[b] الدلالات الحوارية في "مدينة الرياح"
د. محمد سالم ولد الطلبة
تمهيد :
الرواية: بين نص الكاتب ونصوص القراء
تتناول هذه الدراسة دلالات الملامح " الحوارية " في رواية " مدينة الرياح " للكاتب الموريتاني موسى ولد أبنو . ومن عنوان الدراسة يتبين المنهج والهدف : المنهج الدلالي semantique والهدف المتمثل في الوقوف على أهم الأساليب " الحوارية " في هذا النص الذي ما يزال أحدث نص موريتاني جاد ، وثالثه من حيث الترتيب ، إن نحن نظرنا من زاوية نقدية سردية. والرواية هي في الأصل "نوع" من الترجمة لنص كان الكاتب قد كتبه بالفرنسية سنة 1993 بعنوان:Barsakh .
المنهج الذي نتبعه إذا هو المنهج الدلالي، لأنه في نظرنا الأقوم فنيا للوقوف على فنيات الخطاب من جهة ودلالاتها الاجتماعية من جهة ثانية .
فلقد تأكد لنا من القراءة والممارسة النقديتين اللتين دأبنا عليهما أثناء الدراسة الجامعية والعليا ، وكذا خلال التدريس الجامعي، أن المنهج الدلالي يعد التكاملي من بين المناهج النقدية الحديثة والمعاصرة، لأن التحليلات الصوتية والصرفية والمعجمية والنحوية التركيبية والبلاغية والإحصائية بجميع أنواعها ، وكذا العلامية Semiotiques .. تظل كلها معلقة وبعيدة ما لم ترتبط بالدلالات الفنية الاجتماعية التي يبثها النص صراحة وضمنا. إذ الدلالة كما نعلم تتجاوز كل تلك المستويات السابقة، لتواجه جملة النص الكبرى، وتجمع إلى بنياته العليا نظيراتها السفلى، بالمعنى البنيوي لا الواقعي الاشتراكي .
لذا تتموقع مباحث الدلالة على كل مناطق المعنى Sens وجزئيات اللغة Langue ، منطلقة من التلفظ الصريح L enonce explicite إلى الدلالات والنصوص المضمرة Les textes implicites [1] .
المنهج الدلالي من جهة ثانية منهج غايته البحث عن أنواع العلاقات الكائنة بين المكوننات النصية ، لذا فلا غرو أن تتوزع المباحث الدلالية بين شتى فروع العلوم الإنسانية ، نظرا إلى أن لكل منها شغفا تداوليا Pragmatique - من نوع ما – بالدلالة ومراجعها " فالدلالة -كما يقول تودوروف – هي عبارة عن شيء ، زيادة على كونه حاملا للمعاني ، يثير بذاته في الفكر أشياء أخرى "[2] .
هذه العلاقة للدلالة بالمعنى والمكونات النصية ، تمنحها صبغة اجتماعية مؤسسية تضفي عليها أبعادا أخرى نفسية حضارية ثقافية ، يتسع بموجبها فضاؤها وتتنوع حقولها .
لذا فقد رأينا أن هذه الخصائص النوعية المتنوعة للدلالة هي الأنسب منهجيا لتناول المظاهر الحوارية في نصنا هذا .
والحوارية المقصودة هنا هي تلك التي تكلم عنها (باختين) في دراساته السردية ، بوصفها أبرز مفهوم نقدي تتجلى من خلاله خصائص " التداخل المعرفي " التي تهيمن اليوم على النقد والإبداع السرديين المعاصرين .
إن "المبدأ الحواري" في السرد معناه التفاعل الدائم بين اللغات والأصوات داخل الفضاء السردي ، الذي يمنح تلك اللغات والأصوات دلالات ومعاني جديدة عندما يوظفها الكاتب ، كما أنه المسؤول – بحراكه الباطني – في الجنس السردي عموما عن التجديد السرمدي Rajeunissement eternel لجلد الرواية وملامحها . إذ الحوار هو أخص سمات اللغة ، إنه "حياتها" ، والمولد لعلاقاتها الاجتماعية التي تحتضنها وتنمو داخلها بحيث لا يمكن الفصل أبدا بين الحامل والمحمول .
ولما كانت اللغة وسيطا تعبيريا غير محايد نظرا إلى امتلائها تاريخيا بالمضامين الحضارية والمقاصد " الفردية والجماعية "[3] ، كان على الروائيين الوعي والحذر عندما يبدأون في نسج خيوطهم السردية على ألسنة مخلوقاتهم الروائية ، والذين هم ليسوا في الحقيقة سوى علامات وذوات دلالية ، تحمل سمات الماضي والزمان والمكان .
من هنا ينشئ ميخائيل باختين تصوره للرواية على هذا المبدأ الحواري ، لأنه في نظره يخترق كل أنواع اللغة ، مثلما يخترق المتكلمين خارج الرواية وداخلها .
هذا التصور الباختيني له في نظرنا جذران فلسفيان : أحدهما ماركسي بنيوي ، والثاني تأويلي هرمنيوطيقي Hermeneutique من جهة وظاهراتي Phenomenologique من جهة ثانية . فنحن نعلم أن معظم المناهج النقدية المعاصرة ذات مهاد فلسفي ظاهراتي ينطلق من فكرة (هايديجر) حول اللغة ، بوصفها أهم مظهر وجودي ينبغي أن يتأمل ويحاور ويستشار ، إذ هي "أعظم النعم " التي حبي بها الإنسان .
هذه الخصائص اللغوية الجمة لا تتجلى – في نظر باختين – في أي جنس أدبي تجليها في الرواية، حتى إن الرواية لم تعد في نظره – بخصائصها – إبداعا فحسب ، بل أصبحت تجمع إليه النقد بمفهومه الواسع " فهي جنس ديناميكي مدهش يمارس النقد الذاتي المستمر ... والصيرورة المستمرة التي تجعله في طليعة التطور الأدبي "[4] ، و الرواية بهذه الخاصية الحوارية تجسد التداخل المعرفي وحوار الثقافات وجدل الأفكار وصراع الرغبات والأهواء .
ولما كانت الكلمة الروائية ، في الحقيقة ، ليست مأخوذة من القاموس وإنما من التعامل الشفوي الواقعي ، كانت لها تلك الأبعاد الاجتماعية الكبيرة التي تتجاوز المتلفظ بها إلى ما يحيط به من سياقات ؛ هذا مع العلم أن هذا المتلفظ لم يستعمل في التلفظ إلا جزءا – قد لا يكون محددا – من رصيد إمكانات الكلمة .
إن الحوارية أو تعدد الأصوات التي أشار إليها (باختين) في وقت مبكر – بوصفها المبدأ اللغوي النقدي الفني المهيمن في الفضاء السردي – أخذت في النقد البنيوي النصي مع ( جوليا كريستيفا) سنة 1969 مفهوما جديدا هو التناص Intertextualite الذي أصبح السمة الفنية البارزة للنصوص مطلقا ، نثرا كانت أم شعرا .
بهذا التصور يكون السرد اليوم ، ممثلا في الرواية ، هو الخطاب الزمني المكاني الأقدر على التقاط ما يمور به العالم المعاصر بمختلف مستوياته نظرا إلى ما لشكل الرواية من مرونة وقدرة على التشكل تبعا للموضوع والنصوص واللغات الموظفة في فضائها من جهة وطبيعة ذلك التوظيف بين العرض والمسرحة والمعارضة من جهة أخرى . وكما قال جورج لوكاتش " إنها – أي الرواية – ملحمة العصر " ، فكل الفنون القولية الإنسانية المعاصرة ، وكذا الأنواع والأجناس الأدبية الفنية تجد مساحتها في الرواية التي تتناسخ بلغاتها معها ، لأنها تتمتع بقدرة على تبديل جلدها كل مرة سعيا منها إلى ملاحقة المشاغل الإنسانية المختلفة ، ولعل هذا مما تتقاطع فيه مع بعض خصائص الملحمة . أما خصائصها الشعرية فتتمثل في كثافة لغتها المفعمة بالصور الشعرية الموحية في شفافيتها البعيدة عن النزعة التعليمية المباشرة . ومع تطور لغة الخطاب السردي تبين أن الحدود بين النثر والشعر بحاجة إلى إعادة تحديد ، لأن المميزات والحدود السابقة لم تعد بالدقة الكافية نظرا إلى التطور والتداخل بين خصائص كلا الجنسين .
وتتداخل الرواية كذلك مع المسرحية ؛ ففضلا عن الاشتراك في العناصر كالشخوص والزمان والحيز واللغة والحدث والعرض ، تقوم الرواية بمسرحة الخطابات التي تقتبسها من حقول معرفية مجاورة خدمة للدلالة .
أما تداخلها مع السينما فلا نظنه في حاجة إلى إقامة الدليل ، فكلاهما يرفد الآخر ؛ وما تطور الفن السابع اليوم سوى مظهر من مظاهر تطور الخيال السردي و ولوجه إلى بواطن النفس البشرية أولا ، وآفاق المستقبل البعيد ثانيا ، وقدرته على استحضار وإحضار الماضي السحيق ثالثاً . وبهذا لا تكون الرواية إنتاجا فنيا production بل بالأحرى إبداعا creation ، وهذا ماجعلها تفلت دائما من مظاهر الشيخوخة النوعية التي قد تعتري بعض الخطابات الفنية ، ويرجع ذلك كما قلنا إلى قدرتها على تغيير الجلد والتناسخ والحلول (مع ، في ) كل جديد.
كل المكونات الروائية إذا من لغة وخيال وأنواع وأجناس حاضرة – بالحقيقة أو المجاز – وشخوص وزمان ومكان تتميز وتتمايز بفعل "السرد" الذي يموقعها كلها ويشكلنها بضمائره الحاضرة والغائبة ، وبتوظيفاته التي يغدو بها الموظف الجديد - من أي حقل – بناء سرديا جديدا ونصا لا أثرا [5] له شكله وسياقه ودلالاته الجديدة تماما.
هذه الطاقات السردية الجديدة تتحقق بفعل لغة الرواية التي تطورت تطورا موازيا للغة الرقمية المعاصرة ، فغدا الزمن والمكان السرديان أشخاصا فاعلة منفعلة لها حضورها وفعلها مثل باقي المكونات الروائية الأخرى في الفضاء السردي، الذي هو فضاء جديد لم تكتشف بعد كل حدوده ولا الخصائص العلمية لمجموعاته المكونة ؛ إنه فضاء يكتسب فيه كل داخل إلى غلافه الجوي أبعادا ومحددات وخصائص دلالية معنوية جديدة .
الرواية بهذا المفهوم الجديد هي فعلا كما يقول عبد الملك مرتاض " ... بحر خضم تلاشت سواحله وتناءت ... جنس شعري لا شعري معا ، اجتماعي ولا اجتماعي ، واقعي وأسطوري في آن ... كل سؤال فيه يفضي إلى مجموعة قضايا أخرى مقلقة ، مدهشة ، محيرة وغامضة "[6] لكنها مع ذلك ممتعة وموجهة .
لكن هذا الجنس السردي المفارقironique في الحقيقة ليس ارتداديا انطوائيا ولا حديث نفس باطني يناجي به الكتاب أنفسهم لحظات خلوتهم وتأملهم ، بل هو بالأحرى نداء ومطارحات ونقد بلغة طابعها الأول الانزياح l ecart وعدم المباشرة وهما سمتان لازمتان للخطاب الشعري ؛ وطابعها الثاني الحوارية بين أساليب الأنواع الموظفة والمناجاة [7] ، ثم التواشج والكثافة ثالثا .
من هنا تطرح الرواية قضية "شكلها"في علاقته بالدلالة ، إذ للبناء الشكلي دوره في إثارة المعنى وخلق الدلالة ، بل إن بعض النقاد يذهبون إلى أن " أن المعنى شكل ولا يمكن أن يدرك إلا باعتبتره كذلك "[8] ، لذا كان التنوع الشكلي للغة الروائية نتيجة من نتائج التشخيص الأدبي لكلام الآخرين ، لأن حضور تلك اللغات – كما هو الحال في مدينة الرياح- يمنح الرواية أصداء متعددة ويحول خطابها إلى نص ثنائي الصوت " والخطاب ثنائي الصوت هو دائما ذو صيغة حوار داخلي ، وهذا ما نجده في الخطاب التكسيري للسارد وللشخوص ، وأخيرا في خطاب الأجناس التعبيرية المتخللة : فهي جميعها خطابات ثنائية الصوت ذات صيغة حوارية داخليا ، فيها جميعها توجد بذرة حوار كامن غير منتشر ، مركز على نفسه ، وهو حوار صوتين ومفهومين للعالم وحوار لغتين- أو عدة لغات –"[9]
هذا الحوار هو في حقيقته فني اجتماعي كما صرح بذلك باختين نفسه مرارا ، وتلقف الفكرة منه ( بيير زيما ) في دراساته لعلم اجتماع النص الأدبي عامة والروائي خاصة .
وبهذا يكون محتوى العمل الفني – الذي يتميز بالطابع الحواري بين لغاته – في علاقة جدلية مع مظهره الشكلي ، لأن كلا منهما يعد تجليا للآخر ، فحتى التقنيات الروائية من سرد وأشخاص ومكان ....إلخ، تستحيل أنساقا لغوية فنية معبرة انطلاقا من توزيع الحوار داخل البناء الروائي ، وهو توزيع قد يبرز أصواتا تند عن توجيه المبدع – بالرغم من أنه هو الذي خلقها – فتبدو في مناجاتها مع بعضها البعض متحررة من كل قيود خارجية ، وهذا ما يمنح نسق الحوار أشكالا سياقية متميزة من حيث طبيعة الوصف والعلاقات التركيبية .
وبالتالي يكون لتحليل المحتوى علاقة وثيقة بدلالات الشكل[10] الناجمة عن طبيعة الصراعات الداخلية فيه من جهة ، وعن المعارف المنجبة له – سواء تلك التي مبعثها المبدع أو الجماعة أو القراء- من جهة ثانية . لذا " فإننا حين نمسك بمحتوى شكل العمل الفني مدركين من خلاله رؤية الفنان و المثل الأعلى للمجتمع الذي يعيش فيه ، نستطيع أن نمسك بدقة برقبة الصراع الجمالي / الاجتماعي الدائر في المجتمع في تلك اللحظة ، وموقف الفنان منه ، ومن هنا فإننا نتصور أن محتوى الشكل هو المفتاح الأساسي لدراسة النص أو العمل الفني ، ليس بوصفه عملا متأثرا بالمجتمع وإنما بوصفه عملا اجتماعيا ، ظاهرة اجتماعية بذاتها،تكمن اجتماعيتها في داخلها وليست مفروضة عليها من الخارج"[11].
من هذا التصور تختفي من إطارنا البحثي عديد الثنائيات التي لا مجال لطرحها منفصلة عن بعضها كالشكل /المضمون ، النص / السياق، الداخل / الخارج ...؛ كما أنه من نفس هذه الزاوية نستطيع تلخيص إشكالية الخطاب الروائي العربي المعاصر بأنها بحث عن الأشكال الفنية الكفيلة باحتواء الواقع العربي في شتى تجلياته .
إن النص الروائي بهذا المعنى هو خطاب ممكن عن الواقع ، خطاب " لا ينفك عن إنتاج الشفرات "[12] ذات الطبيعة الحوارية الاجتماعية ، خطاب لا يتفق مع مراجعه المختلفة ، لأن هذه المراجع تغدو في فضائه نسبية الدلالة ، تابعة للدلالة الكلية لجملة النص الكبرى .
هذه الرؤية المعاصرة للخطاب الروائي غيرت جذريا تلك النظرة التقليدية – وكذا الحديثة – للمكونات السردية : فأصبح المكان الروائي في النص ساحة للصراع الدائم بين الأصوات والرؤى المتجادلة . و على مستوى المنطلق أصبح استشراف أبعاد العملية الإدراكية يحتل مكانة رئيسية في تناول الظاهرة الإنسانية التي يتداخل الذاتي فيها مع الموضوعي . أما على مستوى الشخصية القصصية فقد أضحت شخصية إشكالية ذات صوت أبرز من صوت مؤلفها الذي فقد الكثير من سيطرته على عوالم السرد ، مما آذن بتراجع دور الكاتب العارف بكل شيء L auteur omniscient . أما من حيث البنية القصصية فقد أصبحت تعتمد على تعددية المنظور وتعدد وجهات النظر والأصوات ، أي تعدد المنطلق من أجل إرهاف حدة الوعي بأبعاد الزمن الثلاثة ، هذا في حين لم تعد الروابط التي تخلق التماسك الداخلي قائمة على منطق التتابع السببي و التسلسل المنطقي ، وإنما تم استعاضتها بذاكرة لنص الداخلية و التتابع الكيفي الذي يعتمد أساسا على المنطق الجدلي في خلق علاقة وطيدة بين الجزئيات – المكونات – والشخصيات والمواقف التي قد لا يتبادر لأول وهلة أن ثمة علاقة ممكنة بينها [13].
إن جنسا أدبيا كهذا موجها إلى مخاطبين –حتما- لا بد أن يجد قراء من نوع معين ، وهم قراء ينبغي أن يرتفعوا بالخطاب السردي – المتلقى – إلى مستوى النقد قبل أن يبدعوا من حوله أنسجة نصية جديدة ، ستغدوا بدورها لا حقا لقراء آخرين – ونقاد – مجالا خصبا للممارسة النقدية ، ومسرحا جينيالوجيا ثريا لممارسة حرفة الاقتفاء وتتبع الآثار والسمات بين الأصول والفروع ، المنابع والمصاب داخل الفضاء الروائي بروافده المتجددة.
إن قراء بهذه الأهمية لا يمكن أن يكونوا غائبين عن مناجاة المبدعين السرديين لحظات الإبداع /الولادة ، وبالتالي فلما كان الأمر كذلك فليس من المبالغة ولا الإسقاط أن نعتبرهم قراء ضمنيين[14] مشاركين في بناء الدلالة الحالية – لحظة الكتابة – وتشكيل /تنويع الدلالات اللاحقة – في أزمنة القراءة مستقبلا - ، وما دمنا قد اعتبرناهم كذلك فلا مصادرة أيضا إذا أسميناهم " مؤلفين ضمنيين " . فاختفاء " المؤلفين " الذين كانوا مهيمنين على ملكات القراء ومختلف الخيوط السردية / الإبداعية منذ القرن التاسع عشر و أواخر النصف الأول من القرن العشرين ، قد أجبر القراء على الاضطلاع بأدوار جسيمة وجوهرية " في إنتاج النصوص إضافة إلى المشاركة في تفسيرها" [15] من هنا كان القراء أبرز مصدر للتنوع التفسيري والتعدد الدلالي والمعنوي مادام كل منهم يدخل الفضاء السردي –ويدخل إليه - مزودا بمجموعة من التجارب والمعارف والطاقات الذهنية النفسية المتميزة ، يمارس بها ومن خلالها عمليات التفكيك وإعادة البناء والحفر والملأ للفراغات النصية /الدلالية التي تأبى شروط الكثافة ، وخصائص الانزياح ، وكذا عدم المباشرة ، على الكتاب ملأها .
ولعل في هذا الطرح ما يجعلنا نقول بأن هذا النوع من القراء هم تماما مثل أشخاص الرواية " ذوات نصية " يتم تقديرها ، كالضمائر الغائبة ، ثم الإشارة إلى آثارهم الدلالية والتركيبية ، وبالتالي فهم أيضا – كالنصوص – عرضة للتأويل وللاختلاف فيه .
وبغض النظر عن حقيقة المعنى في المسرودات التخييلية - والعلاقة بين شروط البلاغة وضرورات التواصل- وما يتطلبه ذلك من ضرورة أن يتوجه النقد والنقاش إلى نتائج القراءة ، لا القراء ولا الكتاب ، فإننا لابد أن نعي جيدا أن ثمة حرية من نوع خاص يمارسها القراء – الذين يحلو لنا أن نسميهم مؤلفين ضمنيين – أثناء عمليات القراءة . وهذه الحرية ذات مظهرين شكلي (مادي) ونقدي تحليلي نفسي : المادي يتمثل مظهره في حرية الاسترسال أو عدم الاسترسال في المقروء ، أما النقدي التحليلي فإن له علاقة بميثاق القراءة الذي يعقده القارئ مع المقروء عندما يسترسل فيه . وهو ميثاق طوعي تعمل بموجبه محفزات سردية على بعث نصوص وتأويلات كامنة لدى القارئ فتبرز أكثر من غيرها ؛ وهي تأويلات لا يستطيع الكاتب مصادرتها أو الحد منها حتى ولو لم تنسجم مع التوجه المعنوي الفرضي للنص في رأيه ، فالكاتب - هذا المفرد الذي هو حقيقة في صيغة الجمع – مهما حاول أن يحدد جمهورا معينا لخطابه فلن ينجح في ذلك ، لأن هؤلاء " المؤلفين الضمنيين " الذين يخلقهم لا يمكنه السيطرة على مضامينهم وأدوارهم الدلالية حالما يلتقون مع نصوص القراء ونصوص الواقع .
وحينما يعتبر القارئ نفسه من المعنيين بالمسرود يكون بذلك قد أصبح عضوا فيما يسميه بيتر رابينوفيتز "جمهور المؤلف" الذي يستطيع تميز " وجهات النظر الموثوق بها من تلك التي لا يمكن التعويل عليها " [16]
إن جمهور المؤلف هذا لا يمكن أن يتكون إلا إذا نجح السرد في إحداث أمرين جوهريين : أولهما طرق القضايا الوجودية التي يرونها الأبرز و الأجدر بالطرح ، وثانيهما إحداث المتعة الفنية عن طريق السيطرة على طاقات القراء وتوجيهها نحو المضامين والحفر السردية ، تلك الحفر التي – كما يقول بيتر شولز في كتابه السيمياء و التأويل " نسقط فيها – نحن القراء- متلذذين بذلك السقوط " .
أما السرد الذي ترى أعماقه القريبة من السطح ، وينير لنا الساردون في فضائه كل الدوب فهو سرد مباشر لا يجتذب القراء ولا النصوص الشارحة . وكما يقول واين بوث إذا كان " المؤلف يخلق صورة لنفسه وصورة أخرى للقارئ ، أي أنه يصنع قارئه كما يصنع نفسه الثانية ، فإن أنجح قراءة هي القراءة التي تستطيع فيها النفسان المخلوقتان : المؤلف والقارئ ، أن تعثرا على اتفاق كامل " [17].
وهنا يشير منظرو استجابة القارئ إلى ملاحظة هامة ذات شقين : الأول أن المسرودات لا تتضمن معنى محددا يستقر في العبارات والكلمات على أحد ما أن يكتشفه ، والثاني أن تفسير الدلالة العامة للنص يجب أن يكون في القارئ بصرف النظر عن الكلمات التي على الصفحة ، هو أيضا غلط ومزلق نقدي خطير ، بل " يجب علينا لكي نقرأ المسرودات أن نعرف اللغة (الشفرة) في نموذج التواصل لدى جاكوبسون وإن كنا في غير حاجة إلى أن نظل واعين لقوانينها المعقدة ... فليست الاختلافات في التفسير بيت القراء من عمل شخصياتهم فقط ، ولكن أيضا من عمل التقاليد التي يستخدمونها في القراءة " [18] وهذه التقاليد هي نتاج تراكمي لمجموعة التجارب الأدبية النقدية الفنية ، وكذا الحياتية المختلفة التي كان هذا القارئ أو ذاك ، أو هما معا ، - ضمن مجموعة ثقافية محددة – قد مرا بها ، وبالتالي فهذه التقاليد ليست وليدة اليوم أو الأمس القريب ، بل هي وليدة مجموعة من العوامل الثقافية الحضارية الخاصة بالمجموعة البشرية التي ينتمي إليها القراء أولا ، والكتاب ثانيا ، مضافا إليهما طبيعة فهم القراء وتعاملهم ـ مع ـ وتصرفهم ـ في ـ تلك التقاليد التي منها الموروث والحادث والمتجدد ، ومنها الأصيل والمعاصر .
ويعد " أيزر" من أبرز النقاد الذين اهتموا بمفاهيم القراءة والقراء في السرد الروائي بصفة خاصة . فهو يرى أن الكاتب " يمارس سيطرة على الطريقة التي يفهم بها القراء النص ، وذلك من خلال استخدام تقاليد مفهومة على نحو متبادل . وهو يقبل إلى هذا الحد نموذج التواصل ، ولكنه يشير إلى أن السرد التخييلي يغير أحوال التواصل بطرق أساسية ، و "القارئ الضمني" – وهو المصطلح الذي يطلقه هو لتعيين القارئ المتضمن في النص – هو جزء من البنية التخييلية ، وهذا الدور في حد ذاته ليس دورا يمكن أن نلزم به أنفسنا دون مؤهلات . إن المعنى الذي نستنتجه من النص ينشا من توتر منتج بين الدور الذي يقدمه النص و المزاج الخاص للقارئ الحقيقي " [19] .
وهو يعقب على هذا الطرح بأن "القارئ الضمني" ليس هو " المخاطب " في السرد التخييلي كما يقترح نموذج التواصل الجاكوبسوني ، ولكنه بالأحرى إحدى نقاط استشراف متعددة توفر منظورات لمعنى النص السردي.
ويقدم المؤلف الضمني والشخصيات و العقدة وجهات نظر مختلفة حول الفعل وهو أثناء التكشف ؛ أما دور القارئ فهو التقريب بين هذه المنظورات وموضع التقائها الذي هو " معنى النص " والذي يدرك من نقطة استشراف متخيلة . فالمعنى الذي يكونه السرد يترك في أعقابه – في نظر أيزر – عوالم داخلية ورؤى مشارا إليها لما يكتمل تشكلها ، ووجهات نظر افتراضية ، وذلك نظرا إلى الاعتماد على الدور اللاحق للقارئ في التفاعل مع الايجابي و تكميله و " التشكيك في الممارسات الاجتماعية ومحاولة إيجاد بدائل إيجابية للنظرات غير الملائمة الممثلة في النص ... و بالتالي فالقارئ عند " أيزر " ليس الشخص التخييلي الذي يخاطبه المؤلف الضمني أو الشخص الحقيقي القارئ أو مزيجا من الاثنين ، ولكنه على الأصح إمكانية مبهمة لما تتحقق ، ولا توجد وتتغير إلا في عملية القراءة "[20].
هذه الأوجه و السمات المتعددة للقراء السرديين تتلاقى وتتقاطع في قاسم مشترك هو ضرورة أن يحسن القراء من مستويات استيعابهم و آليات تحليلهم حتى يستطيعوا التجاوب مع اللغات النوعية الحاضرة في السرد أولا ، وتكميل المسكوت عنه فيه ثانيا ، لأن النص السردي كما رأينا ينبني على تصور نموذجي مسبق لهؤلاء المتلقين ، وما دام الأمر كذلك فإن البناء السردي لن يكون حتما بمعزل عن التقنيات والآليات الحجاجيةargumentative لكنها هنا ستكون آليات معقدة ، نظرا إلى ما سيقوم به المبدعون من تقنيات لغوية بلاغية تركيبية لتعويض عدم الحضور العياني أمام المخاطبين .
إن الرواية بهذا الانفتاح على نصوص الحقول المعرفية المجاورة لها وعلى نصوص القراء الضمنيين وغيرهم ، وعلى نصوص الواقع – في أزمنة القراءة والكتابة معا - ، واستيعاب فضائها لذلك كله ، ليؤكد ما ذكرناه في البداية من كونها فن الراهن بامتياز . وهذا أيضا مما يفسر تطورها السريع وعدم شيخوختها.
والرواية العربية المعاصرة أثبتت قدرة هائلة على استيعاب تطورات السرد المعاصر وتقنياته ، بل ونراها أحيانا تتفنن في توظيف بعضها ، مستغلة خصائصها النوعية وميراثها السردي العربي الرصين من جهة ، وطبيعة المخيال العربي العبقري الخصب ثانيا ؛ ولقدرتها – فعلا ،كما يقول أستاذنا محمد برادة - " ... على أن تكون ملتقى للأصوات المتعددة واللغات المتباينة والمتصارعة وللخطابات والحوارات الكاشفة للأفعال وخلفياتها الأيديولوجية... وحتى إذا لم تتوافر الشروط التي تسمح بانطلاق الرواية العربية نحو تدعيم إنجازاتها وتوسيع انتشارها وتأثيرها فإنها ستظل أيضا – داخل نطاق محدود نسبيا – أداة تقدم معرفة ، لأنها وجدت مرتبطة بروح التساؤل والمبادرة إلى فحص الواقع وإعادة تشكيله على مستوى التخييل . إنها دائما الصوت الجسور الذي يتطلع إلى تجاوز ماهو قائم ، وفي ذلك جوهر حيوية الرواية التي هي الشكل التعبيري بامتياز عن تجارب الوجود والصراع ، وعن صيرورة الهدم والبناء ، وعن محدودية الحاضر ورحابة المستقبل " [21] .
مدينة الرياح : جدلية العنوان والخبر :
" مدينة الرياح " مبتدأ يبحث عن خبر تتم به الفائدة والدلالة ، وهذا الخبر ثاو بين دفتي النص ، ولما كان الخبر [ معنوياً ، بلاغياً ] هو الكلام الذي يحتمل الصدق والكذب ، فإن الكاتب ، حرصاً منه على قيمة ، أو ـ قيم ـ الإفادة في خبره ، اختار له مخبراً يشهد به ، وكما تُشْتَرَطُ في الشهادة العدالة ، سعى الكاتب من جهة أخرى إلى الانتقاء من بين الشهود ، فطالعنا بشهادة قادمة من عالم البرزخ ، رغبة منه عن شهادة الأحياء لما قد يعتريها من قدح أو تجريح ، ولأن الميت ـ عند العديد من الفقهاء ـ تام العدالة فيما يخبر به ، لأن الحجب قد كشفت عنه ، فرأى ببصره " الحديدي " أسرار الأحداث وغاياتها العليا ، التي لن تتراءى للأحياء .
وعندما اختار الكاتب شاهدا لخبره من " عالم البرزخ " لم يختره ممن كانوا في الحياة الدنيا أحراراً ـ بالمعنى الاجتماعي ـ بل اختاره من فئة " العبيد "، بالمعنى الاجتماعي ذاته .
ألنسبية مفهومي الحرية والعبودية في مدينة الرياح ؟! أم للموضوعية المتوقعة في خبر المملوك لعدم مصداقية المُلاك ؟! أم لأن الفرق بين الجنسين لا يعدو مستوى الدلالة الاعتباطية للغة ؟! أسئلة تُصادر ـ بالمعنى الفلسفي ـ بها الرواية ، وتتخذها مدخلا تحفيزيا Entree stimulante ، من بين مداخل تقنية أخرى لن نذكرها الآن ، حتى تتفتح شهية القارئ المتلهف إلى معرفة الخبر .
لكن قبل النظر في الدلالات " النصية " للعنوان لا بدّ أن نشير إلى أننا ننظر إلى هذه الرواية بوصفها نصا بكراً ـ أو هكذا ينبغي أن يكون ـ ، لأنها كتبت مرتين ، مرة بالفرنسية تحت عنوان Barzakh ، ثم بعد ثلاث سنوات من نشرها ، أعاد كاتبها نسجها وصياغتها بلغته الأم على منهج " عبيد الراوية "[22]، وهو منهج قد يكوِّن ـ مجازياً ـ مع شفرات مداخل الرواية براعة استهلال تتلاءم مع الطبيعة النوعية للجنسين : جنس الشاهد ( قاراَ / العبد ) ، وجنس الشهادة ( الرواية ) ؛ لذا فهي في نظرنا لا ينبغي أن تعامل معاملة النص المترجم ، بل كنص جديد له خصوصياته اللغوية والفنية والدلالية ، وتتعضد هذه الرؤية إن نحن نظرنا إلى الفرق بين زمني الكتابة أولاً ، ولغة الكتابة الأولى ثانياً ، ثم مفهوم الترجمة ثالثاً.
فبالنسبة للنقطة الأولى يمكن أن يعد الفرق بين الزمنين ـ ثلاث سنوات ـ زمنا معرفيا تجريبيا لرؤية المبدع " لمخلوقاته " ومدى انسجامها مع نصوص الواقع وآفاق الانتظار Horizons d attantes لدى القراء الذين يقع عليهم جزء لا بأس به من خلق الدلالة وإكمال النص .
أما بالنسبة للنقطة الثانية ، فإن الكاتب وإن عبر أولاً بالفرنسية إلا أنه كان ـ بوصفه عربي الحضارة والانتماء والنشأة ـ يقوم فعلا بترجمة لا واعية لرؤاه وتصوراته الاجتماعية والسياسية والواقعية ، التي أنتجتها ميكانيزماته الفكرية ذات الطبيعة العربية أصلاً ؛ وبالتالي فالعملية التي كان يقوم بها هي مدّ الجسور التعبيرية بين لغة حضارته المؤسَّس هو عليها ، ولغة ثقافته الفرنسية الطارئة ؛ وإذن تكون الترجمة إلى العربية هي عودة إلى الأصل التعبيري ، أي النص الأول الفعلي الذي تمت ترجمته إلى الفرنسية لدى النشر الأول ، بما يعني أن النصين يتنزلان تحققا بين علاقات " القوة والفعل " الفلسفية .
وقد تصدى العديد من النقاد[23] لهذه الجدلية ؛ جدلية النصوص الأصلية والنصوص الفرعية لدى الكتاب العرب الذين يعبرون بلغات غير لغاتهم الأم .
أما بالنسبة للنقطة الثالثة وهي " مفهوم الترجمة " فنوردها تعضيدا للنقطة الثانية ، لعل بعض القراء لم يقنعوا بمسارنا الحجاجي Argumentatif فيها ؛ إذ الترجمة الإبداعية خصوصا في نظر النقاد و فلاسفة التأويل هي في الحقيقة إبداع ثانٍ نظراً إلى ما تتأسس عليه من عناصر الفهم والتأويل .
وقد أحسن " جادامر " في كتابه المشهور " الحقيقة والمنهج " عندما جزم بأن الترجمة بوصفها محاولة لنقل المعاني والدلالات من لغة إلى أخرى هي في الحقيقة " تأويل ، والمترجم مؤول ... ثم إنها توسِّع أفق ما يمكن أن يقال ، وهذا التوسيع هو وظيفة اللغات والمظهر الأبرز لانصهارها ، إنها أيضاً صورة من صور الحوار بين المترجم المؤول والنص "[24] .
هذه المقولة " لجادامر " تناسب تصورنا تمام المناسبة ، فهي مع نفيها عن الترجمة ـ ونحن نوافقه ـ تهمة التكرار ، هي أيضاً تؤكد لنا ملاءمة المنهج الدلالي الحواري الذي قررنا ـ أو على الأصح قرر النص ، لأن النص هو الذي يطلب منهجه الملائم له ، أما فرض المنهج عليه فهو إسقاط ـ تناول النص من منظوره ، فالترجمة الإبداعية خصوصا هي مجال حواري خصب تتصارع وتتداخل فيه اللغات والنصوص ، ويمارس فيه المبدعون عليها جدليات " الإحلال والإزاحة " ، الإظهار والإخفاء ، التصريح والإضمار .
أما بالنسبة للعنوان ( مدينة الرياح ) ، ذلك المبتدأ المضاف إلى الرياح ، المشرع عليها ، تجريه وتسوقه صوب " خبر " يتمه ويهدأ به روعه واضطرابه ، فهو في حد ذاته نص نوعي قد لا يكون بحجم خبره كمّاً ، لكنه لا يقصر عنه بإيحاءاته كيفاً .
نصية العنوان تنبع من مجازيته وانطوائه على العديد من دلالات الخبر ، التي على القارئ أن يلج إليها من بوابة العنوان الرئيسية ، " فكثيرا ما كانت دلالية العمل هي ناتج تأويل عنوانه ، أو يمكن اعتبارها كذلك دون إطلاق ... فالعنوان باعتباره قصدا للمرسل يؤسس :
أولاً : لعلاقة العنوان بخارجه ، سواء أكان هذا الخارج واقعاً اجتماعياً عاماً ، أم سيكولوجياً .
وثانياً : لعلاقة العنوان ، ليس بالعمل فحسب ، بل بمقاصد المرسل من عمله أيضاً ، وهي مقاصد تتضمن صورة افتراضية للمستقبل ، في ضوئها ـ كاستجابة مفترضة ـ يتشكل العنوان لا كلغة ولكن كخطاب"[25] .
من هنا كانت للعناوين ـ المحكمة ـ وظيفة استدعاء المسكوت عنه والمضمر إلى مساحات التأويل والجدل في ذهن المتلقي ؛ كما أن المظاهر الاختزالية الافتقارية ـ ذات الطبيعة المجازية الاستعارية ـ في العنوان تعمل غالبا فعل المحفِّز المثير لنصوص القراء التي بها تكتمل دائرة التواصل الواعي .
ثم إن غياب البنية التركيبية المكتملة في العنوان ـ كالذي أمامنا في مدينة الرياح ـ يحوله إلى إشارة حرة ذات قابلية دلالية فائقة لدمج سواها في فضائها ، وكذا الاندماج في فضاء سواها ، وذلك على اعتبار العنوان " بنية تناصية " تقع في تواز مع نصية العمل الذي يعنونه " من هنا ينطبع العنوان بسمات قريبة للغاية من سمات الشعرية Poetic ، التي ربما من أهمها أنه خطاب ناقص النحوية ، أو لا نحوي[26] بامتياز Ungrammatical ، ومن ثم فهو لا يحيل ـ مباشرة ـ على عمله بلغته / دلائله ، وإنما يحيل على عمله بكفاءته الفائقة في التحول من كونه واقعة لغوية ، ثم الصعود ـ بفضل التلقي ـ إلى مستوى النص"[27].
وإذا أخذنا في الاعتبار الخصائص الفنية البنيوية السابقة للجنس الروائي من جهة ، وكون العنوان الإبداعي يكون حتما منبثقا من المضمون ، مختزلا له ، محيلا إليه على سبيل التوازي ، أو التناص من جهة ثانية ، أدركنا أن العنوان الذي أمامنا ـ مدينة الرياح ـ هو المدخل اللغوي الفني والبراغماتي الاجتماعي للولوج إلى لغات هذا النص ، هذه اللغات التي يجسد حضورها وتعاضدها لخلق الدلالة الكلية جوهر " المبدأ الحواري " الذي نسعى إلى الوقوف على أبرز دلالاته من خلال تناولنا لهذه اللغات المتفاعلة المتعالقة ، وهو أمر يؤكد ـ من ناحية أخرى ـ أن تبيُّن دلالات الأصوات المتحاورة المتجاورة في مدينة الرياح أمر يحتاج ـ علاوة على ملكة الإدراك ـ إلى استجماع طاقات الحواس ، خاصة البصرية والسمعية : الأولى للتعرف على ملامح ومكونات الفضاء السردي ، والثانية لتمثل الدلالات الصوتية المتصاعدة من هذا الفضاء ، خاصة منها السينمائية التخييلية ، و كذا الموسيقية التي صاغ الكاتب منها إطاراً فنياً لروايته .
إن هذا المبدأ الحواري الدلالي الممنهِج لرؤيتنا يكشف عن خمس لغات بارزة في هذه الرواية هي : اللغة الموسيقية ، السينمائية الخيالية ، العجائبية ، الأسطورية ، الشعرية التراثية ؛ وهي وإن كانت خمسا ـ كالحواس الإنسانية اللازمة لتمام الإدراك ـ إلا أن ثمة لغة سادسة ، هي تماما كالحاسة السادسة ، تخللت تلك اللغات كلها وذابت فيها ، نسمعها ونراها ونلمسها عند القراءة : إنها اللغة الفلسفية [ عامة ] الوجودية [ خاصة ] بعبثيتها وتشاؤمها ، ثم بحتمية الاختيار فيها وما ينجر عن ذلك من مسؤوليات كما سنرى .
هذه اللغة الفلسفية الوجودية ذات النفس السارتيري ـ نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي سارتر Sartre ـ ليست غريبة على الكاتب ، إذ هو كما علمنا دكتور في الفلسفة ؛ " وكل إناء بالذي فيه يرشح " .
أولاً : اللغة السينمائية / الخيالية :
إن خبر مدينة الرياح خبر "مصوَّر" تطالعنا أولى مفرداته عبر شاشة الكمبيوتر على لسان الجمجمة التي عثر عليها " باحثو معهد آثار الفكر الإنساني "[28] ، بعد الحفريات التي أجروها في منطقة " الغلاوية شمال المنكب البرزخي "[29] ، ولحسن الحظ وجدوا بالجمجة بعضا من " بلورات الميلين التي تحتوي على معلومات تحدد سرعة وسعة وتردد الموجات اللااستقطابية المميزة لنشاط الخلايا العصبية ، وهي على شكل نسخ جزئية تعبر عن زخم المشاعر المختلفة في النفس عند سكرات الموت ... توضع البلورات في محلول عالي التركيز من حامض الديزوكس ريبوزي AND ثنائي التحلزن من أجل كشف المعلومات وفك رموزها لتحول إلى جمل مكتوبة ، في مختبر المعهد أخضعت البلورات للتحليل الفيزيائي الكيميائي من أجل قراءة النسخ الجزئية ، ولقنت هذه النسخ للحاسوب لفك أبجديتها وتحديد معانيها ، في اللحظة الموالية بدأ النص يظهر على الشاشة "[30] . بهذه " اللقطة التأسيسية "[31] ذات العدسة العميقة Deep focus
والزاوية[32] الذاتية " التي تبدأ بعيدة جدا Extreme longshot والخبراء ينقبون ، ثم يضيق إطارها تدريجيا مع العثور على الجمجمة ، دخول المختبر التحاليل ، ثم ظهور الشهادة الروائية ؛ ندخل إلى مدينة الرياح لنمارس المشاهدة والاستماع والتأمل .
وقد اختار الكاتب لهذه اللغة السينمائية أن تكون خيالية علمية ، وهو الخيار الفني الذي كان أخرج فيه روايته الأولى : L amour inpossible .
اختيار الكاتب للغة السينمائية الخيالية العلمية منذ المشهد الأول واضح ويتأكد كلما تقدمنا في القراءة ـ المشاهدة ـ كما سنبين ذلك لاحقا .
ونشير إلى أن تداخل السرد مع السينما ليس غريبا فكلاهما يغذي الآخر ويتداخل معه ، وكلاهما يوظف العديد من المعارف والتقنيات في سبيل خلق الدلالة وتحفيز التأويل ، وقد لعبت الدراسات النظرية السردية لكل من : بريمون ، جريماس ، بنفنست ؛ مع جهود الكتاب المخرجين من رواد مدرسة الرواية الجديدة ، خاصة " روب غرييه " ؛ لعب كلّ ذلك أدوارا مهمة في التعالق والتداخل بين المجالين السردي والسينمائي .
يلبي المدخل السينمائي في مدينة الرياح أيضاً العديد من متطلبات العناصر الدلالية ، كثنائية السمع والإبصار الكائنة في الفيلم ، والمطلوب تمثلها في هذه الرواية ذات الإطار الموسيقي المندغم في السرد ، بوصفه موسيقى تصويرية ينبغي أن تُستشْعَر ، لأنها لم تذكر اعتباطا كما سنرى .
ثنائية " السمع والبصر "[33] تلح فنيا على قضية مترسخة في فكرنا وثقافتنا العربية هي الخاصية " الشفاهية "[34] الحاضرة بأنساقها وخصائصها في هذه الرواية ، رغم أنها كُتبت بعد قرون من انخراطنا في عصور الكتابة .
وإذا فالرواية ينبغي ـ كالفلم ـ أن تقرأ وتسمع .
واختيار جنس الخيال العلمي ليكون النوع السينمائي الذي تخرج فيه مدينة الرياح هو خيار يؤكد ثنائية الإبداع والنقد في هذا النص ، هذا فضلا عن أنه ملائم للجنس السردي لأن " قدرا كبيرا من أدب الخيال العلمي يعتمد على الحيل السينمائية "[35] .
ثم إنه أيضاً أدب تأمل فكري يتناول آثار التغيرات على الإنسان ووسطه ، ويستطيع بطاقاته التخييلية ولا محدودية آفاقه ـ كالجنس الروائي ـ أن يستحضر ويحضر الماضي ويجري في المستقبل ، لأنه غالباً ما يتناول الاحتمالات الممكنة التي تهدد الجنس البشري ووسطه جراء طغيان التقنية وخروجها عن حدود السيطرة ، لذا نجد فيه ـ كما هو الحال في مدينة الرياح ـ تنديداً بمخاطر أسلحة الدمار الشامل ، وتلوث البيئة والتصحر ، ومخاطر العبث بالجينات الحيوانية ، النباتية والبشرية .
وننبه القارئ ـ غير المتمرس بتقنيات الفن السابع عامة والخيالي العلمي منها خاصة ـ ، أننا لم نسقط اللغة السينمائية على هذه الرواية ، ولكن نحن الذين وقعنا عليها فيها .
فعندما نطالع ونستعرض حديث السارد عن مستقبل الأرض التي ستصير مسكنا للضعفاء القابعين وسط النفايات ، بعد أن سافر الأقوياء إلى كواكب المجموعة الشمسية النقية[36] ـ وتصويره للسفر عبر الزمنين الماضي والمستقبل في " مقامات / طرق " الرواية الثلاثة ـ ، ووصفه لملامح عمال معسكرات تخزين النفايات ، وكذا المعسكرات ذاتها المصممة وفقا لأعلى درجات التقنية الرقمية تأمينا لها ضد الحرائق والانفجارات والإشعاعات والتسربات[37]....... إذا نحن لاحظنا بتأمل هذه اللقطات المتنوعة بين البعيدة والمتوسطة والبؤَرية ، وكذا الزوايا التي التقطت منها ، والتي غلبت عليها الذاتية ، وكنا مستأنسين في ملاحظتنا هذه بثقافة لا بأس بها في سينما الخيال العلمي ، لأدراكنا عندئذ الملامح الفيلمية التي تغلف الرواية ، وتحيل لغة السرد شاشة كبرى " لا يمكن القفز على بعض جزئياتها "[38]ـ كما هو الحال مع بعض تفاصيل السرد البالزاكي أو الفلوبيري ـ وإنما لا بدّ من متابعتها بدقة لنتبين معالم الواقع الموازي الذي خلقه الفلم حول نص الواقع المُلهِم ، ونص الكاتب / المترجم ـ المؤول .
لأن كلا النصين المشاهد والمقروء " يخالف "[39] ـ بالمعنى التفكيكي ـ فنيّاً الآخر ، لكن لا يناقضه أو ينفيه ، وإنما يعارضه ـ بالمعنى الشعري ـ سعيا إلى إثراء الدلالة وتكثيف طبقات المعنى . وستتضح هذه الفكرة أكثر لمن أتيح له أن يقرأ نصا سرديا ، ثم يشاهده لاحقا بعد أن حُوِّل إلى مادة سينمائية ، لأن المضامين الدلالية التداولية سيعبر عنها بلغة بصرية تعتمد اللون والتقطيع والوسط وزاوية الرؤية والعرض والتقديم والتأخير والصورة والمؤثرات الصوتية ، إذ الدلالة هنا تتأسس على جدلية " المرئي وغير الملفوظ "[40] ،الحاضر والغائب المعوَّض ؛ ونحن نعرف أن وسائل تعويض الغياب تختلف تمام الاختلاف بين الأجناس والأنواع الأدبية ،وسيخرجنا الخوض فيها هنا حتما عن " مدينة الرياح ".
هذه الرواية إذن تطرح تساؤلات تقع في صميم مجال أدب الخيال العلمي كما رأينا وتدعم ذلك بصور حركية خيالية في الزمان والمكان وعبر الثقوب الفضائية السوداء في المجرات ، داعمة ذلك بأحاديث حول السنوات الضوئية[41] .
كلّ ذلك وغيره رسخ الرواية لأن تندرج ـ وبجدارة ـ ضمن زمرة أدب الخيال العلمي الذي يستلهم التصورات السريالية ، لأن السريالية تتسم بخصائص فلسفية فنية نجدها بوضوح حاضرة في الرواية كالغرابة والعبثية[42] أولاً . وثانيا " الإعلاء من شأن الأحلام وأفعال العقل الباطني "[43] ، وهي سمة تحضر في مدينة الرياح بوضوح ، حيث الحديث عن الأحلام والتصورات التخييلية لبعض المواقف والتصرفات[44] . وثالثا تتميز السريالية بتصوراتها " الهدامة التي تتحدى السلطة والبورجوازيين ، إذ هي شيء راديكالي فيما يتعلق بالسياسة والدين والجنس "[45] . وهذه الراديكالية تتجلى في الرواية في جزئها الثالث الذي حمل عنوان " برج التبانة " حيث نلمس فيه النقد للسلطة والدين . أما الخاصية الرابعة للسريالية فتتمثل في أنها " تحملق في موضوعاتها بعيون مفتوحة وبتحديق شديد التركيز ... ولا يهم مدى البراءة أو الفحش في الشيء محل التحديق ؛ لأن الكثافة التمويهية للتمحيص فيه تمنحه تمييزا مجردا ، ونحن لا نعلم ما هو المقصود من التحديق ، لكن نعلم أن له معنى ما ، ربما نكتشفه فيما بعد ...
من هنا يبدأ العصر الذهبي[46] بلقطة ذات طابع تسجيلي ، مقربة لثلاث عقارب تتصارع فيما بينها ، لكن لا يبدو لهذا علاقة ـ مباشرة ـ بما بعده ... مع هذا تضفي لقطة العقارب ظلالا مقبضة على الفيلم كله ، فيبدو الأمر كما لو أن الحياة تتميز بوحشية حشرية حقيقية ، كصراع العقارب "[47]. هذه الوحشية والحشرية هنا توظف كاستعارة تمثيلية لما يتسم به الواقع / الزمن من قسوة ، نجد مثيلا لها ـ أو أشد منها ـ في " مدينة الرياح " المؤسسة هي ذاتها على استعارة تمثيلية كبيرة ضاربة بأسهمها في القساوة والألم .
حيث الرواية كلها هي شهادة أفصحت عنها جمجمة لشاب سوداني ، كان باعه والده بدافع الحاجة بموطئ قدميه ملحاً ، ثم تتطور الأحداث متصاعدة في الزمن عتاوة وقوة ضد الوسط وساكنيه ؛ وكما بيع الابن بموطئ قدميه ملحا ، باع رئيس جمهورية المنكب البرزخي البلاد ـ أي مواطئ جميع الأقدام ـ لتكون مركزاً لدفن النفايات ، فانتقلنا من بيع الفرد إلى بيع الجماعة ، ومن تدنيس الجزء إلى تدنيس الكل ظاهره وباطنه[48] .
هذا النوع من الاستعارات التمثيلية الذي من دلالته الكبرى تتناسل العديد من المعاني والصور السردية ، يكثر في بدايات الأفلام على شكل استهلال بلاغي توجيهي . لنتذكر مثالا على ذلك الاستعارة الشهيرة للمخرج الساخر " شارلي شابلن " في فيلم " الأزمنة الحديثة " ، حيث تُظهر لقطة البداية قطيعا من الأغنام تليه مباشرة صورة لحشد غفير من الناس يهبطون بسرعة سلالم محطة مترو الأنفاق ، وهو ما يخلق لدى المتلقي تساؤلات عدة يرسو به بعضها على العلاقة التمثيلية بين القطيعين ، وما يوحي به الأول الواقع موقع المشبه به .
تلك الحشرية السينمائية السريالية الاستعارية الفظيعة ، وما تحيل إليه من " تشييئ " الإنسان تحضر بجلاء في مدينة الرياح كمشهد تمثيلي ، بدليل ما يعقبه من تصور للإنسان والحياة ، وهو تصور لا يبدو مترتبا بصورة مباشرة على ما سبقه " في الصحراء ... أتابع التفصايل الدرامية للعالم الصغير الذي ليس في متناول البشر العاديين ... كالملحمة الشرسة التي جرت بين الزنبور المتوحد وفريسته وذبابة العنتر والجمل ، كان الزنبور قد فتك بفريسته فصل رأسها وقوائمها وأجنحتها وبدأ يسحبها تجاه وكره ومكمن بيضه ، كان قد وصل إلى عتبة مخدعه عندما أحس بأن العنتر ينقض على ظهره ، وينفذ فيه أظافره الطويلة السوداء ... أبعد العنتر الزنبور عن جسمه كي لا يلدغه ، مدة الزمن القليل الكافي قبل شله ... كان مازال يمتص دمه عندما أحس كأن السماء انطبقت على الأرض ... بالكاد استطاع أن يرفع جبهته ... وضع الجمل دون أن يشعر طبقه على الجميع وغاص الكل في الأرض .. عندما غرقت شعلة الجحيم الحمراء خلف أمواج الصحراء خرج الرجال من لحودهم وحمَّلوا القافلة بسرعة وانطلقوا لمسيرة ليل طويل "[49] .
لكن ألا يحق لنا أن نتساءل عن مدى الانسجام بين التقنيات الموظفة في هذا النص ، وبين نص الواقع لحظة الكتابة ، وأيضا مدى الاستجابة لآفاق انتظار المخاطبين المتوقَّعين ؟؟؟! .
لا شك أن الرواية نجحت في التناص مع الفن السابع ، بتوظيفها العديد من تقنياته وأساليب لغته ؛ لكن المدخل الخيالي العلمي رغم حداثته ـ بالمعنيين النقدي والزمني ـ بدا أحيانا غير متجاوب مع اللغات الأخرى المتحاورة في الرواية .
صحيح أن أدب الخيال العلمي أدب ثوري تحريري تأميني ( نظريا ) للإنسان ووسطه ضد كلّ احتمالات التهديد ، لكن لا ينبغي أن ننسى أنه حتى في الأوساط الفنية الغربية الأكثر تطورا تظل " الغالبية العظمى من السرد الذي يدعي أنه خيال علمي لا يستوفي جميع ما يفرضه هذا النوع من المقاييس "[50] .
وبالنظر إلى " مدينة الرياح " نجد أنها لم تذكر موريتانيا بالاسم ولا عاصمتها الفعلية ، لكن الجمجة المخبِرة أشارت إلى عديد القرائن المُحِيلة إلى هذا البلد مثل : الغلاوية ، المجدبة الكبرى ، المنكب البرزخي ، الحوض الشرقي ، أطويل ، انمادي ، الحرطاني ، البيظاني ، الدراعة ، الملحفة ؛ ـ تضييع الوقت في احتساء الشاي الأخضر ـ اغتياظ الزوجة وآليات إرضائها ـ أسماء مقامات الموسيقى الموريتانية ...إلى آخر تلك القرائن وغيرها ، كالتاريخ الوسيط والحديث للبلاد. مما جعل على النص مسؤولية اجتماعية تاريخية ثقافية ، يفرضها زمن الكتابة ، وتتوقعها أزمنة القراءة ونصوصهم المنتظِرة .
نجح الكاتب في العرض النقدي لبعض سلوكيات المجتمع في القسم المعنون بـ ( التركة ) ، وهو عنوان دل على ميراث اللاحقين ـ وتوريثهم ـ لعيوب الماضي وهِناته . لكن الفرار من الواقع والزمن إلى تقنيات الخيال العلمي ، وغلبة الطابع الوجودي السريالي المتشائم الشاك العبثي المرتاب في الطبيعة البشرية ، أمور خيبت توقع قارئ كان ينتظر وصلا لماضيه الناصع ـ ثقافةً وكفاحاً ضد عوامل الاجتياح : الطبيعية والبشرية ـ بحاضره المتفاعل المتسارع منذ بدأ فيه المسار الديمقراطي ، وما أنتجه من تحولات على مستوى البنى الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية .
أضف إلى هذا أن مذكرات الباحث الأثري الفرنسي ، والتي نقلت إلينا بصوت الجمجمة ، كالرواية كلها ، وإن أشارت نقديا إلى بعض قضايا الواقع الموريتاني ، إلا أنها لم ترق إلى مستوى دلالات صوت الأجنبي في الرواية العربية المعاصرة ، حيث يتفاع
د. محمد سالم ولد الطلبة
تمهيد :
الرواية: بين نص الكاتب ونصوص القراء
تتناول هذه الدراسة دلالات الملامح " الحوارية " في رواية " مدينة الرياح " للكاتب الموريتاني موسى ولد أبنو . ومن عنوان الدراسة يتبين المنهج والهدف : المنهج الدلالي semantique والهدف المتمثل في الوقوف على أهم الأساليب " الحوارية " في هذا النص الذي ما يزال أحدث نص موريتاني جاد ، وثالثه من حيث الترتيب ، إن نحن نظرنا من زاوية نقدية سردية. والرواية هي في الأصل "نوع" من الترجمة لنص كان الكاتب قد كتبه بالفرنسية سنة 1993 بعنوان:Barsakh .
المنهج الذي نتبعه إذا هو المنهج الدلالي، لأنه في نظرنا الأقوم فنيا للوقوف على فنيات الخطاب من جهة ودلالاتها الاجتماعية من جهة ثانية .
فلقد تأكد لنا من القراءة والممارسة النقديتين اللتين دأبنا عليهما أثناء الدراسة الجامعية والعليا ، وكذا خلال التدريس الجامعي، أن المنهج الدلالي يعد التكاملي من بين المناهج النقدية الحديثة والمعاصرة، لأن التحليلات الصوتية والصرفية والمعجمية والنحوية التركيبية والبلاغية والإحصائية بجميع أنواعها ، وكذا العلامية Semiotiques .. تظل كلها معلقة وبعيدة ما لم ترتبط بالدلالات الفنية الاجتماعية التي يبثها النص صراحة وضمنا. إذ الدلالة كما نعلم تتجاوز كل تلك المستويات السابقة، لتواجه جملة النص الكبرى، وتجمع إلى بنياته العليا نظيراتها السفلى، بالمعنى البنيوي لا الواقعي الاشتراكي .
لذا تتموقع مباحث الدلالة على كل مناطق المعنى Sens وجزئيات اللغة Langue ، منطلقة من التلفظ الصريح L enonce explicite إلى الدلالات والنصوص المضمرة Les textes implicites [1] .
المنهج الدلالي من جهة ثانية منهج غايته البحث عن أنواع العلاقات الكائنة بين المكوننات النصية ، لذا فلا غرو أن تتوزع المباحث الدلالية بين شتى فروع العلوم الإنسانية ، نظرا إلى أن لكل منها شغفا تداوليا Pragmatique - من نوع ما – بالدلالة ومراجعها " فالدلالة -كما يقول تودوروف – هي عبارة عن شيء ، زيادة على كونه حاملا للمعاني ، يثير بذاته في الفكر أشياء أخرى "[2] .
هذه العلاقة للدلالة بالمعنى والمكونات النصية ، تمنحها صبغة اجتماعية مؤسسية تضفي عليها أبعادا أخرى نفسية حضارية ثقافية ، يتسع بموجبها فضاؤها وتتنوع حقولها .
لذا فقد رأينا أن هذه الخصائص النوعية المتنوعة للدلالة هي الأنسب منهجيا لتناول المظاهر الحوارية في نصنا هذا .
والحوارية المقصودة هنا هي تلك التي تكلم عنها (باختين) في دراساته السردية ، بوصفها أبرز مفهوم نقدي تتجلى من خلاله خصائص " التداخل المعرفي " التي تهيمن اليوم على النقد والإبداع السرديين المعاصرين .
إن "المبدأ الحواري" في السرد معناه التفاعل الدائم بين اللغات والأصوات داخل الفضاء السردي ، الذي يمنح تلك اللغات والأصوات دلالات ومعاني جديدة عندما يوظفها الكاتب ، كما أنه المسؤول – بحراكه الباطني – في الجنس السردي عموما عن التجديد السرمدي Rajeunissement eternel لجلد الرواية وملامحها . إذ الحوار هو أخص سمات اللغة ، إنه "حياتها" ، والمولد لعلاقاتها الاجتماعية التي تحتضنها وتنمو داخلها بحيث لا يمكن الفصل أبدا بين الحامل والمحمول .
ولما كانت اللغة وسيطا تعبيريا غير محايد نظرا إلى امتلائها تاريخيا بالمضامين الحضارية والمقاصد " الفردية والجماعية "[3] ، كان على الروائيين الوعي والحذر عندما يبدأون في نسج خيوطهم السردية على ألسنة مخلوقاتهم الروائية ، والذين هم ليسوا في الحقيقة سوى علامات وذوات دلالية ، تحمل سمات الماضي والزمان والمكان .
من هنا ينشئ ميخائيل باختين تصوره للرواية على هذا المبدأ الحواري ، لأنه في نظره يخترق كل أنواع اللغة ، مثلما يخترق المتكلمين خارج الرواية وداخلها .
هذا التصور الباختيني له في نظرنا جذران فلسفيان : أحدهما ماركسي بنيوي ، والثاني تأويلي هرمنيوطيقي Hermeneutique من جهة وظاهراتي Phenomenologique من جهة ثانية . فنحن نعلم أن معظم المناهج النقدية المعاصرة ذات مهاد فلسفي ظاهراتي ينطلق من فكرة (هايديجر) حول اللغة ، بوصفها أهم مظهر وجودي ينبغي أن يتأمل ويحاور ويستشار ، إذ هي "أعظم النعم " التي حبي بها الإنسان .
هذه الخصائص اللغوية الجمة لا تتجلى – في نظر باختين – في أي جنس أدبي تجليها في الرواية، حتى إن الرواية لم تعد في نظره – بخصائصها – إبداعا فحسب ، بل أصبحت تجمع إليه النقد بمفهومه الواسع " فهي جنس ديناميكي مدهش يمارس النقد الذاتي المستمر ... والصيرورة المستمرة التي تجعله في طليعة التطور الأدبي "[4] ، و الرواية بهذه الخاصية الحوارية تجسد التداخل المعرفي وحوار الثقافات وجدل الأفكار وصراع الرغبات والأهواء .
ولما كانت الكلمة الروائية ، في الحقيقة ، ليست مأخوذة من القاموس وإنما من التعامل الشفوي الواقعي ، كانت لها تلك الأبعاد الاجتماعية الكبيرة التي تتجاوز المتلفظ بها إلى ما يحيط به من سياقات ؛ هذا مع العلم أن هذا المتلفظ لم يستعمل في التلفظ إلا جزءا – قد لا يكون محددا – من رصيد إمكانات الكلمة .
إن الحوارية أو تعدد الأصوات التي أشار إليها (باختين) في وقت مبكر – بوصفها المبدأ اللغوي النقدي الفني المهيمن في الفضاء السردي – أخذت في النقد البنيوي النصي مع ( جوليا كريستيفا) سنة 1969 مفهوما جديدا هو التناص Intertextualite الذي أصبح السمة الفنية البارزة للنصوص مطلقا ، نثرا كانت أم شعرا .
بهذا التصور يكون السرد اليوم ، ممثلا في الرواية ، هو الخطاب الزمني المكاني الأقدر على التقاط ما يمور به العالم المعاصر بمختلف مستوياته نظرا إلى ما لشكل الرواية من مرونة وقدرة على التشكل تبعا للموضوع والنصوص واللغات الموظفة في فضائها من جهة وطبيعة ذلك التوظيف بين العرض والمسرحة والمعارضة من جهة أخرى . وكما قال جورج لوكاتش " إنها – أي الرواية – ملحمة العصر " ، فكل الفنون القولية الإنسانية المعاصرة ، وكذا الأنواع والأجناس الأدبية الفنية تجد مساحتها في الرواية التي تتناسخ بلغاتها معها ، لأنها تتمتع بقدرة على تبديل جلدها كل مرة سعيا منها إلى ملاحقة المشاغل الإنسانية المختلفة ، ولعل هذا مما تتقاطع فيه مع بعض خصائص الملحمة . أما خصائصها الشعرية فتتمثل في كثافة لغتها المفعمة بالصور الشعرية الموحية في شفافيتها البعيدة عن النزعة التعليمية المباشرة . ومع تطور لغة الخطاب السردي تبين أن الحدود بين النثر والشعر بحاجة إلى إعادة تحديد ، لأن المميزات والحدود السابقة لم تعد بالدقة الكافية نظرا إلى التطور والتداخل بين خصائص كلا الجنسين .
وتتداخل الرواية كذلك مع المسرحية ؛ ففضلا عن الاشتراك في العناصر كالشخوص والزمان والحيز واللغة والحدث والعرض ، تقوم الرواية بمسرحة الخطابات التي تقتبسها من حقول معرفية مجاورة خدمة للدلالة .
أما تداخلها مع السينما فلا نظنه في حاجة إلى إقامة الدليل ، فكلاهما يرفد الآخر ؛ وما تطور الفن السابع اليوم سوى مظهر من مظاهر تطور الخيال السردي و ولوجه إلى بواطن النفس البشرية أولا ، وآفاق المستقبل البعيد ثانيا ، وقدرته على استحضار وإحضار الماضي السحيق ثالثاً . وبهذا لا تكون الرواية إنتاجا فنيا production بل بالأحرى إبداعا creation ، وهذا ماجعلها تفلت دائما من مظاهر الشيخوخة النوعية التي قد تعتري بعض الخطابات الفنية ، ويرجع ذلك كما قلنا إلى قدرتها على تغيير الجلد والتناسخ والحلول (مع ، في ) كل جديد.
كل المكونات الروائية إذا من لغة وخيال وأنواع وأجناس حاضرة – بالحقيقة أو المجاز – وشخوص وزمان ومكان تتميز وتتمايز بفعل "السرد" الذي يموقعها كلها ويشكلنها بضمائره الحاضرة والغائبة ، وبتوظيفاته التي يغدو بها الموظف الجديد - من أي حقل – بناء سرديا جديدا ونصا لا أثرا [5] له شكله وسياقه ودلالاته الجديدة تماما.
هذه الطاقات السردية الجديدة تتحقق بفعل لغة الرواية التي تطورت تطورا موازيا للغة الرقمية المعاصرة ، فغدا الزمن والمكان السرديان أشخاصا فاعلة منفعلة لها حضورها وفعلها مثل باقي المكونات الروائية الأخرى في الفضاء السردي، الذي هو فضاء جديد لم تكتشف بعد كل حدوده ولا الخصائص العلمية لمجموعاته المكونة ؛ إنه فضاء يكتسب فيه كل داخل إلى غلافه الجوي أبعادا ومحددات وخصائص دلالية معنوية جديدة .
الرواية بهذا المفهوم الجديد هي فعلا كما يقول عبد الملك مرتاض " ... بحر خضم تلاشت سواحله وتناءت ... جنس شعري لا شعري معا ، اجتماعي ولا اجتماعي ، واقعي وأسطوري في آن ... كل سؤال فيه يفضي إلى مجموعة قضايا أخرى مقلقة ، مدهشة ، محيرة وغامضة "[6] لكنها مع ذلك ممتعة وموجهة .
لكن هذا الجنس السردي المفارقironique في الحقيقة ليس ارتداديا انطوائيا ولا حديث نفس باطني يناجي به الكتاب أنفسهم لحظات خلوتهم وتأملهم ، بل هو بالأحرى نداء ومطارحات ونقد بلغة طابعها الأول الانزياح l ecart وعدم المباشرة وهما سمتان لازمتان للخطاب الشعري ؛ وطابعها الثاني الحوارية بين أساليب الأنواع الموظفة والمناجاة [7] ، ثم التواشج والكثافة ثالثا .
من هنا تطرح الرواية قضية "شكلها"في علاقته بالدلالة ، إذ للبناء الشكلي دوره في إثارة المعنى وخلق الدلالة ، بل إن بعض النقاد يذهبون إلى أن " أن المعنى شكل ولا يمكن أن يدرك إلا باعتبتره كذلك "[8] ، لذا كان التنوع الشكلي للغة الروائية نتيجة من نتائج التشخيص الأدبي لكلام الآخرين ، لأن حضور تلك اللغات – كما هو الحال في مدينة الرياح- يمنح الرواية أصداء متعددة ويحول خطابها إلى نص ثنائي الصوت " والخطاب ثنائي الصوت هو دائما ذو صيغة حوار داخلي ، وهذا ما نجده في الخطاب التكسيري للسارد وللشخوص ، وأخيرا في خطاب الأجناس التعبيرية المتخللة : فهي جميعها خطابات ثنائية الصوت ذات صيغة حوارية داخليا ، فيها جميعها توجد بذرة حوار كامن غير منتشر ، مركز على نفسه ، وهو حوار صوتين ومفهومين للعالم وحوار لغتين- أو عدة لغات –"[9]
هذا الحوار هو في حقيقته فني اجتماعي كما صرح بذلك باختين نفسه مرارا ، وتلقف الفكرة منه ( بيير زيما ) في دراساته لعلم اجتماع النص الأدبي عامة والروائي خاصة .
وبهذا يكون محتوى العمل الفني – الذي يتميز بالطابع الحواري بين لغاته – في علاقة جدلية مع مظهره الشكلي ، لأن كلا منهما يعد تجليا للآخر ، فحتى التقنيات الروائية من سرد وأشخاص ومكان ....إلخ، تستحيل أنساقا لغوية فنية معبرة انطلاقا من توزيع الحوار داخل البناء الروائي ، وهو توزيع قد يبرز أصواتا تند عن توجيه المبدع – بالرغم من أنه هو الذي خلقها – فتبدو في مناجاتها مع بعضها البعض متحررة من كل قيود خارجية ، وهذا ما يمنح نسق الحوار أشكالا سياقية متميزة من حيث طبيعة الوصف والعلاقات التركيبية .
وبالتالي يكون لتحليل المحتوى علاقة وثيقة بدلالات الشكل[10] الناجمة عن طبيعة الصراعات الداخلية فيه من جهة ، وعن المعارف المنجبة له – سواء تلك التي مبعثها المبدع أو الجماعة أو القراء- من جهة ثانية . لذا " فإننا حين نمسك بمحتوى شكل العمل الفني مدركين من خلاله رؤية الفنان و المثل الأعلى للمجتمع الذي يعيش فيه ، نستطيع أن نمسك بدقة برقبة الصراع الجمالي / الاجتماعي الدائر في المجتمع في تلك اللحظة ، وموقف الفنان منه ، ومن هنا فإننا نتصور أن محتوى الشكل هو المفتاح الأساسي لدراسة النص أو العمل الفني ، ليس بوصفه عملا متأثرا بالمجتمع وإنما بوصفه عملا اجتماعيا ، ظاهرة اجتماعية بذاتها،تكمن اجتماعيتها في داخلها وليست مفروضة عليها من الخارج"[11].
من هذا التصور تختفي من إطارنا البحثي عديد الثنائيات التي لا مجال لطرحها منفصلة عن بعضها كالشكل /المضمون ، النص / السياق، الداخل / الخارج ...؛ كما أنه من نفس هذه الزاوية نستطيع تلخيص إشكالية الخطاب الروائي العربي المعاصر بأنها بحث عن الأشكال الفنية الكفيلة باحتواء الواقع العربي في شتى تجلياته .
إن النص الروائي بهذا المعنى هو خطاب ممكن عن الواقع ، خطاب " لا ينفك عن إنتاج الشفرات "[12] ذات الطبيعة الحوارية الاجتماعية ، خطاب لا يتفق مع مراجعه المختلفة ، لأن هذه المراجع تغدو في فضائه نسبية الدلالة ، تابعة للدلالة الكلية لجملة النص الكبرى .
هذه الرؤية المعاصرة للخطاب الروائي غيرت جذريا تلك النظرة التقليدية – وكذا الحديثة – للمكونات السردية : فأصبح المكان الروائي في النص ساحة للصراع الدائم بين الأصوات والرؤى المتجادلة . و على مستوى المنطلق أصبح استشراف أبعاد العملية الإدراكية يحتل مكانة رئيسية في تناول الظاهرة الإنسانية التي يتداخل الذاتي فيها مع الموضوعي . أما على مستوى الشخصية القصصية فقد أضحت شخصية إشكالية ذات صوت أبرز من صوت مؤلفها الذي فقد الكثير من سيطرته على عوالم السرد ، مما آذن بتراجع دور الكاتب العارف بكل شيء L auteur omniscient . أما من حيث البنية القصصية فقد أصبحت تعتمد على تعددية المنظور وتعدد وجهات النظر والأصوات ، أي تعدد المنطلق من أجل إرهاف حدة الوعي بأبعاد الزمن الثلاثة ، هذا في حين لم تعد الروابط التي تخلق التماسك الداخلي قائمة على منطق التتابع السببي و التسلسل المنطقي ، وإنما تم استعاضتها بذاكرة لنص الداخلية و التتابع الكيفي الذي يعتمد أساسا على المنطق الجدلي في خلق علاقة وطيدة بين الجزئيات – المكونات – والشخصيات والمواقف التي قد لا يتبادر لأول وهلة أن ثمة علاقة ممكنة بينها [13].
إن جنسا أدبيا كهذا موجها إلى مخاطبين –حتما- لا بد أن يجد قراء من نوع معين ، وهم قراء ينبغي أن يرتفعوا بالخطاب السردي – المتلقى – إلى مستوى النقد قبل أن يبدعوا من حوله أنسجة نصية جديدة ، ستغدوا بدورها لا حقا لقراء آخرين – ونقاد – مجالا خصبا للممارسة النقدية ، ومسرحا جينيالوجيا ثريا لممارسة حرفة الاقتفاء وتتبع الآثار والسمات بين الأصول والفروع ، المنابع والمصاب داخل الفضاء الروائي بروافده المتجددة.
إن قراء بهذه الأهمية لا يمكن أن يكونوا غائبين عن مناجاة المبدعين السرديين لحظات الإبداع /الولادة ، وبالتالي فلما كان الأمر كذلك فليس من المبالغة ولا الإسقاط أن نعتبرهم قراء ضمنيين[14] مشاركين في بناء الدلالة الحالية – لحظة الكتابة – وتشكيل /تنويع الدلالات اللاحقة – في أزمنة القراءة مستقبلا - ، وما دمنا قد اعتبرناهم كذلك فلا مصادرة أيضا إذا أسميناهم " مؤلفين ضمنيين " . فاختفاء " المؤلفين " الذين كانوا مهيمنين على ملكات القراء ومختلف الخيوط السردية / الإبداعية منذ القرن التاسع عشر و أواخر النصف الأول من القرن العشرين ، قد أجبر القراء على الاضطلاع بأدوار جسيمة وجوهرية " في إنتاج النصوص إضافة إلى المشاركة في تفسيرها" [15] من هنا كان القراء أبرز مصدر للتنوع التفسيري والتعدد الدلالي والمعنوي مادام كل منهم يدخل الفضاء السردي –ويدخل إليه - مزودا بمجموعة من التجارب والمعارف والطاقات الذهنية النفسية المتميزة ، يمارس بها ومن خلالها عمليات التفكيك وإعادة البناء والحفر والملأ للفراغات النصية /الدلالية التي تأبى شروط الكثافة ، وخصائص الانزياح ، وكذا عدم المباشرة ، على الكتاب ملأها .
ولعل في هذا الطرح ما يجعلنا نقول بأن هذا النوع من القراء هم تماما مثل أشخاص الرواية " ذوات نصية " يتم تقديرها ، كالضمائر الغائبة ، ثم الإشارة إلى آثارهم الدلالية والتركيبية ، وبالتالي فهم أيضا – كالنصوص – عرضة للتأويل وللاختلاف فيه .
وبغض النظر عن حقيقة المعنى في المسرودات التخييلية - والعلاقة بين شروط البلاغة وضرورات التواصل- وما يتطلبه ذلك من ضرورة أن يتوجه النقد والنقاش إلى نتائج القراءة ، لا القراء ولا الكتاب ، فإننا لابد أن نعي جيدا أن ثمة حرية من نوع خاص يمارسها القراء – الذين يحلو لنا أن نسميهم مؤلفين ضمنيين – أثناء عمليات القراءة . وهذه الحرية ذات مظهرين شكلي (مادي) ونقدي تحليلي نفسي : المادي يتمثل مظهره في حرية الاسترسال أو عدم الاسترسال في المقروء ، أما النقدي التحليلي فإن له علاقة بميثاق القراءة الذي يعقده القارئ مع المقروء عندما يسترسل فيه . وهو ميثاق طوعي تعمل بموجبه محفزات سردية على بعث نصوص وتأويلات كامنة لدى القارئ فتبرز أكثر من غيرها ؛ وهي تأويلات لا يستطيع الكاتب مصادرتها أو الحد منها حتى ولو لم تنسجم مع التوجه المعنوي الفرضي للنص في رأيه ، فالكاتب - هذا المفرد الذي هو حقيقة في صيغة الجمع – مهما حاول أن يحدد جمهورا معينا لخطابه فلن ينجح في ذلك ، لأن هؤلاء " المؤلفين الضمنيين " الذين يخلقهم لا يمكنه السيطرة على مضامينهم وأدوارهم الدلالية حالما يلتقون مع نصوص القراء ونصوص الواقع .
وحينما يعتبر القارئ نفسه من المعنيين بالمسرود يكون بذلك قد أصبح عضوا فيما يسميه بيتر رابينوفيتز "جمهور المؤلف" الذي يستطيع تميز " وجهات النظر الموثوق بها من تلك التي لا يمكن التعويل عليها " [16]
إن جمهور المؤلف هذا لا يمكن أن يتكون إلا إذا نجح السرد في إحداث أمرين جوهريين : أولهما طرق القضايا الوجودية التي يرونها الأبرز و الأجدر بالطرح ، وثانيهما إحداث المتعة الفنية عن طريق السيطرة على طاقات القراء وتوجيهها نحو المضامين والحفر السردية ، تلك الحفر التي – كما يقول بيتر شولز في كتابه السيمياء و التأويل " نسقط فيها – نحن القراء- متلذذين بذلك السقوط " .
أما السرد الذي ترى أعماقه القريبة من السطح ، وينير لنا الساردون في فضائه كل الدوب فهو سرد مباشر لا يجتذب القراء ولا النصوص الشارحة . وكما يقول واين بوث إذا كان " المؤلف يخلق صورة لنفسه وصورة أخرى للقارئ ، أي أنه يصنع قارئه كما يصنع نفسه الثانية ، فإن أنجح قراءة هي القراءة التي تستطيع فيها النفسان المخلوقتان : المؤلف والقارئ ، أن تعثرا على اتفاق كامل " [17].
وهنا يشير منظرو استجابة القارئ إلى ملاحظة هامة ذات شقين : الأول أن المسرودات لا تتضمن معنى محددا يستقر في العبارات والكلمات على أحد ما أن يكتشفه ، والثاني أن تفسير الدلالة العامة للنص يجب أن يكون في القارئ بصرف النظر عن الكلمات التي على الصفحة ، هو أيضا غلط ومزلق نقدي خطير ، بل " يجب علينا لكي نقرأ المسرودات أن نعرف اللغة (الشفرة) في نموذج التواصل لدى جاكوبسون وإن كنا في غير حاجة إلى أن نظل واعين لقوانينها المعقدة ... فليست الاختلافات في التفسير بيت القراء من عمل شخصياتهم فقط ، ولكن أيضا من عمل التقاليد التي يستخدمونها في القراءة " [18] وهذه التقاليد هي نتاج تراكمي لمجموعة التجارب الأدبية النقدية الفنية ، وكذا الحياتية المختلفة التي كان هذا القارئ أو ذاك ، أو هما معا ، - ضمن مجموعة ثقافية محددة – قد مرا بها ، وبالتالي فهذه التقاليد ليست وليدة اليوم أو الأمس القريب ، بل هي وليدة مجموعة من العوامل الثقافية الحضارية الخاصة بالمجموعة البشرية التي ينتمي إليها القراء أولا ، والكتاب ثانيا ، مضافا إليهما طبيعة فهم القراء وتعاملهم ـ مع ـ وتصرفهم ـ في ـ تلك التقاليد التي منها الموروث والحادث والمتجدد ، ومنها الأصيل والمعاصر .
ويعد " أيزر" من أبرز النقاد الذين اهتموا بمفاهيم القراءة والقراء في السرد الروائي بصفة خاصة . فهو يرى أن الكاتب " يمارس سيطرة على الطريقة التي يفهم بها القراء النص ، وذلك من خلال استخدام تقاليد مفهومة على نحو متبادل . وهو يقبل إلى هذا الحد نموذج التواصل ، ولكنه يشير إلى أن السرد التخييلي يغير أحوال التواصل بطرق أساسية ، و "القارئ الضمني" – وهو المصطلح الذي يطلقه هو لتعيين القارئ المتضمن في النص – هو جزء من البنية التخييلية ، وهذا الدور في حد ذاته ليس دورا يمكن أن نلزم به أنفسنا دون مؤهلات . إن المعنى الذي نستنتجه من النص ينشا من توتر منتج بين الدور الذي يقدمه النص و المزاج الخاص للقارئ الحقيقي " [19] .
وهو يعقب على هذا الطرح بأن "القارئ الضمني" ليس هو " المخاطب " في السرد التخييلي كما يقترح نموذج التواصل الجاكوبسوني ، ولكنه بالأحرى إحدى نقاط استشراف متعددة توفر منظورات لمعنى النص السردي.
ويقدم المؤلف الضمني والشخصيات و العقدة وجهات نظر مختلفة حول الفعل وهو أثناء التكشف ؛ أما دور القارئ فهو التقريب بين هذه المنظورات وموضع التقائها الذي هو " معنى النص " والذي يدرك من نقطة استشراف متخيلة . فالمعنى الذي يكونه السرد يترك في أعقابه – في نظر أيزر – عوالم داخلية ورؤى مشارا إليها لما يكتمل تشكلها ، ووجهات نظر افتراضية ، وذلك نظرا إلى الاعتماد على الدور اللاحق للقارئ في التفاعل مع الايجابي و تكميله و " التشكيك في الممارسات الاجتماعية ومحاولة إيجاد بدائل إيجابية للنظرات غير الملائمة الممثلة في النص ... و بالتالي فالقارئ عند " أيزر " ليس الشخص التخييلي الذي يخاطبه المؤلف الضمني أو الشخص الحقيقي القارئ أو مزيجا من الاثنين ، ولكنه على الأصح إمكانية مبهمة لما تتحقق ، ولا توجد وتتغير إلا في عملية القراءة "[20].
هذه الأوجه و السمات المتعددة للقراء السرديين تتلاقى وتتقاطع في قاسم مشترك هو ضرورة أن يحسن القراء من مستويات استيعابهم و آليات تحليلهم حتى يستطيعوا التجاوب مع اللغات النوعية الحاضرة في السرد أولا ، وتكميل المسكوت عنه فيه ثانيا ، لأن النص السردي كما رأينا ينبني على تصور نموذجي مسبق لهؤلاء المتلقين ، وما دام الأمر كذلك فإن البناء السردي لن يكون حتما بمعزل عن التقنيات والآليات الحجاجيةargumentative لكنها هنا ستكون آليات معقدة ، نظرا إلى ما سيقوم به المبدعون من تقنيات لغوية بلاغية تركيبية لتعويض عدم الحضور العياني أمام المخاطبين .
إن الرواية بهذا الانفتاح على نصوص الحقول المعرفية المجاورة لها وعلى نصوص القراء الضمنيين وغيرهم ، وعلى نصوص الواقع – في أزمنة القراءة والكتابة معا - ، واستيعاب فضائها لذلك كله ، ليؤكد ما ذكرناه في البداية من كونها فن الراهن بامتياز . وهذا أيضا مما يفسر تطورها السريع وعدم شيخوختها.
والرواية العربية المعاصرة أثبتت قدرة هائلة على استيعاب تطورات السرد المعاصر وتقنياته ، بل ونراها أحيانا تتفنن في توظيف بعضها ، مستغلة خصائصها النوعية وميراثها السردي العربي الرصين من جهة ، وطبيعة المخيال العربي العبقري الخصب ثانيا ؛ ولقدرتها – فعلا ،كما يقول أستاذنا محمد برادة - " ... على أن تكون ملتقى للأصوات المتعددة واللغات المتباينة والمتصارعة وللخطابات والحوارات الكاشفة للأفعال وخلفياتها الأيديولوجية... وحتى إذا لم تتوافر الشروط التي تسمح بانطلاق الرواية العربية نحو تدعيم إنجازاتها وتوسيع انتشارها وتأثيرها فإنها ستظل أيضا – داخل نطاق محدود نسبيا – أداة تقدم معرفة ، لأنها وجدت مرتبطة بروح التساؤل والمبادرة إلى فحص الواقع وإعادة تشكيله على مستوى التخييل . إنها دائما الصوت الجسور الذي يتطلع إلى تجاوز ماهو قائم ، وفي ذلك جوهر حيوية الرواية التي هي الشكل التعبيري بامتياز عن تجارب الوجود والصراع ، وعن صيرورة الهدم والبناء ، وعن محدودية الحاضر ورحابة المستقبل " [21] .
مدينة الرياح : جدلية العنوان والخبر :
" مدينة الرياح " مبتدأ يبحث عن خبر تتم به الفائدة والدلالة ، وهذا الخبر ثاو بين دفتي النص ، ولما كان الخبر [ معنوياً ، بلاغياً ] هو الكلام الذي يحتمل الصدق والكذب ، فإن الكاتب ، حرصاً منه على قيمة ، أو ـ قيم ـ الإفادة في خبره ، اختار له مخبراً يشهد به ، وكما تُشْتَرَطُ في الشهادة العدالة ، سعى الكاتب من جهة أخرى إلى الانتقاء من بين الشهود ، فطالعنا بشهادة قادمة من عالم البرزخ ، رغبة منه عن شهادة الأحياء لما قد يعتريها من قدح أو تجريح ، ولأن الميت ـ عند العديد من الفقهاء ـ تام العدالة فيما يخبر به ، لأن الحجب قد كشفت عنه ، فرأى ببصره " الحديدي " أسرار الأحداث وغاياتها العليا ، التي لن تتراءى للأحياء .
وعندما اختار الكاتب شاهدا لخبره من " عالم البرزخ " لم يختره ممن كانوا في الحياة الدنيا أحراراً ـ بالمعنى الاجتماعي ـ بل اختاره من فئة " العبيد "، بالمعنى الاجتماعي ذاته .
ألنسبية مفهومي الحرية والعبودية في مدينة الرياح ؟! أم للموضوعية المتوقعة في خبر المملوك لعدم مصداقية المُلاك ؟! أم لأن الفرق بين الجنسين لا يعدو مستوى الدلالة الاعتباطية للغة ؟! أسئلة تُصادر ـ بالمعنى الفلسفي ـ بها الرواية ، وتتخذها مدخلا تحفيزيا Entree stimulante ، من بين مداخل تقنية أخرى لن نذكرها الآن ، حتى تتفتح شهية القارئ المتلهف إلى معرفة الخبر .
لكن قبل النظر في الدلالات " النصية " للعنوان لا بدّ أن نشير إلى أننا ننظر إلى هذه الرواية بوصفها نصا بكراً ـ أو هكذا ينبغي أن يكون ـ ، لأنها كتبت مرتين ، مرة بالفرنسية تحت عنوان Barzakh ، ثم بعد ثلاث سنوات من نشرها ، أعاد كاتبها نسجها وصياغتها بلغته الأم على منهج " عبيد الراوية "[22]، وهو منهج قد يكوِّن ـ مجازياً ـ مع شفرات مداخل الرواية براعة استهلال تتلاءم مع الطبيعة النوعية للجنسين : جنس الشاهد ( قاراَ / العبد ) ، وجنس الشهادة ( الرواية ) ؛ لذا فهي في نظرنا لا ينبغي أن تعامل معاملة النص المترجم ، بل كنص جديد له خصوصياته اللغوية والفنية والدلالية ، وتتعضد هذه الرؤية إن نحن نظرنا إلى الفرق بين زمني الكتابة أولاً ، ولغة الكتابة الأولى ثانياً ، ثم مفهوم الترجمة ثالثاً.
فبالنسبة للنقطة الأولى يمكن أن يعد الفرق بين الزمنين ـ ثلاث سنوات ـ زمنا معرفيا تجريبيا لرؤية المبدع " لمخلوقاته " ومدى انسجامها مع نصوص الواقع وآفاق الانتظار Horizons d attantes لدى القراء الذين يقع عليهم جزء لا بأس به من خلق الدلالة وإكمال النص .
أما بالنسبة للنقطة الثانية ، فإن الكاتب وإن عبر أولاً بالفرنسية إلا أنه كان ـ بوصفه عربي الحضارة والانتماء والنشأة ـ يقوم فعلا بترجمة لا واعية لرؤاه وتصوراته الاجتماعية والسياسية والواقعية ، التي أنتجتها ميكانيزماته الفكرية ذات الطبيعة العربية أصلاً ؛ وبالتالي فالعملية التي كان يقوم بها هي مدّ الجسور التعبيرية بين لغة حضارته المؤسَّس هو عليها ، ولغة ثقافته الفرنسية الطارئة ؛ وإذن تكون الترجمة إلى العربية هي عودة إلى الأصل التعبيري ، أي النص الأول الفعلي الذي تمت ترجمته إلى الفرنسية لدى النشر الأول ، بما يعني أن النصين يتنزلان تحققا بين علاقات " القوة والفعل " الفلسفية .
وقد تصدى العديد من النقاد[23] لهذه الجدلية ؛ جدلية النصوص الأصلية والنصوص الفرعية لدى الكتاب العرب الذين يعبرون بلغات غير لغاتهم الأم .
أما بالنسبة للنقطة الثالثة وهي " مفهوم الترجمة " فنوردها تعضيدا للنقطة الثانية ، لعل بعض القراء لم يقنعوا بمسارنا الحجاجي Argumentatif فيها ؛ إذ الترجمة الإبداعية خصوصا في نظر النقاد و فلاسفة التأويل هي في الحقيقة إبداع ثانٍ نظراً إلى ما تتأسس عليه من عناصر الفهم والتأويل .
وقد أحسن " جادامر " في كتابه المشهور " الحقيقة والمنهج " عندما جزم بأن الترجمة بوصفها محاولة لنقل المعاني والدلالات من لغة إلى أخرى هي في الحقيقة " تأويل ، والمترجم مؤول ... ثم إنها توسِّع أفق ما يمكن أن يقال ، وهذا التوسيع هو وظيفة اللغات والمظهر الأبرز لانصهارها ، إنها أيضاً صورة من صور الحوار بين المترجم المؤول والنص "[24] .
هذه المقولة " لجادامر " تناسب تصورنا تمام المناسبة ، فهي مع نفيها عن الترجمة ـ ونحن نوافقه ـ تهمة التكرار ، هي أيضاً تؤكد لنا ملاءمة المنهج الدلالي الحواري الذي قررنا ـ أو على الأصح قرر النص ، لأن النص هو الذي يطلب منهجه الملائم له ، أما فرض المنهج عليه فهو إسقاط ـ تناول النص من منظوره ، فالترجمة الإبداعية خصوصا هي مجال حواري خصب تتصارع وتتداخل فيه اللغات والنصوص ، ويمارس فيه المبدعون عليها جدليات " الإحلال والإزاحة " ، الإظهار والإخفاء ، التصريح والإضمار .
أما بالنسبة للعنوان ( مدينة الرياح ) ، ذلك المبتدأ المضاف إلى الرياح ، المشرع عليها ، تجريه وتسوقه صوب " خبر " يتمه ويهدأ به روعه واضطرابه ، فهو في حد ذاته نص نوعي قد لا يكون بحجم خبره كمّاً ، لكنه لا يقصر عنه بإيحاءاته كيفاً .
نصية العنوان تنبع من مجازيته وانطوائه على العديد من دلالات الخبر ، التي على القارئ أن يلج إليها من بوابة العنوان الرئيسية ، " فكثيرا ما كانت دلالية العمل هي ناتج تأويل عنوانه ، أو يمكن اعتبارها كذلك دون إطلاق ... فالعنوان باعتباره قصدا للمرسل يؤسس :
أولاً : لعلاقة العنوان بخارجه ، سواء أكان هذا الخارج واقعاً اجتماعياً عاماً ، أم سيكولوجياً .
وثانياً : لعلاقة العنوان ، ليس بالعمل فحسب ، بل بمقاصد المرسل من عمله أيضاً ، وهي مقاصد تتضمن صورة افتراضية للمستقبل ، في ضوئها ـ كاستجابة مفترضة ـ يتشكل العنوان لا كلغة ولكن كخطاب"[25] .
من هنا كانت للعناوين ـ المحكمة ـ وظيفة استدعاء المسكوت عنه والمضمر إلى مساحات التأويل والجدل في ذهن المتلقي ؛ كما أن المظاهر الاختزالية الافتقارية ـ ذات الطبيعة المجازية الاستعارية ـ في العنوان تعمل غالبا فعل المحفِّز المثير لنصوص القراء التي بها تكتمل دائرة التواصل الواعي .
ثم إن غياب البنية التركيبية المكتملة في العنوان ـ كالذي أمامنا في مدينة الرياح ـ يحوله إلى إشارة حرة ذات قابلية دلالية فائقة لدمج سواها في فضائها ، وكذا الاندماج في فضاء سواها ، وذلك على اعتبار العنوان " بنية تناصية " تقع في تواز مع نصية العمل الذي يعنونه " من هنا ينطبع العنوان بسمات قريبة للغاية من سمات الشعرية Poetic ، التي ربما من أهمها أنه خطاب ناقص النحوية ، أو لا نحوي[26] بامتياز Ungrammatical ، ومن ثم فهو لا يحيل ـ مباشرة ـ على عمله بلغته / دلائله ، وإنما يحيل على عمله بكفاءته الفائقة في التحول من كونه واقعة لغوية ، ثم الصعود ـ بفضل التلقي ـ إلى مستوى النص"[27].
وإذا أخذنا في الاعتبار الخصائص الفنية البنيوية السابقة للجنس الروائي من جهة ، وكون العنوان الإبداعي يكون حتما منبثقا من المضمون ، مختزلا له ، محيلا إليه على سبيل التوازي ، أو التناص من جهة ثانية ، أدركنا أن العنوان الذي أمامنا ـ مدينة الرياح ـ هو المدخل اللغوي الفني والبراغماتي الاجتماعي للولوج إلى لغات هذا النص ، هذه اللغات التي يجسد حضورها وتعاضدها لخلق الدلالة الكلية جوهر " المبدأ الحواري " الذي نسعى إلى الوقوف على أبرز دلالاته من خلال تناولنا لهذه اللغات المتفاعلة المتعالقة ، وهو أمر يؤكد ـ من ناحية أخرى ـ أن تبيُّن دلالات الأصوات المتحاورة المتجاورة في مدينة الرياح أمر يحتاج ـ علاوة على ملكة الإدراك ـ إلى استجماع طاقات الحواس ، خاصة البصرية والسمعية : الأولى للتعرف على ملامح ومكونات الفضاء السردي ، والثانية لتمثل الدلالات الصوتية المتصاعدة من هذا الفضاء ، خاصة منها السينمائية التخييلية ، و كذا الموسيقية التي صاغ الكاتب منها إطاراً فنياً لروايته .
إن هذا المبدأ الحواري الدلالي الممنهِج لرؤيتنا يكشف عن خمس لغات بارزة في هذه الرواية هي : اللغة الموسيقية ، السينمائية الخيالية ، العجائبية ، الأسطورية ، الشعرية التراثية ؛ وهي وإن كانت خمسا ـ كالحواس الإنسانية اللازمة لتمام الإدراك ـ إلا أن ثمة لغة سادسة ، هي تماما كالحاسة السادسة ، تخللت تلك اللغات كلها وذابت فيها ، نسمعها ونراها ونلمسها عند القراءة : إنها اللغة الفلسفية [ عامة ] الوجودية [ خاصة ] بعبثيتها وتشاؤمها ، ثم بحتمية الاختيار فيها وما ينجر عن ذلك من مسؤوليات كما سنرى .
هذه اللغة الفلسفية الوجودية ذات النفس السارتيري ـ نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي سارتر Sartre ـ ليست غريبة على الكاتب ، إذ هو كما علمنا دكتور في الفلسفة ؛ " وكل إناء بالذي فيه يرشح " .
أولاً : اللغة السينمائية / الخيالية :
إن خبر مدينة الرياح خبر "مصوَّر" تطالعنا أولى مفرداته عبر شاشة الكمبيوتر على لسان الجمجمة التي عثر عليها " باحثو معهد آثار الفكر الإنساني "[28] ، بعد الحفريات التي أجروها في منطقة " الغلاوية شمال المنكب البرزخي "[29] ، ولحسن الحظ وجدوا بالجمجة بعضا من " بلورات الميلين التي تحتوي على معلومات تحدد سرعة وسعة وتردد الموجات اللااستقطابية المميزة لنشاط الخلايا العصبية ، وهي على شكل نسخ جزئية تعبر عن زخم المشاعر المختلفة في النفس عند سكرات الموت ... توضع البلورات في محلول عالي التركيز من حامض الديزوكس ريبوزي AND ثنائي التحلزن من أجل كشف المعلومات وفك رموزها لتحول إلى جمل مكتوبة ، في مختبر المعهد أخضعت البلورات للتحليل الفيزيائي الكيميائي من أجل قراءة النسخ الجزئية ، ولقنت هذه النسخ للحاسوب لفك أبجديتها وتحديد معانيها ، في اللحظة الموالية بدأ النص يظهر على الشاشة "[30] . بهذه " اللقطة التأسيسية "[31] ذات العدسة العميقة Deep focus
والزاوية[32] الذاتية " التي تبدأ بعيدة جدا Extreme longshot والخبراء ينقبون ، ثم يضيق إطارها تدريجيا مع العثور على الجمجمة ، دخول المختبر التحاليل ، ثم ظهور الشهادة الروائية ؛ ندخل إلى مدينة الرياح لنمارس المشاهدة والاستماع والتأمل .
وقد اختار الكاتب لهذه اللغة السينمائية أن تكون خيالية علمية ، وهو الخيار الفني الذي كان أخرج فيه روايته الأولى : L amour inpossible .
اختيار الكاتب للغة السينمائية الخيالية العلمية منذ المشهد الأول واضح ويتأكد كلما تقدمنا في القراءة ـ المشاهدة ـ كما سنبين ذلك لاحقا .
ونشير إلى أن تداخل السرد مع السينما ليس غريبا فكلاهما يغذي الآخر ويتداخل معه ، وكلاهما يوظف العديد من المعارف والتقنيات في سبيل خلق الدلالة وتحفيز التأويل ، وقد لعبت الدراسات النظرية السردية لكل من : بريمون ، جريماس ، بنفنست ؛ مع جهود الكتاب المخرجين من رواد مدرسة الرواية الجديدة ، خاصة " روب غرييه " ؛ لعب كلّ ذلك أدوارا مهمة في التعالق والتداخل بين المجالين السردي والسينمائي .
يلبي المدخل السينمائي في مدينة الرياح أيضاً العديد من متطلبات العناصر الدلالية ، كثنائية السمع والإبصار الكائنة في الفيلم ، والمطلوب تمثلها في هذه الرواية ذات الإطار الموسيقي المندغم في السرد ، بوصفه موسيقى تصويرية ينبغي أن تُستشْعَر ، لأنها لم تذكر اعتباطا كما سنرى .
ثنائية " السمع والبصر "[33] تلح فنيا على قضية مترسخة في فكرنا وثقافتنا العربية هي الخاصية " الشفاهية "[34] الحاضرة بأنساقها وخصائصها في هذه الرواية ، رغم أنها كُتبت بعد قرون من انخراطنا في عصور الكتابة .
وإذا فالرواية ينبغي ـ كالفلم ـ أن تقرأ وتسمع .
واختيار جنس الخيال العلمي ليكون النوع السينمائي الذي تخرج فيه مدينة الرياح هو خيار يؤكد ثنائية الإبداع والنقد في هذا النص ، هذا فضلا عن أنه ملائم للجنس السردي لأن " قدرا كبيرا من أدب الخيال العلمي يعتمد على الحيل السينمائية "[35] .
ثم إنه أيضاً أدب تأمل فكري يتناول آثار التغيرات على الإنسان ووسطه ، ويستطيع بطاقاته التخييلية ولا محدودية آفاقه ـ كالجنس الروائي ـ أن يستحضر ويحضر الماضي ويجري في المستقبل ، لأنه غالباً ما يتناول الاحتمالات الممكنة التي تهدد الجنس البشري ووسطه جراء طغيان التقنية وخروجها عن حدود السيطرة ، لذا نجد فيه ـ كما هو الحال في مدينة الرياح ـ تنديداً بمخاطر أسلحة الدمار الشامل ، وتلوث البيئة والتصحر ، ومخاطر العبث بالجينات الحيوانية ، النباتية والبشرية .
وننبه القارئ ـ غير المتمرس بتقنيات الفن السابع عامة والخيالي العلمي منها خاصة ـ ، أننا لم نسقط اللغة السينمائية على هذه الرواية ، ولكن نحن الذين وقعنا عليها فيها .
فعندما نطالع ونستعرض حديث السارد عن مستقبل الأرض التي ستصير مسكنا للضعفاء القابعين وسط النفايات ، بعد أن سافر الأقوياء إلى كواكب المجموعة الشمسية النقية[36] ـ وتصويره للسفر عبر الزمنين الماضي والمستقبل في " مقامات / طرق " الرواية الثلاثة ـ ، ووصفه لملامح عمال معسكرات تخزين النفايات ، وكذا المعسكرات ذاتها المصممة وفقا لأعلى درجات التقنية الرقمية تأمينا لها ضد الحرائق والانفجارات والإشعاعات والتسربات[37]....... إذا نحن لاحظنا بتأمل هذه اللقطات المتنوعة بين البعيدة والمتوسطة والبؤَرية ، وكذا الزوايا التي التقطت منها ، والتي غلبت عليها الذاتية ، وكنا مستأنسين في ملاحظتنا هذه بثقافة لا بأس بها في سينما الخيال العلمي ، لأدراكنا عندئذ الملامح الفيلمية التي تغلف الرواية ، وتحيل لغة السرد شاشة كبرى " لا يمكن القفز على بعض جزئياتها "[38]ـ كما هو الحال مع بعض تفاصيل السرد البالزاكي أو الفلوبيري ـ وإنما لا بدّ من متابعتها بدقة لنتبين معالم الواقع الموازي الذي خلقه الفلم حول نص الواقع المُلهِم ، ونص الكاتب / المترجم ـ المؤول .
لأن كلا النصين المشاهد والمقروء " يخالف "[39] ـ بالمعنى التفكيكي ـ فنيّاً الآخر ، لكن لا يناقضه أو ينفيه ، وإنما يعارضه ـ بالمعنى الشعري ـ سعيا إلى إثراء الدلالة وتكثيف طبقات المعنى . وستتضح هذه الفكرة أكثر لمن أتيح له أن يقرأ نصا سرديا ، ثم يشاهده لاحقا بعد أن حُوِّل إلى مادة سينمائية ، لأن المضامين الدلالية التداولية سيعبر عنها بلغة بصرية تعتمد اللون والتقطيع والوسط وزاوية الرؤية والعرض والتقديم والتأخير والصورة والمؤثرات الصوتية ، إذ الدلالة هنا تتأسس على جدلية " المرئي وغير الملفوظ "[40] ،الحاضر والغائب المعوَّض ؛ ونحن نعرف أن وسائل تعويض الغياب تختلف تمام الاختلاف بين الأجناس والأنواع الأدبية ،وسيخرجنا الخوض فيها هنا حتما عن " مدينة الرياح ".
هذه الرواية إذن تطرح تساؤلات تقع في صميم مجال أدب الخيال العلمي كما رأينا وتدعم ذلك بصور حركية خيالية في الزمان والمكان وعبر الثقوب الفضائية السوداء في المجرات ، داعمة ذلك بأحاديث حول السنوات الضوئية[41] .
كلّ ذلك وغيره رسخ الرواية لأن تندرج ـ وبجدارة ـ ضمن زمرة أدب الخيال العلمي الذي يستلهم التصورات السريالية ، لأن السريالية تتسم بخصائص فلسفية فنية نجدها بوضوح حاضرة في الرواية كالغرابة والعبثية[42] أولاً . وثانيا " الإعلاء من شأن الأحلام وأفعال العقل الباطني "[43] ، وهي سمة تحضر في مدينة الرياح بوضوح ، حيث الحديث عن الأحلام والتصورات التخييلية لبعض المواقف والتصرفات[44] . وثالثا تتميز السريالية بتصوراتها " الهدامة التي تتحدى السلطة والبورجوازيين ، إذ هي شيء راديكالي فيما يتعلق بالسياسة والدين والجنس "[45] . وهذه الراديكالية تتجلى في الرواية في جزئها الثالث الذي حمل عنوان " برج التبانة " حيث نلمس فيه النقد للسلطة والدين . أما الخاصية الرابعة للسريالية فتتمثل في أنها " تحملق في موضوعاتها بعيون مفتوحة وبتحديق شديد التركيز ... ولا يهم مدى البراءة أو الفحش في الشيء محل التحديق ؛ لأن الكثافة التمويهية للتمحيص فيه تمنحه تمييزا مجردا ، ونحن لا نعلم ما هو المقصود من التحديق ، لكن نعلم أن له معنى ما ، ربما نكتشفه فيما بعد ...
من هنا يبدأ العصر الذهبي[46] بلقطة ذات طابع تسجيلي ، مقربة لثلاث عقارب تتصارع فيما بينها ، لكن لا يبدو لهذا علاقة ـ مباشرة ـ بما بعده ... مع هذا تضفي لقطة العقارب ظلالا مقبضة على الفيلم كله ، فيبدو الأمر كما لو أن الحياة تتميز بوحشية حشرية حقيقية ، كصراع العقارب "[47]. هذه الوحشية والحشرية هنا توظف كاستعارة تمثيلية لما يتسم به الواقع / الزمن من قسوة ، نجد مثيلا لها ـ أو أشد منها ـ في " مدينة الرياح " المؤسسة هي ذاتها على استعارة تمثيلية كبيرة ضاربة بأسهمها في القساوة والألم .
حيث الرواية كلها هي شهادة أفصحت عنها جمجمة لشاب سوداني ، كان باعه والده بدافع الحاجة بموطئ قدميه ملحاً ، ثم تتطور الأحداث متصاعدة في الزمن عتاوة وقوة ضد الوسط وساكنيه ؛ وكما بيع الابن بموطئ قدميه ملحا ، باع رئيس جمهورية المنكب البرزخي البلاد ـ أي مواطئ جميع الأقدام ـ لتكون مركزاً لدفن النفايات ، فانتقلنا من بيع الفرد إلى بيع الجماعة ، ومن تدنيس الجزء إلى تدنيس الكل ظاهره وباطنه[48] .
هذا النوع من الاستعارات التمثيلية الذي من دلالته الكبرى تتناسل العديد من المعاني والصور السردية ، يكثر في بدايات الأفلام على شكل استهلال بلاغي توجيهي . لنتذكر مثالا على ذلك الاستعارة الشهيرة للمخرج الساخر " شارلي شابلن " في فيلم " الأزمنة الحديثة " ، حيث تُظهر لقطة البداية قطيعا من الأغنام تليه مباشرة صورة لحشد غفير من الناس يهبطون بسرعة سلالم محطة مترو الأنفاق ، وهو ما يخلق لدى المتلقي تساؤلات عدة يرسو به بعضها على العلاقة التمثيلية بين القطيعين ، وما يوحي به الأول الواقع موقع المشبه به .
تلك الحشرية السينمائية السريالية الاستعارية الفظيعة ، وما تحيل إليه من " تشييئ " الإنسان تحضر بجلاء في مدينة الرياح كمشهد تمثيلي ، بدليل ما يعقبه من تصور للإنسان والحياة ، وهو تصور لا يبدو مترتبا بصورة مباشرة على ما سبقه " في الصحراء ... أتابع التفصايل الدرامية للعالم الصغير الذي ليس في متناول البشر العاديين ... كالملحمة الشرسة التي جرت بين الزنبور المتوحد وفريسته وذبابة العنتر والجمل ، كان الزنبور قد فتك بفريسته فصل رأسها وقوائمها وأجنحتها وبدأ يسحبها تجاه وكره ومكمن بيضه ، كان قد وصل إلى عتبة مخدعه عندما أحس بأن العنتر ينقض على ظهره ، وينفذ فيه أظافره الطويلة السوداء ... أبعد العنتر الزنبور عن جسمه كي لا يلدغه ، مدة الزمن القليل الكافي قبل شله ... كان مازال يمتص دمه عندما أحس كأن السماء انطبقت على الأرض ... بالكاد استطاع أن يرفع جبهته ... وضع الجمل دون أن يشعر طبقه على الجميع وغاص الكل في الأرض .. عندما غرقت شعلة الجحيم الحمراء خلف أمواج الصحراء خرج الرجال من لحودهم وحمَّلوا القافلة بسرعة وانطلقوا لمسيرة ليل طويل "[49] .
لكن ألا يحق لنا أن نتساءل عن مدى الانسجام بين التقنيات الموظفة في هذا النص ، وبين نص الواقع لحظة الكتابة ، وأيضا مدى الاستجابة لآفاق انتظار المخاطبين المتوقَّعين ؟؟؟! .
لا شك أن الرواية نجحت في التناص مع الفن السابع ، بتوظيفها العديد من تقنياته وأساليب لغته ؛ لكن المدخل الخيالي العلمي رغم حداثته ـ بالمعنيين النقدي والزمني ـ بدا أحيانا غير متجاوب مع اللغات الأخرى المتحاورة في الرواية .
صحيح أن أدب الخيال العلمي أدب ثوري تحريري تأميني ( نظريا ) للإنسان ووسطه ضد كلّ احتمالات التهديد ، لكن لا ينبغي أن ننسى أنه حتى في الأوساط الفنية الغربية الأكثر تطورا تظل " الغالبية العظمى من السرد الذي يدعي أنه خيال علمي لا يستوفي جميع ما يفرضه هذا النوع من المقاييس "[50] .
وبالنظر إلى " مدينة الرياح " نجد أنها لم تذكر موريتانيا بالاسم ولا عاصمتها الفعلية ، لكن الجمجة المخبِرة أشارت إلى عديد القرائن المُحِيلة إلى هذا البلد مثل : الغلاوية ، المجدبة الكبرى ، المنكب البرزخي ، الحوض الشرقي ، أطويل ، انمادي ، الحرطاني ، البيظاني ، الدراعة ، الملحفة ؛ ـ تضييع الوقت في احتساء الشاي الأخضر ـ اغتياظ الزوجة وآليات إرضائها ـ أسماء مقامات الموسيقى الموريتانية ...إلى آخر تلك القرائن وغيرها ، كالتاريخ الوسيط والحديث للبلاد. مما جعل على النص مسؤولية اجتماعية تاريخية ثقافية ، يفرضها زمن الكتابة ، وتتوقعها أزمنة القراءة ونصوصهم المنتظِرة .
نجح الكاتب في العرض النقدي لبعض سلوكيات المجتمع في القسم المعنون بـ ( التركة ) ، وهو عنوان دل على ميراث اللاحقين ـ وتوريثهم ـ لعيوب الماضي وهِناته . لكن الفرار من الواقع والزمن إلى تقنيات الخيال العلمي ، وغلبة الطابع الوجودي السريالي المتشائم الشاك العبثي المرتاب في الطبيعة البشرية ، أمور خيبت توقع قارئ كان ينتظر وصلا لماضيه الناصع ـ ثقافةً وكفاحاً ضد عوامل الاجتياح : الطبيعية والبشرية ـ بحاضره المتفاعل المتسارع منذ بدأ فيه المسار الديمقراطي ، وما أنتجه من تحولات على مستوى البنى الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية .
أضف إلى هذا أن مذكرات الباحث الأثري الفرنسي ، والتي نقلت إلينا بصوت الجمجمة ، كالرواية كلها ، وإن أشارت نقديا إلى بعض قضايا الواقع الموريتاني ، إلا أنها لم ترق إلى مستوى دلالات صوت الأجنبي في الرواية العربية المعاصرة ، حيث يتفاع