منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    "الاستشراق"

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    "الاستشراق" Empty "الاستشراق"

    مُساهمة   الإثنين نوفمبر 29, 2010 7:20 am


    إدوارد سعيد و"الاستشراق" والتلقي العربي
    د. نادر كاظم
    مدير تحرير مجلة (أوان)
    nader73@batelco.com.bh
    "الاستشراق" 29-11-2يعدإدوارد سعيد واحداً من أهم المنظرين في حقل "الدراسات ما بعدالكولونيالية"، ويقف كتابه المؤثر على نطاق واسع، أي "الاستشراق" 1978،علامة على بداية هذا الحقل في صورته الأكاديمية والتنظيرية، كما يمثلالكتاب، من منظور بعض النقاد، الكتاب الجوهري والمصدري الخطير في نظرية مابعد الكولونيالية، أي حالة دراسة الخطاب، وهو هنا خطاب الاستشراق، بوصفهشكلاً من أشكال الهيمنة. وهو الكتاب الذي "غيّر الطريقة التي نفكّر بهاحول العلاقات الثقافية والسياسية. لم يعد مرتبطاً فقط بدراسة الشرق، لقدأصبح ينظر إليه على أنه مصطلح شامل حول الأسلوب الذي تعامل فيه الثقافات"الأخرى" وتصوّر" . وأطروحة إدوارد سعيد تتلخّص في أن صعود الإمبريالية قدتزامن مع صعود الاستشراق، وهذا التزامن قد شبك بين الحركتين، المعرفية منجهة، والعسكرية السياسية الاقتصادية من جهة أخرى. وهذا التشابك هو الذيحمل إدوارد سعيد على القول بأن هناك جانب مهم من المعرفة لم يصمّمكـ"معرفة خالصة" Pure Knowledge ، فهناك معرفة أريد بها التحكم في الآخرينوالسيطرة عليهم وقيادتهم. ويبدو أن هذا الجانب الملوّث من المعرفة هو الذيكان يعني إدوارد سعيد في "الاستشراق"؛ وذلك لأن هذا الضرب من ضروب المعرفةلا يلعب دوراً هاماً وخطيراً في تشويه صورة الآخر المدروس والمعاين فحسب،بل إنه ينقلب، في لحظة من اللحظات التاريخية، إلى أداة من أدوات التحكّمبهذا الآخر، ووسيلة من وسائل تجييش المتخيّل ضده، إنها باختصار أداة منأدوات "المراقبة والمعاقبة" بحسب تعبيرات ميشيل فوكو. وبحسب أطروحة إدواردسعيد، فإن الاستشراق كان هو "المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق - التعاملمعه بإصدار تقريرات حوله، وإجازة الآراء فيه وإقرارها، وبوصفه، وتدريسه،والاستقرار فيه، وحكمه، وبإيجاز، الاستشراق كأسلوب غربي للسيطرة علىالشرق، واستبنائه، وامتلاك السيادة عليه" . إنه ببساطة أداة الإخضاعالغربي للمنطقة الجغرافية المعروفة بالشرق.

    إن "الاستشراق" هوالكتاب الأول من بين أربعة كتب كُرّست لاستكشاف العلاقة والتفاعلات بينعالم الإسلام، والشرق الأوسط، والشرق، والعالم ما بعد الكولونيالي من جهة،وبين الإمبريالية الأوربية والأمريكية من جهة أخرى. ففي الوقت الذي يركّزفيه "الاستشراق" على فعل الإمبريالية الفرنسية والبريطانية في القرنالتاسع عشر، فإن الكتب اللاحقة في هذه الرباعية "مسألة فلسطين" 1979،و"تغطية الإسلام" 1981، و" الثقافة والإمبريالية " 1993، قد انصبّت علىالإمبريالية الظاهرة أو المستترة التي تطبع العلاقة بين الصهيونيةوالفلسطينيين، والولايات المتحدة والعالم الإسلامي، والغرب الحواضريالحديث وأصقاعه الواقعة فيما وراء البحار. وبمجموع هذه الكتب تبوّأ إدواردسعيد موقعاً محورياً في النظرية ما بعد الكولونيالية، وهو الحقل الذيكثيراً ما يؤرخ له منذ السبعينات بصدور كتاب "الاستشراق" 1978.

    بشكلأولي، يمكننا القول مع ليلا جاندي بأن "الاستشراق" يعتبر بمثابة الفهمالموسّع والفريد للإمبريالية/الاستعمار بوصفهما "تياراً ثقافياًوإبستمولوجياً" ترافق مع تصاعد نزعة الفضول والهيمنة والتحكّم في مساحاتواسعة من أصقاع العالم البعيدة. فما يريده سعيد في "الاستشراق"، وهوالفريد والجوهري في الكتاب، أن يكشف عن أهمية التشكيلات الثقافية والأنساقالأيديولوجية والمعرفية في صعود حركة الاستعمار والإمبريالية .
    إن الجديد في "الاستشراق" هو هذا السعي الحثيث والمحموم من أجل كشفالتنكّرات الأيديولوجية والثقافية والمعرفية لعملية مادية ثقيلةكالاستعمار. إنه الكشف عن تعقّد عملية كانت تشخّص ببساطة تحت مقولاتاقتصادية أو سياسية. ما حاول "الاستشراق" أن يستكشفه هو أن الإمبرياليةوالاستعمار ليسا "مجرد فعل بسيط من أفعال التراكم والاكتساب، فكل منهمامدعّم ومعزّز، بل ربما كان أيضاً مفروضاً، من قبل تشكيلات عقائدية مهيبةتشمل مفاهيم فحواها أن بعض البقاع والشعوب تتطلب وتتضرّع أن تخضع تحتالسيطرة، إضافة إلى أشكال من المعرفة متواشجة مع السيطرة" . وعلى هذا، فإنالجديد في كتاب "الاستشراق" هو هذا الوعي الكثيف بخطورة التشكيلاتالثقافية التي تدعم وتعزّز عملية الهيمنة والسيطرة الماديتين. وبتعبيرآخر، يتمثل الجديد في "الاستشراق" في كشفه الجاد عن العلاقة الوثيقةوالمتبادلة بين المعرفة الاستعمارية والقوة الاستعمارية.غير أننا حين نقترب من التلقي العربي لهذا الكتاب سيدهشنا حجم التزييفوالقراءات المغلوطة التي تعرّض لها هذا الكتاب. ومما يثير الاستغراب حقاًأن لا يجد هذا الكتاب استقبالاً جيداً في العالم العربي. إن المقارنة بينالتلقي العربي لـ"الاستشراق" والتلقيات الأخرى له تكشف عن هشاشة التلقيالعربي، وعن ضحالته وبؤسه، وعن انحصاره في الجزئيات التي كانت تزيّف مشروعإدوارد سعيد أكثر مما تقرأه. وهذا النهج في التلقي هو الذي حشر"الاستشراق" في زوايا ضيقة ولا تمت إلى مشروع سعيد بصلة. لقد استقبلالكتاب بوصفه دفاعاً عن الإسلام وهجوماً على الغرب، والبعض كان يجرّم حتىهذا الدفاع والهجوم معاً (انظر حازم صاغية في "ثقافات الخمينية" مثلاً).إن انتقال "الاستشراق" من سياقه الغربي وما بعد الكولونيالي إلى السياقالعربي، قد مهّد السبيل لظهور كثير من القراءات الاستعمالية (القراءاتالإسلاموية والقومية على وجه الخصوص)، أو القراءات المعيارية (القراءةالماركسية)، وأغلب هذه القراءات كان يتحرّك بانتقائية وتجزيئية، ويتعاملمع الكتاب بغائية لا تحترم كثيراً "قصدية النص" ولا خلفيته الثقافية مابعد الكولونيالية. وهو ما أدّى إلى تعويم مضمون الكتاب الأصلي إلى الحدالذي ينقلب فيه مؤسس حقل "الدراسات ما بعد الكولونيالية" إلى ما يوحي بأنه"عميل للمخابرات الأمريكية"، أو ينقلب هذا المثقّف العلماني ذي الميولاليسارية وأشرس المعادين للتشرنقات الدينية والقومية، إلى نصير للفكرالقومي أو للأصولية الدينية وداعية إلى "خمينية ثقافية تلوح بالأصولوالمآلات" . إن هذا التأويل المغلوط بالمعنى السلبي للمفهوم هو الذي كانيتحدث عنه إدوارد سعيد بحسرة وأسى في "الثقافة والإمبريالية" ، و"تعقيباتعلى الاستشراق" .إذا استثنينا بعض القراءات العربية التي حاولت أن تتواصل مع الكتاببقراءة تأويلية أو دفاعية انتصارية، كقراءة مترجم الكتاب كمال أبوديبوفخري صالح وصبحي حديدي وآخرين، فإن المشهد يكاد يخلو لقراءتين تتفرّدانبمساحة التلقي العربي لكتاب "الاستشراق". الأولى هي القراءة "الإسلاموية"و"القومية" التي وجدت في الكتاب سنداً قوياً وبرهاناً من الوزن الثقيل،وبالإمكان استثماره في فضح تجنيات الغرب على الثقافة العربية والإسلامية،وهو ما يفسّر هذا الإعجاب والاحتفاء اللذين حظي بهما كتاب سعيد لدى كل منالاسلامويين والقوميين ممن جوّز لأنفسهم أن يستعملوا ويستخدموا هذا الكتاببطريقتهم الخاصة التي تخدم أغراضهم ومقاصدهم التي تؤكّد على رفعة الإسلاموعظمته، وتعزّز من تحصين الذات القومية ضد تجنيات الخطاب الاستشراقيوالإعلامي الغربيين. يبدو أن كتاب سعيد قد قدّم للإسلامويين والقوميين تفسيراً موثّراًوجذّاباً ومدعّماً بأدلة وبراهين تضرب في عمق التحويرات والتزييفاتالغربية للإسلام والعرب. لقد وجد هؤلاء بغيتهم في "الاستشراق" الذي أثبتلهم بـ"أن الشرق من إنتاج الغرب وخلقه"، بمعنى أن الشرق الذي كان يتعاملمعه الغرب لم يكن شرقنا الحقيقي، بل هو شرق متخيّل ومزيّف لا يمت إلينابصلة. وهذا يوصل إلى نتيجة بأن كل ما كتبه المستشرقون تزييف وباطل وإتباعللظن والتوهم. وبهذا نرمي عن كاهلنا عبء تلك النظرة الدونية التبخيسيةالتي شكّلها الغرب عنا. كانت فضيلة الكتاب في هذه القراءة هي "توضيح أخطارالمستشرقين الخبيثة، وإنقاذ الإسلام من براثنهم" . في دراسة عن "منهجمونتغمري واط في دراسة نبوة محمد (ص)" 1985 وجد جعفر شيخ إدريس أن هذاالمستشرق كان يدّعي استخدام منهج علمي في دراسة "نبوة محمد" وقضية"الوحي"، في حين أنه يتبع في دراساته منهجاً آخر، يقوم أساساً علىالعلمانية والمادية وإتباع الظن وعدم الثقة في علماء المسلمين وعامتهموالتعصّب ضد العرب والمسلمين. ولكي يعزّز المؤلف رؤيته اضطر إلى استحضار"استشراق" إدوارد سعيد؛ ليكون خاتمة القول والكلمة الفصل في تحويراتالمستشرقيين وتجنياتهم. فينبغي "أن نتذكر نحن أن هذا الشرق الذي يتحدث عنهواط ورفاقه المستشرقون ليس شيئاً واقعياً يشار إليه بالبنان - وإنما هو -كما قال الدكتور إدوارد سعيد - شيء من نسج خيالهم، ينشأ عليه صغارهم ويشيبعليه الكبار" . وفي دراسة أخرى عن "منهجية الاستشراق في دراسة التاريخالإسلامي" استحضر محمد بن عبّود إدوارد سعيد و"الاستشراق" في سياق مناقشتهمسألة الموضوعية والتحيّز بالنسبة للمؤرخين المستشرقين. وفي هذا الشأن يرىالمؤلف أن هناك عوامل أثّرت في مناهج المستشرقين ومن ثم أثّرت في تصوراتهمللتاريخ الإسلامي. وهذا الرأي يجعل حضور إدوارد سعيد ضربة لازب، وأمر لامهرب منه؛ فكتاب إدوارد سعيد "الاستشراق" "هو أحدث وأعمق تحليل للقوىالتاريخية التي تقف وراء تطور فكرة الشرق، مقدمة إياها في صورة حديثة،متناقضة مع الشرق الحقيقي، عن طريق بحث تفصيلي لكتابات أصدق المستشرقينتمثيلاً. ونجد أن هذا العمل المهم الذي خطّه قلم عالم مستشرق[؟!]، قد حظيباستحسان عظيم وتعليق كثير في جميع أنحاء العالم، بيد أنه أثار كذلك غضبوسخط مستشرقين بعينهم يمضون في غيّهم متصورين الشرق صورة ثابتة من نتاجخيالهم يقصدون بها المستهلك الغربي" .ليس ما يلفت في ما سبق من استشهادات هو وصف إدوارد سعيد في دراسة محمدبن عبود بأنه "مستشرق"، بل اللافت أن هذه القراءات لم تستطع استثمار قراءةسعيد للاستشراق في مقاربتها للمنهجيات الاستشراقية، بل بقي "الاستشراق"سلاحاً يشهر في كل مرة ضد الغرب والمستشرقين. إن سعيد يحضر في هذه القراءةحضوراً عرضياً ليؤدي وظيفة محددة له، وهي تعزيز الرؤية التي يتبناهالقارئ. فالقارئ يبحث عن أدلة تعزز موقفه من الغرب والاستشراق، وقد وجدبغيته في "الاستشراق" لإدوارد سعيد. ولا يهم بعد ذلك ما اشتمل عليه هذاالكتاب من عمق التحليل والسبر الدؤوب والتقصي المتبحّر، المهم هو أنه أثبتأن "الشرق من اختراع الغرب". إن هذه النتيجة التي انتهت إليها هذهالقراءات نتيجة متوقعة، فالقراءة الاستعمالية قراءة برغماتية متجوّزة إلىأبعد الحدود؛ لأن الذي يعنيها هو ما يخدم رؤيتها ويدعم موقفها. ولهذافإنها تتعامل مع النص بحرية لا تحدها حدود، ولهذا تجد في هذا النوع منالقراءات كثيراً من الانتقائية، وكثيراً من الاختزال، وكثيراً من تقطيعأوصال النص، وكثيراً من عزله عن سياقه.إن هذا التفارق بين "استشراق" إدوارد سعيد وهذا النوع من القراءات فيكل من الأهداف والمنطلقات هو الذي جعل هذه القراءات لا تلجأ إلى إدواردسعيد إلا من أجل خدمة أغراضها وتعزيز مقاصدها. وهذه الوضعية هي التي كانتتدفع بهذه القراءات إلى مزيد من "القراءات المغلوطة"، وإلى مزيد من سوءالتأويل. إن التباين بين مشروع إدوارد سعيد وبين القراءات الإسلامية تباينشاسع لدرجة لا يمكن رتقه بسهولة، بل إن قراءة "الاستشراق" على "أنه دفاععن العرب والإسلام" واحدة من المظاهر الساخرة. فهذه القراءات تصدر فيقراءتها للاستشراق والغرب من تصوّر يذهب جهة القطيعة الحادة بين العربوالغرب، أو بين الإسلام والغرب، أو بيننا وبينهم. إننا إذن أمام تشكيلاتحضارية متمايزة، بل متعارضة وليس بالإمكان الوصول إلى نقاط التقاء بينهما.في حين أن رؤية سعيد تصدر عن أفق إنساني رحب، جعله من أشرس المهاجمينلمفاهيم "الهوية" و"النقاء" و"الصفاء" و"القومية"، بل إنه ليذهب إلى حدالقول بأن "جذور القومية ترتبط كثيراً بجذور العنصرية"، حيث يفكّر الناسبأنهم جزء من جماعة متميزة ومن ثم متفوقة. إننا نعيش، بحسب إدوارد سعيد،في "أقاليم متقاطعة وتواريخ متواشجة" وثقافات هجينة، وبمقدار هجنتهاHybridity يكون ثراؤها.وإذا قاد هذا التفارق بين منطلقات إدوارد سعيد وبين منطلقات القراءاتالإسلاموية والقومية إلى التعامل مع نص سعيد بطريقة برغماتية تقوم علىالاختزال والانتقاء، فإن التفارق بين منطلقات سعيد ورؤيته، وبين منطلقاتالقراءة العربية الماركسية قد قاد إلى عملية معايرة حادة لنص "الاستشراق".إن قراءة كل من صادق جلال العظم في "الاستشراق والاستشراق معكوساً" 1981،وقراءة مهدي عامل في "هل القلب للشرق والعقل للغرب؟ أو ماركس في استشراقإدوارد سعيد" 1985، إنما كانت تعاين الكتاب من منظور أيديولوجي راسخ ومكينومجروح في الوقت ذاته، وهذه الوضعية تمهّد لقراءة من نوع محدد، قراءة تتكئعلى معايرة الكتاب بمقاييس تجدها القراءة بدهية، وتؤهلها لأن تقيس قيمةالكتاب بدرجة انحراف الكتاب عن هذه المعايير أو وفائه لها. كما أن قراءةالكتاب بذات قرائية مجروحة في الصميم، سوف يحكم هذه القراءة بانفعاليةمتسرّعة، وبتشكيلة عاطفية عدائية. فهذه القراءة لم تكن لترضى عن حشر ماركسفي خانة الاستشراق، أو اعتباره هو والاشتراكية، بعبارة فرانز فانون "جزءاًمن المغامرة الضخمة للروح الأوربية" الاستعمارية. وقد قادت هذه الوضعيةالقراءة إلى قراءة مفرطة في اتهاماتها وتجنياتها ومحاكماتها، لدرجة أنيتهم إدوارد سعيد بأنه قد رجع إلى حظيرة الفكر اليميني، وإلى كنف المواقفالسياسية العربية اليمينية، أو ارتدّ إلى مواقع المستشرقين الكلاسيكيين .إن علاقة إدوارد سعيد بالماركسية علاقة متوترة، ومع ذلك فإن نقدهلماركس والماركسية في "الاستشراق" نقد عَرَضي ورد في بضع فقرات، إلا أنالاختلاف الحاد والجذري بين أطروحة سعيد في "الاستشراق" وبين الطرحالماركسي بماديته التاريخية، يتمثل في اختلاف الطرحين في المنطلق والمهادالتأسيسي لتفسير تطوّر الظواهر والمؤسسات. فالطرح الماركسي يتأسس على رؤيةمادية تاريخية للظواهر والمؤسسات. فالبشر، كما يقول ماركس، يصنعونتاريخهم، لكنهم لا يصنعونه كما يريدون، بل في ظل ظروف وأوضاع معطاة مباشرةومتسامية عليهم، وتثقل كاهلهم، وتتمثّل في علاقات الإنتاج المادية التيتشكّل البنية التحتية التي تقوم عليها البنية الفوقية المتمثلة في القانونوالسياسة والدين والأدب والوعي الاجتماعي. وعلى الرغم من أن إدوارد سعيدفي مشروعه لا يعرض عن هذا الطرح إعراضاً تاماً، إلا أن أولويات مشروعهتفرض عليه أن يقلب هذا النموذج لعلاقة البنية التحتية بالفوقية. فسعيد،كما أشرنا سابقا، يريد أن يتفحّص الكيفية التي حدثت بها العمليةالإمبريالية، لكن ليس على مستوى القوانين الاقتصادية والسياسية كما هومسعى الماركسية، بل على مستوى التشكيلات الأيديولوجية، والتصورات الثقافيةالتي تمتلكها بعض الشعوب عن نفسها أو عن الشعوب الأخرى.لقد مثّل هذا الاختلاف الجذري بين المنطلقين تحدياً كبيراً أمامالقراءة الماركسية العربية. وهو تحدٍ لم يكن ليقود إلى محاولة التوفيق بينالمنطلقين من خلال رؤية تؤكد العلاقة المتبادلة بين المستوى الاقتصاديوالسياسي والمؤسساتي للعملية الإمبريالية وبين المستوى الثقافيوالأيديولوجي، بل انصرف هم القراءات إلى تعزيز هذا الاختلاف إلى الحد الذيلم يعد ممكناً أي حل وسط بين المنطلقين. يبدأ صادق جلال العظم قراءته لـ"الاستشراق" بعرض موجز لأطروحة الكتابالأولية، ثم يعقبه مباشرة بانتقاد مبدئي يتأسس على خيبة أمل فيما كانينتظره القارئ من كتاب يؤلّف لنقد مؤسسة الاستشراق. كان صادق العظم ينتظرمن كتاب سعيد أن يفي بتوقعاته، إلا أن الكتاب قد كسر "أفق انتظاره" الذيينطوي على رؤية مادية تاريخية لتطور المؤسسات والظواهر. يرى العظم أن سعيدبدأ تحليله للاستشراق بداية سليمة، ثم ثنّى على هذه البداية بتحليل مغلوطومتراجع. فبداية تحليل سعيد حملت القارئ على أن يستنتج بأن الاستشراق"يشكّل ظاهرة ما كان يمكن أن توجد، بالمعنى الدقيق للعبارة، قبل صعودأوروبا البورجوازية وتثبيت سلطانها وتوسيع حدودها" ، وقد عزّز هذاالاستشراق أن سعيد، كما يقول العظم، يحدد بدايات الاستشراق عند عصرالنهضة. غير أن "أفق الانتظار" هذا لم يلبث أن كُسِر، وذلك حين يتخلّىإدوارد سعيد عن كل هذه الوعود. فبدل أن يستخلص النتائج التاريخيةوالمنطقية المترتبة على هذه الأطروحة استخلاصاً صارماً ودقيقاً ومنتظماًكما يأمل القارئ، نجده "بفضّل اللجوء إلى الصياغات اللغوية البارعةوالتوسطات الأدبية اللامعة لتبديد مظاهر الإحراج والتشويش والارتباكالفكرية التي يمكن أن تصيب تحليلاته نتيجة هذا النوع من القصور" . ولايتمثّل هذا القصور، من هذا المنظور، في خلل في الرؤية والطرح، بل في تخليإدوارد سعيد السريع عن الاتجاه الذي أوهم به في تفسير نشأة الاستشراقوتطوره، وتمسّكه باتجاه آخر يتعارض مع هذا الاتجاه، ويظهر "عبر إسقاطتاريخي هائل إلى الخلف، إلى هوميروس واسكيلوس ويوريبديس ودانتي، بدلاً منعصر النهضة" الذي كانت تحليلاته الأولى توهم بذلك.لا يمكن لقارئ ماركسي عتيد كصادق جلال العظم أن يقبل بهذا "الإسقاطالتاريخي الهائل" في تأويل ظاهرة حديثة كالاستشراق. ذلك أن هذا الإسقاطيتعارض مع تطور الظاهرة تاريخياً ومادياً وجدلياً من جهة، ومن جهة أخرىيقود إلى إلغاء أثر التاريخ والتطور، بحيث لا يعود الاستشراق، عندئذٍ،وليد ظروف تاريخية أو استجابة لمصالح وحاجات حيوية ناشئة وصاعدة. فالقولبأن الاستشراق هو عملية تشويه وتحقير لصورة الشرق، وأن هذا التشويه قديمقدم الحضارة الغربية والشرقية، يقود، من منظور العظم، إلى نتيجة منطقيةبعيدة، وهي القول بـ"أسطورة الطبائع الثابتة" والجوهرية للثقافاتوعلاقاتها. وهي الأسطورة التي كان سعيد يريد تدميرها وتفكيكها.إن خيبة الأمل وكسر "أفق الانتظار" اللذين مني بهما صادق جلال العظم في"استشراق" إدوارد سعيد، قد قاداه إلى إساءة تأويل خطيرة لرؤية إدوارد سعيدومشروعه. فإدوارد سعيد، ناقد "ميتافيزيقا الاستشراق" كما يسميها العظم،ينتهي إلى التسليم الصامت بـ"أسطورة الطبائع الثابتة"، وإلى تعزيز هذهالأسطورة التي يلخّصها العظم في مقولتيها المطلقتين: الشرق شرق، والغربغرب، ولكل منهما طبيعته الجوهرية المختلفة وخصائصه المميزة. إن السؤالالذي يفرض نفسه هنا هو: كيف انتهى إدوارد سعيد من مقوّض لميتافيزيقاالاستشراق و"أسطورة الطبائع الثابتة" والجوهرانية إلى مسلم بهذهالميتافيزيقا وهذه الأسطورة، بل إنه يعطيهما المصداقية والجدارة؟ ما الذيجعل ناقد الإمبريالية الشرس ينتهي إلى مسلم ومعزّز لأساطيرها وتصوراتها؟ إن هذا التعارض بين ما ينتظره القارئ من النص وبين ما يتحقق في النص،يقود إلى التباس وسوء فهم خطير للنص، وإلى مجموعة من الاختلافات الجذريةبين رؤية القارئ ورؤية المؤلف. فالقارئ يفهم "الاستشراق" بوصفه تلك القوةالمؤسساتية الغربية التي كانت أداة التوسّع الأوربي نحو الشرق، في حين أنالذي يعني إدوارد سعيد في هذا السياق هو "الاستشراق" بوصفه نظاماً منالمعتقدات والتصورات التي كانت تحرّك الغرب المادي إلى الشرق الواقعي أوالمتخيّل. إن "الاستشراق"، بهذا المعنى، أشبه بتشكيلة خطابية تبريرية، منحيث إنها تبّرر وتسوّغ وتشرّع لحركة مادية تجاه الشرق أو رؤية تخيّلية عنالشرق، وتعزيزية من حيث هي أداة لتدعيم هذه الرؤية أو هذه الحركة.وبتعبيرات إدوارد سعيد، فإن الاستشراق يساعد في كشف الكيفية التي حدثت بهاعملية الإمبريالية على مستوى القوانين الثقافية والتصورية، لا الاقتصاديةوالسياسية والعسكرية كما ينتظر صادق جلال العظم من "الاستشراق".إن النزعة المعيارية واضحة في هذه القراءة؛ فقراءة العظم تنطوي علىتفسير لظاهرة الاستعمار والإمبريالية، وهو تفسير تراه القراءة "التفسيرالصحيح"، وهو ما كان القارئ ينتظر من كتاب سعيد أن يبني عليه استنتاجاتهوتحليلاته، غير أن سعيد يصدمه بخلاف ذلك، بل يقلب له العلاقة رأساً علىعقب. وإذا كان تفسير صادق العظم "صحيحاً"، فإن هذا يستتبع بالضرورة أنيكون تفسير إدوارد سعيد خاطئاً. وعلى أساس من هذه المعيارية الصارمة، راحصادق العظم يؤاخذ سعيد على اهتمامه غير المبرّر بكل ما هو خيالي وذهنيومثالي وانفعالي وتصوري. يرى العظم أن سعيد يغالي في هذا الاتجاه حتىليبدو له وكأن عوالم الخطاب والصور والانطباعات والحساسيات والمتخيلات قدحلّت محل الواقع الخام بفظاظته وكثافته وعينيته، وهو الأمر الذي لا يمكنلماركسي من حجم صادق العظم أن يتقبله أو يستسيغه. إن العامل الاقتصادييمثّل، من المنظور الماركسي، الأساس التحتي لكل أشكال الوعي الاجتماعي. فيحين أن أطروحة سعيد تذهب إلى مغادرة مستوى التفسير الأحادي للتاريخوالظواهر والمؤسسات، وهو ما كان يقرّب بين إدوارد سعيد وبين ماكس فيبر،أكبر ناقد للرؤية الماركسية المادية الأحادية، الذي كان يرى أن التاريخ لايمكن تفسيره على أساس العامل الاقتصادي وحده، بل يجب أن يؤخذ بعينالاعتبار عامل آخر مهم، وهو ما يسميه فيبر بـ"روح الحياة الاقتصادية".فحيوية القوى المحركة للرأسمالية لا تعود إلى رؤوس الأموال فحسب، بل إلىنمو "روح الرأسمالية". إن "الرغبة في الكسب" و"البحث عن الربح" و"النهمإلى الذهب"، كل ذلك، من منظور فيبر، لا علاقة له بحد ذاته بالرأسمالية.فكل هذا، على الرغم من أهميته، لا ينطوي "أبداً على مقوّمات الرأسماليةولا حتى على "روحها" التي تمثّلت كظاهرة جماعية في "أخلاق العقلانيةالبروتستانتية النسكية". وبتدعيم هذا التصور المثالي لماكس فيبر بتصورميشيل فوكو عن المعرفة والقوة والتشكيلات الخطابية، استطاع إدوارد سعيد أنيقدّم أهم عمل في نقد الاستشراق والاستعمار والإمبريالية في العصر الحديث.إذا كان التعارض بين القارئ والمؤلف على مستوى الرؤية والتصور قد قادإلى إنتاج قراءة مغلوطة تعاير النص بمقاييس الخطأ والصواب، فإن موقفإدوارد سعيد من ماركس قد قاد إلى محاكمة النص ومؤلفه محاكمة انفعاليةمتسرّعة؛ فرمي ماركس بتهمة الاستشراق سابقة لم يقدم عليها، كما يقول صادقالعظم، "دارس جاد" قبل إدوارد سعيد. هل معنى هذا أن ما أتى به إدوارد سعيدعن ماركس وتحليله للوجود الإنجليزي الإمبريالي في الهند، يمثّل دراسة جادةبحسب ما يوهم به وصف صادق جلال العظم؟ إن إجابة العظم عن هذا السؤال حاسمةفي النفي؛ فهو يعتقد "أن الصورة التي رسمها إدوارد سعيد لوجهات نظر ماركسحول الشرق ولمحاولاته تفسير الصيرورات التاريخية المعقدة التي أخذتمجتمعاته وثقافاته تخضع لها، لا تشكّل أكثر من رسم كاريكاتوري ليس إلا" .إذا كان صادق جلال العظم قد ختم مقالته عن "الاستشراق والاستشراقمعكوساً" برصد نقاط التقاطع العرضية بين "استشراق" إدوارد سعيد وبين"الاستشراق المعكوس" والذي يتمثل في الفكر القومي العربي التقليدي وحركةالإحياء الإسلامي، إذا كان ذلك قد ورد عرضياً ومن دون أن يصرّح المؤلفبعمق الأواصر بين فكر سعيد وهذه الحركات القومية والإسلامية، فإن كاتبينآخرين لم يترددا أبداً في رمي إدوارد سعيد بتهمة "القومية الشوفينية"(مهدي عامل)، أو "الأصولية الإسلاموية الخمينية" (حازم صاغية).ومن حيث المنطلق، فإن قراءة مهدي عامل لا تختلف كثيراً عن قراءة صادقجلال العظم؛ فكما بدأ هذا الأخير قراءته بـ"أفق انتظار" يتشكّل من التصور"الصحيح" للتاريخ وتطور الظواهر والمؤسسات، كذلك كان مهدي عامل يشدّد، فيمفتتح قراءته، على ضرورة "أن يكون الفكر الناظر في التاريخ فكراً مادياً،حتى يتمكن من أن يكون علمياً" . أما الفكر الذي لا ينطلق من هذا التصورالمادي والصراعي والتناقضي للتاريخ، فأقل ما يقال عنه "إنه مثالي"، وممثّلهذا الفكر المتهم، من منظور مهدي عامل، هو إدوارد سعيد. وهي ذات التهمةالتي سبق لصادق جلال العظم أن وجهها إلى "أيديولوجيا" إدوارد سعيد. وليستهذه التهمة إلا بداية الخيط في سلسلة لا تنتهي من التهم التي كالها مهديعامل لإدوارد سعيد وفكره. وهو ما جعل هذه القراءة قراءة اتهامية، ومغرقةفي نزعتها الاتهامية بصورة أكبر مما وجدت لدى صادق جلال العظم. ففكرإدوارد سعيد هنا مثالي، ويحكمه منطق التماثل لا التناقض كما تفترض القراءةأو "الفكر العلمي الصحيح"، وهو فكر وضعي، ولاعقلاني، وهو يمثّل فكر الطبقةالبورجوازية الذي يرفض الاختلاف والتناقض، ويقع في قبضة منطق الفكرالاستشراقي، كما أنه فكر عدمي يضرب بجذوره عند نيتشه وحفيده ميشيل فوكو.وهو فكر بنيوي يقول بأولوية الصراع المعرفي على الصراع الاجتماعي الطبقي،وفكر إمبريالي بحسب المضي بعبارات مهدي عامل إلى أقصى مدى تأويلي تحتمله،فإدوارد سعيد بنيوي، والبنيوية، كما ينقل مهدي عامل عن سارتر، هي آخر "شكلمن أشكال الأيديولوجية البرجوازية الإمبريالية" ، وعلى هذا فنقد سعيدالبنيوي للاستشراق شكل من أشكال الأيديولوجية البرجوازية الإمبريالية!!.وغريب حقاً هذا التأويل الذي قاد أشرس ناقد للإمبريالية إلى حظيرة"الأيديولوجية الإمبريالية"!!، بعد أن قاده قبل ذلك إلى حظيرة "الفكرالقومي" المغلق .وعبر استراتيجية التأويل ذاتها، كان حازم صاغية يربط فكر سعيد وأطروحتهبالفكر الإسلاموي في العصر الحديث. فمعاداة الاستشراق، كما في حالة سعيدمثلاً، أقرب ما تكون، من منظور صاغية، إلى "خمينية ثقافية تلوّح بالأصولوالمآلات، وفيما بينها تعتمد على الحذف والتبديد" . ومن هذا المنظور، فإنالعداء الأكاديمي للاستشراق يلتقي مع الأصولية الدينية في عدائهما السافرللغرب، وفي نزعتهما النسبية الثقافية المتطرفة. لهذا لم يدهش المؤلف منكون "كتاب الاستشراق لسعيد هو أحد عدة الشغل عند أكثر "المثقفين"الأصوليين حذلقة، ولمّا كانت الخمينية السياسية "ثقافية" أكثر منها سياسي،بدا الأمر أقرب إلى التكامل منه إلى التوازي" . وبمنطق التكامل هذا، أمكنللمؤلف أن يشبك فكر سعيد بالأصولية الدينية، وأن يبحث عن دلالة تتسق معتأويله هذا في كل الملابسات التي أحاطت بكتاب"الاستشراق"؛ فمن منظورصاغية، هناك دلالة ما ومغزى موضوعي في تزامن صدور هذا الكتاب وبين الثورةالإسلامية في إيران. وعلى هذا، لم يكن مستغرباً، من منظور المؤلف، كماقلنا للتوّ أن يكون هذا الكتاب أحد عدة الشغل الأساسية لدى المثقفينالإسلامويين، كما "لم يكن عديم الدلالة، والحال على ما هي عليه، أن يسقطهذا الكتاب على المنطقة كأنه جزء من الحدث الثوري الإسلامي [أي اندلاعالثورة الإيرانية]، في زمن أيلولة القومية العربية الناصرية والبعثية، إلىالتفسّخ. فهو، من ضمن حقله الخاص وجهوده الأكاديمية البارزة، يشاطر ثورةالخميني ردّ كل شيء إلى الغير" . وردّ كل العيوب والأخطاء والمآزق إلى هذاالغير، أي الغرب، إنما يجد مشروعيته من تصوّر مخصوص للمعرفة وعلاقة العارفبموضوع المعرفة. وعلى أساس هذا التأويل المغلوط راح المؤلف يكشف عنالتقاطعات بين برنامج "العداء الأكاديمي للاستشراق"، ممثّلاً في إدواردسعيد، وبين برنامج "الخمينية السياسية". فبناءً على فهم المؤلف، فإنالبرنامجين يشتركان في نظرة مفرطة النسبية للمعرفة، بحيث "يصير السوري هووحده الذي يكتب عن سورية لأنه "أعرف" بها (أي ألصق بها) من غيرها، وكذلكيفعل الإيراني والصيني والفرنسي حيال بلدانهم. فكل امرئ أولى بدراسة بلده". وهذا في الوقت الذي يذهب فيه سعيد إلى تأكيد تاريخية التجربة الإنسانيةودنيويتها ، والدنيوية، لدى سعيد، هي أساس التأويل وهي الشرط الضروري له؛فكل ما يقع في الدنيا والتاريخ إنما يكون قابلاً للتأويل، وهو يكتسب هذهالقابلية للتأويل من كونه "حدثاً دنيوياً". يتعارض هذا التأويل الدنيوي معنظريات الجوهرانية التي كان العظم ومهدي عامل وحازم صاغية يأخذونها علىكتاب "الاستشراق". إن القول بأن السوري أعرف بسوريته، والإيراني أعرفبإيرانيته وهكذا، إنما يفترض، من حيث الأصل، جوهرانية التجربة السوريةوالإيرانية وغيرها، أي أنه ينفي عنها سمة "الدنيوية" المتغيّرة. وهذاافتراض في غير محلّه بما أنه افتراض لجوهرانية ما هو، من منظور سعيد،مخلوق تاريخياً، ونتاج للتأويل الدنيوي. وفي الوقت الذي لا ينفي فيهإدوارد سعيد خصوصية أية تجربة إنسانية، سورية أو إيرانية أو يهودية أونسوية أو غير ذلك، فإنه لا يتهاون في التشديد على المحافظة على قدر منالإحساس بالروح الإنسانية الجمعية. وهذه الروح هي التي جعلت إدوارد سعيد،وهو واحد من أشد المدافعين عن الحقوق الفلسطينية، يبدي تفهّماً، قد لايكون مقبولاً لا لدى القوميين العرب ولا لدى الإسلاميين، تجاه تجربةالمعاناة اليهودية ، ليس بوصفها تجربة حقيقية بالضرورة، بل بوصفها "سردية"راسخة في المتخيّل اليهودي الحديث. كيف يمكن التوفيق إذن بين كل هذا وبينتأويل حازم صاغية لـ"الاستشراق"؟ كيف يمكن أن يقول المؤلف شيئاً، ويفهمالقارئ منه شيئاً آخر، بل نقيضاً لما أراد المؤلف قوله؟لقد أراد إدوارد سعيد من "الاستشراق" شيئاً، وفهم القراء منه شيئاً آخرنقيضاً لما أراده. لقد أراد سعيد، في "الاستشراق"، أن يعرّي ويفضح ذاكالانشباك الآثم بين المعرفة والقوة الإمبريالية، أو بين الحماس والفضولالمعرفي من جهة وبين الرغبة في الغزو والهيمنة من جهة أخرى. غير أن حازمصاغية، كما كان صادق جلال العظم ومهدي عامل من قبل، قد وجد فيه ارتماء فيأحضان "القومية" و"الأصولية الدينية"، بل إن البعض اعتبر إدوارد سعيد"كبطل من أبطال العروبة" .لقد ظهر نص "الاستشراق" في سياق أنجلوأمريكي(*)، ثم راح يتفاعل معسياقات مختلفة تشمل الهند، واليابان، وباكستان، وإيران، والشرق الأوسط،وأمريكا اللاتينية وغيرها. وبعد هذه الهجرة والتفاعلات لم يعد في مقدورصاحب النص، إدوارد سعيد، أن يوقف اندياح التأويلات، وانزلاق الدلالاتالمتفجّرة من داخل نصه. لقد حاول سعيد مرة أن يفعل ذلك ومني بالفشل. فبعدنشر صادق جلال العظم مقالته السابقة، وجّه إدوارد سعيد إليه "رسالة شخصيةغاضبة جداً ومليئة بالشتائم غير الأكاديمية، بعثها من جامعة كولومبيا، بعدقراءته لمخطوط النسخة الإنكليزية" من نقد العظم لكتابه. غير أن هذاالتدخّل الأبوي من قبل سعيد لحماية قصدية نصه لم يثنِ هذا القارئ عنقراءته، كما لم يمنع ظهور قراءة نارية كقراءة مهدي عامل، ولا قراءة"ملتبسة" ولا تخلو من تحامل كقراءة حازم صاغية. وهو ما يؤكّد أن ما يملكهالمؤلف من حقوق نصه أقل بأضعاف مضاعفة مما هو ملك مشاع لأي قارئ، بحيث لميعد في مقدور المؤلف، أي مؤلف، أن يتدخّل لإيقاف اندياح التأويلاتالمتحرّكة حول نصه الذي يهاجر من سياق إلى آخر. فالنص ينتج في سياق تاريخيمحدد وداخل وضع اجتماعي مخصوص، وهو حين ينتقل إنما ينتقل مقطوعاً من سياقهووضعه "الأصليين"، وهذا الانتقال هو الذي يجعل النص محكوماً عليه بتقبّلتأويلات عديدة، وهو ما ذهب إليه سعيد في "هجرة النظرية" .
    هوامش :

    • بيل أشكروفت وبال أهلواليا، إدوارد سعيد: مفارقة الهوية، تر: سهيل نجم، (دمشق/القاهرة: دار الكتاب العربي، ط:1، 2002)، ص195-196.
    • إدوارد سعيد، الاستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء، تر: كمال أبو ديب، بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، ط:2، 1984، ص39.
    • Leela, Gandhi, Postcolonial Theory: A Critical Introduction, Australia; Allen & Unwin, 1998, in this site: http://www.allen-unwin.com.au/academic/Slpostcol.htm
    • انظر توضيح سعيد لذلك في:الثقافة والإمبريالية، تر: كمال أبو ديب، بيروت: دار الآداب، ط:1، 1997، ص 83.
    • المرجع السابق، ص80.
    • يميّز إمبرتو إيكو في كثير من كتبه، "حدود التأويل" و"القارئ فيالحكاية" مثلاً، بين نوعين من القراءة، فهناك قراءة يكون القصد منهااستعمال النص واستخدامه لخدمة أغراض ومقاصد في نفس القارئ، وهي "القراءةالاستعمالية"، وهناك قراءة يكون هدف القارئ فيها هو تأويل النص واستثماركل الإمكانيات لتفعيل النص وإثرائه دلالياً، وهي "القراءة التأويلية".وبالإمكان الاستفادة من هذا التمييز في قراءة أنماط التلقي لـ"الاستشراق"في الثقافة العربية الحديثة. انظر: إمبرتو إيكو، القارئ في الحكاية:التعاضد التأويلي في النصوص الحكائية، تر: أنطوان أبو زيد، بيروت/الدارالبيضاء: المركز الثقافي العربي، ط:1، 1996، ص137، 140، 141.
    • حازم صاغية، ثقافات الخمينية: موقف من الاستشراق أم حرب على طيف، بيروت: دار الجديد، ط:1، 1995، ص33.
    • "الثقافة والإمبريالية"، ص9.
    • إدوارد سعيد، تعقيبات على الاستشراق، تر: صبحي حديدي، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط:1، 1996، ص112.
    • ومن مظاهر هذا الاحتفاء إقدام "دار الكتاب الإسلامي" بـ"قم" فيإيران على طباعة كتاب "الاستشراق" طبعة مصوّرة وغير مرخّصة من الطبعةالعربية بترجمة كمال أبو ديب.
    • تعقيبات على الاستشراق، ص104.
    • جعفر شيخ إدريس، منهج مونتغمري واط في دراسة نبوة محمد (ص)، في:مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية، المنظمة العربية للتربيةوالثقافة والعلوم، ط:1، 1986، ج:1، ص240.
    • محمد بن عبود، منهجية الاستشراق في دراسة التاريخ الإسلامي، في: مناهج المستشرقين، مرجع سابق، ج:1، ص363.
    • إدوارد سعيد: مفارقة الهوية، ص200.
    • انظر: صادق جلال العظم، ذهنية التحريم، لندن: دار رياض الريس، ط:1، 1992، ص59، 69 على التوالي.
    • المرجع السابق، ص20.
    • المرجع السابق، ص21.
    • المرجع السابق، الصفحة ذاتها.
    • ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، تر: محمد علي مقلد، بيروت: مركز الإنماء القومي، د.ت، ص7.
    • المرجع السابق، ص42.
    • مهدي عامل، ماركس في استشراق إدوارد سعيد، ضمن أعماله الكاملة، بيروت: دار الفارابي، ط:3، 1990، ص98.
    • المرجع السابق، ص159.
    • المرجع السابق، ص100.
    • ثقافات الخمينية، مرجع سابق، ص33.
    • المرجع السابق، ص34، هامش رقم (6).
    • المرجع السابق، ص67.
    • المرجع السابق، ص35.
    • الثقافة والإمبريالية، ص100-101.
    • يرى إدوارد سعيد في آخر كتاباته وحواراته أن الحل الوارد للصراعالإسرائيلي الفلسطيني إنما يتأتى، لا بحل يقوم على قيام دولتين، بل بحليتمثّل في دولة واحدة تجمع الإسرائيليين والفلسطينيين معاً. وهذا لن يكونإلا بمواجهة كل جماعة لتجربتها في ضوء تجربة الآخر. فليس هناك أمل فيالسلام إلا إذا اعترفت الجماعة الأقوى، اليهود الإسرائيليون، بذاكرةالمعاناة الفلسطينية، كما أن على الطرف الأضعف، الفلسطينيين، أن يواجهوابجرأة ذاكرة اليهود في المعاناة والنجاة من "الهولوكوست". انظر: إدواردسعيد: الاختلاق، الذاكرة والمكان، تر: رشاد عبد القادر، مجلة "الآدابالأجنبية"،ع: 104، 2000، ص36. وانظر الحوار الذي أجراه Harvey Blume for"Atlantic Unbound", 22 September 1999.
    • تعقيبات على الاستشراق، ص107.
      (*) للمقارنة بين التلقيالعربي والتلقي الغربي للكتاب، يمكن مراجعة مقالة مصطفى ماروتش، السردالمضاد، في كتاب "الحق يخاطب القوة: إدوارد سعيد وعمل الناقد"، تحرير: بولبوفيه، تر: فاطمة نصر، (القاهرة: سلسلة كتاب سطور، ط:1، 2001)، ص248.

    • ذهنية التحريم، مرجع سابق، ص88.
    • إدوارد سعيد، هجرة النظرية، ضمن "العالم، والنص، والناقد"، ترجمة: عبد الكريم محفوض، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2000، ص289


      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس مايو 09, 2024 11:26 pm