ليست مسألة وضع ذاتك في حذاء شخص آخر ، إنها محاولة تخييلية لفهم أو تبني منظور الآخرين تجاه الحوادث ، وإنه من المهم أن نلاحظ أنه حتى نحاكي ما يمكن أن يكون مشابها لـ x ، فإننا لا نتخيل ببساطة ما هو مشابه لنا لو كنا في موضع x .
هذا ليس مثل أن أقرر ما سوف أفعله في لعبة الشطرنج مثلا ، فاللاعب لا يقرر الخطوة التي يقوم بها فقط ، بل يتخيل ما يمكن أن يفعله اللاعب الآخر في موقفه هو ، ولهذا الغرض ، فإن اللاعب يبادل مجموعة من الخواص بأخرى ، كما أنه يدعي جهلا بالنوايا الخاصة باللاعب الآخر ، مثل هذا يحدث عند قادة الجيوش ، وفي أعمال البحث الجنائي( ) .
معنى ذلك أنه كي تصبح المحاكاة جيدة ، فإنه من الضروري أن نكون قادرين على إصدار أحكام حول مدى اختلاف منظورنا الخاص عن منظور الآخرين ، ولو اتخذت نفسي نموذجا للآخرين فإن محاكاتي ستكون رديئة ، إن مشكلة هذا النموذج المقترح أنه يفترض أن الناس متماثلون تماما نفسيا ، ولأن هذا غير صحيح ، فإن هذا الاقتراح لا يفسر الطريقة التي يحاكي بها الناس أفعال الآخرين .
إن أفضل طريقة لفهم أنماط الشخصيات هو ما يسمى بالاقتراح السردي The narrative proposal الذي يقدم محاكاة جيدة للآخرين ، بمعنى أن هناك نوعا من الألفة مع أنماط الشخصيات والحالات السردية ، وهي التي تكون أساسا نستطيع من خلاله لعب الدور في المسرحية بنجاح .
والفكرة مؤسسة على أن قدرتنا على أن نصنع صفات نفسية وتوقعات للآخرين تتطور من خلال عملية الاستماع والفهم والخلق للقصص ، ولو كان هذا صحيحا ، فإن معرفة أن الناس لهم خصائص ترتيبة معينة تؤمِّن أي محاكاة ناجحة ، هذه الخصائص تعتمد على فكرة الذات Subject العقلانية النموذجية ، ويجب أن تؤخذ هذه الفكرة في الحسبان في تفسير أي فعل من الآخرين ، ويمكن أن نمضي بها إلى أبعد من ذلك في تفسير المعتقدات والرغبات ، مثلا لو كان x عطشانا ، وأنا أعرف أنه يمكن أن يحصل على كوب من الماء من الثلاجة ، فإن هذا التوقع يعتمد على افتراض خلفية كونه عاقلا ، لكن لو كان x غير عاقل ، فلا يمكن توقع سلوكه في هذه الحالة ، وبقدر ما يبدو هذا صحيحا ، فإن المسألة لايبدو أنها تذهب بعيدا جدا ، فحدود تفسيراتها بسيطة ، وهي لا تعطينا أي رؤية حول كيفية نجاحنا في نسبة بعض التوقعات للآخرين ، وفي الواقع فإن فكرة الفاعل العقلي ليست كافية تماما كي تكون أساسا لكثير من تنبؤاتنا النفسية اليومية .
نحن نحتاج إلى شيء أكثر من الفاعل العقلي لتفسير سلوك الآخرين ، والاقتراح السردي هنا يحاول الإجابة عن هذا ، ومؤداه أنه كي نتنبئ بأفعال الآخرين ، لا يجب أن نشتغل على فكرة النموذج الوحيد للشخص ، بل نعتمد على فهمنا لكيفية أن هذا التعدد في أنماط الشخصية يُحدث رد فعل في جملة من السيناريوهات السردية المختلفة ، هذه السيناريوهات تجعلنا ننسب للأشخاص سمات مختلفة وربما متعارضة ، لكن كل منها يمثل اتجاهات ترتيبية معينـة .
وميزة الاقتراح السردي أنه يجعل لنا مرجعية في توقع أفعال الآخرين ، مرجعية للذات الإنسانية مباشرة أو غير مباشرة ، يمكن أن ننسب إليها بعض الصفات النفسية ، لكن هذه المرجعية لا تتم من خلال فكرة الفاعل العقلي النموذجي ، لكن من خلال أنماط من البشر ، بمعنى البشر الذين يمكن تصنيفهم تحت هذه الأنماط .
استخدم جولدمان دليلا من شخص انطوائي لينقد به فكرة الفاعل العقلي ، وقد أخذه من الأدب عن طفل اطوائي وذكي لديه معرفة بالمفاهيم النفسية ، لكن قدرته على توقع الحالة العقلية للآخرين فقيرة جدا .
والحكاية عن صبي انطوائي قادر على مساعدة الآخرين ، على الرغم من انطوائيته وبخاصة في أعمال المنزل ، يوما ما طلبت منه أمه – وهي تعد كعكة فواكه – أن يحضر لها أي قدر من القرنفل cloves " هل يمكن أن تذهب وتحضر لي بعضا منها ؟ " ذهب الصبي ، وعاد بعد مدة حاملا حقيبة من الملابس النسائية بما فيها بعض الملابس الداخلية من محل للملابس في نهاية الشارع ، هنا بوضوح ، أساء الصبي تصور كلمة cloves ، وتخيلها clothes ملابس ، ليس هناك صبي طبيعي يفترض أن أمه تسأله أن يشتري لها ملابسها الداخلية .
يفسر جولدمان القصور هنا بأنه ليس في فهم المفاهيم العقلية المتصورة نظريا ( إن الصبي فهم الطلب Wanting بشكل دقيق ) لكن يبدو أنه لا يمتلك قدرة على إدراك طبيعة الموقف ، أو أن فهمه قليل في إدراك ما يرغب فيه الناس في حالات معينة ، أو ربما ليس لديه أي فهم لذلك ، إن لديه قليلا من الفهم للسرديات ( ) ، ما يمكن أن نراه هنا أن قدرتنا على تفسير سلوك الآخرين ربما تعتمد على فهم سردي قد يمر دون ملاحظة غالبا ، أو حتى دون الإشارة إليه .
أما كيف تُنجز المحاكاة ؟ فمن خلال الاقتراح السردي ، نحن نحصل على معرفة بالمخزون الأساسي لأنماط الشخصيات وللسيناريوهات السردية من خلال الاستماع إلى القصص وحكايتها ، وهذه نتيجة مهمة في فهم الذات ، فهذه الشخصيات التي نواجهها سواء في الواقع أو في الخيال تستخدم كمرجعيات ونماذج لفهم الذات في حالتها السردية .
في السياق نفسه ومن منظور اجتماعي تناقش بربارا سوكر فكرة الذات ، فترفض فكرة الذات التي يتصورها البعض على أنها ثابتة دائمة منشئة للمعنى الذي تملكه أي أنها جوهرية ، إنها ترى الذات معضلة وفهمها ليس بسيطا ، فهى تشبه الفيل الذي أراد العميان أن يصفـوه ( ).
إنها ترى أن الواقع لايختلف كثيرا عن المتخيل ، على الأقل في المبادئ التي تحكم الاثنين ، فطريقة حكينا عن حياتنا ذات طبيعة سردية محضة ، وهي تتبع مبادئ القصدية والمباشرة والوقتية ، وهي المبادئ نفسها التي تحكم المتخيل ، ومن هذا المنظور يعد فهم الذات وهما محضا ، لأن هذا الفهم لا يؤخذ على أنه حقيقة ميتافيزيقية ، بل حقيقة اجتماعية أو أدبية ، ترى سوكر أن التكوينية Construction نظرية مهمة في فهم الذات لأنها رفضت رؤية الذات على أنها كينونة جوهرية ثابتة ، ورأتها ذاتا تزامنية تنبثق من خلال اتصال الحوادث المتفاوتة وغير المترابطة ، ومن ثم فهي تصطبغ بالمعنى ، إن مفهوم الذات الشخصية والثابتة والمدعية أسبقة للوجودي والإبستمولوجي تخييل ما بعد حداثي ، إن حساسية ما بعد الحداثة ترفض الحالة ما قبل اللغوية للذات ، وتؤكد على الطبيعة الاستطرادية للهوية الشخصية التي تولد كما يشير ريكور من خلال صناعة الحبكة emplotment حيث تصبح الأحداث شخصية من خلال الانعكاس السردي عليها ، ولصنع حبكة يجب أن تصنع ربيعا جليا من العرضي ، وتصنع كليا من المفرد ، وضروريا أو محتملا من المترابط ( ).
تحاول بربارا استكشاف عناصر حساسية ما بعد الحداثة كما تشكلت في الفكر الاجتماعي المعاصر تحت الإرشادات العامة لنظرية التكوينية الاجتماعية ، وهي تفعل ذلك من أجل فهم العالم الاجتماعي والذات التي يحتوي عليها " إننا سنبحث عن تأثير هذه النظرية على رؤى الهوية الشخصية ، ونسعى لإثارة بعض النتائج الأكثر بروزا للتحول من الذات اليقينية إلى غير اليقينية ، ومن الذات المركزية إلى الذات الهامشية ، وأخيرا فإننا سنبحث عما يمكن أن يقدمه المنظور ما بعد الحداثي لكيفية استطاعتنا معرفة ذواتنا التكوينية والتخييلية في غياب مرجعيات مستقرة وموثوق فيها ، إننا نرى أخيرا أن السرديات يمكن أن تكون منهجا حيويا في فهم الذات . " ( )
تعتمد بربارا على أعمال كينيث جيرجن التي طاردت الذات في العالم التفكيكي لما بعد الحداثة ، مؤكدة بمزيد من الوضوح على أن الذات منتج للترتيبات الاجتماعية التي تدعمها ، كما أكدت على أن هذه الترتيبات متعددة ومتجزئة ووقتية وبلا عمق ، وقد نقلت العقل من مكانه ليصبح شكلا من أشكال الأساطير الاجتماعية ، وحركت مفهوم الذات من الرأس ، ووضعته داخل محيط الخطاب الاجتماعي ( )
يرفض جيرجن فكرة أن هناك طبيعة بشرية تنشأ منذ البداية ، يرى أن طبيعة الأشخاص مرنة ومعتمدة على القوى الاجتماعية من أجل تكوين شخصيتها المميزة ، من نحن ؟ في ظل هذه الرؤية لسنا إلا تخليقا متعاقبا مثلما تتخلق الحوادث الاجتماعية ، ومن أجل شرح ذلك يتبنى جيرجن التكوينية الاجتماعية ، فما هي هذه التكوينية الاجتماعية ؟ وماذا يمكن أن تفعل مع مفهوم الذات ؟
إن التكوينية الاجتماعية توجه متميز نحو المعرفة ، أو هي نموذج إبستمولوجي يؤكد على أن ما هو معروف أو غير معروف ، وعلى أن الأسلوب الذي يعبر به الخطاب عنهما كلها أشياء اصطناعية ، بمعنى أن نظرية التكوينية الاجتماعية مهتمة بالعمليات النفسية الجزئية التي يكون الناس من خلالها قادرين على وصف أو شرح أو تفسير عالمهم وأنفسهم أي ذواتهم ، وفكرة الذات مثل كل الأفكار الأخرى ، عندما تُفهم من خلال نظرية التكوينية الاجتماعية ، فإنها تتحدد وتبرز بوصفها تأثيرا للسياق الاجتماعي الجزئي الذي تكون فيه .
ومن وجهة نظر البنيوية الاجتماعية لا توجد طبيعة إنسانية سابقة الوجود تشكل العالم ، ناهيك عن أي مجموعة من المعايير الموضوعية لاكتشاف هذه الطبيعة ، وفي الحقيقة ، فإن مثل هذه المعايير التفسيرية – كما يرى التكوينيون – مشتقة من تاريخ خاص وثقافة معينة قد شكلتهما وشرحتهما ، إن كل المعارف مشروطة ، وكل الذوات مؤقتة .
أكد بيرجر ولوكمان على أن الإنسانية مفهوم متغير اجتماعيا وثقافيا ، وهي – أي الإنسانية - تستطيع أن تُكيف أي عدد من الأشكال الواقعية actual والطبائع الحقيقية ،إن هذه الكينونات الذاتية جوهريا – أي الموجودات البشرية أو الذوات مثل الأفكار وأنواع السلوك – تصبح حقائقية Facticities من خلال عملية التعود habitualization والروتينية للسلوك ، وقولبتها في أنماط ، هذا الانتظام – كما يلاحظ بيرجر ولوكمان – يعد أصلا ضروريا للتأسيس ، بمعنى آخر ، يجعل السلوك المختار والاتجاهات والمعتقدات حقائق مقبولة بشكل عام : موضوعية وواقعية ، هذا يعني أننا نخلق ذواتنا ونعيد خلقها مع الوقائع realities المتغيرة على الدوام ، إن هذا إنساني بشكل عام ، إن هذا هو ما نقوم به( ) .
لقد حاول جيرجن – اعتمادا على أعمال بيرجر ولوكمان – أن يكتشف العمليات التي يفهم بها العقل العالم ، ويفهم ذاته ، ووجد أن هذا الفهم يعتمد على تكوينات اجتماعية متغيرة ، وأن فهم الذات – من ثم – يرتبط بلحظات ثقافية وتاريخية شديدة التنوع ، وهى تعتمد على مفاهيم نفسية عما يمكن أن يكون عليه الشخص .
هذه الأفكار عن الذات تدعونا إلى تأمل المصادر التكوينية الاجتماعية للافتراضات الشائعة عن الهوية ، هنا نجد الذات فكرة عامة معتمدة على الخطاب ، وليست شيئا داخليا ، إن الذات المتوحدة ، أي الذات الديكارتية ليست ذاتا subject بل موضوعا object بمعنى أن كل مسألة خارجية تصبح منقسمة هامشية منفصلة عن ذاتيتها الخاصة من خلال الوعي الفرويدي ، هنا نجد زعزعة كاملة من خلال التعدد ومن خلال النتائج المفهومية التي تجعل ما يمكن بناؤه يمكن أيضا تقويضه وإعادة بنائه بطريقة أخرى ، ولو كانت الأفكار مسألة منظور أكثر من كونها مسألة ثبات ، فإن فكرة الذوات المتعددة يمكن أن تحل محل فكرة الذات الواحدة التي يشعر بها الإنسان في أعماقه ، هذا هو مفهوم التعددية الذي انعكس في حشد من التطورات العقلية خلال الجزء الأخير من القرن العشرين ، بما فيها الحركات الهرمنيوطيقية والتفكيكية التي التفت إلهيا جيرجن ليبحث عن تفسير للفهم والخبرات الأساسية في التعامل مع الذات .
في هذا السياق لا نستطيع التغافل عن أهمية التقنيات الحديثة في الربط بين البشر ، ومن ثم حضور ذواتهم على رغم المسافات البعيدة بينهم ، إن " الراديو " و " والهاتف و " التليفزيون " والأقمار الاصطناعية و " والإنترنت " أصبحت كما يؤكد جيرجن محفزات اجتماعية جعلت ذواتنا دائما رهن الاتصال online ، إن هذه التقنيات قد بدلت الذات لأنها جلبت قدرا من التنوع اللانهائي في العالم ، وجلبت أيضا أصواتا متنافرة النغمات ، كثيرة في عددها ، كل هذا جلبته إلى البيت ، وإلى وعي الناس الذي يزداد بسهولة ويسر ، وهذا أنتج ما يمكن تسميته بالذات العلائقية relational self .
إن التحول من مفهوم للذات الجوهرية إلى مفهوم للذات العلائقية هو أبرز إنجاز انتقلت به الذات من الحداثة إلى مرحلة ما بعد الحداثة ، لذلك فإنه من أجل إعادة صياغة المفاهيم الخاصة بهذه الذوات ، فإننا في حاجة إلى إعادة صياغة المفاهيم الخاصة بالعالم الاجتماعي الثقافي ، ومن ثم مفاهيم العلائقية داخ
الــذات والــروايــة
المفهوم النظري والتطبيق
" القارورة " ليوسف المحيميد نموذجا
د. أحمد صبرة
بينما يبدو مهما أن نقول إن للمرء طبيعته ، فإن الأكثر أهمية القول إنه ينشئ طبيعته ، أو بشكل أكثر بساطة إنه ينتج ذاته .
بيرجر ولوكمان
إن الذات ليست شيئا عضويا له مكان محدد ، إنها تأثير درامي يظهر منتشرا من المشهد المعروض .
جوفمان
تطرح الرواية المسرودة بضمير المتكلم إشكالات ذات شأن داخل النظرية النقدية ، حلت بعضها السرديات حين ميزت بين السارد البطل والسارد المصاحب والسارد المُعلِق ، وبقيت أخرى دون حل بسبب أن استيلاء السرديات على نظرية الرواية مدة من الزمن حال دون طرح هذه الإشكالات التي لا تستطيع السرديات – بسبب طبيعتها البنيوية – الإجابة عنها بمعزل عن الاستعانة بحقول معرفية أخرى ، لعل أهم هذه الإشكالات أن ضمير المتكلم في هذه الرواية يحيل إلى ذات لا يمكن الإمساك بها وفق آليات التحليل السردي ، ومن ثم فإن الحديث عنها يترك من الأسئلة أكثر مما يقدم من إجابات ، فما هذه الذات التي تظهر حين يكون السارد بطلا على وجه الخصوص ؟ وما علاقتها بمؤلف الرواية ؟ وإذا كانت الذات الروائية تُنتج في عالم متخيل ، فهل هناك فروق أساسية بينها وبين الذات في العالم الواقعي ؟ ثم ما المرجعية التي نحيل إليها الذات حين نريد أن نتصورها ؟ هل هي مرجعية العالم الواقعي ، أم مرجعية العالم المتخيل ؟ وإذا كان المؤلف ذكرا والسارد أنثى – أو العكس – كما في رواية القارورة ليوسف المحيميد فهل يمكن تجاوز هذا التعارض الجنوسي ؟ كيف تتحول الذات الواقعية الذكر إلى ذات تخييلية أنثى ؟ هذا إذا كان هناك تحول أصلا ، وهل يمكن أن تنشئ الذات الواقعية ذاتا متخيلة ؟ ما طبيعة الحبل السري الذي يربط بين الذاتين ؟ هل يمكن الإمساك بالذات وفق آليات غير آليات التحليل السردي ؟ ما الذات ؟
يتصور بعض علماء النفس الذات أنها مجموعة من الشعور والعمليات التأملية التي يُستدل عنها من خلال سلوكها ، أو من خلال الخبرات والاتصالات التي تكونها نتيجة احتكاكها بالآخرين ، ويتصورها آخرون أنها تتكون من خلال اتصالها بالآخرين ، التصوران يحيلان إلى مفهومين مختلفين للذات : مفهوم يرى أنها جوهر كامن في الفرد ، وآخر لا يرى أنها جوهر ، كلا المفهومين تترتب عليه نتائج مهمة في التعامل مع الذات ، وفي رؤية العالم الذي يحتويها ، وهو ما سيتضح بعد ذلك .
يرى هيجل أن الذات جوهر وأن المحرك الأساسي لها هو الصراع من أجل الاعتراف ، يوضح ذلك فيرى أن للكائنات الإنسانية – شأن الحيوانات – حاجات ورغبات طبيعية لأشياء خارجة عن ذاتها : الغذاء والشراب والمسكن ، وكل ما يحافظ على الجسد الذاتي ، إلا أن الإنسان يختلف جذريا عن الحيوانات ، لأنه – بالإضافة إلى ذلك – يرغب في " رغبة " الناس الآخرين ، أي أنه يريد أن يتم الاعتراف به ، يريد الاعتراف بذاته ، أي كائن مزود بكفاءة معينة وبكرامة معينة ، هذه الكرامة ترتبط بالدرجة الأولى بإرادته ، وباحتمال تعريض حياته إلى صراع من أجل الاعتبار فحسب ، بالنسبة لهيجل فإن رغبة الاعتراف هي التي قادت أول خصمين مصارعين إلى السعي المتبادل كي " يعترف " الآخر بطبيعة الكينونة الإنسانية لخصمه ، مع تعريض حياتهما لصراع مميت ، وعندما يؤدي الخوف الطبيعي من الموت بأحد الخصمين إلى الخضوع ، فإن علاقة السيد والعبد تولد إذ ذاك ، إن أسباب هذه المعركة الدامية في بدايات التاريخ ليست الغذاء ولا المأوى ولا الأمن ، ولكن الهيبة والاعتبار فحسب ، إن لدى الإنسان نزوعا نحو شحن الأنا بقيمة معينة ، وإلى طلب الاعتراف بهذه القيمة ، وهو يتوافق مع ما نسميه في اللغة الدارجة " احترام الذات " ، هذه النزوع لاحترام الذات يولد من هذا الجزء في الكائن الذي يسميه أفلاطون " تيموس " ، فهو يشبه عند الإنسان نوعا من الإحساس الفطري بالعدالة : يعتقد الناس أن لهم قيمة معينة ، وإذا عاملهم الآخرون وكأن قيمتهم أقل من ذلك ، فإنهم يشعرون بانفعال الغضب ، وفي المقابل عندما لا يرفع الناس حياتهم إلى مستوى ما يعتبرونه قيمتهم ، فإنهم يشعرون بالخجل ، وأخيرا عندما يُقيَّمون تقييما يتناسب مع قيمتهم ، فإنهم يشعرون بالاعتزاز ، فرغبة الاعتراف والانفعالات التي تصاحبها ( الغضب والخجل والاعتزاز ) تشكل جزءا لا يتجزأ من حياة أية شخصية ، وبحسب هيجل ، فإنها محركات السيرورة التاريخية بأكملها .
لكن " الرغبة " في الاعتراف ليست الركيزة الوحيدة التي ترتكز عليها الذات ، هناك أيضـا " الرغبة " في الاكتمال التي صاغ أهم أفكارها الأساسية جاك لاكان .
مفهوم الذات عند جاك لاكان :
استطاع جاك لاكان أن يقدم تصورات عن الذات استقرت الآن في التحليل النفسي في مرحلة ما بعد البنيوية ، من خلال تطبيقاته ودراساته على المرضى في الثلاثينيات والأربعينيات ، ثم بدأ في الخمسينيات تطبيق منظوره الخاص في التحليل النفسي الذي تأسس على اللغوية البنيوية ، والأنثروبولوجية البنيوية ، بحيث يمكن أن نقول عن لاكان إنه مزيج من فرويد ودي سوسير وليفي شتراوس ، مع بعض التأثيرات لجاك دريدا عليه ، لكن التأثير الأكبر كان من فرويد الذي شرحه على ضوء من النظريات البنيوية وما بعد البنيوية محولا التحليل النفسي من فلسفة إنسانية humanist philosophy إلى فلسفة ما بعد بنيوية( ).
لقد كانت المنطلقات الأساسية للإنسانيات أن هناك شيئا اسمه الذات الثابتة ، تملك إرادة حرة وتحديدات خاصة بها ، أما أفكار فرويد عن اللاوعي ، فقد خلخلت النموذج الإنساني للذات ، التي رآها منقسمة بين حقلي الوعي واللاوعي ، كان فرويد يأمل أن يسد الفجوة بين الوعي واللاوعي ، ومن ثم تحل الأنا ego محل اللاوعيid ، أي أن يكون الوعي أكثر قوة من اللاوعي .
هذا المشروع – بالنسبة للاكان – مستحيل ، لأن الذات ego لا يمكن أبدا أن تحل محل الوعي id أو تتحكم فيها أو تفرغها من محتواها ، لأن الذات عند لاكان مجرد وهم ، أو نتاج للاوعي نفسه ، وهو – أي اللاوعي – يعد أساسا لكل الوجود .
وبينما اهتم فرويد ببحث الكيفية التي يشكل بها الطفل لاوعيه وذاته العليا ليصبح إنسانا متحضرا بالغا ومنتجا ، فقد اهتم لاكان بكيفية حصول الطفل على هذا الوهم المسمى الذات ، ودراسته عن مرحل المرآة Mirror Stage تصف هذه العملية ، وتبين كيف يشكل الطفل وهم الـ ego : وهم الذات الواعية المتماسكة المرتبطة بالضمير " أنا " .
والفكرة المركزية عند لاكان أن اللاوعي الذي يتحكم في كل الوجود الإنساني قد بُنينstructured is مثل اللغة ، وقد أسس هذه الفكرة من خلال تفسير فرويد للآليتين الرئيسيتين في عمليات اللاوعي : التكثيفcondensation والإحلال displacement ، كلتا الآليتين ظاهرة لغوية ، حيث يتكثف المعنى في الآلية الأولى من خلال الاستعارة ، ويحل محله شيء في الآلية الثانية من خلال المجاز المرسل metonoymy ، لاحظ لاكان أن تحليل فرويد للحلم ، ومعظم تحليله للرمزية اللاواعية التي يستخدمها مرضاه تعتمد على ألفاظ اللعب والتورية والمتلازمات إلخ ، وقد رأى لذلك أن محتويات اللاوعي فيها إدراك حاد للغة ، وبخاصة بنية اللغة .
اعتمد لاكان على أفكار دي سوسير في نقاشه لفرويد ، تحدث دي سوسير عن العلاقة بين الدال والمدلول التي تشكل العلامة ، وأكد على أن بينة اللغة ذات علاقة سلبية بين العلامـات ( العلامة تكون على ما هي عليه لأنها ليست علامة أخرى ) ، أما لاكان فقد ركز على العلاقة بين الدوال ، ورأى أن عناصر اللاوعي – الأماني والرغبات والصور المتخيلة – كلها تشكل الدوال ، ويتم التعبير عنها من خلال مصطلحات لفظية ، هذه الدوال تشكل سلسلة دوالية signifying chain : دال له معنى فقط بسبب أنه ليس دالا آخر ، عند لاكان ليست هناك مدلولات ، لا توجد ما تشير إليه الدوال أبدا ، ولو كان هناك ما يمكن الإشارة إليه ، فإن معنى أي دال سيكون ثابتا نسبيا ، فوفقا لمصطلح دي سوسير ستكون هناك علاقة دالية بين الدال والمدلول ، وهذه العلاقة سوف تخلق أو تضمن نوعا من المعنى ، يرى لاكان أن هذه العلاقة الدالية لا يمكن أن توجد ( على الأقل في اللاوعي ) هناك فقط علاقات سلبية ، أو علاقات قيم حيث يصبح الدال على ما هو عليه لأنه ليس شيئا آخر .
يقول لاكان إنه بسبب هذا النقص في المدلولات ، فإن سلسلة الدوال x = y = z = b = q = o إلخ تنزلق وتتحول وتستدير ، ليس هناك مرتكز لها ، لا شيء يعطي معنى أو ثباتا للنظام كله ، إن سلسلة الدوال أساسا في حالة لعب بتعبير دريدا ، ولا توجد وسيلة لإيقاف هذا الانزلاق للسلسلة ، لا توجد وسيلة للقول " آه ، إن x تعني هذا " ومن ثم يمكن تحديدها ، ما نجده أن دالا يقود إلى دال آخر ، ولا يقود إلى مدلول ، إنه مثل المعجم ، حيث تقود الكلمة فيه إلى كلمة أخرى ، ولا تقود أبدا إلى الأشياء التي من المفترض أن تعبر عنها هذه الكلمة .
في رأي لاكان ، فإن هذه هي حالة اللاوعي : سلسلة دائرية مستمرة من الدوال لا يوجد فيها مرتكزanchor ، أو بمصطلح دريدا لا يوجد مركزcenter ، وهذه هي ترجمة لاكان اللغوية لصورة فرويد عن اللاوعي بوصفه حقلا مشوشا للدوافع المتحولة المستمرة والرغبات ، اهتم فرويد بكيفية جلب هذه الرغبات والدوافع المشوشة إلى الوعي حتى يكون لها نظام ومعنى ، أما لاكان فرأى أن عملية أن يصبح الإنسان ناضجا ، أن يصبح ذاتا – وهي العملية التي يحاول فيها تثبيت وإيقاف سلسلة الدوال من أجل الحصول على المعنى المستقر بما فيه معنى الأنا الذي يراه البعض أمرا ممكنا – هذه العملية مجرد وهم ، وصورة تخييلية تتخلق من خلال سوء الإدراك للعلاقة بين الجسد والذات .
تحدث فرويد عن ثلاث مراحل يمر بها الأطفال : المرحلة الفمية ، ثم المرحلة الشرجية ، ثم المرحلة القضيبية ، ثم تحدث عن عقدة أوديب وعقدة الخصاء التي تبدأ بعدها الكائنات في البلوغ ، أما لاكان فقد أبدع تصنيفات مختلفة ليشرح المسار نفسه : مسار الطفل إلى البلوغ ، لقد أوضح ثلاثة مفاهيم : الحاجةNEED ، والطلبDEMAND ، والرغبة DESIRE التي تناسب تماما ثلاث حالات من التطور ، أو ثلاث حقول يتطور داخلها البشر : الواقعي ، والمتخيل ، والرمزي ، وبموازاة المفاهيم والحقول ، فإن الرغبة توازي الرمزي الذي هو بنية اللغة نفسها ، ونحن ندخل إليها حتى نصبح ذواتا Subjects متكلمة ، من أجل أن نقول " أنا " ، وأن نمتلك الأنا التي تبدو أنها ثابتة .
مثل فرويد ، لا يبدأ الطفل – عند لاكان – منفصلا عن أمه ، فلا تمييز بين الذات والآخرين عنده ، ولا تمييز بين الطفل وأمه ، فهو يأتي إلى العالم بلا أنا ego ، بلا هوية ، بلا معنى للذات منفصل عن الآخر ( عن أمه ) ، إنه في هذه المرحلة يشبه كتلة ليس لديها أي تصور لجسدها على أنه كل موحد متماسك ، هذا الطفل يتحرك من خلال الحاجة ، فهو يحتاج إلى الطعام والراحة والأمان ، يحتاج إلى كل شيء ، ويتم إشباع هذه الحاجات من خلال أشياء مادية ، فهو يلقم ثدي أمه إذا احتاج إلى طعام ، وهو يتعلق بها إذا احتاج إلى الأمان ، ولا يدرك الطفل في هذه الحالة من الحاجة أي تمييز بينه وبين الأشياء المادية التي تلبي حاجاته ، فهو لا يدرك مثلا أن هذا الشيء المادي الذي يحتاج إليه – وليكن الثدي – جزء من شخص كامل ( لأنه ليس لديه أي مفهوم عن الشخص الكامل ) وليس لديه أي تمييز بينه وبين أي شخص ، أو أي شيء ، لديه فقط حاجات وأشياء تُشبع هذه الحاجات .
على الطفل – من وجهة نظر فرويد ولاكان – أن ينفصل عن أمه ، وأن يكون هوية منفصلة ، حتى يدخل إلى الحضارة ، هذا الانفصال يستلزم نوعا من الفقد LOSS ، فعندما يعرف الطفل الاختلاف بينه وبين أمه ، ويبدأ في أن يصبح كائنا متفردا ، فإنه يفقد المعنى الأولي للوحدة ( الأمان ) الذي يمتلكه أصلا ، وهذا هو الجزء التراجيدي في نظرية التحليل النفسي ( سواء عند فرويد أو لاكان ) ، فلكي تصبح كائنا متحضرا ، عليك أن تشعر بحالة فقد لا مفر منها للوحدة الأصلية للاندماج ، وبخاصة مع الأم .
إن الطفل الذي لم ينفصل عما حوله ، والذي يتم إشباع حاجاته فقط ، والذي لا يميز بين ذاته والأشياء التي تشبع حاجاته ، هذا الطفل يوجد في حقل الواقعي ، وطبقا للاكان ، فإن الواقعي هو مكان ( مكان نفسي وليس مكانا ماديا ) توجد فيه هذه الوحدة الأصلية ، ومن أجل ذلك ، فإنه لا يوجد فيه غيابabsence أو فقد loss أو نقص lack ، إن الواقعي ممتلئ تماما وكامل ، حيث لا توجد فيه حاجة لا يمكن إشباعها ، وبسبب أنه لا يوجد غياب أو فقد أو نقص ، فإنه لا توجد لغة في الواقعي .
يعلق لاكان على موضوع الفقد من خلال دراسة حالة ظهرت في كتاب فرويد " ما وراء مبدأ اللذة " ، تحدث فرويد عن ابن أخته البالغ من العمر ثمانية عشر شهرا ، والذي يلعب بكرة من الخيوط مربوطة بغزل من الصوف ، إن الطفل يلقي الكرة بعيدا ، ويقول " راحت Fort " ، تعود الكرة إليه مرة أخرى فيقول " جاءت da " ، يقول فرويد إن هذه اللعبة رمزية بالنسبة للطفل ، أسلوب للتخلص من القلق حول غياب الأم ، فهو عندما يلقي الكرة ويقول Fort ، فإنه يكرر تجربة الفقد للشيء الذي يحبه ، وعندما يستعيد الكرة ، ويقول da ، فإنه يستمتع بالإبقاء على هذا الشيء ، أخذ لاكان هذه الحالة وركز على شكل اللغة الذي تعرضه ، قال لاكان إن لعبة " Fort / da " التي قال فرويد إنها حدثت لابن أخته البالغ من العمر ثمانية عشر شهرا هي حول دخول الطفل العالم الرمزي ، أو دخوله إلى بنية اللغة نفسها ، إن اللغة – كما يرى – تتحدث عما هو مفقود أو غائب ، فأنت تحتاج إلى الكلمات عندما تكون الأشياء التي تريدها غائبة ، ولو كان عالمك ممتلئا بلا غياب فيه ، فأنت لا تحتاج إلى اللغة ( وقد أشار جوناثان سويفت إلى شيء من هذا في رحلات جيلفر حين تحدث عن ثقافة ليس فيها لغة ، الناس فيها يحملون على ظهورهم كل الأشياء التي يحتاجون إلى أن يشيروا إليها ) .
وهكذا ، فإن حقل الواقعي – في رأي لاكان – لا توجد فيه لغة ، لأنه لا يوجد فيه فقد ولا نقص ولا غياب ، يوجد فيه فقط امتلاء كامل وحاجات ، وإشباع لهذه الحاجات ، ومن ثم فإن الواقعي هو دائما ما وراء اللغة ، غير ممثل في اللغة ، ولا يمكن استعادته أبدا إذا ما دخل المرء إلى عالم اللغة .
في سن 6 شهور إلى سن 18 شهرا يبدأ الطفل في الانفصال عن العالم من حوله ، ومن ثم يتحول من طور الحاجات إلى طور الطلباتdemands ، والطلبات لا يتم إشباعها من خلال الأشياء ، إن الطلب هو طلب التقدير من الآخرين : الحب من الأم مثلا ، وتحدث العملية كالتالي ؛ الطفل يبدأ في إدراك أنه منفصل عن أمه ، وأنه توجد أشياء في هذا العالم ليست جزءا منه ، وهكذا تنشأ فكرة " الآخر " ، لكن الطفل لا يدرك في هذه المرحلة التعارض الثنائي بين الذات والآخر ، لأنه حتى هذا العمر لا يستطيع التعرف على معنى متماسك للذات ، هذا الإدراك للانفصال أو حقيقة الأخروية يخلق قلقا لديه ، يخلق معنى الفقد ، لذلك يطلب الطفل التوحد مرة ثانية ، أن يعود إلى المعنى الأصلي للامتلاء واللانفصال الموجود في الواقعي ، لكن هذا غير ممكن بمجرد أن يعرف الطفل أن فكرة الآخر موجودة ( وكل هذا يحدث في مستوى اللاوعي ) إن الطفل يطلب الامتلاء من الآخرين ، وأن يعود إلى معنى الوحدة الأصلي ، إنه يطلب من فكرة الآخر أن تختفي ، والطلب بهذا المعنى طلب للامتلاء والاكتمال من الآخرين أن يوقفوا النقص الذي يعاني منه الطفل ، لكن هذا بالطبع غير ممكن ، لأن النقص أو الغياب ومعنى الأخروية شروط لأن يصبح الطفل ذاتاSelf /Subject ، كائنا متحضرا فعالا .
ولأن الطلب هو طلب التقدير من الآخرين ، فإنه لا يمكن إشباعه ، لأن الطفل من 6 – 18 شهرا لا يستطيع أن يقول ما يريده ، إنه يصرخ فتعطيه الأم ثديها أو زجاجة لبن ، أو أي شيء آخر ، لكن لا يوجد شيء يشبع طلبه ، لأن الطلب هو استجابة على مستوى مختلف ، فالطفل لا يستطيع أن يقدر الأساليب التي تستجيب بها الأم له ، ويقدر هذه الاستجابة ، لأنه ما يزال لا يمتلك بعد مفهوما عن ذاته بوصفها شيئا ـ إنه يعرف فقط أن هذه الفكرة عــن " الآخر " موجودة ، لأنه منفصل عن هذا الآخر ، لكنه لا يمتلك فكرة عن كينونة الذات .
في مرحلة المرآة في سن 6 – 18 شهرا ، لا يمتلك الطفل سيطرة على كل جسده ، كما لا يستطيع التحكم في حركته ، إنه لا يمتلك فكرة عن جسده ككل ، فهو يختبره متجزءا ، أو في قطع تكون في متناول يده ، لكنها تختفي بمجرد أن الطفل لا يستطيع أن يراها ، إنه يمكن أن يرى يده ، لكنه لا يعرف أن هذه اليد تتعلق به ، إنها يمكن أن تتعلق بأي شخص آخر ، أو لا تتعلق بأي أحد ، مع أن الطفل في هذه المرحلة يستطيع أن يتخيل ذاته ككل ، لأنه يرى الآخرين ، ويدركهم ككائنات كاملة .
يقول لاكان إن الطفل في هذه الفترة تتكون ذاته من خلال المرآة ، فهو يتطلع إلى انعكاس الأشخاص عليها ، ثم يعود ليتطلع إلى الشخص الحقيقي – أمه أو أي شخص آخر ، ثم يتطلع مرة ثانية إلى الصورة المرآوية ، إنه يتحرك في هذا الفعل من القصور إلى الحدس : من صورة المرآة إلى الشخص ، والعكس ، هذا يعطيه فكرة أن هناك كائنات متكاملة ، أشخاصا كاملين ، لكن الطفل يظل غير قادر على أن يكون كلا ، ومن ثم ينفصل عن الآخرين ( على الرغم من أنه يمتلك هذه الفكرة عن الانفصال ) في مرحلة المرآة يبدأ في توقع الكامل ، إنه يتحرك من الجسد المتجزئ إلى رؤية مشوهة لكليته ، إلى رؤية ذاته ككل متكامل ، وهي مشوهة لأنها تستخدم كدعامة أو أداة تصحيح ومساعدة للطفل كي ينجز حالة الكلية .
يعرف الطفل في هذه المرحلة معنى الذات بوصفها كلا منفصلا متحدا ، فهو يرى نفسه في المرآة يشبه الآخرين ، يرى كينونته في المرآة ، هذه الكينونة التي ستصبح ذاتا ، ويتم التخطيط لهذه الكينونة من خلال كلمة " أنا " ، أما ما يحدث حقيقة فإن هذه المماثلة ليست سوى سوء تمييز misrecognation ، فالطفل يرى صورة في المرآة ، وهو يعتقد أن هذه الصورة هي أنا me ، لكنها في الحقيقة ليست الطفل ، إنها مجرد صورة ، ينظر الطفل إلى المرآة ، ثم يعود لينظر إلى أمه ، تقول له أمه " نعم ، هذا هو أنت " إنها تؤكد على واقعية العلاقة بين الطفل وصورته ، وتؤكد على فكرة التكامل بين الجسد الكلي المتكامل الذي يراه الطفل ويتماهى معه. إنه أحيانا يحدق في المرآة ويقول " تعال هنا " وشكسبير يقول " عندما نولد نصرخ لأننا جئنا إلى هذا المسرح الكبير من الحماقة " لكن هذا الفعل من الإدراك يوسم بالنقص
يأخذ الطفل هذه الصورة في المرآة على أنها خلاصة كينونته الكاملة كذات ، وتخلق هذه العملية من سوء تمييز ذات المرء في صورة المرآة – تخلق الأناego ، هذا الشيء الذي يقول " أنا " ، وبتعبير لاكان ، فإن سوء التمييز هذا يخلق درعا للذاتsubject ، يخلق وهما أو سوء إدراك للكلية والتكامل والشمولية التي تحيط بالجسد المتجزئ وتحميه ، وبالنسبة للاكان فإن هوية الـ ego ، أو هوية الذات ، أو هوية الأنا مجرد وهم ، إنه تماثل مع صورة خارجية ، وليس معنى داخلي للهوية الكلية المنفصلة .
بهذا المعنى تتخلق الذات في حقل التخييلي Imaginary ، من خلال هذا التماثل التخييلي مع الصورة في المرآة ، ويقع حقل التخييلي حيث تتخلق العلاقة الغريبة للذات مع صورتها الخاصة وتصان ، إن التخييلي هو حقل الصور سواء أكان الوعي أو اللاوعي ، وهو ما قبل لغوي ، وما قبل أوديبي ، لكنه مؤسس على إدراك بصري ، أو ما يسميه لاكان تصور تأملي Specular Imaging .
تعرف الصورة المرآوية – أي الشخص الكامل الذي يخطئ الطفل في معرفة أنه هو نفسه – في مصطلحات التحليل النفسي على أنها الأنا العليا Ideal Ego ، الذات التامة التي لا تمتلك أي نقص ، هذه الأنا العليا تصبح باطنية ، ونحن نبني هويتنا أو نبني معنى الذات من خلال سوء تماثلنا مع هذه الأنا العليا ، ومن خلال ذلك – كما يقول لاكان – نتخيل الذات التي لا تعاني أي فقد ، وليس لديها أي فكرة عن الغياب ، ولا عن عدم الاكتمال ، إن تخييل الذات الثابتة الكاملة المتحدة التي نراها في المرآة يصبح تعويضا عن فقد الواحدية الأصلية مع جسد الأم ، بكلمة مختصرة – عند لاكان – فإننا نفقد اتحادنا مع جسد الأم ( حالة الطبيعة ) كي ندخل إلى الحضارة ، لكننا نحمي أنفسنا من معرفة هذا الفقد من خلال سوء إدراك لأنفسنا على أننا لا ينقص منا شيء .
يرى لاكان أن مفهوم الذات عندالطفل ( أناه أو هويته ) لا تتلاءم مع كينونته الخاصة ، فصورته الذهنية في المرآ ة أصغر ، كما أنها أكثر ثباتا ، ثم إنها بالنسبة له هي الآخر ، إنها شيء ما خارج عنه ، ولذلك فإن الطفل – لبقية حياته – سوف يسيء تمييز ذاته على أنها الآخر ، على أنها صورة في المرآة تمده بوهم الذات ، وبوهم السيطرة .
إن التخييلي مكان نفسي ، أو حالة يسقط فيها الطفل أفكاره عن الذات في صورة المرآة ، وإذن فإن مرحلة المرآة توطد ثنائية الذات / الآخر ، حيث يعرف فيها الطفل الآخر ، لكنه لا يعرف الذات ، وبالنسبة للاكان فإن تماثل الذات يتم دائما وفق مصطلح الآخر ، هذا لا يشبه تعرضا ثنائيا حيث الذات = كل ما ليس آخر ، والآخر = كل ما ليس ذاتا ، عند لاكان الذات هي الآخر ، وأما فكرة الذات ووجودها الباطني الذي يتشكل من خلال كلمة " أنا " ، فهو مؤسس على صورة ، مؤسس على آخر ، ومن ثم فإن مفهوم الذات يعتمد على سوء تماثل الفرد مع هذه الصورة عن الآخر .
يستخدم لاكان مصطلح الآخر بعدة طرق يجعله صعبا في الإدراك ، لكن أولها – وربما أكثرها سهولة – يستخدمه في ثنائية الذات / الآخر ، حيث الآخر ليس " أنا not me " ، في مرحلة المرآة يصبح الآخر هو " أنا me " ، كذلك يستخدم لاكان مصطلح الآخر Other بحرف O كبير ليميز بين مفهوم الآخر والآخرين الواقعيين ، إن الصورة التي يراها الطفل في المرآة هي آخر ، وهي تعطي الطفل فكرة عن مفهوم الآخر كاحتمالية بنيوية .
وعندما يصوغ الطفل بعض الأفكار عن مفهوم الآخر ، وعن الذات المتماهية مع آخرها الخاص : صورتها في المرآة ، فإن الطفل يبدأ في دخول الحقل الرمزي ، وفي هذه الحالة يتشابك الرمزي والتخييلي معا ويتعايشان على الرغم من بعض أفكار لفرويد في هذا الصدد ، إن النظام الرمزي هو بنية اللغة نفسها ، ونحن نريد أن ندخل فيه كي نصبح ذواتا متكلمة speaking subjects ، وأن نشكل أنفسنا من خلال كلمة " أنا " إن أساس امتلاك الذات يقع في الإسقاط التخييلي للذات على الصورة التأملية : الآخر في المرآة ، وامتلاك الذات هو التعبير بكلمة " أنا " التي تقع فقط في النظام الرمزي ، وهذا هو السبب في تعايش الرمزي مع التخييلي .
إن لعبة Fort / da - في رأي لاكان علامة على الدخول إلى النظام الرمزي ، لأن هذا الولد يستخدم اللغة كي يتغلب على فكرة الغياب ، وعلى فكرة الأخروية كفئة أو احتمالية بنيوية ، إن كرة الخيط – في رأي لاكان – تستخدم كشيء صغير أو كشيء صغير خارجي ، وعندما يلقيها بعيدا ، فإن الطفل يدرك أن الآخرين من الممكن أن يختفوا ، وفي حالة استرجاعها ، فإنه يدرك أن الآخرين من الممكن أن يعودوا ، وقد اهتم لاكان بالجزء الأول مؤكدا على أن هذا الطفل الصغير معني بفكرة النقص أو الغياب للأشياء الصغيرة الخارجية .
إن الآخر الصغير يوحي للطفل بفكرة النقص أو الفقد أو الغياب مُظهرا الطفل أنه ليس كاملا في نفسه ولنفسه ، كما أنه وسيلة عبور إلى النظام الرمزي ، أي إلى اللغة ، حيث إن اللغة نفسها نتيجة منطقية لفكرة النقص أو الغياب ، يرى لاكان أن هذه الأفكار عن الآخر ومفهوم الآخر ، وعن النقص والغياب ، وعن سوء تماثل الذات مع الآخر ومفهوم الآخر – كلها تحدث عند المستوى الفردي لكل طفل ، لكنها تشكل بنى أساسية للنظام الرمزي للغة التي يجب أن يدخلها الطفل حتى يصبح عضوا بالغا في الحضارة ، وهكذا فإن الأخروية التي تؤثر في لعبة Fort / da تصبح أفكارا تصنيفية أو بنيوية ، وهكذا ففي النظام الرمزي هناك بنية للأخروية أو مبدأ بنيوي ، وهناك مبدأ بنيوي للنقص .
إن لاكان نفسه مهتم بفكرة النقص بوصفها مركزا للنفس البشرية ، فعندما يتطلع الطفل إلى المرآة ويرى صورة كاملة لنفسه ، فإن هذه الصورة Image تبدو في حالة تعارض مع خبرته الواقعية عن العالم والذات كشيء متجزئ ، في هذه الحالة يُنشئ الاختلاف بين الصورة النموذجية والخبرة المتجزئة للطفل النقص الذي يعاني منه طوال حياته ، ربما كانت أول حالة نقص يعاني منها الطفل هي حالة الفطام الذي يواجه فيه أول حالة انفصال بين شيئين : الغذاء والحب ، يقول لاكان إن الرغبة تظهر حينئذ مميزة حياته كلها ، دافعة إياه للبحث عن الرجل النموذجي أو المرأة النموذجية أو الوظيفة النموذجية إلخ .
إن مفهوم الآخر موقع بنيوي في النظام الرمزي ، إنه مكان يحاول كل شخص أن يؤثر فيه ويندمج معه ، حتى يمكن التخلص من الانفصال بين الذات والآخر ، إنه بتعبير دريدا مركز center النظام الرمزي ونظام اللغة نفسها ، إن مفهوم الأخروية شيء ترتبط به كل العناصر ، لكنه بوصفه مركزا لا يمكن أن يندمج معه شيء ، لا يمكن أن يكون هناك شيء في المركز مع مفهوم الآخر ، ولذلك فإن موضع الأخروية يخلق ويدعم نقصا لانهائيا يسميه لاكان الرغبة desire ، إن الرغبة هي رغبة أن تكون الآخر ( مفهوم الآخر ) ، ومن ثم فإن الرغبة لا يمكن إشباعها ، فهي ليست رغبة في بعض الأشياء ، أو رغبة في الحب ، إنها رغبة أن تكون مركزا للنظام الرمزي ومركز اللغة نفسها ، هذا المركز له عدة أسماء في النظرية اللاكانية ، فهو مفهوم الآخر ، كما أنه القضيب Phallus الذي يستعيره من نظرية فرويد عن عقدة أوديب .
إن مرحلة المرآة ما قبل أوديبية ، والذات فيها يتم بناؤها في علاقتها بالآخر ومع مفهوم الآخر ، والذات فيها تريد أن تندمج مع هذا المفهوم ، إن الآخر / المركز عند فرويد هو الأب ، والأب هو القضيب ، والقضيب بوصفه مركزا يدعم الطبيعة البطريركية للنظام الرمزي ، إن القضيب يقيد لعب العناصر المختلفة ، ويعطي ثباتا للبنية كلها ، كما أنه يدعم سلسلة الدوال المنسابة وغير المستقرة في اللاوعي التي تنزلق دائما وتتحول ، كما أنه يوقف اللعبة لأن الدوال يمكن أن تمتلك بعض المعاني الثابتة .
إن القضيب ليس هو الذكر penis ، فإذا كان الذكر يتعلق بالأفراد ، فإن القضيب يتعلق ببنية اللغة نفسها ، فلا أحد يملكه ، مثلما لا يوجد أحد يتحكم في اللغة ويقعد لها ، بالأحرى ، القضيب مركز ، إنه يتحكم في البنية كلها ، إنه ما يريد كل شخص أن يكونه أو يملكه ، لكن لا أحد يستطيع ذلك ( فلا يوجد عنصر في النظام يمكن أن يأخذ مكان المركز ) هذا هو ما يسميه لاكان الرغبة : الرغبة التي لا يمكن إشباعها لأنها لا يمكن أن تكون مركزا ، أو أن تتحكم في النظام .
هناك مشكلة أخرى تتعلق بطبيعة دخول كل من الولد والبنت إلى النظام اللغوي ، فالولد يشعر – لأنه يمتلك القضيب – أنه يمتلك اللغة أي المركز ، والبنت تشعر بالفقد لأنها لا تمتلك هذا القضيب ، ينشأ عندها ما يسميه فرويد عقدة الخصاء ، لكن لاكان يقول إن كل ذات subject في اللغة مرتبطة بالنقص ارتباطا وثيقا ، والسبب الوحيد الذي يجعلنا نمتلك اللغة هو الشعور بالفقد أو النقص أو الرغبة في التوحد مع الجسد الأمومي ، وفي الحقيقة فإن هذا ضروري كي نصبح جزءا من الحضارة ، أن نصبح ذواتا subjects في اللغة ، أن نواجه هذا الغياب والفقد والنقص . إن التمييز بين كلا الجنسين مهم جدا في نظرية لاكان ، لكنه ليس كذلك عند فرويد ، يرى لاكان أن كل من الولد والبنت يدخل إلى بنية اللغة بشكل مختلف ، فكل منهما لايرى إلا الدال الذي يرتبط بالجنس الآخر ، وكل منهما ينشئ رؤيته الخاصة للعالم من خلال فهمه للعلاقة بين الدال والمدلول .
إن مرحلة المرآة دراما شديدة التأثير ، فقد خلقت أوهاما عن الجسد المتجزئ وعن الهوية المعزولة ، كما أنها جعلتنا نجد أنفسنا في غربة مع أنفسنا ، وتصبح الغرائز والرغبات – من ثم – أشياء يمكن أن تدمر الأنا النموذجية(*) .
إن النتائج التي ترتبت على أفكار لاكان كثيرة جدا ، فنحن نلاحظ أن نموذج لاكان عن الذات قريب جدا من تحليل دريدا لفكرة الاختلاف ، إن ضمير أنا ينتج ذاتا مترابطة ( كما تفعل العلامات ) ، ربما تُظهر الذات في بعض الأحيان نقصا خاصا بها ، أو تظهر مجزأة ، لكنها – في الحقيقة – مهددة بفكرة التفتيت ، أو أن تُكتشف لاواقعيتها ، وقد أخذ نقاد الأدب هذه المفاهيم للحديث عن التأثير المتواصل للآخرين على الشخصية ، وللحديث عن الأساليب التي تؤثر بها الرغبة المستحيلة في الاتحاد والاكتمال ( أي أن تكون بلا نقص ) على الشخصيات ، وأحيانا على النصوص الأدبية ، كيف يمكن أن نقرأ عملا مثل القارورة ليوسف المحيميد على ضوء من هذه المفاهيم ؟
الذات بوصفها مفهوما سرديا
من نحن ؟ ما الذي يفهمه علم النفس من فكرة الذات ؟ ما طبيعة هويتنا ؟ هذه أسئلة طرحتها الفلسفة ، لكنها أصبحت الآن قضايا أساسية في علم النفس ، أما المعالجة السرديـة( )في دراسة الهوية والذات فإنه تركز على الأسئلة التالية :
هل يتضمن الأفراد ذاتا واحدة أو أكثر ؟
تحت أي ظروف يتغير الناس ؟ كيف يعرف الناس ذواتهم ؟ هل يمكن أن نعرف في الحقيقة من نحن ؟
كيف يصوغ الناس قصصا شخصية ليعبروا بها عن ذواتهم ؟
كيف تتكامل الثقافة مع الذات الفردية ؟
في كتابة السيرة الذاتية ، هل يخفي الكاتب أكثر مما يكشف ؟
ما مدى دقة ذاكرة الأطفال ؟( )
إن هناك جدلا بين من يرى سبق الذات للغة ، أي يراها ذاتا ثابتة مستقرة ، ومن يرى أنها تتشكل من خلال الممارسة اللغوية ، وبخاصة قدرتنا على تأليف القصص ، هذه الرؤية الأخيرة تظهر من خلال رؤية معينة لطبيعة اللغة ، وجوهر هذه الرؤية يرفض فكرة أن اللغة تستخدم كوظيفة مرجعية ، وكتب في ذلك كيربي " إن اللغة ببساطة ليست أداة للاتصال أو انعكاس ما نكتشفه في واقعنا ، إنها نفسها جزء مهم من هذا الواقع ، جزء من نسيجـه " ( )
إن الذات منتَج للممارسات السردية ، ولإثبات هذه القضية ، هناك في أطروحات علم النفس الفلسفي الحديث ما يسمى بنظرية المحاكاة Simulation Theory ، وهي تعني أننا في محاولتنا تفسير الحالة العقلية لشخص ما ، فإننا نتشارك قليلا فيما يشبه مسرحية ، ومنظرو المحاكاة يقولون إننا نفهم أعمال الآخرين من محاولة تخيل كيف يبدو العالم من منظورهم ، إنهم يرون أننا حين نحاول فهم أعمال الآخرين ، فإننا في الحقيقة نوظف مهاراتنا التخييلية في محاولة معالجة كيف تبدو الأشياء من وجهة نظر الآخرين ، ولفهم كيف يتصرف الآخرون ، فإننا نتشارك في نوع من المحاكاة العملية( )، مثل هذه المحاكاة تُرى بشكل أفضل على أنها نوع من المسرحة : محاولة لتبني شخصية الآخرين تبنيا تخييليا .
لكن المسألة ليست هينة ، هناك صعوبات كثيرة تواجه منظري المحاكاة في تفسير هذه المشاركة ، وهناك محاولات لتجاوز هذه الصعوبات ، منها محاولة اقتراح مفهوم للذات الديكارتية التي ترى الذات شديدة الوضوح ، وهناك من يقدم الاقتراح السردي الذي يراه جديرا بفهم الطبيعة الكامنة للمحاكاة .
هناك سؤالان أساسيان يطرحهما منظرو المحاكاة : كيف تُنجز المحاكاة ؟ وكيف تُكتسب القدرة علي المحاكاة ؟ وفي محاولة الإجابة عن السؤال الأول هناك من يرى – وهو رأي شائع – أننا نستخدم أنفسنا نموذجا للآخرين ، وطبقا لهذه الرؤية فنحن نضع أنفسنا تخييليا في أحذية الآخرين ، وعلى أساس من هذا الإسقاط نتخذ قرارات من المفترض أن الآخرين سوف يتخذونها ، مثلما يفعل بعض العلماء حين يصنعون نموذجا للمجموعة الشمسية ، ويحركون الكواكب فيها مفترضين أن حركة الكواكب في النموذج تماثل حركة الكواكب الحقيقية ، يسمي هؤلاء ما يفعلون نموذج الاستبطان الواعي Conscious introspective modelling ، وهم يرون أن المحاكاة هي فهم تصوري جانبي من خلال تشغيل نموذج فعال للعقل ، ثم قراءة النتائج ، هذا النموذج مؤسس على رؤية ديكارتية للذات تفترض أن عقولنا يمكن نقلها ومعرفتها بسهولة ، كما يفترض أيضا أن لدينا مبررا في الاعتقاد أن الآخرين يمكن أن نقيسهم على أنفسنا( ).
وعلى الرغم من شيوع هذا النموذج ، فإننا يجب أن نكون حذرين في تقدير هذا النوع من الادعاء ، لأن هناك غموضا كبيرا في الطريقة التي يكشف بها أي انعكاس واع بسيط عن الطريقة التي تُنجَز بها المحاكاة ، وعلماء النفس يقولون دائما إن الناس ليسوا دقيقين تماما في التبعير عن الطريقة التي ينجزون بها أعمالهم ، ومن ثم فإن هذا الأسلوب لا ينجز شيئا ، أيضا فإنه من المهم التذكر أن المحاكاة ليست عملا واعيا تماما ، إنها – مثل أي مهارة أخرى – يمكن تعلمها بشكل واع ، ومن خلال الخبرة يتبين أننا لا نفسر أفعال الآخرين من خلال مقارنة أنفسنا بهم ، أو باستخدام أنفسنا نموذجا لهم ، لأن المحاكاة ببساطة ليست هي إسقاط أنفسنا لنحل محل الآخرين ، هذه العملية تسمى الإسقاط الكامل في الأدب ، وهي تفشل في أن تأخذ في الحسبان الاختلافات بين ذواتنا وذوات هؤلاء الذين نرغب في أن نفسر أفعالهم ، إن المحاكاة ليست مسألة وضع ذاتك في حذاء شخص آخر ، إنها محاولة تخييلية لفهم أو تبني منظور الآخرين تجاه الحوادث ، وإنه من المهم أن نلاحظ أنه حتى نحاكي ما يمكن أن يكون مشابها لـ x ، فإننا لا نتخيل ببساطة ما هو مشابه لنا لو كنا في موضع x .
هذا ليس مثل أن أقرر ما سوف أفعله في لعبة الشطرنج مثلا ، فاللاعب لا يقرر الخطوة التي يقوم بها فقط ، بل يتخيل ما يمكن أن يفعله اللاعب الآخر في موقفه هو ، ولهذا الغرض ، فإن اللاعب يبادل مجموعة من الخواص بأخرى ، كما أنه يدعي جهلا بالنوايا الخاصة باللاعب الآخر ، مثل هذا يحدث عند قادة الجيوش ، وفي أعمال البحث الجنائي( ) .
معنى ذلك أنه كي تصبح المحاكاة جيدة ، فإنه من الضروري أن نكون قادرين على إصدار أحكام حول مدى اختلاف منظورنا الخاص عن منظور الآخرين ، ولو اتخذت نفسي نموذجا للآخرين فإن محاكاتي ستكون رديئة ، إن مشكلة هذا النموذج المقترح أنه يفترض أن الناس متماثلون تماما نفسيا ، ولأن هذا غير صحيح ، فإن هذا الاقتراح لا يفسر الطريقة التي يحاكي بها الناس أفعال الآخرين .
إن أفضل طريقة لفهم أنماط الشخصيات هو ما يسمى بالاقتراح السردي The narrative proposal الذي يقدم محاكاة جيدة للآخرين ، بمعنى أن هناك نوعا من الألفة مع أنماط الشخصيات والحالات السردية ، وهي التي تكون أساسا نستطيع من خلاله لعب الدور في المسرحية بنجاح .
والفكرة مؤسسة على أن قدرتنا على أن نصنع صفات نفسية وتوقعات للآخرين تتطور من خلال عملية الاستماع والفهم والخلق للقصص ، ولو كان هذا صحيحا ، فإن معرفة أن الناس لهم خصائص ترتيبة معينة تؤمِّن أي محاكاة ناجحة ، هذه الخصائص تعتمد على فكرة الذات Subject العقلانية النموذجية ، ويجب أن تؤخذ هذه الفكرة في الحسبان في تفسير أي فعل من الآخرين ، ويمكن أن نمضي بها إلى أبعد من ذلك في تفسير المعتقدات والرغبات ، مثلا لو كان x عطشانا ، وأنا أعرف أنه يمكن أن يحصل على كوب من الماء من الثلاجة ، فإن هذا التوقع يعتمد على افتراض خلفية كونه عاقلا ، لكن لو كان x غير عاقل ، فلا يمكن توقع سلوكه في هذه الحالة ، وبقدر ما يبدو هذا صحيحا ، فإن المسألة لايبدو أنها تذهب بعيدا جدا ، فحدود تفسيراتها بسيطة ، وهي لا تعطينا أي رؤية حول كيفية نجاحنا في نسبة بعض التوقعات للآخرين ، وفي الواقع فإن فكرة الفاعل العقلي ليست كافية تماما كي تكون أساسا لكثير من تنبؤاتنا النفسية اليومية .
نحن نحتاج إلى شيء أكثر من الفاعل العقلي لتفسير سلوك الآخرين ، والاقتراح السردي هنا يحاول الإجابة عن هذا ، ومؤداه أنه كي نتنبئ بأفعال الآخرين ، لا يجب أن نشتغل على فكرة النموذج الوحيد للشخص ، بل نعتمد على فهمنا لكيفية أن هذا التعدد في أنماط الشخصية يُحدث رد فعل في جملة من السيناريوهات السردية المختلفة ، هذه السيناريوهات تجعلنا ننسب للأشخاص سمات مختلفة وربما متعارضة ، لكن كل منها يمثل اتجاهات ترتيبية معينـة .
وميزة الاقتراح السردي أنه يجعل لنا مرجعية في توقع أفعال الآخرين ، مرجعية للذات الإنسانية مباشرة أو غير مباشرة ، يمكن أن ننسب إليها بعض الصفات النفسية ، لكن هذه المرجعية لا تتم من خلال فكرة الفاعل العقلي النموذجي ، لكن من خلال أنماط من البشر ، بمعنى البشر الذين يمكن تصنيفهم تحت هذه الأنماط .
استخدم جولدمان دليلا من شخص انطوائي لينقد به فكرة الفاعل العقلي ، وقد أخذه من الأدب عن طفل اطوائي وذكي لديه معرفة بالمفاهيم النفسية ، لكن قدرته على توقع الحالة العقلية للآخرين فقيرة جدا .
والحكاية عن صبي انطوائي قادر على مساعدة الآخرين ، على الرغم من انطوائيته وبخاصة في أعمال المنزل ، يوما ما طلبت منه أمه – وهي تعد كعكة فواكه – أن يحضر لها أي قدر من القرنفل cloves " هل يمكن أن تذهب وتحضر لي بعضا منها ؟ " ذهب الصبي ، وعاد بعد مدة حاملا حقيبة من الملابس النسائية بما فيها بعض الملابس الداخلية من محل للملابس في نهاية الشارع ، هنا بوضوح ، أساء الصبي تصور كلمة cloves ، وتخيلها clothes ملابس ، ليس هناك صبي طبيعي يفترض أن أمه تسأله أن يشتري لها ملابسها الداخلية .
يفسر جولدمان القصور هنا بأنه ليس في فهم المفاهيم العقلية المتصورة نظريا ( إن الصبي فهم الطلب Wanting بشكل دقيق ) لكن يبدو أنه لا يمتلك قدرة على إدراك طبيعة الموقف ، أو أن فهمه قليل في إدراك ما يرغب فيه الناس في حالات معينة ، أو ربما ليس لديه أي فهم لذلك ، إن لديه قليلا من الفهم للسرديات ( ) ، ما يمكن أن نراه هنا أن قدرتنا على تفسير سلوك الآخرين ربما تعتمد على فهم سردي قد يمر دون ملاحظة غالبا ، أو حتى دون الإشارة إليه .
أما كيف تُنجز المحاكاة ؟ فمن خلال الاقتراح السردي ، نحن نحصل على معرفة بالمخزون الأساسي لأنماط الشخصيات وللسيناريوهات السردية من خلال الاستماع إلى القصص وحكايتها ، وهذه نتيجة مهمة في فهم الذات ، فهذه الشخصيات التي نواجهها سواء في الواقع أو في الخيال تستخدم كمرجعيات ونماذج لفهم الذات في حالتها السردية .
في السياق نفسه ومن منظور اجتماعي تناقش بربارا سوكر فكرة الذات ، فترفض فكرة الذات التي يتصورها البعض على أنها ثابتة دائمة منشئة للمعنى الذي تملكه أي أنها جوهرية ، إنها ترى الذات معضلة وفهمها ليس بسيطا ، فهى تشبه الفيل الذي أراد العميان أن يصفـوه ( ).
إنها ترى أن الواقع لايختلف كثيرا عن المتخيل ، على الأقل في المبادئ التي تحكم الاثنين ، فطريقة حكينا عن حياتنا ذات طبيعة سردية محضة ، وهي تتبع مبادئ القصدية والمباشرة والوقتية ، وهي المبادئ نفسها التي تحكم المتخيل ، ومن هذا المنظور يعد فهم الذات وهما محضا ، لأن هذا الفهم لا يؤخذ على أنه حقيقة ميتافيزيقية ، بل حقيقة اجتماعية أو أدبية ، ترى سوكر أن التكوينية Construction نظرية مهمة في فهم الذات لأنها رفضت رؤية الذات على أنها كينونة جوهرية ثابتة ، ورأتها ذاتا تزامنية تنبثق من خلال اتصال الحوادث المتفاوتة وغير المترابطة ، ومن ثم فهي تصطبغ بالمعنى ، إن مفهوم الذات الشخصية والثابتة والمدعية أسبقة للوجودي والإبستمولوجي تخييل ما بعد حداثي ، إن حساسية ما بعد الحداثة ترفض الحالة ما قبل اللغوية للذات ، وتؤكد على الطبيعة الاستطرادية للهوية الشخصية التي تولد كما يشير ريكور من خلال صناعة الحبكة emplotment حيث تصبح الأحداث شخصية من خلال الانعكاس السردي عليها ، ولصنع حبكة يجب أن تصنع ربيعا جليا من العرضي ، وتصنع كليا من المفرد ، وضروريا أو محتملا من المترابط ( ).
تحاول بربارا استكشاف عناصر حساسية ما بعد الحداثة كما تشكلت في الفكر الاجتماعي المعاصر تحت الإرشادات العامة لنظرية التكوينية الاجتماعية ، وهي تفعل ذلك من أجل فهم العالم الاجتماعي والذات التي يحتوي عليها " إننا سنبحث عن تأثير هذه النظرية على رؤى الهوية الشخصية ، ونسعى لإثارة بعض النتائج الأكثر بروزا للتحول من الذات اليقينية إلى غير اليقينية ، ومن الذات المركزية إلى الذات الهامشية ، وأخيرا فإننا سنبحث عما يمكن أن يقدمه المنظور ما بعد الحداثي لكيفية استطاعتنا معرفة ذواتنا التكوينية والتخييلية في غياب مرجعيات مستقرة وموثوق فيها ، إننا نرى أخيرا أن السرديات يمكن أن تكون منهجا حيويا في فهم الذات . " ( )
تعتمد بربارا على أعمال كينيث جيرجن التي طاردت الذات في العالم التفكيكي لما بعد الحداثة ، مؤكدة بمزيد من الوضوح على أن الذات منتج للترتيبات الاجتماعية التي تدعمها ، كما أكدت على أن هذه الترتيبات متعددة ومتجزئة ووقتية وبلا عمق ، وقد نقلت العقل من مكانه ليصبح شكلا من أشكال الأساطير الاجتماعية ، وحركت مفهوم الذات من الرأس ، ووضعته داخل محيط الخطاب الاجتماعي ( )
يرفض جيرجن فكرة أن هناك طبيعة بشرية تنشأ منذ البداية ، يرى أن طبيعة الأشخاص مرنة ومعتمدة على القوى الاجتماعية من أجل تكوين شخصيتها المميزة ، من نحن ؟ في ظل هذه الرؤية لسنا إلا تخليقا متعاقبا مثلما تتخلق الحوادث الاجتماعية ، ومن أجل شرح ذلك يتبنى جيرجن التكوينية الاجتماعية ، فما هي هذه التكوينية الاجتماعية ؟ وماذا يمكن أن تفعل مع مفهوم الذات ؟
إن التكوينية الاجتماعية توجه متميز نحو المعرفة ، أو هي نموذج إبستمولوجي يؤكد على أن ما هو معروف أو غير معروف ، وعلى أن الأسلوب الذي يعبر به الخطاب عنهما كلها أشياء اصطناعية ، بمعنى أن نظرية التكوينية الاجتماعية مهتمة بالعمليات النفسية الجزئية التي يكون الناس من خلالها قادرين على وصف أو شرح أو تفسير عالمهم وأنفسهم أي ذواتهم ، وفكرة الذات مثل كل الأفكار الأخرى ، عندما تُفهم من خلال نظرية التكوينية الاجتماعية ، فإنها تتحدد وتبرز بوصفها تأثيرا للسياق الاجتماعي الجزئي الذي تكون فيه .
ومن وجهة نظر البنيوية الاجتماعية لا توجد طبيعة إنسانية سابقة الوجود تشكل العالم ، ناهيك عن أي مجموعة من المعايير الموضوعية لاكتشاف هذه الطبيعة ، وفي الحقيقة ، فإن مثل هذه المعايير التفسيرية – كما يرى التكوينيون – مشتقة من تاريخ خاص وثقافة معينة قد شكلتهما وشرحتهما ، إن كل المعارف مشروطة ، وكل الذوات مؤقتة .
أكد بيرجر ولوكمان على أن الإنسانية مفهوم متغير اجتماعيا وثقافيا ، وهي – أي الإنسانية - تستطيع أن تُكيف أي عدد من الأشكال الواقعية actual والطبائع الحقيقية ،إن هذه الكينونات الذاتية جوهريا – أي الموجودات البشرية أو الذوات مثل الأفكار وأنواع السلوك – تصبح حقائقية Facticities من خلال عملية التعود habitualization والروتينية للسلوك ، وقولبتها في أنماط ، هذا الانتظام – كما يلاحظ بيرجر ولوكمان – يعد أصلا ضروريا للتأسيس ، بمعنى آخر ، يجعل السلوك المختار والاتجاهات والمعتقدات حقائق مقبولة بشكل عام : موضوعية وواقعية ، هذا يعني أننا نخلق ذواتنا ونعيد خلقها مع الوقائع realities المتغيرة على الدوام ، إن هذا إنساني بشكل عام ، إن هذا هو ما نقوم به( ) .
لقد حاول جيرجن – اعتمادا على أعمال بيرجر ولوكمان – أن يكتشف العمليات التي يفهم بها العقل العالم ، ويفهم ذاته ، ووجد أن هذا الفهم يعتمد على تكوينات اجتماعية متغيرة ، وأن فهم الذات – من ثم – يرتبط بلحظات ثقافية وتاريخية شديدة التنوع ، وهى تعتمد على مفاهيم نفسية عما يمكن أن يكون عليه الشخص .
هذه الأفكار عن الذات تدعونا إلى تأمل المصادر التكوينية الاجتماعية للافتراضات الشائعة عن الهوية ، هنا نجد الذات فكرة عامة معتمدة على الخطاب ، وليست شيئا داخليا ، إن الذات المتوحدة ، أي الذات الديكارتية ليست ذاتا subject بل موضوعا object بمعنى أن كل مسألة خارجية تصبح منقسمة هامشية منفصلة عن ذاتيتها الخاصة من خلال الوعي الفرويدي ، هنا نجد زعزعة كاملة من خلال التعدد ومن خلال النتائج المفهومية التي تجعل ما يمكن بناؤه يمكن أيضا تقويضه وإعادة بنائه بطريقة أخرى ، ولو كانت الأفكار مسألة منظور أكثر من كونها مسألة ثبات ، فإن فكرة الذوات المتعددة يمكن أن تحل محل فكرة الذات الواحدة التي يشعر بها الإنسان في أعماقه ، هذا هو مفهوم التعددية الذي انعكس في حشد من التطورات العقلية خلال الجزء الأخير من القرن العشرين ، بما فيها الحركات الهرمنيوطيقية والتفكيكية التي التفت إلهيا جيرجن ليبحث عن تفسير للفهم والخبرات الأساسية في التعامل مع الذات .
في هذا السياق لا نستطيع التغافل عن أهمية التقنيات الحديثة في الربط بين البشر ، ومن ثم حضور ذواتهم على رغم المسافات البعيدة بينهم ، إن " الراديو " و " والهاتف و " التليفزيون " والأقمار الاصطناعية و " والإنترنت " أصبحت كما يؤكد جيرجن محفزات اجتماعية جعلت ذواتنا دائما رهن الاتصال online ، إن هذه التقنيات قد بدلت الذات لأنها جلبت قدرا من التنوع اللانهائي في العالم ، وجلبت أيضا أصواتا متنافرة النغمات ، كثيرة في عددها ، كل هذا جلبته إلى البيت ، وإلى وعي الناس الذي يزداد بسهولة ويسر ، وهذا أنتج ما يمكن تسميته بالذات العلائقية relational self .
إن التحول من مفهوم للذات الجوهرية إلى مفهوم للذات العلائقية هو أبرز إنجاز انتقلت به الذات من الحداثة إلى مرحلة ما بعد الحداثة ، لذلك فإنه من أجل إعادة صياغة المفاهيم الخاصة بهذه الذوات ، فإننا في حاجة إلى إعادة صياغة المفاهيم الخاصة بالعالم الاجتماعي الثقافي ، ومن ثم مفاهيم العلائقية داخ