منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    . التلقي والتأثير:

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    . التلقي والتأثير: Empty . التلقي والتأثير:

    مُساهمة   الثلاثاء مارس 16, 2010 11:42 am


    5. التلقي والتأثير:
    إنّ البحث عن التلقي في الدرس النقدي التقليدي، ينتهي عند إشارات بسيطة لا تشكل قاعدة يمكن أن نرسي عليها تصوراً واضحاً لهذا الطرف من المعادلة خاصة وأنّ تاريخ الأدب ظلّ مقصوراً على المؤلِّفين والمؤلَّفات دون أن يأخذ في اعتباره وقعها في الجمهور القارئ، الشيء الذي أسدل ستاراً على القارئ من جهة وعلى الوقع الناتج لديه أثناء وبعد الفعل القرائي من جهة أخرى. رغم أنّ البحوث الاجتماعية في تفرعاتها المختلفة أخذت تلامس أطراف المشكلة بعد اقترانها بفروع علم النفس. ولم تقدّم المقاربة السوسيولوجية إلاّ وجهاً من وجوه التأثير الاجتماعي للآثار في إطار شبكة التواصل الفني عموماً، وهي تفكك شبكة التواصل القائمة على ثلاثية: الكاتب، الناشر، القارئ. وما يسجّل لسوسيولوجيا الأدب هو التفاتها إلى شبكة القنوات القائمة بين الأطراف الثلاثة تأثراً وتأثيراً، فلم يكن رصدها للوقع إلاّ من زاوية استثماره: إمكانية محفّزة للكاتب والناشر على المضي في طريق ما. أما بلوغ المنحى الجمالي فيه فلم يكن أبداً من مشاغلها الأساسية، حتى وإن استفادت منه في تدعيم بعض وجهات نظرها.
    لذا يعتبر "راينر فارنينغ" جمالية "ياوس"، تأسيساً جديداً من وجهة تاريخية وتجاوزاً نوعياً للتلقي التقليدي الذي يكرس المعايير السائدة المتحكمة في الإنتاج الأدبي، وفي تلقيه على حدّ سواء، لأن التلقي عند "ياوس" يزعزع تلك القواعد ويسلبها سلطتها، ويجعلها في قبضة القارئ تتأرجح بين موقفين: ما قبل التلقي وما بعده، فتنفتح على التجدد والتبدل وتكسب الآثار إمكانية إقامة مقاييس جديدة لا تتسم بالثبات بقدر ما تتّشح بالنسبية كإمكانيات التخطي والتجاوز.
    لم ينشأ الاعتقاد عند "ياوس"، من نظرة ضيقة، بل من ثقافة واسعة، تعززها المعرفة الفيلولوجية التي عرفت بها المدارس الألمانية المتّتبعة لتاريخ اللغة وآدابها من أصولها إلى الوقت الراهن، والمعاشرة الحميمة للأداب، وقد اتسمت طريقته في التأليف منحى حوارياً لا يسلم بالوجود بل يجادل في أنساق مفتوحة على الآخرين للاستفادة، وقد يمتد حواره إلى ذاته، فيأخذ ويعدل ويحور مستنداً إلى مرجعية فلسفية أخذت على عاتقها مراجع الأسس المعرفية، وفي مقدمتها الفينومينولوجيا كما رسمها "هوسرل" و "إنكاردن" و "ريكور" والهيجلية والماركسية من خلال "بنجمين" و "لوكاتش" و "غولدمان" و "أدورنو" و "هبرماس" والشكلانية: مدرسة براغ من خلال "موكاروفسكي" و "فوديكا" وبنيوية "لفي شتراوس" و "بارت" والنقد الجديد.(42).
    لقد شكلت مرجعية "ياوس" خلفية فكرية ثرية مكنته من مراجعة المواقف الأدبية فيما حققته في سيرورتها، وفي الإمكانيات الكامنة وراءها، إنْ هي راجعت نفسها، ونسقت بين تخصصاتها، وما دامت الفينومينولوجيا تفحص الأسس، والماركسية تراقب الواقع، والبنيويات تصف أشكال الفن، فإنّ الحقول تتاخم وتفضي إلى بعضها بعض. وعندها يمكن تدارك الفائت في كلّ منها. هذه المرجعية التي انبثق عنها فهم "ياوس" للتلقي، ومنها كانت مطالبته بكتابة تاريخ للتلقي، يضارع تاريخ الأدب ويكمّله، ما دام وجوب الأدب لا يتحقق فعلياً إلاّ من خلال القراءة. فالحديث عنه بعيداً عن شرط تحققه، يجعله ضرباً من التاريخ الناقص الذي بدا وكأنه فقد فاعليته وجاذبيته.
    وأعمال "ياوس" تدعو: "إلى تحويل نقطة الارتكاز في الاهتمام التاريخي، فتجديد موضوعات جديدة وتحمّل مسؤولية متزايدة، يجد التاريخ نفسه مؤهلاً لرفع تحدّ خصب في وجه "النظرية الأدبية". تحدّ لا يتّجه تأثيره إلى التشكيك في مشروعية "النظرية الأدبية" بل إلى دعوتها إلى إعادة الاضطلاع بالبعد التاريخي للّغة والتأليف الأدبي، وذلك بعد سنوات بدا فيها وكأنّ المقاربة البنيوية قد ضمنت ضرورة التخلّي عن البعد الزّمني"(43).
    ومن جملة هذه المرتكزات تظهر قيمة السؤال الذي يطرحه "ياوس" كيف نجعل القارئ موضوعاً لدراسة ملموسة وموضوعية؟ إذا اقتنعنا أن القارئ هو الذي يقبل أو يرفض أو يعارض مؤلفاً ما. سواء قام بذلك كلّه مرّة واحدة أو بكل دور على حدة(44).
    وكان على هذه الدراسة أن تتأطر بجملة من المفاهيم، تسهّل تفكيك عملية التلقي وإدراك عناصرها الفاعلة. تعهّدها "ياوس" بالإثراء والإضافة، مستفيداً من مناقشات معارضيه وحججهم، حتى باتت مفاهيمه الأساسية مرتكزات لكل البحوث في جمالية التلقي.
    لقد حدّد القارئ بين أفقين للانتظار، أفق سابق، يكون عليه المتلقي قبل التقائه بالنّص، ويشكل جملة الاقتناعات التي ترسبت بفعل القراءات المتعددة، والتي يحيل عليها القارئ ما يقرأ، فتكون مرجعيته الأساسية، وتنسج قيمه ومعاييره الشخصية. إلاّ أنها دوماً عرضة للتحول والتبدّل بفعل كل جديد يشكك في اقتناعاتها ومقاييسها، وهو ما أسماه "بارت" بالنصوص السابقة التي تقرأ النصّ الجديد أما الانتظار الثاني وهو عامل ناتج عن تمازج النصّ بالقارئ أثناء القراءة إذ تعتري الأفق السابق مخالطة قد توافقه أو تخيب آماله، ويركز "ياوس" على عامل التخييب الذي من شأنه زحزحة الموروث وتطعيمه أو تحويله وتبديله، وخلق أفق جديد يخلفه فيتيح للنص سبل تقديم معايير جديدة تتجاوز السائد.
    ومن هناك كانت حاجة "إيزر" إلى اعتبار النص "علامة ملموسة" تنشعب إلى قطبين: قطب "فني" يمثله المؤلف، وقطب "جمالي" يمثله القارئ المدرك، ولا يتحقق العمل الأدبي إلاّ نتيجة التفاعل بين القطبين، ويقرّ "ياوس" صعوبة وصف هذا التفاعل لأننا لا نتوفر إلاّ على الشيء اليسير من ميكانيزماته.
    ووسع "ياوس" المفهوم حين اعتبر: "أنّ الأثر الأدبي يتجه إلى قارئ مدرك، تعود التعامل مع الآثار الجمالية، وتكيف مع التقاليد التعبيرية فيها، فكان أفق الانتظار عنده، يتجسم في تلك العلامات والدعوات والإشارات، التي تفرض استعداداً مسبقاً لدى الجمهور المتلقي للأثر وأنّ أفق الانتظار على هذه الصفة يحيا في ذهن الأديب أثناء الكتابة، ويؤثر في انشائه أيما تأثير، ولقد يختار الكاتب بعمله أن يرضي انتظار القراء فيسايرهم فيما ينتظرون، مثلما يختار جعل الانتظار يخيب"(45).
    إنّ مثل هذه الخطوة المنهجية عند "ياوس" ساعدته على تأسيس مفهوم آخر له فاعليته في قياس الواقع الناتج لعمليات التفاعل بين النص وقارئه، وأطلق عليه اسم "المسافة الجمالية" وهو يريد منها: أن تعبر عن البعد القائم بين الأثر الأدبي وأفق انتظاره، ويقاس انطلاقاً من ردود أفعال القراء إزاء النص المقروء، وعليه تكون الأعمال المسايرة لآفاق القراء أعمالاً عادية تكرّر ما ساد قبلها، وتفقد شعلة الإثارة فيها، وتقصر مسافاتها الجمالية أما الأخرى التي تسعى إلى تخييب الانتظار -وإن تتعرض غالباً للرفض- فإنّها تحيا- في حين تفلح في خلق جمهورها الخاص بها. وقد سجل تاريخ الأدب طائفة من الأعمال لم تجد إبّان ظهورها قارئاً، ولكنها لاقت رواجاً واسعاً في فترات لاحقة بعد ذاك.
    كما أنّنا واجدون من بين مفاهيم "ياوس" الخاصة بالتفاعل بين النص والقارئ تمييزاً واضحاً بين التأثير والتلقي، من حيث كون الأول مشروطاً بالنص، والثاني بالقارئ كعنصر تكويني ينضاف إلى خبرات القارئ السابقة، ويساهم في تكوين تقاليده الجمالية. ولم يسلم تمييز "ياوس" من النقد إذ أنَّ الجدل الذي يثيره التأثير والتلقي، يطرح من زاوية: ما قبل التواصل، وما بعده، وعلى هذا الأساس يعترض "إيبرهارت لمرّت" "EBERHARDT LAMMERT" على تمييز "ياوس" إذا المسبب للتأثير عنده هو إلقاء النص والتلقي عنه(46) كما عاب "هويرمان" “HEURMAN” و "هون" “HUHN” و "روتجر" "ROTTGER" على "ياوس" التمييز بين تلقّ وتأثير: "بدعوى أنّه لم يقدم تفسيراً لكيفية عمل العنصرين معاً أثناء فعل القراءة ولا كيف يمكن الفصل بينهما تماماً أثناء تحليل التلقي (التلقي يرمز إلى عملية القراءة، والتأثير يرمز إلى نتيجتها قبل كل شيء) وقد دفعت مؤاخذتهم هذه لـ "ياوس" بعجلة البحث إلى الأمام ما دامت قد سمحت بالتمييز بين هذين المصطلحين من حيث المفهوم وكذا بالاستمرار في استعمالهما"(47) وسيكون من باب التبسيط اعتبار التلقي تحقيقاً للنص من طرف القارئ عند استنطاق شبكاته العلامية، واعتبار التأثير هو مجموع وجهات النظر التي تستمر إلى ما بعد التلقي القائم.
    ولو وقفنا مع "كونتر جريم" عند حدود مصطلح التلقي في "معجم علم الأدب" لأورليش كلاين “ULRICH KLEIN” والذي يعرفه بما يلي: "يفهم من التلقي الأدبي (بمعناه الضيق) الاستقبال (إعادة الانتاج، التكييف، الإستيعاب، التقييم النقدي) لمنتوج أدبي أو لعناصره بإدماجه في علاقات أوسع أو بغير ذلك... ويمكن أن يحدث التلقي هنا عفوياً أو تفاعلياً أو تكييفياً سواء بطريقة نقدية أو بسذاجة. ويُصنف التلقي في تلق أولي وآخر ثانوي. الأولي يعني تلقي قارئ أول، والثانوي يعني التلقي الذي يخضع لتأويل سابق"(48). ويشمل تعريف "أولريش كلاين" عملية التلقي من طور الاستقبال المباشر كما تحدّده المعرفة الحدسية لدى المدرسة الجشطالتية، إلى المداخلة الواعية المشحونة بالمعرفة، والتي تمكن من التحليل والمقاربة والتأويل. وعليه يمكننا الحديث عن مستويات للتلقي تقابل مستويات المعرفة، كما صاغها "حميد احميداني" في جدوله السابق، الشيء الذي يمكننا في فهم إلحاح "كندر" “KINDER” و "فيبر" “WEBER” على فهم التلقي كتصرف موجه بالإدراك و "التأثير" كرمز إلى علاقات سببية، إذ أن جملة "لا تأثير بدون تلقّ" لا تقبل أن تعكس ما دامت التأثيرات تحدث من جرّاء التلقيات المُدركة، مما يتيح مجالاً واسعاً أمام "المقاصد" الكامنة وراء الموضوع وطبيعته: فيكون التأثير وصفاً لحالة القارئ الناتجة عن مسببات يبحث عنها في النصّ وفي ذات القارئ على السواء.(49). ويوسع الباحثان آفاق التأثير إلى: "الناتج العام لعملية التلقي بما في ذلك السلوك الممكن الذي ينتج عن ذلك التلقي، أي ليست فقط ردود الفعل العفوية النفسية أو الجسدية الممكنة ولكن كذلك ناتج السلوك المقصود للقارئ"(50).
    إنّ التعارض القائم بين التلقي والتأثير، والتمييز بينهما لدى الباحثين، وتأكيد دور التلقي كفعالية منتجة تستوعب وتكيّف وتقيّم وتحاور وتفكر، يقوم على مخاوف سجلها "شوبنهاور" "حول القراءة والكتب" والتي أبرز فيها الوجه السلبي للتلقي كاستقبال محض إذ يقول: "متى قرأنا فإنّ شخصاً آخر يفكّر لنا: نحن نعيد فقط سيرورته الفكرية، وذلك مثلما يتتبّع التلميذ بريشته -أثناء تعلم الكتابة- الخطوط التي رسمها له المعلم بقلم الرصّاص وتبعاً لذلك، فإننا نكون أثناء القراءة محرومين من ممارسة التفكير إلى حدّ بعيد ولذلك، فإننا نحسّ بارتياح نسبي حين تأتي القراءة بعد فترة نكون تعاملنا فيها مع أفكارنا الشخصية، ولكن رأسنا لا يكون أثناء القراءة إلاّ مسرحاً لأفكار غريبة عنّا، وكذلك فإنّ من يقرأ كثيراً أو ربّما يقرأ طوال نهاره ثم يقضي بين القراءة والقراءة وقتاً خالياً من التفكير يفقد شيئاً فشيئاً كفاءة التفكير نفسها. وهذا تماماً مثل ذلك المرء الذي يقضي كل وقته في ركوب الخيل، فيفقد في نهاية المطاف المعرفة بالمشي"(51). فالاستقبال المتواتر للنصوص يقوم على حساب ملكة التفكير المعطلة أما إضافة "أولريش كلاين" للاستيعاب والتكيّف والتقييم، فهي إضافة لشرط الحوارية المتبادلة بين النص والقارئ، ولا يمكن لها أن تكون إلاّ واعية مفكرة مدركة في ذات الآن. وعلى جملتها يترتب ناتج القراءة في تعديل أو تحوير الأفق الانتظاري عند القارئ.
    ويمكن تمييز الأثر عن التلقي - حسب "ياوس"- عند اعتبار عامل الزمن فيكون الأثر الذي ينتجه العمل الأدبي بالظرف الذي ولد فيه، والذي شمله بجملة من المعطيات المؤثرة في نشأته وتكوينه: فهو يرتبط بذلك الماضي ويلازمه، ويأخذ منه قدرته إلى إحداث الأثر. أما التلقي فيكون حركة حرّة منطلقة تتخطى عامل الزّمن الماضي وتدخل في حوار مع الحاضر (حاضر القراءة) من خلال جملة من المعايير الجديدة التي قد تختلف عن تلك التي ولد فيها وفي كنفها النص الأدبي. فيكون التلقي مساءلة للنّص في زمن غير زمنه، ومن خلال قيم غير قيمه. وتفكيك هذا التمييز -عند "ياوس"- لا يتم إلا من نظرة تاريخية واعية تترسّم منحنيات التبدل والتغيّر التي تطرأ على التلقيات في مختلف مستوياتها الساذجة والنافذة. لأن مثل هذا النّص: "قد سوئل منذ البداية من طرف قرّائه الأوائل، وحمل إليهم جواباً قبلوه أو رفضوه، ولا تنحصر آثار القبول بالنسبة للمؤلفات الخالدة في تقريظ المعاصرين لها. فالبقاء في حدّ ذاته مؤشر لحسن الاستقبال إنّ قرّاء آخرين يضعون -ضمن سياق تاريخي- أسئلة جديدة لغرض الحصول على معنى جديد في الجواب الأول الذي لم يعد يشفي غليلهم. وهكذا يتصرف المتلقي في المؤلفات، يعدّل دلالتها ويوفّر بصورة تدريجية -بالنسبة للقارئ الذي لم يعد يتقبل الجواب المقدم من طرف المؤلف الجاهز- فرصة إنتاج مؤلف يقدم جواباً تام الجدّة في الموضوع نفسه. إنّ تبادل الأسئلة والأجوبة المسجلة في المؤلفات المتعاقبة يكون في مجمله التام التصور الجواب الذي يقدّمه الماضي لسؤال المؤرّخ"(52).
    والتلقي على هذه الصورة -قد استفاد من جملة التلقيات السابقة، والتي تغذيه باستمراره وتوجهه- أمّا الأثر فمقصور على الصورة التي وقف عندها النص عند نشأته فأضحى شيئاً ساكناً في الماضي يحفظ في ذاته نهاية ما تجمع فيه من تلقيات قبله. إلاّ أنّ مساءلته أثناء القراءة تغتني دوماً بما يتحقق من جديد، لا بما هو كائن كامن فيه لذلك يعلن "جورج كدامير" “HANS GEORG KADAMER” أن نظرية التلقي: "لم تعد تنطلق من تأثير المقصود كما كان الشأن بالنسبة لنظرية الأدب البلاغية والتأويلية بحيث تنبني النظرية الجديدة على تلقيات النص التي تحققت، وتبحث في الجانب العلائق بين هذه التلقيات وبين النص"(53).
    وما يعمق الفارق بين التأثير والتلقي، كون هذا الأخير، يخضع لمستويات مختلفة في تصنيف الفاعلين من جهة، وفي جملة الشروط المصاحبة للفعل القرائي من جهة أخرى، من عوامل داخلية وخارجية تؤطر القراءة وتوجهها، على مستوى الذات الواحدة قبل تعدّد القراء. إن الشروط الخارجية (من زمان ومكان، ووضعية فعل التواصل) تكوّن التلقي، وتصبغه بصبغتها، فتتيح له في حال مالا تتيحه له في حال آخر مع نفس النص وعين القارئ. أمّا الشروط الداخلية من (بيولوجية وسيكولوجية أخرى تتعلق بوضعية المستقبل اجتماعياً. فلا تسمح بضبط التّلقي إلاّ بالنسبية والتعدّد: وعلى هذا الأساس فإنّه: "لا يمكن أبداً أن يكون هناك تطابق بين النّص الذي يُنتج، وبين النص حين يخضع لتلقّ ما. وذلك نظراً لتباين ظروف عملية التواصل هذه، إضافة إلى أن اتساع الفارق الزمني بين نشأة النص، وبين تلقيه يزيد من الفارق التواصلي"(54).
    وأمام خطورة هذه الملاحظة يرى "كونتر جريم" أن نتريث في تسمية النص "بالموضوع الجمالي" قبل التلقي، لأن هذه الصفة لن تلحقه إلاّ بعد التلقي وكنتيجة له.
    وأن لا نستعملها كحكم سابق، ويظل النص "النص الظاهرة" حتى يتحقق التلقي فيصير "موضوعاً جمالياً". ويذهب "ميكاروفسكي" هذا المنحى إذ يلفت انتباهنا إلى القيمة الجمالية ونقض المعيار، حيث يعتبر: "أن القيمة الجمالية تكون أكثر ارتفاعاً حيث ينقلب العمل الفني ضدّ المعيار الثقافي السائد، وهذه العلاقة بين المعيار والقيمة، هي ملمح مميّز للحقل الإستتيقي، بينما يعتبر التطابق مع المعيار في غير الحقل الإستتيقي قيمة إيجابية"(55). ويكون اعتقاد "ميكاروفسكي" الأخير -بالنظر إلى المعيار الجمالي- مدعاة عنده للقول: "إذا اعتبرنا تاريخ الفن انطلاقاً من المعيار الجمالي فإنّه يكون هو تاريخ الانتفاضات ضدّ المعايير السائدة"(56). غير أنّه يستدرك هذا الحكم المطلق بشيء من التروي والتحفّظ فيذعن مضيفاً: "على أنه حتى في الحالات القصوى يتحتّم على العمل الفني في الوقت نفسه أن يحترم المعيار: ذلك أنّه يوجد حتى في تطور الفن فترات يكون فيها احترام المعيار ذا أولوية واضحة قياساً إلى تحطيم المعيار"(57). ومن أجل هذه الاعتبارات كلّها نجد عند "ميكاروفسكي" تمييزاً واضحاً بين الصنيع (النص) والشيء الإستتيقي، على أساس أنّ الصنيع هو النص الثابت الذي يمكن وصفه بواسطة الألسنية وطرائق تحليل النصوص، أما الشيء الإستتيقي فهو تحقق ذلك النص أثناء التلقي في أشكال متعددة، تتوقف على مدارك القراء ومستوياتهم، وما يعتورهم من شروط متداخلة. إنّه قيمة متغيرة، غير قارة، تترسب فيها جملة الشهادات حول الصنيع الأدبي.
    وتتمثل صعوبة رصد التلقي وناتجه في "كمياء" العملية، لأنّ الإحاطة بالمراحل والخطوات يكشف عن ميكانيزمات العملية دون سبر أغوار التفاعل الكيماوي الذي يحوّل المقروء إلى أثر ووقع في أعماق الذات، فينشأ عن تلك المخالطة ناتج جديد يوحد بين الذات والموضوع في موقف واحد، يكون وقفاً على شروط داخلية وخارجية، فإن تغيّرت أو تبدلت تحول الوقع إلى حال أخرى، ومن ثم تغير الموقف الإستتيقي. وإن كانت جمالية التلقي قد قسّمت مراحل التلقي ثلاثاً: ما قبل التلقي، عملية التلقي، وناتج التلقي، فإنّ مثل هذا التقسيم يسهل فهم الوضعيات الأساسية للتحول التي يقطعها القارئ أثناء القراءات المختلفة، والتي تنسج أفقاً مشحوناً باعتقادات فنية وقيمية وفكرية تشكل "الكفاية" المعرفية وعند مخالطة النص، تدخل هذه الحمولة المعرفية في حوار مع الصنيع الأدبي، قد لا تسترسل على وتيرة واحدة، فتنتابه نوبات من الغضب والرفض والحيرة والدهشة والخيبة والأمل، وغيرها من الحالات النفسية في مجابهتها للواقع المنصوص أمامها...
    إن ما يحدث داخل الذات هو ما ندعوه "بكيمياء التلقي" والذي نجهل كيفيات تشكّله وتخمره ودرجات كثافته، كل ما في وسع دارس العملية أن يضع المواد في مخبره ثم يراقب التفاعل ويسجل الحاصل دون أن يدرك كيفيته، ولا دواخل التحول بين العنصرين أو العناصر... وقد قرّر "كونتر جريم" أنّ: "البحث في عملية التلقي في الدرجة الأولى من مهام سيكولوجيا القراء".(58) عسى أن تتولى السيكولوجية مهمة التنقيب العلمي المخبري في ذلك التفاعل الكيماوي.
    لقد تعرض التلقي -كما عرضه "ياوس" - إلى نقد ماركسي، يربط بين الانتاج والاستهلاك. استناداً إلى ربط "ماركس": ما دام المنتج يبث في مادته العناصر التي يقبل عليها المستهلك، وتقاس درجته بالقدر الذي تتوفر به مثل هذه المواد. وفي هذا العرض مراجعة لحرية القارئ ولتعدد القراءة. فالموضوعية المشروطة للعمل الأدبي تدفع "نيومان مانفريد" إلى القول: "تجد حرية القراء تجاه الأعمال الأدبية حدودها داخل الخصائص الموضوعية للأعمال ذاتها".(59) وربما يعود مثل هذا الرأي إلى "كارل ماركس" الذي لفت الأنظار إلى ظاهرة استمرار النصوص القديمة فيناً فنيّاً، حين يقرر هذه الظاهرة خارج جدل التطور الاجتماعي قائلاً: "ليست الصعوبة بقائمة في أن نصل الفن الإغريقي والملحمة بأشكال معينة من أشكال التطور الاجتماعي، وإنّما الصعوبة كل الصعوبة في أن نعرف لماذا يواصلان مَدّنا بالمتعة الفنية، ولماذا تظل لهما في نظرنا -من بعض النواحي- قيمة القاعدة والمثال"(60). وكل المحاولات التي رامت الإجابة عن هذه الملاحظة، وإن تراوحت بين الانطباع والمباشرة كالقول "بروعة الخلق" و "جودة الإبداع" وغير ذلك أمدت التاريخي بإمكانية استحواذه على القيم الجمالية الراسخة.
    وبين هذه الأعمال عند نشأتها من ارتباطات وقتية ومكانية، تقيدها -من جهة- ومن معايير متحجرة ترزح تحتها: "فالآثار الأدبية التي تستمر وتخلد، إنّما تستمر وتخلد لأنّه تظل قادرة على تحريك السواكن وعلى إحداث ردّ الفعل وعلى اقتراح التأويل، إنّ خلود الآثار الأدبية لا يأتيها من الأسباب التي أوجدتها أو من العوامل التي أثرت في نشأتها، وهي لا تحظى به لأنّها تصور أوضاعاً اجتماعية أو تعكس آلياً أو مضارعة هياكل اقتصادية، وإنما يأتيها الخلود وتحظى به لأنها تظل فاعلة في القارئ محركة له"(61) ويلخص "رولان بارت" الفاعلية والتجدد فيها قائلاً: "لا يحظى الأثر الأدبي بالخلود لأنّه يفرض على القراء العاديين معنى واحداً فيه، وإنّما هو يخلد ويستمر لأنّه يقترح على القارئ الواحد معاني عديدة في متجدد اللحظات"(62).
    غير أنّ ما أثاره النقد الماركسي -قبلاً- مشروطاً بموضوعية الأثر الأدبي وبموضوعية القارئ، يحد من مطلقية التعدد للفعل القرائي، إذ الاقرار بتعدد المعنى في الأثر الواحد لا يبيح القول بانفتاحه انفتاحاً مطلقاً لشتى القراءات، بحيث يقبل أي تأويل يوضع له(63). وقد ترتبط محدودية التعدد بنية الأديب الذي يتوقع من القارئ إثراء النص، فيكون التوقع بمثابة الآفاق التي يتركها المؤلف لمساحة المشاركة البناءة، وهي آفاق وإن كانت شاسعة فلا بدّ من حدود في إطار المعرفة المحدودة تاريخياً، وفي إطار الموضوع المنتج ذاته، ولأنّ: "التخاطب الأدبي غامض في أساسه عمد القارئ كلما واجه نصاً أدبياً إلى امتحانه، فأختبر قدراته على تحمل المعاني الإضافية بموجب ما رّكب فيه من مواطن غامضة، تحتمل التأويل".(64).
    هوامش:
    41- محمد مشبال م م س ص 134.
    42- انظر جان ستاروبنسكي. نحو جمالية للتلقي. م م س ص 38. 39.
    43- م س ص 9.
    44- انظر م س ص 1.
    45- حسين الواد. م م س ص 77.
    46- انظر كونتر جريم.. التأثير والتلقي.. م م س ص2.
    47- م س ص 26.
    48- م س ص 20. النص أورده كونتر جريم.
    49- انظر م س ص 27.
    50- انظر هامش م س ص 27.
    51- انظر هامش م س ص 28.
    52- جان ستاروبنسكي نحو جمالية للتلقي م م س ص 46.
    53- كونتر جريم.. التأثير والتلقي. م م س ص 17.
    54- م س ص 18.
    55- إلرود إبش.. التلقي الأدبي (ت) محمد برادة. م. دراسات سيميائية أدبية ع6. 1992 ص 19.
    56- م س ص 19.
    57- م س ص 19.
    58- كونتر جريم.. التلقي والتأثير... م س ص 29.
    59- إلرود إبش. التلقي الأدبي م س ص 30.
    60- حسين الواد. في مناهج الدراسات الأدبية. م س ص 66. النص استشهد به كلود بريفوست وجوزيف يور ت في كتابيهما:
    Claude prevost litterature, politique, idiologie. ed. Sociales. PARIS. 1973.
    Joseph just: La reception de la litterature par la critiqure par la critique Journalistique. ed. jean Michel place. PARIS 1980.
    61- م س ص 66.
    62- م س ص 75.
    63- م س ص 73.
    64- م س ص 79.
    حبيب مونسي غير متصل رد مع اقتباس
    حبيب مونسي
    مشاهدة ملفه الشخصي
    البحث عن المشاركات التي كتبها حبيب مونسي




      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة أبريل 26, 2024 8:47 pm