تأوين القارئ في الرواية
في تحليله لنشوء الرواية، استعرض إيان واط مظاهر مقتضبة لبعض الصلات الممكنة بين التغيرات في طبيعة وتنظيم جمهور القراء وبين ولادة الرواية. وقد ركز في مجادلته على اتساع قاعدة القرّاء مواشجاً بين ذلك التغيّر مع جملة من العوامل الاقتصادية والدينية والاجتماعية، في الوقت الذي ألمح فيه إلى ما انطوت عليه الواقعية الشكلية للرواية من قطيعة متعددة الجوانب مع التقليد الأدبي السائد، الأمر الذي حرّض بعض الروائيين الطليعيين على ابتكار أنماط سردية أكثر حداثة وتعقيداً، كاستجابة طبيعية إلى ما عُرف بسلطة القارئ، وكانت تلك السلطة قد بدأت بالظهور روائيا تحت عنوان " الجمهور الجديد " كما هيأته المدارس الحديثة، وصولاً إلى " القارئ النموذجي " الذي شكل أسطورة معرفية/جمالية بشكل ما من الأشكال فبات أحد أهم الإشتغالات النقدية المطروحة للتداول بقوة وكثافة، على اعتبار إن نظريات وجماليات التلقي إن هي إلا محاولة لتجديد تاريخ الآداب، بتعبير ياوس، وإعادة تشكيل أفق الإنتظار.
منذها صار " القارئ النموذجي " الذي يختزن خبرات الوعي الناقد، هو ضالة الروائي ورهابه في آن، لأن النص المنقرئ، حسب الاعتقاد البارتي، هو عرضة للمتقرئين، كما يتوجس تأويلاتهم أبو يزيد البسطامي، حيث يبدو ذلك جلياً في الروايات التي تتعمد " تأوين " القارئ داخلها، للإخلال بتقاليد السرد، خصوصاً تلك المكتوبة بصيغة الرواية داخل الرواية، أو التي تجاور المتن النصي بهامش كتابي موازٍ أو تضميني، يعمل كحالة من حالات التفسير، حيث الإبدال التفاعلي - ضمناً وتصريحاً - بين النصين، ليبين النص عن مسار بنيته التكوينية من خلال العلاقة المضمرة بين القارئ، المزوّد بخبرات لغوية ولا لغوية من خارج النص، وبين الهامش شبه التوثيقي للأحداث، كما سعى إلى تحقيق ذلك بعض الروائيين بنهج استخدامي لا محدود لممكنات النص، وعبر استراتيجية نصية كفيلة بابتناء قارئ بمواصفات خاصة.
ونتيجة جملة من الأسباب الموضوعية والجمالية استجلبت الرواية المحلية بعض ملامح ذلك الوعي الكتابي لتجريب " ميثاق قراءة " مغاير، ينهض على مجادلة القارئ داخل النص، إعترافاً به كسلطه جديدة، وإقراراً بالطابع النشط والخلاق لفعل القراءة، الأمر الذي حتّم استدعاء " كاتب ضمني " بمفهوم آيزر، يؤدي القارئ مهمة بنائه مقابل " القارئ الضمني " بما هو صورة مخالفة من السارد، كما يتبدى بشكله المبسط في الروايات التي تبدأ بعبارة تحذيرية لصرف القارئ عن التعاطي مع شخوص الرواية وأحداثها كوقائع معاشة ومعرّفة كما في رواية " القارورة " ليوسف المحيميد مثلاً، أو بتوضيحات استدراكية بعد انقضاء السرد، كما في رواية " نبع الرمان " لأحمد الشويخات، أو حتى داخل المتن النصي بهوامش موازية، أو شروحات لمسح الحدود بين المروي له والمسرود له، كما في رواية " جاهلية " لليلى الجهني، فيما يبدو محاولة لتجريب وعي كتابي محتم بتطور فعل التلقي، والتنويع على شكل مغاير وصادم من أشكال الوجود السردي.
وإذا كانت تلك العبارات تعني التأكيد على جانب هام من واقعيتها من خلال النفي، فانها تمارس على الجانب الآخر حالة من تقييد حرية الذات القارئة في انتاج المعنى، على اعتبار أنه النتيجة الحتمية المتولّدة من التقاء النص المقروء ونص القارئ، كما تتقصد أحياناً التحييد الاستباقي لوعي القارئ المزود أصلاً بمجس لرصد العلامات السيرية والواقعية، ففي كل قارئ محلل نفسي بالضرورة، والقضية في أصلها لا تتعلق بأنطولوجية الشخصيات التي تقطن العوالم السردية بل بحجم موسوعة القارئ النموذجي، الذي يشاطر الراوي معرفته وهواجسه ويقتدر حتى على التشارك معه في وعي ولا وعي الرواية، فهذا هو الميثاق الذي يتأسس عليه التعاضد التأويلي لتفعيل النص، إذ لا كتابة بدون هذا الميثاق، حيث يقوم الوعي القارئ بتخليق معظم ملامح ما يسميه أيمن بكر " السرد المكتنز " بما هو فعالية وعي كتابية/قرائية يفتحها التحليل السردي ما بعد البنيوي.
ربما غاب عن يوسف المحيميد أن " القراءة " هي المعادل للتخمين والاستنتاج في حدها الأدنى، وهي شكل من أشكال المنهج وليس مجرد مطالعة مباشرة لتقرير إخباري، وهي بالتالي تمنح الذات القارئة قدراً لا نهائياً من الحرية في تماسها مع النص، فقبل أن يدخل روايته " القارورة " يكتفي بالصيغة التصريحة للسرد الموجبة لنقل المعرفة، وعليه يقيم جداراً عازلاً بينه وبين قارئه، كما يحلل بينفيست مثل هذه العبارات الإخبارية، لئلا يتأول هذا ( المسرود له/المكتوب له/ المرسل له ) أي معنى استثنائي خارج مراداته، وذلك من خلال عبارته المسيّجة للرواية " إن أي شبه بين أشخاص وأحداث هذه الرواية وبين أشخاص حقيقيين وأحداث حقيقية هو مجرد مصادفة " وكأنه بهذا التنبيه الاستباقي يهب قارئه سلطة إجتماعية، ويعطل ما يسميه كولريدج " الإحساس بالارتياب " بما هو ميثاق تخييلي ضمني أصيل وضروري بين الروائي وقارئه.
من ذات الحس التقريري الذي لا يخلو من الرهاب وجرأة الشخصنة في آن، تحاول أميرة القحطاني في روايتها " فتنة " مسح الحدود الفاصلة بينها كروائية وبين بطلتها، أي بين " أميرة " و" فتنة " حيث توقع روايتها المنكّلة بنسق القبيلة، باسم بطلة الرواية وراويتها فتنة عبدالرحمن القحطاني، مخاطبة القارئ " أنا الآن بين يديك، ولك حرية الإختيار، إما أن ترافقني، وإما أنت تعيدني إلى رفوف المكتبة " تماماً كما يتبرأ ابراهيم بادي من التبعات المحتملة من وراء شخصياته، عندما يصف روايته " حب في السعودية " بالفوضى التي تعبر عن نفسها، فهي، حسب تعبيره " من نسج الخيال، حتى لو وجدت شخوص واقعية شبهاً بينها وبين شخوص هذه الرواية. وأي شبه في الرواية مع أشخاص حقيقيين، أو مع أماكن وأحداث حقيقية، هو مجرد عن أي قصد ومحض مصادفة، وليس الهدف من هذه الرواية إزعاج أحد، أو أن توصل رسالة بعينها ".
إذاً، هو يصر على التصريح بتنصله من تداعيات روايته، ليمنع القارئ - بوعي أو لا وعي - من إبتكار مقروئية مخالفة، بما يعني ميله إلى حقيقة النص ونفي إمكانية تعدديته، كما يراهن التحليل البنيوي، وهو بذلك يعاند رؤية سلاتوف، أو يحاول حرفها عن مسارها، فالقارئ الجيد - بتصوره - هو الذي يتعلم تقبل العمل الأدبي، وتوجيه وتحديد توجهاته بما يقتضيه ذلك العمل، لئلا تتولد قراءة ضالة، لا تظهر قدراً كافياً من الالتزام بالنص، بقدر ما تتحول إلى تسوية سيئة بين القارئ والروائي، وهو ما يعني مصادرة صوت " القارئ النموذجي " وهو أمر يتوفر في جملة من الروايات المحلية رغم ما تبديه من رغبة مظهرية، أو لفظية بمعنى أدق، لمعانقة الوعي الناقد.
كل نص سردي، يرسم معالم قارئ من نوع ما، وعليه فإن السردية الطليعية مثلاً، أو التي تحاول أن تكون كذلك تضلّل القارئ وتربكه، كما يستنتج أمبرتو إيكو، بل تعطل حتى ما يسميه الجولات الاستلالية في غابة النص، وتحييد خبراته الحياتية، وتجاربه القرائية، وهو أمر يبدو على درجة من الوضوح في رواية " الغيمة الرصاصية " لعلي الدميني المؤسسة على متاهة سردية قابلة كبنية شكلية لحضور " الكلام " المنبث من ذات السارد، إذ يحاول من خلال تدخلاته المتكثّرة بتنامي السرد بناء موقع للقارئ داخل الرواية يتساوى فيه مع الفاعل، فيما يبدو إسقاطاً للقارئ في قلب الرواية، لتبديد المسافة - بوعي أو بدون وعي - التي أقامها جيرالد برنس ما بين المروي له والمسرود له، وإدخالهما في علاقة مركّبة لاستكمال نواقص النص، الأمر الذي أدى إلى تركيزه في الفاعلية، وبالتالي حدّ من حركة المعنى أمام القارئ، نتيجة اعتماده على سردية اصطناعية وليست طبيعية.
النقاد بوصفهم قرّاء، في وعي علي الدميني " قبيلة " وأقلامهم " رماح ". لا يكفّون عن التبرم والتطلّب وتوليد التأويلات المفرطة في الاستيهام. لغتهم متقعّرة، وضمائرهم محقونة بالرغبة في إخصاء المبدع، أو إعادة تكييف نصه. هذا ما تفصح عنه واحدة من جذاذات وأبيغرافات روايته بمحاولته دس حفرية نقدية داخل نص سردي " حينما نشر الراوي هذه الرواية تعاورتها رماح قبيلة النقاد فكتب أحدهم عنها: رواية مثقلة بالرموز والشخصيات المتناقضة ونصح الراوي بحذف فصل الأصدقاء وتدوينات الزوجة، ففعل. وقال ناقد ثان: أقحم الراوي " نوره " في سياق لا تنتمي له، واختلطت بدور عزه فحذف الراوي فصل " نوره ". عبر الثالث بلباقة عن رأيه قائلاً: عزّ فلان، صار عزيزاً وعزّ الشيء بمعنى ندر وجوده وهذا ما يطرحه غياب عزه عن نصها، وبمقابل ذلك الغياب حضر معنى آخر من عزه وهو العز بمعنى السيل الشديد وهذا رمز يستدعي قيام السد ليتعزز حضور الوادي وأبطال النص: جابر وحمدان ومريم ومنصور وسواهم ويتم بذلك تغييب عزة بشكل كامل. وفي ختام قراءة الناقد قدم نصيحة للراوي بأن يستبعد أوراق عزة من النص ليكتمل الغياب فأخذ الراوي بنصيحته القيمة. وكتبت ناقدة ساخرة: لعل الكاتب وقع تحت تأثير معنى آخر من معاني عز، وهو العزوز ومعناه : الناقة الضيقة الإحليل، لذا انغمس النص في سرد التفاصيل العاطفية والحسية فحجب ذلك إمكانية تشخيص ( الصوتيم ) الأساس في نص عزة. فكّر الراوي طويلا في ذلك وقرر الغاء العلاقات الحسية من النص. جمع الراوي كل ما قيل عن روايته ذات ليلة فرفرت فوق قلبه عصابات الطيور الجارحة ومدت أياديها الحادة فانتزعت سكينة الأوراق المبللة بالتعب واستبد به غضب نزق فقرر هجاء النقاد بقصيدة عمودية غير عصماء، ولما نشرها انشغل النقاد بتفكيك الغامض في تشكيلها ولم يفطنوا لبناء الهجاء القصدي القابع تحت حروفها. لم ينم الرواي اسبوعا كاملا وقرر نشر الجزء الذي لم يطالب النقاد باستبعاده، وحينما جمع ما تبقى لم يكن ذلك أكثر من غلاف الرواية فقد. غامر بنشرها، وصفق النقاد للرواية الجديدة واعتبرها بعضهم فتحا روائيا وأسماها ناقد شاب رواية الصمت الفاتنة ".
ليس قارئاً عاديا هذا الذي يحاوره علي الدميني ويفرض عليه سلسلة توجيهاته الداخلية وشروط التلقي التي يفترض أن يمنحها النص المتخيّل لمجموع القراء المحتملين بتعبير آيزر. وقد يبدو ذلك التوريط الاستجوابي له، أو الإنابة عنه بمعنى أدق، محاولة لاقحامه في النص بقصد خلق التعددية لتجاوز سكونية سرديات الواقعية الكلاسيكية، كما تحلل كاترين بيلسي ذلك المنحى في قراءتها للمارسة النقدية، أو هذا ما يبدو من ظاهر السرد، فالاهتمام بالقارئ، حسب تصورها، مدعاة للارتياح لأن ذلك ينطوي على تحرر كامل له ورفض مطلق للسلطة الاستبدادية لفسح المجال أمام القراء للمشاركة بتقديم قراءات متعددة للنص، ولكن ما تشي به عبارات الدميني يدلل على محاولة احترازية لتحييد القارئ، أو طمس أي مراودة ناقدة، قد تتأتى لحظة الارتطام بانبساطية السرد، وبالتالي تأميم المعنى الذي يمكن أن ينتجه القارئ كحركة واعية باتجاه موقف الكاتب، وهو الأمر الذي يؤدي إلى تلقين القارئ ما يجب عليه تأّوله ودفعه إلى هامش المتن النصي، واضطراره إلى اجتراح قراءة فارطة في التأويل السوسيولجي، لا تحترم استقلالية النص باعتباره شكلاً جمالياً، وبالتالي تسييس المضامين بسرد قاتل للشعرية.
قد يفرض الكاتب أو النص شكلاً ما من أشكال المقروئية، ولكن يبقى القارئ هو مرجعية المعنى في النص، بل هو أساس نظامه المرجعي، كما يؤكد منظرو القارئ، فالنص الذي يقوم على الاستجواب يمزق وحدة القارئ من خلال عدم التفاعل مع الفاعل المحدد لأنا المخاطب، أما موقع الكاتب الذي يشكل جزءاً من النص إذا كان بالامكان تحديد مكانه، فيمكن مشاهدته كأداة تقوم بطرح الأسئلة أو كهيئة متناقضة بالمعنى الحرفي للكلمة، الأمر الذي يؤدي إلى ما يشبه الاعتداء الرمزي على النص، أو إخضاع مقاصده لشيء من العنف اللا مبرر عند محاولة إضفاء سمة الانسجام العقلي عليه، خصوصاً عند فصيل من الروائيين الجدد الذين لا يكفون عن محاورة القراء والنقاد لأكسابهم أرموزات وخفايا نصهم الروائي، أو المبالغة في التأكيد على ما سماه جاك لينهارت " سوسيولوجية الشكل الروائي " كدعامة تقوم عليها الرواية الحديثة.
النص يمثل آلية كسولة أو مقتصدة، بتعبير أمبرتو إيكو، وهي آلية تحيا على قيمة المعنى الزائدة التي يكون المتلقي قد أدخلها إلى النص. وبقدر ما يمضي النص من وظيفته التعليمية إلى وظيفته الجمالية فانه يترك للقارئ المبادرة التأويلية. ومن أجل أن يبني الكاتب قارئاً نموذجياً ينبغي له أن يعد بعض الحيل الدلالية والتداولية لإقامة الحد المجازي بين استخدام النص استخداماً حراً باعتباره منبهاً من منبهات التخييل وبين تأوّله كنص مفتوح، وهو الأمر الذي خالفه مظاهر اللاجامي في روايته " بين علامتي تنصيص " حين أراد إسقاط الوعي الناقد، أو إفراغ روايته من ذلك الهاجس القرائي بسجالية استباقية لا تخلو من الرهاب للتحكم في فنية ومضمونية النص نتيجة توجسه أمام قارئ ناقد تمثّل خبرات القراءة النوعية، إذ لم يأخذ في الاعتبار التنامي والتنوع التاريخي والاجتماعي، الفردي والجمعي لجمهور القراء، وبالتالي راهن على رواية تحاكي الواقع ولا تعيد تخليقه، بمعنى توليف نص متخثر لا يقود القارئ إلى بناء عالم متخيل، على اعتبار أن القراءة عملية بناء كما يقترحها تودروف.
من ذلك المنطلق الرهابي والاستخفافي بأهمية القارئ النموذجي كمنتج للنص، لم يفتح روايته على وساعات الوعي القارئ، الذي يقوم على طبيعة نشطة وخلاقة لفعل القراءة، وهو ما يفسر اصراره على تدوين النص الاجتماعي بغرغرة أيدلوجية بدون رغبة ولا قدرة ربما على تضمين ذلك السجال داخل السرد، نتيجة عدم إتقانه لفن الإخفاء المشترك للقارئ والكاتب، فكتب ما يشبه المرافعة للدفاع بشكل صريح عن بؤس سرديته متنازلاً عن معانقة الوعي الناقد " حين أنهى أمجد فصل الرواية الأول أعطى سعيداً نسخة منه، وبعد أن التقاه أخذ يحذره من نشر الرواية ، قائلا بأنك تستطيع أن تكتب أفضل من ذلك دون أن تمس تابوات المجتمع ومفاهيمه، قائلاً بأنك ستلعب بنفسك وستدخل نفسك عزلة ظلامية، إن كنت تعزني فلا تنشر هذه الرواية، فأردف أمجد عبارته قائلاً بأني سأنتحر إن دخلت هذه العزلة، ومعزتك عندي لن تتأثر... حين عجز سعيد عن اقناع أمجد ألا ينشر روايته اتجه لنقدها فنياً قائلاً انها رواية سخيفة جداً وأشبه بالمقالة، فقال أمجد، إن وجدت رواية عربية أسخف من روايتي فيحق لي أن أنشرها لأنها لن تكون أسخف رواية عربية ".
وإذا كان مظاهر اللاجامي متردداً بعض الشيء في إقصاء القارئ النوعي، والتقليل من شأنه كضمير فني، أو كسلطة ثقافية، أو حتى كضرورة ابداعية لإنتاج نص متجاوز، فإن شيخ الورّاقين كان أكثر صراحة وتهكماًً إزاء الوعي الناقد بما هو المعادل للوعي القارئ، وفي انتخاب جمهوره من القرّاء المرتهنين إلى مسارات حكائية ، معفياً نفسه ومخففاً عن قرّائه وطأة التماس مع ما يسميه تودروف " الطبقة التحتية للنص " بما هي بيان يفسر طريقة استعماله، كما تتمثل في إعادة تشكيل القصة وتأويل وبناء نسق الأفكار والقيم، وذلك في روايته " عيال الله " التي تبدو من النصوص اللا تمثيلية، فهي لا تؤدي بالقارئ إلى أي عملية بناء، حيث استهلها بطرد النقاد مؤثراً التواصل مع قارئ ضمني على درجة من البساطة المعرفية والجمالية بكلمات تعكس منسوب وعيه بنظريات الاستقبال " إلى كل النقاد ذوي النظارات السميكة في العالم. من الجيد لكم أن تخرجوا من هنا فوراً. لن تجدوا في هذا العمل ما يمكنكم أن تطبّلوا له في صفحاتكم الثقافية البائسة التي يفترشها عيال الله المساكين ويلفون فيها طعامهم. هذا العمل موجه لأولئك الذين يكدحون في الشوارع باحثين عن همومهم وآلامهم وتفضح منتهكي حياتهم. أرجو ألا يغيضكم هذا، وأعدكم أن أقدم لكم عملاً آخر أشعرن لغته، كما تحبون، وأمرر لكم فيه ما يشبع ذائقتكم الطينية المستعارة. هل تفهمون ما أعني!؟ هيا اخلعوا نظاراتكم المضحكة وامضوا من هنا. هذا خياركم الأفضل ".
ولأن الروائي يعلم أن القارئ يتوق على الدوام إلى معرفة نوع القارئ الذي يريده النص، كما يطمح إلى اكتشاف الطريقة التي يستخدمها الروائي من أجل الإستحواذ على قارئه، يتعمد في هذه العلاقة المتشابكة انتخاب قارئه أو استدماجه في استراتيجية نصه، حيث الدلالة هي ناتج التفاعل بين وعي القارئ والنص، ولكن الروائي الذي لم يستوعب سلطة القارئ المتمّثل لخبرات القراءة، لا يجعل من نصه خيطاً لا مرئياً للربط بين موضوعيته واستقبالية القارئ، بقدر ما يراهن على النص الذي يُسقط قارئه، عندما يتكئ - مثلاً - على قارئ أفرط في قراءة قصص الزنا البرجوازية، بتعبير إيكو، ويكون هذا القارئ قد أشبع مخيلته بالملهاة، حيث يفصح النص عن ميول وعي ذلك القارئ إلى الانقلاب الفجائي، وهو ما تبدى بواقعية فظّة في رواية ابراهيم بادي " حب في السعودية " إذ لم يهب النص صوراً أو أخيلة أو أي مادة قابلة للتأويل، بقدر ما زوّد القارئ بتصور ذهني أمكن من خلاله ابتناء مواقف وشخوص ووجهات نظر محدودة وناجزة كما أفصحت عن ذلك مفردات السرد، بمعنى أنه لم يتم تحرير فعل القراءة وتحفيزه على انتاج بنيات النص ودلالاته المحتملة في وعي القارئ، وإمكان تحريك عمل الناقد المستند إليه نحو ما يتجاوز النص.
في هذه الرواية لا يكتفي ابراهيم بادي بالتأكيد على ميثاق القراءة المصرّح به لتجسير العلاقة مع القارئ، بل يساومه، أو يغريه بمعنى أكثر دقة، برواية مسرودة بواسطة مؤلفين، أحدهما يقدم أجواء العمل الداخلية فيما يشبه القناع، والثاني يؤدي دور التغطية له كمؤلف ليحتويه بشكل كلي، ويمرر من خلال " الكلام " المخالف، فهو كروائي تجريبي جديد لا يكف عن مجادلة القارئ لإقناعه بفتح سردي مغاير، من خلال مؤلف مستدعى من المخيلة، ومشيد داخل مختبر معرفي جمالي، ليشد القارئ إلى روايته ويضمن اندفاعه وراء كلماته، حيث الاستجداء الصريح للقارئ، وكثرة الطرق على الجماهيرية، والتخوف من الوعي الناقد دون انتباه إلى أن القراءة فن وثيق الصلة بخبرات القارئ ومهاراته وثقافته ومواهبه " سيقولون: هذه سيرتك الذاتية. أحداث حصلت معك. إيهاب هو أنت وأنت هو ايهاب ... لست أعاني فوبيا المنافسة . ستكون روايتي الأجرأ ... ألن تحقق حياة إيهاب مبيعات خيالية وقياسية؟ ألن تحقق إقبالاً هائلاً على قراءتها ومعرفة تفاصيلها المجنونة؟ ".
جميع السرود، برأي رولان بارت، لا تمتلك ذلك الترتيب المنظم والتعليمي بامتياز، وهنا يكمن سر الشكل الفارط سردياً الذي اتخذته رواية أحمد الدويحي " المكتوب مرة أخرى " فسرده لا يستجيب للتراتبية الكرونولوجية لزمن القص المتخيّل، وكأنه يطالب قارئه بقراءة الرواية كعملية بناء، أو هكذا تبدو أناه الساردة الفاعلة المموضعة في قالب روائي معاند للنمذجة والتنميط، تخاطب القارئ الفرد، أو ما يصعّده جمالياً ومعرفياً ويسميه ( شاعري ) بشكل مباشر، طلباً للجواب الواضح والشافي، وبما هو قارئه الضمني الذي يرسم معه وبواسطته استراتيجية النص، كما يستحضر الوعي الناقد في شخصيات أسطورية كبلقيس مثلاً التي تعمل كمهماز لتعزيم السرد " قاطعتني ضاحكة : لا زال نفسك قصير فالرواية تحتاج لنفس طويل أنا تابعتك ومن المعجبات بك " ويجاوبها كقارئة " أنت تعرفين أني لا أريد رواية منشور سياسي ولا رواية فضائح وجنس وأنت سيدتي خير من يعرف أن المسافة شاسعة بين هذا العالم وذاك ".
هكذا يجادل أحمد الدويحي قارئه بسرد يبدو في حالة خام، بل هذا ما يتقصده على الأرجح ليهب نصه طبيعة حركية تشاركية، لينزاح بقارئه عن عاداته في التلقي، وعليه يعرض روايته تحت ضوء نقدي يتمثّله في قارئ نموذجي بدءاً من عنوانها " أنت تكتب المكتوب مرة أخرى " ويمررها لزرقاء اليمامة كقارئة موروطة بالنص، ومعبأة بالرؤية الاستشرافية " بعثت اليك بـ ( المكتوب مرة أخرى ) فهل وصلكِ وهل قريتيه ...؟ " فهو إذاً على دراية بأن النص، إن هو إلا حيلة تركيبية دلالية تداولية، والأهم أن تأّولها المحتمل هو الحيز الأهم من مشروعها التكويني الخاص، ولهذا السبب بالتحديد يطلق عبارته في وجه القراء/ النقاد، إحتكاماً إلى الوعي الناقد " الحكاية ليست نصاً مفتوحاً كما تريدون أن تفهموننا بل هو نص مكتوب مرة أخرى ".
أظنه بهذا التراسل المشوش يحاول زرع إشارة خفية، تشبه تلك المعتمدة في الرواية الفرنسية الجديدة، المؤسسة على علامة وحيدة بين النص المسرود وبين القارئ وهو " القراءة " ، أي الميثاق اللا مصرح به، ليقوم القارئ بعملية " حبكنة " النص طبقاً لأسس متنوعة بينه كقارئ وبين النص، بتعبير أيمن بكر، وحيث يفترض إحالة عملية السرد بصورة أساسية إلى القارئ بوصفه مبدعاً، لديه من الرغبة والقدرة على استدعاء مشاهد حضارية، أو ربما يستحضر نصوصاً سردية مستقرة في الوعي الثقافي العام، أو ربما يشير إلى أحد السرود الكبرى، ويمكن أن يكون بانفتاحه ذلك مساعداً على توجيه الوعي القارئ نحو إعادة التفكير في واقعه الثقافي/الحضاري وربما إعادة إنتاجه.
أحمد الشويخات أيضاً، يعي تماماً مقولة أمبرتو إيكو بأن " الكون السردي أقل بكثير من الكون الواقعي " ولذلك يستخرج ( المعلّم ) من روايته " نبع الرمان " ليجادله بعد إنقضاء السرد في " حكاية مسودات " بما هو المعادل للكائن العارف، أو الوعي الناقد، أي القارئ النموذجي المغروس في سياقات النص فهو كروائي يتوقع قارئاً نموذجياً قادراً على مشاركته في " تحيين " نصه بالطريقة التي اعتقدها وجسّدها سردياً، وهنا يكمن السر في تعبيره عن الخوف والتشكك بعدم قدرته على التمييز بين تأويل النص واستعماله، ففي الخيار الثاني يمكن أن يكون النص قد تعرض لشيء من العنف واللا حيادية.
من ذات المنطلق لجأ إلى حيلة ( المخطوط ) ليستدعي القارئ ويحثه على استكمال النواقص في نص روايته الذي يحوي صيغ الأمر والعظة والعلم الوثائقي والخطاب السياسي، ليضع قارئه في تماثل تام مع مجموعة من أنواع الخطابات والممارسات أو في تعارض تام مع الآخرين، فيما يبدو اقتراباً من تصورات ميشيل بوتور في بحوثه للرواية الجديدة، حين يتعلق الأمر بموضعة القارئ في مكان البطل، وحيث يتوجب أن يتم تأوينه داخل النص، بمعنى أن يحقق النص طبيعته، أي أن ينتج العلاقة الطبيعية بين مرسل ومرسل له، ويصبح النص الروائي خطاب تواصل طرفاه سارد ومسرود له يعرفان بعضهما تمام المعرفة، فالنص لا يكشف عن بناه العميقة إلا لقارئ قادر على مغامرة المشاركة.
هكذا يكتب مرافعته الإعتذارية لناسه/قرّاءئه ليستولد قارئاً نموذجياً، على ما يبدو، بمقدوره إعادة بناء مقاطع الأحداث التي فقدها كسارد، لأن القارئ النموذجي يستنجد بتجربته الحياتية أو بما تقدمه له القصص الأخرى ليكون قادراً على توقع بقية القصة " رغبت أن أكتب ( سالفة ) أو ( حدوتة ) أو ( حكاية ) بسيطة فكانت النتيجة سوالف داخل سالفة، حكايات داخل حكاية، أو العكس. رغبت أن أحتفي بمكان بين البحر والنخل فكانت النتيجة أن النص المكتوب ظل- ولا يزال - يطالب بالاحتفاء به على انفراد وبمبالغة مثيراً أسئلته المزعجة. وكان المعلم للتو - وعلى غير المعتاد بالمرة أيضا - قد استرسل في تعنيف ولومٍ قاسيين وجهه إليّ، بلا هوادة ... قال وليته لم يقل: انك تكتب نفسك لنفسك، مبيحاً لنفسك - وليس سوى نفسك - الأحكام على الناس والمجتمع والتاريخ والثقافة، ومتحدثاً نيابة عن كل ذلك. إنك مثل كثير من المثقفين، متبرم ومتحيز ومغرور وأناني جداً في أعماقك. إنك لا تختلف عن الآخرين الذين يتوهمون أنهم مختلفون ومتميزون، وينصبّون أنفسهم دعاة إلى الحق والخير والجمال والحرية. وعليك أن تبلغ قراءّك بهذا، مباشرة وبدون زخارف لفظية، إن كنت تمتلك الشجاعة الأدبية الكافية ... وأقول: معك حق يا معلّم. إما أن أبلّغ القراء فقد فعلت يا معلّم، وأرجو أن يحوز هذا كله على رضاك. فأنت جليل يا سيدي ".
كل هذه الاستدعاءات للوعي الناقد ليست مصادفات، إنما تندرج في مجملها تحت عنوان عريض يعني الوعي بسلطة القارئ، والانتباه إلى أهمية إشباع خبراته الحياتية والثقافية الآخذة في التراكم كناتج لعملية التفاعل بين النظرية السردية ونظريات الاستقبال، بدليل ذلك التنويع على تمثلات حضوره، والإصرار على التجادل معه، الأمر الذي يؤدي بشكل تلقائي إلى محاولة انتاج رواية مركبة أو سردية طليعية لتجاوز سكونية السرد التقليدي، أي " تأوين " قارئ نوعي داخل النص، يكون بالضروروة قد تمثّل خبرات القراءة داخل وخارج المتن النصي، أو هذا ما تفترضه تلك الانحيازات السردية حين يتعلق الأمر بالمؤلف والقارئ باعتبارهما استراتيجيتين نصيتين، فالقارئ النموذجي والمؤلف النموذجي في قصة ما، حسب تحليل أمبرتو إيكو للقارئ في الحكاية، ليس هو القارئ الفعلي. إن القارئ الفعلي هو أي كان، نحن جميعاً، أنت وأنا ونحن نقرأ النص، فهذا القارئ قد يقرأ بطرق مختلفة وعادة ما يتخذ من النص وعاء لأهوائه الخاصة وهي أهواء مصدرها عالم آخر غير عالم النص، ولا يقوم النص سوى باستثارتها بشكل عرضي.
إذاً، يتوق القارئ إلى معرفة أي نوع من القراء يريد النص، كما يطمح إلى اكتشاف الطريقة التي يستعملها المؤلف النموذجي من جل تسريب معلوماته، إذا ما أتيحت له فرصة التهوام في غابة السرد، وفي النهاية ينجح معظم القراء في الوصول إلى ممارسة يسميها سلاتوف القراءة الجيدة مهما استزرع الروائي من علامات مضللة، لأنهم يفعلون ذلك من خلال رفضهم لتلك القراءات غير المناسبة بالفعل وذلك تعاطفاً مع أو تقرباً مما يظهر أخيراً على انه هدف الكاتب الضمني أو الوجود الانساني في العمل الأدبي، وعليه فإن لحظة الذروة في القصة، بما هي لحظة فهم الأحداث تكمن في تشاطر المعنى في النص بين الروائي كمرسل، والقارئ كمرسل إليه، والذي ينبع من آلية استطرادية غامضة بشكل استثنائي، وليس من محاولات الإفهام والإغواء، أو توريط السرد في بنى على درجة من التعقيد، فالقارئ مدعو لفهم حقيقة النص والحكم عليه، ليقوم باختيارات معقولة داخل السرد، فأن نقرأ كما نريد، حسب نظام ستيرل يعارضه أن نقرأ كما يريد النص، وعلى هذا الأساس تكون محاولات تأوين القارئ عاملاً مركّباً لنشوء الرواية.
الورقة المقدمة في ملتقى " الرواية وتحولات الحياة "
في تحليله لنشوء الرواية، استعرض إيان واط مظاهر مقتضبة لبعض الصلات الممكنة بين التغيرات في طبيعة وتنظيم جمهور القراء وبين ولادة الرواية. وقد ركز في مجادلته على اتساع قاعدة القرّاء مواشجاً بين ذلك التغيّر مع جملة من العوامل الاقتصادية والدينية والاجتماعية، في الوقت الذي ألمح فيه إلى ما انطوت عليه الواقعية الشكلية للرواية من قطيعة متعددة الجوانب مع التقليد الأدبي السائد، الأمر الذي حرّض بعض الروائيين الطليعيين على ابتكار أنماط سردية أكثر حداثة وتعقيداً، كاستجابة طبيعية إلى ما عُرف بسلطة القارئ، وكانت تلك السلطة قد بدأت بالظهور روائيا تحت عنوان " الجمهور الجديد " كما هيأته المدارس الحديثة، وصولاً إلى " القارئ النموذجي " الذي شكل أسطورة معرفية/جمالية بشكل ما من الأشكال فبات أحد أهم الإشتغالات النقدية المطروحة للتداول بقوة وكثافة، على اعتبار إن نظريات وجماليات التلقي إن هي إلا محاولة لتجديد تاريخ الآداب، بتعبير ياوس، وإعادة تشكيل أفق الإنتظار.
منذها صار " القارئ النموذجي " الذي يختزن خبرات الوعي الناقد، هو ضالة الروائي ورهابه في آن، لأن النص المنقرئ، حسب الاعتقاد البارتي، هو عرضة للمتقرئين، كما يتوجس تأويلاتهم أبو يزيد البسطامي، حيث يبدو ذلك جلياً في الروايات التي تتعمد " تأوين " القارئ داخلها، للإخلال بتقاليد السرد، خصوصاً تلك المكتوبة بصيغة الرواية داخل الرواية، أو التي تجاور المتن النصي بهامش كتابي موازٍ أو تضميني، يعمل كحالة من حالات التفسير، حيث الإبدال التفاعلي - ضمناً وتصريحاً - بين النصين، ليبين النص عن مسار بنيته التكوينية من خلال العلاقة المضمرة بين القارئ، المزوّد بخبرات لغوية ولا لغوية من خارج النص، وبين الهامش شبه التوثيقي للأحداث، كما سعى إلى تحقيق ذلك بعض الروائيين بنهج استخدامي لا محدود لممكنات النص، وعبر استراتيجية نصية كفيلة بابتناء قارئ بمواصفات خاصة.
ونتيجة جملة من الأسباب الموضوعية والجمالية استجلبت الرواية المحلية بعض ملامح ذلك الوعي الكتابي لتجريب " ميثاق قراءة " مغاير، ينهض على مجادلة القارئ داخل النص، إعترافاً به كسلطه جديدة، وإقراراً بالطابع النشط والخلاق لفعل القراءة، الأمر الذي حتّم استدعاء " كاتب ضمني " بمفهوم آيزر، يؤدي القارئ مهمة بنائه مقابل " القارئ الضمني " بما هو صورة مخالفة من السارد، كما يتبدى بشكله المبسط في الروايات التي تبدأ بعبارة تحذيرية لصرف القارئ عن التعاطي مع شخوص الرواية وأحداثها كوقائع معاشة ومعرّفة كما في رواية " القارورة " ليوسف المحيميد مثلاً، أو بتوضيحات استدراكية بعد انقضاء السرد، كما في رواية " نبع الرمان " لأحمد الشويخات، أو حتى داخل المتن النصي بهوامش موازية، أو شروحات لمسح الحدود بين المروي له والمسرود له، كما في رواية " جاهلية " لليلى الجهني، فيما يبدو محاولة لتجريب وعي كتابي محتم بتطور فعل التلقي، والتنويع على شكل مغاير وصادم من أشكال الوجود السردي.
وإذا كانت تلك العبارات تعني التأكيد على جانب هام من واقعيتها من خلال النفي، فانها تمارس على الجانب الآخر حالة من تقييد حرية الذات القارئة في انتاج المعنى، على اعتبار أنه النتيجة الحتمية المتولّدة من التقاء النص المقروء ونص القارئ، كما تتقصد أحياناً التحييد الاستباقي لوعي القارئ المزود أصلاً بمجس لرصد العلامات السيرية والواقعية، ففي كل قارئ محلل نفسي بالضرورة، والقضية في أصلها لا تتعلق بأنطولوجية الشخصيات التي تقطن العوالم السردية بل بحجم موسوعة القارئ النموذجي، الذي يشاطر الراوي معرفته وهواجسه ويقتدر حتى على التشارك معه في وعي ولا وعي الرواية، فهذا هو الميثاق الذي يتأسس عليه التعاضد التأويلي لتفعيل النص، إذ لا كتابة بدون هذا الميثاق، حيث يقوم الوعي القارئ بتخليق معظم ملامح ما يسميه أيمن بكر " السرد المكتنز " بما هو فعالية وعي كتابية/قرائية يفتحها التحليل السردي ما بعد البنيوي.
ربما غاب عن يوسف المحيميد أن " القراءة " هي المعادل للتخمين والاستنتاج في حدها الأدنى، وهي شكل من أشكال المنهج وليس مجرد مطالعة مباشرة لتقرير إخباري، وهي بالتالي تمنح الذات القارئة قدراً لا نهائياً من الحرية في تماسها مع النص، فقبل أن يدخل روايته " القارورة " يكتفي بالصيغة التصريحة للسرد الموجبة لنقل المعرفة، وعليه يقيم جداراً عازلاً بينه وبين قارئه، كما يحلل بينفيست مثل هذه العبارات الإخبارية، لئلا يتأول هذا ( المسرود له/المكتوب له/ المرسل له ) أي معنى استثنائي خارج مراداته، وذلك من خلال عبارته المسيّجة للرواية " إن أي شبه بين أشخاص وأحداث هذه الرواية وبين أشخاص حقيقيين وأحداث حقيقية هو مجرد مصادفة " وكأنه بهذا التنبيه الاستباقي يهب قارئه سلطة إجتماعية، ويعطل ما يسميه كولريدج " الإحساس بالارتياب " بما هو ميثاق تخييلي ضمني أصيل وضروري بين الروائي وقارئه.
من ذات الحس التقريري الذي لا يخلو من الرهاب وجرأة الشخصنة في آن، تحاول أميرة القحطاني في روايتها " فتنة " مسح الحدود الفاصلة بينها كروائية وبين بطلتها، أي بين " أميرة " و" فتنة " حيث توقع روايتها المنكّلة بنسق القبيلة، باسم بطلة الرواية وراويتها فتنة عبدالرحمن القحطاني، مخاطبة القارئ " أنا الآن بين يديك، ولك حرية الإختيار، إما أن ترافقني، وإما أنت تعيدني إلى رفوف المكتبة " تماماً كما يتبرأ ابراهيم بادي من التبعات المحتملة من وراء شخصياته، عندما يصف روايته " حب في السعودية " بالفوضى التي تعبر عن نفسها، فهي، حسب تعبيره " من نسج الخيال، حتى لو وجدت شخوص واقعية شبهاً بينها وبين شخوص هذه الرواية. وأي شبه في الرواية مع أشخاص حقيقيين، أو مع أماكن وأحداث حقيقية، هو مجرد عن أي قصد ومحض مصادفة، وليس الهدف من هذه الرواية إزعاج أحد، أو أن توصل رسالة بعينها ".
إذاً، هو يصر على التصريح بتنصله من تداعيات روايته، ليمنع القارئ - بوعي أو لا وعي - من إبتكار مقروئية مخالفة، بما يعني ميله إلى حقيقة النص ونفي إمكانية تعدديته، كما يراهن التحليل البنيوي، وهو بذلك يعاند رؤية سلاتوف، أو يحاول حرفها عن مسارها، فالقارئ الجيد - بتصوره - هو الذي يتعلم تقبل العمل الأدبي، وتوجيه وتحديد توجهاته بما يقتضيه ذلك العمل، لئلا تتولد قراءة ضالة، لا تظهر قدراً كافياً من الالتزام بالنص، بقدر ما تتحول إلى تسوية سيئة بين القارئ والروائي، وهو ما يعني مصادرة صوت " القارئ النموذجي " وهو أمر يتوفر في جملة من الروايات المحلية رغم ما تبديه من رغبة مظهرية، أو لفظية بمعنى أدق، لمعانقة الوعي الناقد.
كل نص سردي، يرسم معالم قارئ من نوع ما، وعليه فإن السردية الطليعية مثلاً، أو التي تحاول أن تكون كذلك تضلّل القارئ وتربكه، كما يستنتج أمبرتو إيكو، بل تعطل حتى ما يسميه الجولات الاستلالية في غابة النص، وتحييد خبراته الحياتية، وتجاربه القرائية، وهو أمر يبدو على درجة من الوضوح في رواية " الغيمة الرصاصية " لعلي الدميني المؤسسة على متاهة سردية قابلة كبنية شكلية لحضور " الكلام " المنبث من ذات السارد، إذ يحاول من خلال تدخلاته المتكثّرة بتنامي السرد بناء موقع للقارئ داخل الرواية يتساوى فيه مع الفاعل، فيما يبدو إسقاطاً للقارئ في قلب الرواية، لتبديد المسافة - بوعي أو بدون وعي - التي أقامها جيرالد برنس ما بين المروي له والمسرود له، وإدخالهما في علاقة مركّبة لاستكمال نواقص النص، الأمر الذي أدى إلى تركيزه في الفاعلية، وبالتالي حدّ من حركة المعنى أمام القارئ، نتيجة اعتماده على سردية اصطناعية وليست طبيعية.
النقاد بوصفهم قرّاء، في وعي علي الدميني " قبيلة " وأقلامهم " رماح ". لا يكفّون عن التبرم والتطلّب وتوليد التأويلات المفرطة في الاستيهام. لغتهم متقعّرة، وضمائرهم محقونة بالرغبة في إخصاء المبدع، أو إعادة تكييف نصه. هذا ما تفصح عنه واحدة من جذاذات وأبيغرافات روايته بمحاولته دس حفرية نقدية داخل نص سردي " حينما نشر الراوي هذه الرواية تعاورتها رماح قبيلة النقاد فكتب أحدهم عنها: رواية مثقلة بالرموز والشخصيات المتناقضة ونصح الراوي بحذف فصل الأصدقاء وتدوينات الزوجة، ففعل. وقال ناقد ثان: أقحم الراوي " نوره " في سياق لا تنتمي له، واختلطت بدور عزه فحذف الراوي فصل " نوره ". عبر الثالث بلباقة عن رأيه قائلاً: عزّ فلان، صار عزيزاً وعزّ الشيء بمعنى ندر وجوده وهذا ما يطرحه غياب عزه عن نصها، وبمقابل ذلك الغياب حضر معنى آخر من عزه وهو العز بمعنى السيل الشديد وهذا رمز يستدعي قيام السد ليتعزز حضور الوادي وأبطال النص: جابر وحمدان ومريم ومنصور وسواهم ويتم بذلك تغييب عزة بشكل كامل. وفي ختام قراءة الناقد قدم نصيحة للراوي بأن يستبعد أوراق عزة من النص ليكتمل الغياب فأخذ الراوي بنصيحته القيمة. وكتبت ناقدة ساخرة: لعل الكاتب وقع تحت تأثير معنى آخر من معاني عز، وهو العزوز ومعناه : الناقة الضيقة الإحليل، لذا انغمس النص في سرد التفاصيل العاطفية والحسية فحجب ذلك إمكانية تشخيص ( الصوتيم ) الأساس في نص عزة. فكّر الراوي طويلا في ذلك وقرر الغاء العلاقات الحسية من النص. جمع الراوي كل ما قيل عن روايته ذات ليلة فرفرت فوق قلبه عصابات الطيور الجارحة ومدت أياديها الحادة فانتزعت سكينة الأوراق المبللة بالتعب واستبد به غضب نزق فقرر هجاء النقاد بقصيدة عمودية غير عصماء، ولما نشرها انشغل النقاد بتفكيك الغامض في تشكيلها ولم يفطنوا لبناء الهجاء القصدي القابع تحت حروفها. لم ينم الرواي اسبوعا كاملا وقرر نشر الجزء الذي لم يطالب النقاد باستبعاده، وحينما جمع ما تبقى لم يكن ذلك أكثر من غلاف الرواية فقد. غامر بنشرها، وصفق النقاد للرواية الجديدة واعتبرها بعضهم فتحا روائيا وأسماها ناقد شاب رواية الصمت الفاتنة ".
ليس قارئاً عاديا هذا الذي يحاوره علي الدميني ويفرض عليه سلسلة توجيهاته الداخلية وشروط التلقي التي يفترض أن يمنحها النص المتخيّل لمجموع القراء المحتملين بتعبير آيزر. وقد يبدو ذلك التوريط الاستجوابي له، أو الإنابة عنه بمعنى أدق، محاولة لاقحامه في النص بقصد خلق التعددية لتجاوز سكونية سرديات الواقعية الكلاسيكية، كما تحلل كاترين بيلسي ذلك المنحى في قراءتها للمارسة النقدية، أو هذا ما يبدو من ظاهر السرد، فالاهتمام بالقارئ، حسب تصورها، مدعاة للارتياح لأن ذلك ينطوي على تحرر كامل له ورفض مطلق للسلطة الاستبدادية لفسح المجال أمام القراء للمشاركة بتقديم قراءات متعددة للنص، ولكن ما تشي به عبارات الدميني يدلل على محاولة احترازية لتحييد القارئ، أو طمس أي مراودة ناقدة، قد تتأتى لحظة الارتطام بانبساطية السرد، وبالتالي تأميم المعنى الذي يمكن أن ينتجه القارئ كحركة واعية باتجاه موقف الكاتب، وهو الأمر الذي يؤدي إلى تلقين القارئ ما يجب عليه تأّوله ودفعه إلى هامش المتن النصي، واضطراره إلى اجتراح قراءة فارطة في التأويل السوسيولجي، لا تحترم استقلالية النص باعتباره شكلاً جمالياً، وبالتالي تسييس المضامين بسرد قاتل للشعرية.
قد يفرض الكاتب أو النص شكلاً ما من أشكال المقروئية، ولكن يبقى القارئ هو مرجعية المعنى في النص، بل هو أساس نظامه المرجعي، كما يؤكد منظرو القارئ، فالنص الذي يقوم على الاستجواب يمزق وحدة القارئ من خلال عدم التفاعل مع الفاعل المحدد لأنا المخاطب، أما موقع الكاتب الذي يشكل جزءاً من النص إذا كان بالامكان تحديد مكانه، فيمكن مشاهدته كأداة تقوم بطرح الأسئلة أو كهيئة متناقضة بالمعنى الحرفي للكلمة، الأمر الذي يؤدي إلى ما يشبه الاعتداء الرمزي على النص، أو إخضاع مقاصده لشيء من العنف اللا مبرر عند محاولة إضفاء سمة الانسجام العقلي عليه، خصوصاً عند فصيل من الروائيين الجدد الذين لا يكفون عن محاورة القراء والنقاد لأكسابهم أرموزات وخفايا نصهم الروائي، أو المبالغة في التأكيد على ما سماه جاك لينهارت " سوسيولوجية الشكل الروائي " كدعامة تقوم عليها الرواية الحديثة.
النص يمثل آلية كسولة أو مقتصدة، بتعبير أمبرتو إيكو، وهي آلية تحيا على قيمة المعنى الزائدة التي يكون المتلقي قد أدخلها إلى النص. وبقدر ما يمضي النص من وظيفته التعليمية إلى وظيفته الجمالية فانه يترك للقارئ المبادرة التأويلية. ومن أجل أن يبني الكاتب قارئاً نموذجياً ينبغي له أن يعد بعض الحيل الدلالية والتداولية لإقامة الحد المجازي بين استخدام النص استخداماً حراً باعتباره منبهاً من منبهات التخييل وبين تأوّله كنص مفتوح، وهو الأمر الذي خالفه مظاهر اللاجامي في روايته " بين علامتي تنصيص " حين أراد إسقاط الوعي الناقد، أو إفراغ روايته من ذلك الهاجس القرائي بسجالية استباقية لا تخلو من الرهاب للتحكم في فنية ومضمونية النص نتيجة توجسه أمام قارئ ناقد تمثّل خبرات القراءة النوعية، إذ لم يأخذ في الاعتبار التنامي والتنوع التاريخي والاجتماعي، الفردي والجمعي لجمهور القراء، وبالتالي راهن على رواية تحاكي الواقع ولا تعيد تخليقه، بمعنى توليف نص متخثر لا يقود القارئ إلى بناء عالم متخيل، على اعتبار أن القراءة عملية بناء كما يقترحها تودروف.
من ذلك المنطلق الرهابي والاستخفافي بأهمية القارئ النموذجي كمنتج للنص، لم يفتح روايته على وساعات الوعي القارئ، الذي يقوم على طبيعة نشطة وخلاقة لفعل القراءة، وهو ما يفسر اصراره على تدوين النص الاجتماعي بغرغرة أيدلوجية بدون رغبة ولا قدرة ربما على تضمين ذلك السجال داخل السرد، نتيجة عدم إتقانه لفن الإخفاء المشترك للقارئ والكاتب، فكتب ما يشبه المرافعة للدفاع بشكل صريح عن بؤس سرديته متنازلاً عن معانقة الوعي الناقد " حين أنهى أمجد فصل الرواية الأول أعطى سعيداً نسخة منه، وبعد أن التقاه أخذ يحذره من نشر الرواية ، قائلا بأنك تستطيع أن تكتب أفضل من ذلك دون أن تمس تابوات المجتمع ومفاهيمه، قائلاً بأنك ستلعب بنفسك وستدخل نفسك عزلة ظلامية، إن كنت تعزني فلا تنشر هذه الرواية، فأردف أمجد عبارته قائلاً بأني سأنتحر إن دخلت هذه العزلة، ومعزتك عندي لن تتأثر... حين عجز سعيد عن اقناع أمجد ألا ينشر روايته اتجه لنقدها فنياً قائلاً انها رواية سخيفة جداً وأشبه بالمقالة، فقال أمجد، إن وجدت رواية عربية أسخف من روايتي فيحق لي أن أنشرها لأنها لن تكون أسخف رواية عربية ".
وإذا كان مظاهر اللاجامي متردداً بعض الشيء في إقصاء القارئ النوعي، والتقليل من شأنه كضمير فني، أو كسلطة ثقافية، أو حتى كضرورة ابداعية لإنتاج نص متجاوز، فإن شيخ الورّاقين كان أكثر صراحة وتهكماًً إزاء الوعي الناقد بما هو المعادل للوعي القارئ، وفي انتخاب جمهوره من القرّاء المرتهنين إلى مسارات حكائية ، معفياً نفسه ومخففاً عن قرّائه وطأة التماس مع ما يسميه تودروف " الطبقة التحتية للنص " بما هي بيان يفسر طريقة استعماله، كما تتمثل في إعادة تشكيل القصة وتأويل وبناء نسق الأفكار والقيم، وذلك في روايته " عيال الله " التي تبدو من النصوص اللا تمثيلية، فهي لا تؤدي بالقارئ إلى أي عملية بناء، حيث استهلها بطرد النقاد مؤثراً التواصل مع قارئ ضمني على درجة من البساطة المعرفية والجمالية بكلمات تعكس منسوب وعيه بنظريات الاستقبال " إلى كل النقاد ذوي النظارات السميكة في العالم. من الجيد لكم أن تخرجوا من هنا فوراً. لن تجدوا في هذا العمل ما يمكنكم أن تطبّلوا له في صفحاتكم الثقافية البائسة التي يفترشها عيال الله المساكين ويلفون فيها طعامهم. هذا العمل موجه لأولئك الذين يكدحون في الشوارع باحثين عن همومهم وآلامهم وتفضح منتهكي حياتهم. أرجو ألا يغيضكم هذا، وأعدكم أن أقدم لكم عملاً آخر أشعرن لغته، كما تحبون، وأمرر لكم فيه ما يشبع ذائقتكم الطينية المستعارة. هل تفهمون ما أعني!؟ هيا اخلعوا نظاراتكم المضحكة وامضوا من هنا. هذا خياركم الأفضل ".
ولأن الروائي يعلم أن القارئ يتوق على الدوام إلى معرفة نوع القارئ الذي يريده النص، كما يطمح إلى اكتشاف الطريقة التي يستخدمها الروائي من أجل الإستحواذ على قارئه، يتعمد في هذه العلاقة المتشابكة انتخاب قارئه أو استدماجه في استراتيجية نصه، حيث الدلالة هي ناتج التفاعل بين وعي القارئ والنص، ولكن الروائي الذي لم يستوعب سلطة القارئ المتمّثل لخبرات القراءة، لا يجعل من نصه خيطاً لا مرئياً للربط بين موضوعيته واستقبالية القارئ، بقدر ما يراهن على النص الذي يُسقط قارئه، عندما يتكئ - مثلاً - على قارئ أفرط في قراءة قصص الزنا البرجوازية، بتعبير إيكو، ويكون هذا القارئ قد أشبع مخيلته بالملهاة، حيث يفصح النص عن ميول وعي ذلك القارئ إلى الانقلاب الفجائي، وهو ما تبدى بواقعية فظّة في رواية ابراهيم بادي " حب في السعودية " إذ لم يهب النص صوراً أو أخيلة أو أي مادة قابلة للتأويل، بقدر ما زوّد القارئ بتصور ذهني أمكن من خلاله ابتناء مواقف وشخوص ووجهات نظر محدودة وناجزة كما أفصحت عن ذلك مفردات السرد، بمعنى أنه لم يتم تحرير فعل القراءة وتحفيزه على انتاج بنيات النص ودلالاته المحتملة في وعي القارئ، وإمكان تحريك عمل الناقد المستند إليه نحو ما يتجاوز النص.
في هذه الرواية لا يكتفي ابراهيم بادي بالتأكيد على ميثاق القراءة المصرّح به لتجسير العلاقة مع القارئ، بل يساومه، أو يغريه بمعنى أكثر دقة، برواية مسرودة بواسطة مؤلفين، أحدهما يقدم أجواء العمل الداخلية فيما يشبه القناع، والثاني يؤدي دور التغطية له كمؤلف ليحتويه بشكل كلي، ويمرر من خلال " الكلام " المخالف، فهو كروائي تجريبي جديد لا يكف عن مجادلة القارئ لإقناعه بفتح سردي مغاير، من خلال مؤلف مستدعى من المخيلة، ومشيد داخل مختبر معرفي جمالي، ليشد القارئ إلى روايته ويضمن اندفاعه وراء كلماته، حيث الاستجداء الصريح للقارئ، وكثرة الطرق على الجماهيرية، والتخوف من الوعي الناقد دون انتباه إلى أن القراءة فن وثيق الصلة بخبرات القارئ ومهاراته وثقافته ومواهبه " سيقولون: هذه سيرتك الذاتية. أحداث حصلت معك. إيهاب هو أنت وأنت هو ايهاب ... لست أعاني فوبيا المنافسة . ستكون روايتي الأجرأ ... ألن تحقق حياة إيهاب مبيعات خيالية وقياسية؟ ألن تحقق إقبالاً هائلاً على قراءتها ومعرفة تفاصيلها المجنونة؟ ".
جميع السرود، برأي رولان بارت، لا تمتلك ذلك الترتيب المنظم والتعليمي بامتياز، وهنا يكمن سر الشكل الفارط سردياً الذي اتخذته رواية أحمد الدويحي " المكتوب مرة أخرى " فسرده لا يستجيب للتراتبية الكرونولوجية لزمن القص المتخيّل، وكأنه يطالب قارئه بقراءة الرواية كعملية بناء، أو هكذا تبدو أناه الساردة الفاعلة المموضعة في قالب روائي معاند للنمذجة والتنميط، تخاطب القارئ الفرد، أو ما يصعّده جمالياً ومعرفياً ويسميه ( شاعري ) بشكل مباشر، طلباً للجواب الواضح والشافي، وبما هو قارئه الضمني الذي يرسم معه وبواسطته استراتيجية النص، كما يستحضر الوعي الناقد في شخصيات أسطورية كبلقيس مثلاً التي تعمل كمهماز لتعزيم السرد " قاطعتني ضاحكة : لا زال نفسك قصير فالرواية تحتاج لنفس طويل أنا تابعتك ومن المعجبات بك " ويجاوبها كقارئة " أنت تعرفين أني لا أريد رواية منشور سياسي ولا رواية فضائح وجنس وأنت سيدتي خير من يعرف أن المسافة شاسعة بين هذا العالم وذاك ".
هكذا يجادل أحمد الدويحي قارئه بسرد يبدو في حالة خام، بل هذا ما يتقصده على الأرجح ليهب نصه طبيعة حركية تشاركية، لينزاح بقارئه عن عاداته في التلقي، وعليه يعرض روايته تحت ضوء نقدي يتمثّله في قارئ نموذجي بدءاً من عنوانها " أنت تكتب المكتوب مرة أخرى " ويمررها لزرقاء اليمامة كقارئة موروطة بالنص، ومعبأة بالرؤية الاستشرافية " بعثت اليك بـ ( المكتوب مرة أخرى ) فهل وصلكِ وهل قريتيه ...؟ " فهو إذاً على دراية بأن النص، إن هو إلا حيلة تركيبية دلالية تداولية، والأهم أن تأّولها المحتمل هو الحيز الأهم من مشروعها التكويني الخاص، ولهذا السبب بالتحديد يطلق عبارته في وجه القراء/ النقاد، إحتكاماً إلى الوعي الناقد " الحكاية ليست نصاً مفتوحاً كما تريدون أن تفهموننا بل هو نص مكتوب مرة أخرى ".
أظنه بهذا التراسل المشوش يحاول زرع إشارة خفية، تشبه تلك المعتمدة في الرواية الفرنسية الجديدة، المؤسسة على علامة وحيدة بين النص المسرود وبين القارئ وهو " القراءة " ، أي الميثاق اللا مصرح به، ليقوم القارئ بعملية " حبكنة " النص طبقاً لأسس متنوعة بينه كقارئ وبين النص، بتعبير أيمن بكر، وحيث يفترض إحالة عملية السرد بصورة أساسية إلى القارئ بوصفه مبدعاً، لديه من الرغبة والقدرة على استدعاء مشاهد حضارية، أو ربما يستحضر نصوصاً سردية مستقرة في الوعي الثقافي العام، أو ربما يشير إلى أحد السرود الكبرى، ويمكن أن يكون بانفتاحه ذلك مساعداً على توجيه الوعي القارئ نحو إعادة التفكير في واقعه الثقافي/الحضاري وربما إعادة إنتاجه.
أحمد الشويخات أيضاً، يعي تماماً مقولة أمبرتو إيكو بأن " الكون السردي أقل بكثير من الكون الواقعي " ولذلك يستخرج ( المعلّم ) من روايته " نبع الرمان " ليجادله بعد إنقضاء السرد في " حكاية مسودات " بما هو المعادل للكائن العارف، أو الوعي الناقد، أي القارئ النموذجي المغروس في سياقات النص فهو كروائي يتوقع قارئاً نموذجياً قادراً على مشاركته في " تحيين " نصه بالطريقة التي اعتقدها وجسّدها سردياً، وهنا يكمن السر في تعبيره عن الخوف والتشكك بعدم قدرته على التمييز بين تأويل النص واستعماله، ففي الخيار الثاني يمكن أن يكون النص قد تعرض لشيء من العنف واللا حيادية.
من ذات المنطلق لجأ إلى حيلة ( المخطوط ) ليستدعي القارئ ويحثه على استكمال النواقص في نص روايته الذي يحوي صيغ الأمر والعظة والعلم الوثائقي والخطاب السياسي، ليضع قارئه في تماثل تام مع مجموعة من أنواع الخطابات والممارسات أو في تعارض تام مع الآخرين، فيما يبدو اقتراباً من تصورات ميشيل بوتور في بحوثه للرواية الجديدة، حين يتعلق الأمر بموضعة القارئ في مكان البطل، وحيث يتوجب أن يتم تأوينه داخل النص، بمعنى أن يحقق النص طبيعته، أي أن ينتج العلاقة الطبيعية بين مرسل ومرسل له، ويصبح النص الروائي خطاب تواصل طرفاه سارد ومسرود له يعرفان بعضهما تمام المعرفة، فالنص لا يكشف عن بناه العميقة إلا لقارئ قادر على مغامرة المشاركة.
هكذا يكتب مرافعته الإعتذارية لناسه/قرّاءئه ليستولد قارئاً نموذجياً، على ما يبدو، بمقدوره إعادة بناء مقاطع الأحداث التي فقدها كسارد، لأن القارئ النموذجي يستنجد بتجربته الحياتية أو بما تقدمه له القصص الأخرى ليكون قادراً على توقع بقية القصة " رغبت أن أكتب ( سالفة ) أو ( حدوتة ) أو ( حكاية ) بسيطة فكانت النتيجة سوالف داخل سالفة، حكايات داخل حكاية، أو العكس. رغبت أن أحتفي بمكان بين البحر والنخل فكانت النتيجة أن النص المكتوب ظل- ولا يزال - يطالب بالاحتفاء به على انفراد وبمبالغة مثيراً أسئلته المزعجة. وكان المعلم للتو - وعلى غير المعتاد بالمرة أيضا - قد استرسل في تعنيف ولومٍ قاسيين وجهه إليّ، بلا هوادة ... قال وليته لم يقل: انك تكتب نفسك لنفسك، مبيحاً لنفسك - وليس سوى نفسك - الأحكام على الناس والمجتمع والتاريخ والثقافة، ومتحدثاً نيابة عن كل ذلك. إنك مثل كثير من المثقفين، متبرم ومتحيز ومغرور وأناني جداً في أعماقك. إنك لا تختلف عن الآخرين الذين يتوهمون أنهم مختلفون ومتميزون، وينصبّون أنفسهم دعاة إلى الحق والخير والجمال والحرية. وعليك أن تبلغ قراءّك بهذا، مباشرة وبدون زخارف لفظية، إن كنت تمتلك الشجاعة الأدبية الكافية ... وأقول: معك حق يا معلّم. إما أن أبلّغ القراء فقد فعلت يا معلّم، وأرجو أن يحوز هذا كله على رضاك. فأنت جليل يا سيدي ".
كل هذه الاستدعاءات للوعي الناقد ليست مصادفات، إنما تندرج في مجملها تحت عنوان عريض يعني الوعي بسلطة القارئ، والانتباه إلى أهمية إشباع خبراته الحياتية والثقافية الآخذة في التراكم كناتج لعملية التفاعل بين النظرية السردية ونظريات الاستقبال، بدليل ذلك التنويع على تمثلات حضوره، والإصرار على التجادل معه، الأمر الذي يؤدي بشكل تلقائي إلى محاولة انتاج رواية مركبة أو سردية طليعية لتجاوز سكونية السرد التقليدي، أي " تأوين " قارئ نوعي داخل النص، يكون بالضروروة قد تمثّل خبرات القراءة داخل وخارج المتن النصي، أو هذا ما تفترضه تلك الانحيازات السردية حين يتعلق الأمر بالمؤلف والقارئ باعتبارهما استراتيجيتين نصيتين، فالقارئ النموذجي والمؤلف النموذجي في قصة ما، حسب تحليل أمبرتو إيكو للقارئ في الحكاية، ليس هو القارئ الفعلي. إن القارئ الفعلي هو أي كان، نحن جميعاً، أنت وأنا ونحن نقرأ النص، فهذا القارئ قد يقرأ بطرق مختلفة وعادة ما يتخذ من النص وعاء لأهوائه الخاصة وهي أهواء مصدرها عالم آخر غير عالم النص، ولا يقوم النص سوى باستثارتها بشكل عرضي.
إذاً، يتوق القارئ إلى معرفة أي نوع من القراء يريد النص، كما يطمح إلى اكتشاف الطريقة التي يستعملها المؤلف النموذجي من جل تسريب معلوماته، إذا ما أتيحت له فرصة التهوام في غابة السرد، وفي النهاية ينجح معظم القراء في الوصول إلى ممارسة يسميها سلاتوف القراءة الجيدة مهما استزرع الروائي من علامات مضللة، لأنهم يفعلون ذلك من خلال رفضهم لتلك القراءات غير المناسبة بالفعل وذلك تعاطفاً مع أو تقرباً مما يظهر أخيراً على انه هدف الكاتب الضمني أو الوجود الانساني في العمل الأدبي، وعليه فإن لحظة الذروة في القصة، بما هي لحظة فهم الأحداث تكمن في تشاطر المعنى في النص بين الروائي كمرسل، والقارئ كمرسل إليه، والذي ينبع من آلية استطرادية غامضة بشكل استثنائي، وليس من محاولات الإفهام والإغواء، أو توريط السرد في بنى على درجة من التعقيد، فالقارئ مدعو لفهم حقيقة النص والحكم عليه، ليقوم باختيارات معقولة داخل السرد، فأن نقرأ كما نريد، حسب نظام ستيرل يعارضه أن نقرأ كما يريد النص، وعلى هذا الأساس تكون محاولات تأوين القارئ عاملاً مركّباً لنشوء الرواية.
الورقة المقدمة في ملتقى " الرواية وتحولات الحياة "