منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    السرد الشعري والتركيب اللغوي

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    السرد الشعري والتركيب اللغوي Empty السرد الشعري والتركيب اللغوي

    مُساهمة   السبت ديسمبر 12, 2009 8:53 am

    السرد الشعري والتركيب اللغوي
    إذا كان ما عرض سابقا يمثل ما يمكن أن يستفيد منه السرد الشعري من آليات التحليل الروائي مع مراعاة الخصوصية التي تتميز بها القصيدة ، فإن هناك جانبا لم توله السرديات الروائية عناية كبيرة ، وهو جانب اللغة ، لا تعني اللغة هنا إلا جوانب التركيب فيها ، أو بصورة أكثر قربا عوامل اتساق الخطاب أو انسجامه ، كيف تتضافر الجمل والعبارات معا لتشكل وحدة خطاب منسجمة ؟ لتعطي الخطاب اللغوي طابعه العام ، هذا الجانب يشكل أكثر الجوانب أهمية في السرد الشعري ، وإذا كانت كتب " لسانيات النص " أو " تحليل الخطاب " لم تقم بهذا الربط ، أو لم تقدم إشارات للعلاقة بين السرد بنوعيه الروائي والشعري وبين انسجام الخطاب ، فهذا لا يعني أن الربط غير موجود ، لقد كانت هناك محاولة مهمة قام بها روجر فاولر في كتابه " اللسانيات والرواية " حين أراد أن يطبق معطيات اللسانيات على الرواية مستعينا بأطروحات تشومسكي عن اللسانيات التوليدية والتحويلية ، وهناك – لا شك – عدد كبير من الدراسات التي عاملت الشعر من هذا المنظور ، لكن الارتباط بين اتساق الخطاب الشعري أو انسجامه ومفهوم السرد ظل مفقودا ، إن السرد في أبسط تعريف له هو الانتظام في الخطاب اللغوي ، وهو تعريف لا يبتعد عن مفهوم الاتساق في الخطاب الشعري ، وعلى ذلك فإن بحثنا عن البعد اللغوي في السرد الشعري ينطلق من المفاهيم التي تأسس عليها اتساق الخطاب ، ومع كثرة من كتبوا في هذا الحقل فإن فان دايك يعد واحدا من أكثر المهتمين إلحاحا وربما عمقا في هذا الجانب ، وتشي دراساته الغزيرة بمدى اهتمامه بمفهوم الاتساق ، على الرغم من بعض الانتقادات التي يمكن أن توجه له أحيانا .
    أول ما يطرحه فان دايك في اتساق الخطاب هو مفهوم الترابط ، ويعني به هنا شيئين : الأول أدوات الربط التي تربط الجمل والعبارات ، وتجعلها متسلسلة ، والثاني هو ما يسميه ذاتية المرجع ، أي أن القضايا داخل الجمل تحيل دائما إلى الشخص نفسه ، يرى فان دايك أن الإحالة إلى ذات واحدة بأي صورة من الصور مظهر من مظاهر الاتساق ، وهو مفهوم يتجاوز ما تقدمه أدوات الربط ، لكن ذاتية المرجع تمثل مشكلة كبيرة ، فالخطاب يحوي ذواتا متعددة ، ومع ذلك نسم نحن هذا الخطاب بأنه متسق ، وما يجب أن ننشغل به هنا هو الكيفية التي ينسجم بها الخطاب في هذه الحالة .
    في التطبيق على خطاب النقائض – وهو خطاب شعري عربي - تدخل تفاصيل كثيرة تتجاوز ما يطرحه فان دايك على الرغم من أنها تتأسس على أفكاره الأساسية ، هنا لا بد من إشارة قبل البدء في بحث قضايا الربط ، وهي أن النص الشعري القديم أكثر تعقيدا في تركيبه اللغوي مما يبدو على السطح ، وبخاصة إذا بحثنا عن الكيفية التي يترابط بها ، فجمل هذا النص لا تتوالى في مسار خطي ، كما لا يمكن توقع مدى انحناءاته بناء على مسار الجمل الأولى فيه ، يرجع هذا الأمر في جانب كبير منه إلى التقليد الذي كان قانونا شبه صارم التزم به الشعراء وبخاصة الجاهليون والأمويون منهم وهو قانون استقلالية البيت ، وعد التضمين الذي هو تجزئة الجملة الواحدة بين بيتين أو أكثر من عيوب القصيدة ، وهنا يكمن التعقيد في تركيب القصيدة ، فالقصيدة نص متماسك تحتوي على أبيات يستقل كل واحد منها عن الآخر ، فما القانون الحاكم هنا ؟
    كما أن اتساق النص يتم عن طريق الإحالة التي يقسمها هاليداي إلى نوعين : إحالة مقامية وتتم إلى خارج النص ، وإحالة نصية داخل النص ، كلا النوعين يساعد على تكريس السردية سواء في النص النثري أو النص الشعري ، لكن أسلوب الإحالة داخل الشعر يبدو معقدا ـ فالإحالة فيه لا تتم بشكل خطي ، وإنما تتركب عن طريق انحناءات داخل النص الشعري والتواءات ، وربما عودة إلى نقاط سابقة ، يبدو أنها قد تم تجاوزها ، ليشكل الشاعر في النهاية نصا متسقا .
    في نص الفرزدق تتم الإحالة على النحو التالي :
    1 – إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول
    الهاء في كلمة دعائمه تعود إلى " بيتا " في الجملة السابقة عليها ، على الرغم من أن جملة " دعائمه أعز وأطول " صفة لكلمة بيت
    2 – بيت بناه لنا المليك وما بنى حكم السماء فإنه لا ينقل
    تكرار كلمة " بيتا " التي تحيل إلى " بيتا " في البيت الأول ، ثم تكرار الفعل " بنى " الذي يحيل إلى " بناه " في الجملة السابقة .
    3 – بيتا زرارة محتب بفنائه ومجاشع وأبو الفوارس نهشل
    تكرار كلمة " بيتا ، ثم الضمير في " بفنائه "
    4 – يلجون بيت مجاشع وإذا احتبوا برزوا كأنهم الجبال المثل
    الضمير في " يلجون " الذي يحيل إلى زرارة ومجاشع وأبو الفوارس نهشل ، وكذلك الضمير في " احتبوا " و " وبرزوا " و " كأنهم "
    5 – لا يحتبي بفناء بيتك مثلهم أبدا إذا عد الفعال الأفضل
    يتم الاتساق في هذا البيت على مستويين : دلالي عن طريق صيغة الاحتباء التي ظهرت في البيت الثالث ، ثم جاءت هنا منفية " لا يحتبي " ، ونحوي في إحالة الضمير " مثلهم " إلى هؤلاء الذين ذكروا في البيت الثالث ، أما الضمير المتصل في " بيتك " فهو إحالة مقامية تشير إلى خطاب خارج النص ، فلا يوجد فيما سبق من أبيات ما يعود عليه هذا الضمير .
    6 – من عزهم جحرت كليب بيتها زربا كأنهم لديه القمل
    كذلك يتم الاتساق في هذا البيت على المستويين نفسهما : دلالي في كلمة " بيت " التي هي " التيمة " الأساسية في هذا الجزء من النص ، ونحوي في الضمير " عزهم " .
    7 – ضربت عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المنزل
    تؤدي الدلالة هنا الدور الأهم في إحداث الاتساق النصي ، فالعنكبوت الذي ضرب بنسجه عليه ، وقضاء الكتاب المنزل إشارة إلى بيت العنكبوت الذي هو أوهن بيت عند الله ، ويشير الضمير المتصل بحرف الجر " عليك " إلى الإحالة المقامية في البيت الخامس .
    8 – أين الذين بهم تسامي دارما أم من إلى سلفي طهية تجعل
    يتم الاتساق هنا من خلال وحدة المخاطب ، وعودة الضمير إلى البيت السابق عليه .
    9 – يمشون في حلق الحديد كما مشت جرب الجمال بها الكحيل المشعل
    الاتساق هنا نحوي في الضمير المتصل بفعل " يمشون " الذي يحيل إلى دارم وطهية في البيت السابق عليه
    10 – والمانعون إذا النساء ترادفت حذر السباء جمالها لا ترحل
    وكذلك في كلمة " المانعون " التي تحيل إلى الأشخاص أنفسهم
    11 – يحمي إذا اخترط السيوف نساءنا ضرب تخر له السواعد أرعل
    يتم الاتساق هنا من خلال الدلالة العامة أو السياق الكبير للأبيات ، فعلى الرغم من أن كلمة " نساءنا " في هذا البيت تحيل إلى كلمة " النساء " في البيت السابق ، فإن ما أحدث الاتساق هنا هو مناخ الحرب الذي يشير إليه الفرزدق في الأبيات السابقة ، وفي هذا البيت ، وكذلك الأبيات التالية .
    12- ومعصب بالتاج يخفق فوقه خرق الملوك له خميس جحفل
    كذلك يتم الاتساق هنا من خلال الدلالة ، فلا توجد في البيت أية إشارة نحوية : ضمير أو اسم إشارة يربطه بما سبقه ، لكن سياق الحرب المتوالي هنا في أبيات عدة لا يخرج هذا البيت من السياق .
    13 – ملك تسوق له الرماح أكفنا منه نعل صدورهن وننهل
    والأمر نفسه في هذا البيت ، الدلالة هنا التي تربط البيت بما سبقه ، على الرغم من تكرار الإشارة إلى كلمة " ملوك " البيت السابق ، وفي البيت التالي ، لكن كل كلمة هنا لا تحيل إلى الأخرى ، فملوك في البيت السابق ليس من بينهم " ملك " في هذا البيت .
    14 – قد مات في أسلاتنا أو عضه عضب برونقه الملوك تقتل
    لا تختلف أداة الاتساق هنا عن البيتين السابقين ، الدلالة هي التي تؤدي الدور الرئيسي ، الموت والرمح والسيف ، هذه المفردات التي تشكل معا نسيج الحرب .
    15 – ولنا قراسية تظل خواضعا منه مخافته القروم البزل
    يحتاج هذا البيت إلى البحث عن أداة أخرى للاتساق غير الإحالة أو الاستبدال ، كذلك فإن سياق الحرب لا يؤدي دورا ما ، الذي يشير إليه البيت هنا هو الإبل الكثيرة الضخمة الغليظة ، ولا علاقة دلالية مباشرة بما سبقها ، فلا ترتبط الإبل بالحرب ، وإنما الذي يرتبط لها هو الفرس ، هنا يبدو السياق التداولي أكثر ملاءمة ، المقام هنا مقام مفاخرة بين رجلين ، كل منهما يشحذ أسلحته من أجل إحراز السبق ، ولا يبتعد حديث الفرزدق عن الإبل التي يستحوذون عليها عن هذا السياق .
    16 – متخمط قطم له عادية فيها الفراقد والسماك الأعزل
    يبدو الاتساق في هذا البيت من خلال الإحالة التي تظهر في كلمة " متخمط " التي تشير إلى الإبل التي تحدث عنها الشاعر في البيت السابق عليها .
    17 – ضخم المناكب تحت شجر شؤونه ناب إذا ضغم الفحولة مقصل
    وكذلك الأمر في هذا البيت الذي يستكمل فيه الفرزدق وصفه لفحول الإبل ، الإحالة هنا نحوية دلالية .
    18 – وإذا دعوت بني فقيم جاءني مجر له العدد الذي لا يعدل
    يحدث بدءا من هذا البيت قطع في السياق الذي استمر ثلاثة أبيات سابقة عليه ، ويبدأ الشاعر – وفقا للسياق الدلالي الذي أُشير إليه في البيت الخامس عشر – في الانتقال إلى موضوع آخر : قومه الكثر الذين يستدعيهم إذا احتاج إليهم .
    19 – وإذا الربائع جاءني دفاعها موجا كأنهم الجراد المرسل
    كما يبدو السياق التداولي واضحا في هذا البيت الذي يستدعي فيه الشاعر " الربائع " .
    20 – هذا وفي عدويتي جرثومة صعب مناكبها نياف عيطل
    لا تشير " هذا " هنا إلى شيء محدد ، بل تبدو مثل أداة ربط يتصل فيها السياق بين البيت السابق وهذا البيت ، ويبدو السياق التداولي واضحا هنا .
    21 – وإذا البراجم بالقروم تخاطروا حولي بأغلب عزه لا ينزل
    22 – وإذا بذخت ورايتي يمشي بها سفيان أو عدس الفعال وجندل
    في هذين البيتين يستمر الفرزدق في تعداد هؤلاء القوم الذين يستند إليهم ، ويستدعيهم إذا احتاج إليهم ، لا تظهر أدوات نحوية من مثل الضمائر وأسماء الإشارة والأسماء الموصولة تتصل الجمل السابقة من خلالها بالجمل اللاحقة ، لكن الاتساق – كما ظهر في أكثر من موضع – يبدو من خلال التركيز في " التيمة " الأساسية المطروحة هنا .
    23 – الأكثرون إذا يعد حصاهم والأكرمون إذا يعد الأول
    هنا الإحالة نحوية من خلال المبتدأ المحذوف في كلمة " الأكثرون " و " الأكرمون " ، ويبدو في هذا البيت أنه يصل إلى نهاية الحشد الذي أراد ذكره في سياق المفاخرة .
    يمثل هذا المقطع من قصيدة الفرزدق نموذجا للكيفية التي تعمل بها الإحالات والاستبدالات والحذف لتصنع تماسكا في النص الشعري ، هذا التماسك يعد مظهرا من مظاهر السردية فيه ، لكن هناك مظهرا آخر للتماسك السردي هو أدوات الربط ، وتنقسم هذه الأدوات إلى قسمـين : الواو ، ثم سائر الأدوات الأخرى ، أما الواو فإن الفرزدق يستخدم منها " واو " العطف التي تعبر عن باب الوصل في البلاغة العربية ، و " واو " رب ، تحتوي القصيدة على ستة عشر موضعا لواو العطف نصيب هذا الجزء منها أربعة فقط ، في البيت الثاني والرابع والسابع والعشرين ، كما تحتوي على " واو " رب في البيت الثاني عشر ، و" واو " الاستئناف في البيت الخامس عشر والثمن عشر والتاسع عشر والعشرين والحادي والعشرين ، وأما أدوات الربط الأخرى فإنه يستخدم " أم " في البيت الثامن و " كما " في البيت التاسـع ، و" أو " في البيت الرابع عشر ، واسم الإشارة " هذا " في البيت العشريـن ، كما يستخــدم " واو " الحال في البيت الثاني والعشرين ، إجمال الأدوات إذن ثلاث عشرة أداة بين جمل يبلغ عددها تسع وعشرين جملة منها تسع جمل بسيطة وثماني شرطية واثنتا عشر جملة مركبة ، هذا يعني أن هناك ثماني وعشرين موضعا للربط بين جمل هذا المقطع ، ارتبط ثمان منها فقط من خلال أدوات الربط السابقة ، وأما المواضع الباقية البالغة عشرين موضعا فقد ارتبطت الجمل فيها عن طريق التجاور ، أو ما يسمى في البلاغة العربية بالفصل .
    يلفت النظر في هذا الوصف أن مواضع الفصل بين الجمل كثيرة مقارنة بمواضع الوصل ، ثم إن مواقعها غالبا بين مفاصل الأبيات ، وهذا ينسجم مع تقاليد القصيدة القديمة التي تعطي لكل بيت كيانا مستقلا ، لكن هذا الانفصال الحادث بين الأبيات مجرد وهم ، ذلك أن إسقاط أدوات الربط بين الأبيات أزال الحدود التي من الممكن أن تقيمها أداة ربط مثل الواو ، حتى إن استخدمت بمعنى العطف بين الجمل ، فالعطف يعني المغايرة ،أما الربط عن طريق التجاور فإنه أكثر تأثيرا في إدخال الجملة التالي في الحكم الذي تنشئه الجملة الأولى .
    يلجأ الفرزدق إذن لإحداث الاتساق في خطابه الشعري أو ما يسمى بالسردية الشعرية إلى وسائل نحوية مثل الإحالة والاستبدال والحذف والتكرار ، وإلى الدلالة حيث يعتمد في سرد جمله على وحدة الموضوع ، وعلى ما يسميه فان دايك ذاتية المرجع ، وإلى التداولية حيث يبدو السياق الكبير حاضرا في أجزاء متعددة من نصه ، والسياق هنا يحيل إلى ما خارج النص ، وهنا يحتاج القارئ البعيد زمنيا ومكانيا عن نص الفرزدق إلى وسائل مساعدة كثيرة تعينه على فهم بعض إشارات ترد داخل النص ، ولا يستطاع فهمها من داخل السياق النصي ، وهي إشارات تعين كثيرا في إحداث الاتساق الشعري ، كما يستخدم الفرزدق قليلا من أدوات الربط بين الجمل ، في مقابل استخدام التجاور بوصفه وسيلة مهمة من وسائل الاتسـاق .
    لكن إذا كان الوصف السابق لاستخدام الفرزدق لوسائل الاتساق كافيا في ذاته ، فإنه لا يجيب عن سؤال مهم يتعلق بأهمية هذا الوصف ، وهل هو جزء من ماهية الخطاب اللغوي لإحداث الاتساق ؟ أم أنه خصيصة أسلوبية للشاعر ؟ ما يمكن أن يجاب عنه هنا إجابة أولية أن الوسائل التي استخدمها الفرزدق ليست إبداعا فرديا بقدر ما هي خصائص لغوية عامة ، وإذن يجب التقدم خطوة أمام هذا الوصف لبيان الكيفية التي وظف بها الفرزدق هذه الوسائل ، والكيفية التي توزعت بها داخل النص ، مع التأكيد على أن هذا المقطع من النص يمثل مجمل وسائل الاتساق عنده ، لكنه في الوقت نفسه ليس كافيا لبيان خصائص الفرزدق الأسلوبية ، ربما كان من المفيد هنا مقارنة الطريقة التي استخدم بها الفرزدق وسائل الاتساق بما فعله جرير معها ، وهنا تتأجل الإجابة قليلا .
    يستخدم جرير أيضا الإحالة والاستبدال والحذف والتكرار وغير ذلك من وسائل الاتساق ، وذلك على النحو التالي :
    1 – لمن الديار كأنها لم تحلل بين الكناس وبين طلح الأعزل
    الهاء في " كأنها " تحيل على الديار في السؤال السابق عليها ، وكذلك الضمير المستتر في جملة " لم تحلل "
    2 – ولقد أرى بك والجديد إلى بلى موت الهوى وشفاء عين المجتلي
    الكاف في " بك " تعود على الديار أيضا ، وهو ما يؤمن الاستمرار الدلالي
    3 – نظرت إليك بمثل عيني مغزل قطعت حبالتها بأعلى يليل
    لا يتضح في السياق إلى ماذا تشير تاء التأنيث في جملة " نظرت إليك " ، ولا توجد في الجمل السابقة أية مؤشرات لهذه التاء ، هنا يبدو السياق التداولي حلا ملائما لهذه المعضلة ، والسياق هو سياق مقدمة طللية غزلية تتكون عناصرها في كثير من الأحيان من مفردات مستقرة في تقاليد القصيدة العربية ، وتشكل المرأة أهم هذه المفردات ، وهي التي يشير إليها جرير هنا .
    4 – وإذا التمست نوالها بخلت به وإذا عرضت بودها لم تبخل
    الهاء في " نوالها وتاء التأنيث في " بخلت " و " عرضت " وكذلك الهاء في " بودها " والضمير المستتر في جملة " لم تبخل " كلها تشير المرأة التي لم يشر إليها جرير صراحة في البيت السابق .
    5 – ولقد ذكرتك والمطي خواضع وكأنهن قطا فلاة مجهل
    ضمير الخطاب الكاف في " ذكرتك " يشير إلى المرأة .
    6 – يسقين بالأدمى فراخ تنوفة زغبا حواجبهن حمر الحوصل
    نون النسوة في " يسقين تحيل إلى قطاة فلاة في البيت السابق عليها ، والاتساق هنا نحوي .
    7 – يا أم ناجية السلام عليكم قبل الرواح وقبل لوم العذل
    أم ناجية في هذا البيت هي المرأة التي أشار إليها من خلال الضمائر المختلفة في الأبيات السابقة ، والاتساق هنا دلالي .
    8 – وإذا غدوت فباكرتك تحية سبقت سروح الشاحجات الحجل
    كذلك فإن ضميرا التاء في " غدوت " و " الكاف في " باكرتك " تشير إلى أم ناجية ، والاتساق نحوي .
    9 – لو كنت أعلم أن آخر عهدكم يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل
    الأمر نفسه مع الضمير في كلمة " عهدكم " التي تشير إلى أم ناجية ، لكن الضمير هنا يثير إشكالا ، فقد أشار جرير في البيت السابق عليه إلى أم ناجية من خلال ضمير المفرد ، وهنا يشير إليها من خلال ضمير الجمع ، ومع ذلك فإن الضميرين يحيلان إلى الشخص نفسه ، وتحل التداولية هذا الإشكال ، فتنوع الضمائر في هذه الحالة جزء من السياق المقامي للخطاب الغزلي في القصيدة القديمة .
    10 – أو كنت أرهب وشك بين عاجل لقنعت أو لسألت ما لم يسأل
    هذا البيت بأكمله معطوف على البيت السابق عليه .
    11 – أعددت للشعراء سما ناقعا فسقيت آخرهم بكأس الأول
    النقلة هنا فجائية ، ولا تبدو متسقة مع السياق الغزلي السابق ، وليس في الجملتين اللتين تكونان هذا البيت ما يحيل إلى سابق عليهما ، على الرغم من وجود ضمير المتكلم في الفعل " أعددت " الذي يشير إلى الضمير نفسه الموجود في الفعل " سألت " في البيت السابق عليه ، لكن الإحالة هنا لا تكفي لإحداث الاتساق المنشود .
    12 – لما وضعت على الفرزدق ميسمي وضغا البعيث جدعت أنف الأخطل
    الضمير في " وضعت " و " جدعت " يحيلان إلى الشخص نفيه الموجود في البيت السابق عليه ، وإذن فقد استكمل البيت شرط الاتساق النحوي ، مع ذلك فإن هناك مشكلة في الدلالة تفقد البيتين الاتساق النحوي الحادث بينهما ، فما العلاقة بين السم الذي أعده السارد في البيت السابق ، وما فعله مع الشعراء الثلاثة في هذا البيت ، وإذا كان الفرزدق واحدا من الشعراء الذين أعد لهم سما بحسب السياق التداولي للقصيدة التي هي رد على قصيدة الفرزدق ، فمن البعيث ؟ ومن الأخطل ؟ وما سبب ذكرهما هنا ؟ وهي أسئلة تبدو بسيطة ، لكنها مهمة من أجل عمليات التأويل في القصيدة العربية القديمة ، فلا توجد في النص أية إشارات لغوية تعين على تحديد هوية هذين الاسمين ، والمتلقي مضطر إلى الاستعانة بمعارفه القبلية ، وهنا مناط السياق التداولي .
    13 – أخزى الذي سمك السماء مجاشعا وبنى بناءك في الحضيض الأسفل
    الأمر نفسه في هذا البيت ، فمن مجاشع الذي يشير إليه الضمير ؟ وإلى ماذا يعود الضمير في كلمة " بناءك " هل إلى الأخطل أم البعيث أم الفرزدق أن أنه يخاطب شخصا آخر ؟ وهي أسئلة لا يجاب عنها من داخل النص ، بل من خلال السياق التداولي .
    14 – بيتا يحمم قينكم بفنائه دنسا مقاعده خبيث المدخل
    تبدو كلمة " بيتا " بديلا عن " بناءك " ، لكن الضمير في " قينكم " لا تبدو الإحالة واضحة فيه ، فهل يعود إلى " مجاشع " وهم رهط الفرزدق ، أم يعود إلى الفرزدق نفسه ، ربما كانت الإحالة إلى مجاشع أكثر اتساقا من الناحية النحوية ، وهي في الوقت نفسه لا تخرج الفرزدق من الحكم الذي تصدره الجملة .
    15 – ولقد بنيت أخس بيت يبتنى فهدمت بيتكم بمثلي يذبل
    يعود جرير إلى الغموض النحوي في طبيعة الإحالة هنا في الجملة الأولى ، فالتاء في " بنيت " نفهم منها أنها تحيل إلى الفرزدق ، لكن لا توجد مؤشرات لغوية على ذلك ، هذا أيضا من السياق التداولي ، والأمر نفسه مع الضمير في " بيتكم " الذي لا تبدو الإحالة فيه واضحـة .
    16 – إني بنى لي في المكارم أولي ونفخت كيرك في الزمان الأول
    الاتساق هنا تم عن طريق الدلالة ، وتشير إليها كلمة " بنى " فالسياق الدلالي هو سياق المفاخرة في طبيعة البناء ، ولا يبدو أن جريرا قد خرج عن سياق الحديث العام هنا ، أما الجملة الثانية ففيها ما يحقق الاتساق النحوي ، وهما ضميرا التاء والكاف في " نفخت كيــرك " .
    17 – أعيتك مأثرة القيون مجاشع فانظر لعلك تدعي من نهشل
    أيضا يتم الاتساق النصي هنا من خلال وسائل النحو في الضمير المتصل الكاف في " أعيتك " ، وكذلك في " لعلك " .
    18 – وامدح سراة بني فقيم إنهم قتلوا أباك وثأره لم يقتل
    كذلك يتم الاتساق النصي من خلال النحو في فاعل الأمر " ومدح " وضمير المخاطبة الكاف في " أباك " .
    19 – ودع البراجم إن شربك فيهم مر مذاقته كطعم الحنظل
    والأمر نفسه مع فعل الأمر " دع " ، ومع الضمير في " شربك " اللذين يحيلان إلى الجملة السابقة عليهما فيحققان الاتساق النصي .
    20 – إني انصبب من السماء عليكم حتى اختطفتك يا فرزدق من عل
    هنا يعود الإرباك مرة أخرى ، فإلى ماذا يشير الضمير " كم " في " عليكم " ولا يوجد في البيت السابق ، ولا البيت الذي قبله ما يحيل عليه ، ولا مفر من اللجوء إلى السياق التداولي .
    21 – من بعد صكتي البعيث كأنه خرب تنفج من حذار الأجدل
    يعود ذكر البعيث في هذا البيت ليحيل عن طريق التكرار إلى البيت الحادي عشر ، لكنه يذكره في حالة الغياب ، لأن هذا البيت متعلق نحويا بالبيت السابق الذي هو خطاب للفرزدق .
    22 – ولقد وسمتك يا بعيث بميسمي وضغا الفرزدق تحت حد الكلكل
    أما في هذا البيت فإنه يخاطب البعيث مستخدما أسلوب الالتفات بين هذا البيت والبيت السابق عليه ، ثم يتحدث عن الفرزدق بأسلوب الغائب .
    23 – حسب الفرزدق أن تسب مجاشع ويعد شعر مرقش ومهلهل
    يستمر في الجملة الأولى في حديثه عن الفرزدق ، وكذلك في الجملة الثانية .
    24 – طلبت قيون بني قفيرة سابقا غمر البديهة جامحا في المسحل
    لا توجد في هذا البيت أية إشارات نحوية من إحالة أو استبدال أو حذف أو تكرار أو حتى أسماء إشارة تصنع اتساقا لهذا البيت مع ما سبقه ، كما أن ما يشير إليه جرير دلاليا في هذا البيت شديد الغموض ، ولا يتأتى بيسر لأي متلق ، وكما حدث كثيرا قبل ذلك فإن السياق التداولي هو الملائم في التأويل ، كما أنه هو الملائم في إحداث الاتساق بين هذا البيت والأبيات السابقة عليه ، وما قدمه أبو عبيدة في شرحه للنقائض واف في ربط الإشارات الدلالية هنا بالسياق العام للأبيات .

    هذه الوسائل النحوية والدلالية في إحداث الاتساق لم تكن فقط هي الأدوات المتاحة أمام جرير ، فقد لجأ – مثلما فعل الفرزدق – إلى أدوات الربط ، وفي هذا المقطع الذي يعد نموذجا دالا على القصيدة كلها ، وعلى الكيفية التي يستخدم بها جرير أدواته ، فإنه احتوى على خمس وثلاثين جملة ، منها ست عشرة جملة بسيطة ، واثنتا عشرة جملة مركبة ، وسبع جمل شرطية ، أما أدوات الربط فقد استخدم حرف الواو خمس مرات ، والفاء ثلاث مـرات و" أو " مرة واحدة ليبلغ مجموع أدوات الربط عنده تسع ، وبحساب أدوات الربط وعدد الجمل ، فإن هناك خمسة وعشرين موضعا تم فيها الربط عن طريق التجاور للجمل ، وهو عدد كبير ربما يؤدي إلى مزالق دلالية كثيرة في نظام السرد الشعري إذا لم يكن هناك بديل له من وسائل نحوية ، وقد ظهر ذلك في انتقال جرير من المقدمة الغزلية إلى الهجاء ، لقد كانت انتقالة فجائية حدث فيها قطع واضح في السرد ، ولا تنفع هنا التأويلات التي تحيل المقدمة الغزلية إلى مجموعة من الرموز ترتبط " بالتيمات " التالية داخل القصيدة ، شيء آخر أحدثه التجاور في نظام السرد هو أنه بدا مرتبكا مقارنة بنظام السرد عند الفرزدق ، فجرير يلجأ كثيرا إلى ما يسميه هاليداي الإحالة المقامية ، أي اللجوء إلى خارج النص لتفسير أشياء داخله ، وهو يفعل ذلك في مواضع يقطع بها مثلما يظهر ذلك في البيت الثالث والثامن والعاشر والحادي عشر والثاني عشر والرابع عشر والتاسع عشر والثالث والعشرين ، أما الفرزدق فإن نظام السرد عنده أكثر تماسكا ، فهو يفعل مثل جرير في لجوئه إلى الإحالات المقامية ، لكنه يستخدمها بحذر ، ويضعها في موضعها ، ولا يلجأ إليها إلا بعد أن يتم جزءا نصيا متماسكا ، وفي هذا بدا الفرزدق أكثر سيطرة على أدواته النصية .
    ما عرض سابقا يمثل العنصر الثالث من عناصر السرد الشعري ، وكما ظهر فإنه يلتقي مع مفاهيم الاتساق والانسجام التي جاءت في لسانيات النص ، وفي مفاهيم تحليل الخطاب ، ويستفيد مما طرحه منظرون أساسيون في هذا الحقل ، لعل من أهمهم هاليداي وفان دايك الذي أولى عناية كبيرة بهذه المفاهيم في عدد ليس قليلا من أبحاثه ، هذا العنصر الثالث الذي يهتم باللغة في طريقة تواليها داخل النص لم يوله السرديون الذين درسوا الرواية عناية كبيرة ، فظهر خافتا في بعض بحوثهم ، لأن النص الروائي شديد الطول ، ولا يمكن تطبيق مفاهيم مثل أدوات الربط والإحالات والاستبدالات إلا على مقاطع منه يمكن السيطرة عليها ، أما النص بأكمله فأمر صعب ، لكن هناك لغويين حاولوا الاستفادة من عناصر النحو النصي ، وعقدوا مقارنة بين الجملة بوصفها أعلى وحدة تحليل في اللسانيات ، والنص الروائي بأكمله ، كان من أبرز هؤلاء روجر فاولر في كتابه المهم " اللسانيات والرواية ، لقد استفاد فاولر من أطروحات تشومسكي عن البنية السطحية والبنية العميقة ، وأجرى عملية قياس بين الجملة والنص على النحو التالي " إن إطار الجملة التي سوف نقيس عليها يمكن عرضه كالتالي : جملة لها بنية سطحية ، تشكلها تحويلات البنية الدلالية العميقة ، مكونة مركبا صيغيا ، ومركبا إخباريا ، والأخير مؤسس على مسند يلازمه اسم أو أكثر في أدوار مختلفة ، ويمكن بسهولة تطبيق هذا المخطط على النصوص الحكائية : فالبنية السطحية للنص ( التي هي تتابع من عدد من الجمل ) تملك خصائص نوعية مثل البنية السطحية للجملة ، وبعض هذه الخصائص هو التتابع والإيقاع والتعبيرية المكانية والزمانية عن أنواع مختلفة : ترقيم الصفحات والفقرات وتقسيم الفصول والأجزاء الأخرى ... كما يمكن التفكير في حبكة النص الحكائي على أنها تتابع من الأفعال أو المحمولات ، كل واحدة منها تؤسس حالة أو فعلا أو تغير حالة في المشاركين .... ويمكن تصنيف الأسماء في البنية العميقة للرواية إلى أدوار مثل الفاعل والمفعول به والمستفيد والوسيط والهدف والمكان وغير ذلك . "
    هذا الطرح عند فاولر ظل محصورا في دراسات قليلة ، ولم تستفد منه السرديات الروائية كثيرا ، ربما بسبب صعوبته ، أما السرد الشعري فيصعب تطبيق أطروحات فاولر عليه بسبب أن هذا الطرح مؤسس على الحكاية في الخطاب الروائي ، وليس ثمة حكاية في الخطاب الشعري ، وإذن يصلح له مفاهيم من لسانيات النص ونحو النص وتحليل الخطاب ، ربما بسبب إمكانية السيطرة على النص نفسه .

      الوقت/التاريخ الآن هو السبت مايو 11, 2024 12:47 pm