منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    مقاربة تناصية في رواية أحمد توفيق

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    مقاربة تناصية في رواية أحمد توفيق Empty مقاربة تناصية في رواية أحمد توفيق

    مُساهمة   الجمعة فبراير 26, 2010 11:42 am


    مقاربة تناصية في رواية أحمد توفيق

    تندرج رواية (جارات أبي موسى) لأحمد توفيق ضمن التخييل التاريخي والتخييل الصوفي؛ لأنها تستعرض تناصيا تاريخ بني مرين ولاسيما فترتي أبي الحسن المريني وابنه أبي عنان، وتنفتح بصفة عامة على تاريخ المغرب في العصر الوسيط الذي يشكل سياقها التناصي.
    ويتسم العصر المريني بالإحن والحروب والهزائم والصراعات الداخلية والخارجية. وفي هذه الفترة، اشتد بالخصوص الصراع بين الموحدين والمرينيين، ووقعت معركة العقاب التي انهزم فيها المغاربة أمام الإسبان في الأندلس.

    وبدأ الاضمحلال العربي في الأندلس ينذر بالسقوط المبكر مع تحالف الجيوش المسيحية فيما بينها لاسترجاع الأندلس. وقد فشل أبو الحسن في توسيع إمبراطوريته المغاربية بعد هزيمته في الانتصار على الأعراب في تونس، وضاع أسطوله غرقا في البحر، وتفشى الفساد في بلده المغرب وعاصمته تامسنا ومدينته الاستراتيجية شالة (سلا) التي تجري فيها أحداث الرواية.

    وأمام تفشي المحن والمنكرات والفساد بكل أنواعه وتعاظم الاستبداد في الدولة المرينية ظهر الخطاب الصوفي أو المناقبي، وتكاثرت الجماعات الطرقية كرد فعل على هذا العصر الموبوء بالتسلط والظلم والاعتساف وغطرسة السلطان وأعوانه. وبرز رجال صوفية ومجاذيب وأولياء صالحون على هامش المجتمع رافضين الواقع السائد، لاجئين إلى العزلة والخلوة الصوفية، منتقدين المجتمع المتردي وغير مبالين بالانصياع لمواضعاته المختلة ومقاييسه الجائرة، باحثين عن واقع ممكن يتمثل في التغيير الذاتي والنفسي؛ لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وكل هذا المعطى التاريخي والصوفي شكل إطار الرواية وسياقها التناصي الخارجي، بالإضافة إلى كتابات أحمد توفيق التاريخية عن العصر الوسيط وتحقيقاته لكتب التصوف جعلت الكاتب الروائي بطريقة شعورية أو غير شعورية يخضع لهذه المؤثرات التناصية بشكل أو بآخر.

    وتتفرع رواية (جارات أبي موسى) إلى عدة قصص فرعية يتحكم فيها قانون التضمين والتناسل السردي وتفريع الحبكة السردية الكبرى إلى قصص نووية كبرى وصغرى لتعضيد المحكي وتنويره: توضيحا وتفسيرا. ومن هذه القصص نجد: قصة شامة وقصة أبي موسى وقصة ملالة وقصة كبيرة وقصة رقوش وقصة خوليا بنت بدرو وقصة مماس وقصة إجا وقصة بيا؛ إلا أن قصة أبي موسى وقصة شامة هما القصتان الرئيسيتان في الرواية. وتحيل القصة الأولى على ما هو تاريخي وتحيل القصة الثانية على ماهو صوفي. وتتقاطع القصتان في آخر الرواية عندما ترحل شامة إلى فندق التجار بسلا مع زوجها الإسباني الذي أسلم عندما قصد المغرب لتزيين معمارية المساجد والمدارس المرينية الدالة على حضارتهم الزاهية. وفي هذا الفندق، يسكن أبو موسى الرجل الصوفي الذي كان جارا وفيا ومخلصا وأمينا لمجموعة من الشخصيات الأنثوية التي غدر بهن المجتمع الظالم.
    هذا، وإن شامة شخصية رئيسية في الرواية جميلة الحسن، طيبة الأخلاق والخلقة، ذكية وذات خبرة في الحياة والتدبير المنزلي، وتمتلك الكفاءة والقدرة في التعامل مع الآخرين. وهذه الشخصية باسم علمها تذكرنا تناصيا بشخصية مماثلة في رواية سيف بن ذي يزن كانت حسناء في غاية الحسن والبهاء هي التي سيظفر بها البطل ذو يزن حسب مرويات الأسطورة. وكانت شامة الرواية خادمة في سلا عند قاضي المدينة الورع قاضي القضاة ابن الحفيد الذي رباها أحسن تربية، وبعد ذلك تزوجها قاضي السلطان الجورائي. وقد ارتحلت شامة مع بعلها إلى فاس، وكادت أن تتعرض للموت سما بسبب مكيدة الزوجة الأولى للجورائي لولا تدخل الطبيب اليهودي الذي أنقذها من أنياب المنية المحتومة. لكن هذا القاضي كان يعاني من العجز الجنسي؛ لذلك بقيت شامة بكرا عذراء. ولما عادت شامة من سفرها مع حاشية السلطان ضمن الأسطول البحري العسكري لتوسيع مملكة المغرب بعد وفاة زوجها غرقا في البحر، أصبحت خليلة زوجة السلطان التي استصحبتها في زيارتها للربوع المقدسة قصد أداء فريضة الحج. ومع وفاة زوجة السلطان بعد رجوعها من الحج، أعيدت شامة إلى منزل القاضي ابن الحفيد حيث تزوجت عليا، وقد كان نصرانيا ثم أعلن إسلامه. لكن القاضي ابن الحفيد وشامة وزوجها علي سيعانون كثيرا من دسائس عامل السلطان بسلا (جرمون) المقيت الذي عاث في الأرض جرما وفسادا طمعا في شامة الحسن وأموالها، ورغبة في الانتقام من قاضي القضاة الذي كان أكثر منه علما وفضلا وتقربا من السلطنة. وسيفرض جرمون على أهل سلا مكوسا ظالمة إرضاء للسلطان، وسيخنق تجارها بكثرة الضرائب والتصفيات والعقوبات السجنية، وممارسة لغة البص والمخابرات قصد التحكم في رقاب قاطني فندق الزيت على غرار بصاصي رواية الزيني بركات لجمال الغيطاني. وقد توالت سنوات عجاف بسبب الجفاف والاستبداد وظلم الرعية والحكام، وأثر كل هذا على نساء الفندق التي دفعت بهن الظروف إلى الفقر والتسول والبغاء وارتكاب الذنوب والمعاصي. ولم ترتح شامة لأحد سوى رجل الخلوة والصمت والعزلة أبي موسى الذي كان يغادر الفندق متجها نحو البحر مستطلعا الوجه الرباني وجماله السرمدي. وهنا إشارة تناصية مهمة عندما نستحضر شخصية علي وهو يصاحب أبا موسى إلى خلوته الروحية الطاهرة قرب البحر، ولكنه لم يستطع أن يسايره حتى اللحظات المناقبية الأخيرة على غرار النبي موسى الذي عجز عن مصاحبة الولي الصالح الخضر بسبب الكرامات الخارقة التي لم يفهمها موسى بسبب ظاهريته وباطنية الخضر. وقد تحدث القرآن وكتب التفسير كثيرا عن ذلك. وقد انتشرت بركات الولي أبي موسى في مدينة سلا حيث عد فيها مجذوبا عند البعض، ومن البهاليل المجانين عند البعض الآخر؛ إذ رآه الناس في الحج يؤدي معهم مناسك الحج، وأصبح لا ينقطع عن استشراف وجه البحر وصيد خيراته وشكر الله على نعمه الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى.
    وعندما عظم البلاء بالبلد بسبب الفساد وكثرة المناكر وتوالي سنوات الجفاف حتى أصبح الموت ينذر بمخالبه الرعية والذين يسوسونهم من الطغاة والبغاة والمعتسفين وأهالي الشطط والغلط لم يجد عامل السلطان جرمون مسلكا آخر بعد أن فشل الأئمة في أداء صلاة الاستسقاء واستدرار المطر واستجلاب القطر إلا أن يستغيث بأبي موسى الولي الصالح، وأجبره على أن يؤم بالمصلين يوم الجمعة. ولما رفض أبو موسى الانصياع لأوامره، زج به في السجن على الرغم من أنه كان بعيدا دائما عن الاختلاط بالناس وعدم التقرب من الحكام والساسة منعزلا عن الجميع. ولما علم الناس بأمره ذهبوا إليه في السجن، واستعطفوه كثيرا، فوافقهم على فعل ما يبتغيه منه عامل السلطان. لكن أبا موسى جمع كل بغايا فندق الزيت ونسائه، وخرج بهن يوم الخميس - لا يوم الجمعة - فأثار فضول الناس الذين استغربوا شأنه وفعله غير المعتاد. وعندما وصل أبو موسى إلى المصلى بدأ في التضرع والتوسل والتذلل إلى الله، وبدأت دموع التوبة والمغفرة تنساب من عيون جارات أبي موسى حارة تتقد حسرة وألما واستعطافا. وقد دفع هذا المشهد الإنساني الحاضرين إلى إعلان توبتهم ورغبتهم في التغيير والتخلص من أدران الظلم والمناكر. ولم تنته صلاة الاستسقاء حتى أنزل عليهم الله في الليل غيثا نافعا سر به الناس كثيرا. ولما أراد جرمون وأعوانه محاسبة الولي الصالح على فعلته، وأرادوا تفقده، وجدوا رجل الكرامات أبا موسى قد افترش مثواه الأخير. فـ "حمل أبو موسى إلى الجامع الأعظم للصلاة عليه، وقرر ملأ المدينة أن ينتظروا صلاة العصر حتى يشيع الخبر في المدينة، ويكفي الوقت لكل من يريد أن يحضر تلك الصلاة. غصت جنبات الجامع الأعظم وساحته والأزقة المجاورة له بالمصلين، وتصدر لإسماع البعداء عشرات المسمعين. وكانت صلاة خشوع وسكون لم يسمع فيها إلا ما تساقط من جري دموع المآقي وما غلب رجالا أشداء ونساء رقيقات العواطف من عصي النحيب، وقال قائل: سبحانه! سبحانه! بعودة الغيث عاد الدمع إلى العيون. وبعد الصلاة تزاور الناس من جديد وتراحموا وتسامحوا وعجبوا لما تجلى لهم من الكرامات... وقالت شامة: لا تدفنوه بأي من المقبرتين، ادفنوه في مكان يطل على البحر" (الرواية، ص:192، ط2، 2000، مطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء).
    وهنا، يحضر البحر بمثابة رمز صوفي للتغيير والتطهير والإحالة صوفيا إلى الحضرة الربانية الجليلة المخلصة للبشر من آثامهم وذنوبهم. ويذكرنا البحر كذلك بقصة موسى والخضر الذي كان ينتظر نبي الله عند مشارف البحر، وتمت الصحبة بينهما والبحر حاضر بشهادته وتجلياته العرفانية.

    إن هذه الرواية ذات طبيعة تراثية تتقاطع تناصيا مع روايات جمال الغيطاني (الزيني بركات)، وروايات بنسالم حميش لاسيما روايتيه (مجنون الحكم والعلامة)، كما تتقاطع صوفيا مع مجموعة من النصوص الروائية الصوفية كرواية نجيب محفوظ (اللص والكلاب)، ونصوص الروائي والقصاص السوداني طيب صالح كـ (دومة ولد حامد)، ونصوص جمال الغيطاني وخاصة (كتاب التجليات)، ونص الكاتب الجزائري (الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي)...

    ويشتغل أحمد توفيق على العصر الوسيط المغربي من حيث التخييل وفي إطار صوفي، بينما بنسالم حميش اختار نفس السياق التناصي التاريخي؛ ولكنه اشتغل على شخصية تاريخية متخيلة ألا وهي ابن خلدون، وهي شخصية مغاربية في روايته (العلامة)، أما في روايته (مجنون الحكم) فقد اشتغل على شخصية تاريخية وسيطية ألا وهي شخصية الحاكم بأمر الله الفاطمي. وإذا كان حميش يركز على المتناص التاريخي الوسيطي، فإن أحمد توفيق يرتكز على المتناص الصوفي الوسيطي في قالب تاريخي. ويتفق تناصيا كل من أحمد توفيق وبنسالم حميش (في العلامة بالخصوص) في الانطلاق من السياق المرجعي التاريخي الذي يشكل المعرفة الخلفية التناصية لهما ألا وهو تاريخ الدولة المرينية بكل أحداثها الإيجابية والسلبية.

    وإذا انتقلنا إلى اللغة التي يستعملها أحمد توفيق فهي لغة تراثية تعتمد على مستنسخات تناصية كالمستنسخ الصوفي/ المناقبي (شخصية أبي موسى المماثلة للشخصيات الصوفية القديمة ذات الكرامات الخارقة...) والمستنسخ الديني (استلهام القرآن والسنة) والمستنسخ التاريخي (تاريخ بني مرين)، والمستنسخ الرسمي السياسي (الرسائل الديوانية والآداب السلطانية...)، والمستنسخ الأدبي (الاستشهاد بالأبيات الشعرية)، والمستنسخ الواقعي (تماثل واقع بني مرين مع واقعنا الموبوء بالفساد)، والمستنسخ الأسطوري (كرامات أبي موسى ومعجزاته الخارقة)، والمستنسخ السردي (توظيف تقنيات سردية كالتضمين والانشطار السردي كتقطيع الحبكة الرئيسية إلى قصص نووية صغرى كألف ليلة وليلة ونصوص التيار الروائي الجديد، واستعمال اللغة التراثية للتأصيل والتجريب)، والمستنسخ اللغوي القائم على اللغة المسكوكة والعبارات المناقبية وألفاظ الزهاد والخطابات السياسية القديمة التي لم تعد تستعمل اليوم بهذه الشاكلة والديباجة التراثية، ويحضر كذلك مستنسخ السخرية في عرض الكرامة الصوفية وإيجاد الحلول الفردية الخارقة التي تتخطى نطاق العقل والواقع الحسي المفهوم. وتتوارد هذه المستنسخات التناصية كذلك في روايات بنسالم حميش وجمال الغيطاني ورواية (جنوب الروح) لمحمد الأشعري وفي معظم النصوص السردية التجريبية الحديثة. والغرض من هذا التوظيف التناصي هو إبراز مدى انفتاح أحمد توفيق على السرد العربي والغربي والاطلاع عليهما بشكل واع على الرغم من كونه أتى الرواية من حقل التاريخ كما أتاها حميش من حقل الفلسفة، وجمال الغيطاني من حقل الصحافة. كما يراد من هذا التناص التعالقي محاورة الحاضر على أساس الماضي لأخذ العبر والدروس، ووظف التناص كذلك لغاية جمالية وفنية تتمثل في تجاوز الرواية التجريبية نحو الرواية التأصيلية ذات المنحى التراثي، كما كان الغرض منها خلق الفرادة السردية والتميز الروائي بين الروائيين المغاربة.

    ونستنتج من خلال هذا العرض الوجيز، أن رواية (جارات أبي موسى) لأحمد توفيق رواية تراثية تشتغل على التخييلين: التاريخي والصوفي/ المناقبي، وأن المستنسخات التناصية الموظفة بطريقة واعية أو غير واعية إنما الغرض منها تأسيس رواية تأصيلية جديدة قوامها: محاورة الحاضر من خلال الماضي، وتلقيح اللغة المرسلة المعاصرة باللغة التراثية المسكوكة، وتهجينها بالسخرية والتهكم والباروديا قصد تبليغ الأطروحة البديلة لتغيير الواقع والتطلع به نحو آفاق يسمو فيها الإنسان والمجتمع البشري.

    د. جميل حمداوي عمرو / المغرب
    jamilhamdaoui@yahoo.fr

      الوقت/التاريخ الآن هو الأربعاء مايو 08, 2024 6:00 am