منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    دراسة رواية: الحوت و القصر.

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    دراسة رواية: الحوت و القصر. Empty دراسة رواية: الحوت و القصر.

    مُساهمة   الأربعاء ديسمبر 16, 2009 1:25 pm

    رواية "الحوات والقصر" للطاهر وطار بين الواقعية و "العجيب" ـــ الجزائر - جمال كديك

    كثيراً ما ننعت، نحن المحدثون ، مصباح 1 علاء الدين أو الكيكلوب 2 بالشخوص الخيالية معتبرين إياها شخوصاً يستحيل وجودها ويستحيل أن تكون أفعالها وصفاتها حقيقية ؟، إنها باختصار غير قابلة للتصديق.‏

    تعد قابلية التصديق هذه إحدى خصائص الواقعية وهي قريبة من المفهوم الغربي la Vraisemblance الذي يعني مطابقة أحداث عمل قصصي لما تعتمده مجموعة ثقافية3 أنه حقيقي وممكن الحدوث.4 .‏

    إن الواقعية في إرادتها لإيهامنا بحقيقة ما ترويه تحكي لنا عالما مناظراً للعالم الحقيقي الذي نتصوره ممكن الحدوث فمرجع Référent النص الواقعي - إن شئنا استخدام مصطلح منطقي ولساني - يوحي بأنه مرجع حقيقي وموجود خارج الرواية .‏

    كلنا يعلم أن اللغة قادرة على وصف شيء موجود أو متخيل ، لكن النص الواقعي يحاول أن يقنعنا بإمكانية‏

    وجود العالم الذي يصفه ، فهو يستعمل نفس الأسماء والصفات والأحداث التي يستعملها أي إنسان لوصف مرجع حقيقي كإضفاء أسماء علم على شخوص تقبلها الثقافة التي يوجد فيها الأديب كـ " زيدان " في رواية "اللاّز" للطاهر وطارو " نفيسة" و" حسن " و " حسنين " في رواية " بداية ونهاية " لنجيب محفوظ و " راستينياك " (Rastignac) و " فوتران " (Voutrin) في رواية " الأب قوريو " لهونري دي بالزاك.‏

    يروي النص الواقعي كذلك أحداثاً من الممكن تصور حدوثها في الواقع ، كلنا يتذكر تهكم الكاتب الفرنسي فاليري Valéry من الرواية " الواقعية " حينما مثلها " بالمركيزة تخرج على الساعة الخامسة ".‏

    يروي القاص الواقعي أحداثاً كثيراً ما تتسم بالابتذال5 لا وجود لبطل بعينه يقوم بأحداث خارقة تلفت إليه الأنظار . إن " البطولة " بمفهومها القيمي غائبة عن النص الواقعي، والبطل الخارق القدرة ليس له وجود مما وسم مآل الشخوص بطابع تراجيدي ، فالبطل ، أو على الأصح ، الشخص في الرواية الواقعية يغالب قوة قاهرة فتغلبه . هذه السمة جعلت بعض النقاد الماركسين ينعتون الواقعية الكلاسيكية التي أسموها نقدية - بالتشاؤم . والأمثلة كثيرة تؤكد هذا الطابع التشاؤمي الخالي من البطولة ، فلوسيان Lucien في رواية بالزاك " الأوهام الضائعة " يحاول تحقيق أحلامه فتغلبه القوى المادية المحيطة به كذلك نرى نفس النهاية في رواية نجيب محفوظ" بداية ونهاية " ، فـ" نفيسه " تحاول تجاوز أوضاعها ، لكن الواقع يهدر أحلامها فتنتحر ملقية نفسها في النيل.‏

    يجذر النص الواقعي أيضاً أحداثه في زمن تاريخي معلوم ومعاصر للكاتب . ونحن نعلم مثلاً أن نجيب محفوظ عندما انتقل إلى الواقعية أصبحت رواياته مجذرة في واقع مصر المعاصر .‏

    يجذر النص الواقعي كذلك أحداثه في مكان موجود فعلاً خارج الرواية " القاهرة" في روايات نجيب محفوظ ، " باريس" في روايات بالزاك ، " قسنطينة " في رواية " الزلزال" للطاهر وطار.‏

    ولعل هذا يؤكد ما ذهب إليه يان وات I. watt من أن الرواية والواقعية تتميزان بإضفاء أسماء علم على الشخوص وكذلك بوجود مكان وزمان خاصين في الرواية .‏

    ليس غرضنا في هذا المقال التكلم عن الواقعية عموماً ، فما قلناه حول قابلية التصديق في النص الواقعي ما هو إلا مقدمة للولوج إلى صلب موضوعنا وهوتبيان مناقضة رواية الطاهر وطار " الحوات والقصر" للمشروع الواقعي رغم زعم صاحبها بانه كاتب واقعي بل وواقعي إشتراكي أيضاً.‏

    بداية ، لنحاول على ضوء ما رأيناه ، عن مفهوم قابلية التصديق أن نقارن بين رواية " الحوات والقصر" والمشروع الواقعي.‏

    إن ما يتبادر للذهن عند قراءة هذه الرواية هو أنها تضرب صفحاً علىأهم خاصية من خواص الواقعية وهي قابلية التصديق . هذه الرواية لا تستخدم في وصف شخوصها أسماء علم إلا لماما عكس النص الواقعي، رغم استخدام بعض أسماء العلم لشخوص قابلين للوجود في المحيط الروائي الثقافي كـ " علي" و" جابر" و " مسعود" ، ورغم استخدام بعض الألفاظ كلفظة " سلطان " مثلاً التي تطلق عادة - على الأقل في الوقت الحاضر - على ملك حكم بلداً عربياً أو اسلامياً لاسيما في العصور الغابرة. إن هذه اللفظة تشابه في دلالتها كلمتي " قيصر" أو" كسرى " اللتين تعبران عن واقع ثقافي معين ، ولقد أطلق النحويون على مثل هاتين الكلمتين تعبير علم الجنس، لكن استخدام اسماء العلم نادر في الرواية ويكاد يكون استثناء بل الأغلب أن نلاحظ وجود أسماء جنس لشخوص كـ " الشاب" أو " العذراء " .. إلخ، أو أسماء جنس متبوعة بصفة تخص شخصاً روائياً ، كـ " الرجل الملثم" أو " الشيخ الملتحي" .. إلخ نفس الملاحظة تنطبق على أسماء الأمكنة ، وهنا لا نجد أي ذكر لأسماء العلم فكلها أسماء جنس كـ " القرية " و"‏

    الوادي" و" الساحة" أما الأسماء المعرفة بالإضافة فهي أسماء جنس كذلك كـ "قرية الحظة " و " قرية التصوف" .. إلخ . والمثال الوحيد الذي يكون فيه المضاف إليه اسم علم " قرية بني هرار" فإن هذا الاسم غير معلوم وجوده لدينا.‏

    إن أسماء الأمكنة للرواية لاتجذر ( Ancrer) في أمكنة حقيقية خارجة عن الرواية حتى وإن كانت بعض الأسماء توحي بمرجعية ثقافية عربية إسلامية كـ " قرية التصوف".‏

    لا تجذر " الحوات والقصر" أحداثها كذلك في زمن تاريخي معين ومعاصر فأحداث " الحوات والقصر" لا تروى في إطار زماني معين ومعروف ولا نجد كذلك هنا إلاّ أسماء الجنس كـ " العصر" مثلاً، وهذا الاسم كما نرى لا يجذر الرواية في زمان معلوم. فأسماء الجنس عامة أو كما يقول النحويون "....." لا تختص بواحد دون آخر من أفراد جنسه "..." 6 فهي إذن لا تساعد في تجذير الرواية في الواقع كما يريد الكاتب الواقعي .‏

    إن هاجس الكاتب الواقعي هو ذلك " المنزل الزجاجي" الذي يرى من خلاله كل شيء ، لذلك يختفي في النص الواقعي الرمز أو المجاز . لكن ما يلاحظ في رواية الطاهر وطار " الحوات والقصر" هو أنها لا تشير بصراحة إلى مرجعها كما بينا سابقا ، فالسلطة السياسية تذكر كذلك باسم جنس هو "السلطان" أو مجازاً باسم " القصر".‏

    إن الكاتب يلجأ إلى الأسلوب غير المباشر وذلك عن طريق مشابهة واقع حقيقي بأحداث رواية " الحوات والقصر" . إن السلطة السياسية القامعة في الرواية هي " تمثيل" سردي لسلطة سياسية حقيقية وجدت في تاريخ الجزائر المعاصر .‏

    ولكن هذا " التمثيل" السردي يبتعد بالرواية عن الشفافية ونحن نعلم أن الواقعية تؤكد على الوضوح والمقروئية .‏

    إن البطل في هذه الرواية يمتاز بقدرة خارقة وبطابع استثنائي مما أبعد الرواية عن قابلية التصديق الواقعية . فعلي " الحوات" اصطاد سمكة لم يصطد مثلها من قبل وقد قدمها هدية للسلطان ،وهذه السمكة خارقة للعادة فهي تتكلم وتلتفت . و" قرية الأعداء" خلقت ، كما سنرى ، مجتمعاً مثالياً لبيت فيه كافة الحاجات البشرية ، وهي تنوي أن تخلق مجتمعاً طوباويا بفضل التكنولوجيا . إن البطل هنا يمتاز بانتصاراته وليس بانكساراته.‏

    قد يعترض معترض ليقول أن مفهوم البطولة موجود كذلك في الرواية الواقعية الاشتراكية التي يتبناها الكاتب.‏

    فبول مثلاً (Paul) في رواية غوركي " الأم" ، و" قاسم " في " الدقل" لحنا مينة ، وزيدان في " اللاز" للطاهر وطار يتجرأون ويطالبون سياسياً النظام والطبقات " المستغلة " فيتعرضون للعقاب ، فهم " أبطال " إذن بالمفهوم القيمي.7 أكيد إن هذا النوع من الأفعال من الممكن أن يوسم بالبطولة ، ولكنها بطولة تضحية وإيثار لا تنأى عن قابلية التصديق الواقعية .‏

    إن الرواية " الحوات والقصر" ليست واقعية إذن وهي تخلق عالماً شبيهاً بعالم الحكايا العجيبة ، بل اننا نتردد في إطلاق اسم رواية (ROMAN) على هذه القصة إذا وضعنا نصب أعيننا التطور التاريخي للرواية رغم تسليمنا بانفتاح هذا النوع الأدبي على كل تجارب الكتابة الأدبية .‏

    تنتمي رواية " الحوات والقصر" إلى نمط من التأليف اصطلح على تسميته " بالعجيب " والعجيب حسب تعريف بيرو له " يخلق عالماً مختلفاً عن العالم الحقيقي وغير متصل به " 8.‏

    ومصطلح " العجيب " هذا ليس غريباً على التراث العربي تماماً ، بل أننا نجد عند القزويني مصطلحاً قريباً منه وهو " العجب" وقد حاول تعريفه " قالوا العجب حيرة تعرض للإنسان لقصوره عن معرفة سبب الشيء أو عن‏

    معرفة كيفية تأثيره فيه9" إن جزيرة الواق واق والبنات الذي يشبه النساء يعتبر بالنسبة للقزويني عجباً حتى وإن كان يسلم به دون تمحيص تاريخي . ولقد ورد ذكر مصطلح " العجيب" في الدراسات الغربية كما ذكرنا ، وقد تعددت تعريفاته ونحن نميل إلى التعريف السالف لبييرو J.pierrot‏

    إن العجيب ضرب من ضروب التأليف مثله في ذلك مثل الواقعية وإن كان يتعارض معها في خواصه.‏

    تنتمي " الحوات والقصر" إذن للنمط " العجيب" وهذا العجيب يطغى على كل الرواية ، لا يتساءل الراوي أو أي شخص في الرواية حول إمكانية وقوع هذا العالم المخالف للعالم الحقيقي ولا يعطي لحوادثه أي تفسير عقلاني وليس هنالك أي تردد في تفسير وقوع الأحداث أو عدم وقوعها، هذه الرواية تنأى كلية عن الواقعية 10 وهذا عكس استعمال كاتب واقعي اشتراكي آخر للعجيب، فنحن نرى أن الكاتب السوري حنا مينة يستعمل كذلك العجيب، ولكن هذا العجيب لا يهيمن على كل الرواية ، فالمرأة التي تخرج من البحر في رواية حنا مينة " حكاية بحار" هي تجربة فردية للبطل " سعيد" ، أما معظم الرواية فتسيطر عليه قابلية التصديق الواقعية .‏

    إذا كانت ميزات الواقعية لا تنطبق على" الحوات والقصر" فإن ميزات الواقعية الاشتراكية لا تنطبق كذلك . إن الواقعية تمتاز بعدم الانتقاء 11 ، فالواقعية حسب أورباخ AUERBACH لا تهمل في وصفها " [....] أية طبقة اجتماعية [....] وأي وسط [.....] وأي فئة اجتماعية مهنية 12[.....] " لعل هذه الخاصية ظاهرة كذلك في الواقعية الاشتراكية . هذه الأخيرة تؤكد على الطبقات لأن الأيديولوجية السياسية التي تمتح منها تصوّرها للعالم وهي الماركسية ، تؤكد على الطبقات والتمايز الطبقي كما نعلم .‏

    إن الرواية الواقعية الاشتراكية تؤكد على الصراع والصراع بين الطبقات باستثناء الرواية الواقعية الاشتراكية " السوفياتية13 ما يميز الواقعية الاشتراكية كذلك هو وصفها للحاجات الاقتصادية الأساسية غير الملباة كالأكل والملبس والسكن والصحة ، إلى جانب وصف العمل المستغِل والمستغَل كذلك ، ضمن " صراع طبقي " بين الفلاحين والعمال من جهة والإقطاع والبرجوازية من جهة أخرى .‏

    وهناك بطل إيجابي ، ذو إيديولوجية ماركسية يسعى لتلبية هذه الحاجات بطلباته السياسية ، لكن السلطة تقمعه.‏

    هذه الخصائص المذكورة آنفاً موجودة مثلاً في" الأم" لغوركيM.GORKI وفي روايات حنا مينة وبعض روايات الطاهر وطار .‏

    ولكن الغريب في رواية " الحوات والقصر" هو عدم وجود طبقات وتمايز طبقي ، بالمفهوم الماركسي طبعاً، وهذا رغم تأكيدها على التوزيع غير العادل للثروات . ولكن هذا التأكيد أتى عاماً ، مثلاً " نحن فقراء" أو بطريقة غير مباشرة ولكن دون تحديد طبقي كما سنرى في المثال الموالي:‏

    " أزاحت الجارية العصابة عن عينيه ، فراح يفتحهما ببطء منبهراً بالأنوار المتلألئة من الزبرجد والياقوت والذهب والفضة . كانت القاعة جد فسيحة ، تغطي جدرانها ستائر سابرية هفهافة من كل لون ، تشع فيها أنوار مختلفة الألوان لا يدري الإنسان أهي منبعثة من أشعة الشمس أم من غيرها14."‏

    ذكرنا سابقاً أن هذه الرواية تنتمي إلى النمط " العجيب" لكن علينا أن نميز بين صنفين من " العجيب" ، الصنف الأول هو " عجيب " أقرب إلى المخيلة الشعبية ونرى في هذا العجيب ما اصطلح على تسميته بالتشخيص (Anthropomorphisation) فالأشياء والكائنات غير البشرية تتخذ صفات وتقوم بأفعال تعد من خصائص‏

    البشر، وهذا ما نراه في الرواية حيث يصطاد علي الحوات سمكاً عجيباً يتكلم ويلتفت.‏

    الصنف الثاني هو ما اطلقنا عليه بالعجيب " العلمي" وسيكون الاهتمام به في هذه الدراسة .‏

    لقد بقيت ملاحظاتنا حول هذه الرواية شكلية لحد الان وعلينا الان أن نجد دلالات أخرى لهذا التناقض بين رواية " الحوات والقصر" والواقعية ، دلالات تخرجنا من النص وأن يظل الارتباط به وثيقاً لعل ما يميز العجيب " العلمي" لرواية " الحوات والقصر" هو الطابع الإستيهامي الظاهر Fantasmatique لكن كل القصص سواء أكانت واقعية أو عجيبة هي استيهامات حسب فرويد FREUD، كذلك الأحلام وأحلام اليقظة يحقق فيها المستهيم أو الحالم رغباته .‏

    لكن القص الواقعي يخفي الطبيعة الإستيهامية لقصصه بقابلية التصديق الواقعية عكس النمط العجيب ، الذي يظهر فيه الاستيهام Fantasme واضحاً ، فالإستيهام هو خلق حكايات وأحداث وحسب فرويد فإن المستهيم يحقق عن طريقها رغباته المكبوتة.‏

    يمكن لنا أن نحاول تطبيق هذا التحليل على " الحوات والقصر" لنقول مثلاً أنه عن طريق علي الحوات ومآثره في اصطياد سمك عجيب، وكذلك ربما عن طريق " قرية الأعداء" التي حققت مجتمعاً مثالياً يحقق الطاهر وطار رغبة الطموح والنرجسية التي أكد عليها فرويد وعن طريق زواج علي الحوات بالعذراء الصوفية الجميلة يحقق الرغبة الجنسية لكننا لا ننوي في هذا المقال تطبيق المنهج التحليلي الفرويدي ، وقد يكون استعمال مصطلحات علم مبررة منهجياً إذا لم نستخدم المنهج نفسه وقد نتهم بالانتقائية ECLECTISME لكن العجيب " العلمي " في " الحوات والقصر" هو استيهام بالنسبة لنا لأنه يحقق رغبات البطل الإيجابية في الرواية الواقعية الاشتراكية وكذلك رغبات الطاهر وطار الايديولوجية لأن البطل الإيجابي هو أقرب الشخوص ايديولوجياً للكاتب.‏

    إن " الحوات والقصر" تظهر بديلاً حلميَّاً كذلك للمجتمع الحقيقي وللسلطة القامعة الموجودة في الروايات الواقعية الاشتراكية .‏

    لايمكن للواقعية الاشتراكية أن تجاوز قابلية التصديق الواقعية المتعلقة أساساً بالحاجات الاقتصادية الأساسية غير الملباة في المجتمع الحقيقي لكن النمط " العجيب" يستطيع ذلك لأنه غير محكوم بقابلية التصديق الواقعية ويظهر في هذه الرواية أن المطالب الإقتصادية الأساسية للبطل الإيجابي قد لبيت، في السكن مثلاً : رأى علي الحوات نفسه ، في مربع اسمنتي ينزل به وبسمكته وينزل . حاول أن يتبين من الثقوب المثبتة في الأعلى ، مصدر القوة التي تسير المربع فلم يصل إلى نتيجة شعر باهتزاز بسيط في قلبه لاغير، ففهم أنه بصدد النزول ، بعد مرور وقت طويل وجد نفسه في بهو كبير تضيئه شمس منعكسة في مرايا ضخمة ، مثبتة في قمة المظلة الغرانيتية.‏

    طلب منه أن يتقدم ، فامتثل ، قطع بضع خطوات ، ليجد نفسه فوق مدرج منبسط من الرخام الأبيض ، أشير له بالانتظار ففعل ولم تمر لحظات حتى كان المدرج يتقدم به دون أن يكلف نفسه عناء أي سير.‏

    قطع مسافة ربع يوم بجمل أكتف ، ليجد نفسه في ساحة كبرى واسعة، مزدانة بأحواض الزهور والياسمين والفل ومضاءة بشمس ساطعة تبثها المرايا . ومحاطة بمناضد إسمنتية متشكلة في شكل دائرة ، تنقطع هنا وهناك ، يجلس عليها خلق كبير .. في الأسفل تماماً، الأطفال ، وفوقهم النساء ، وفوفهم الشيوخ ، ثم الكهول ، ثم الشباب.‏

    عندما ما توقف المدرج عن الزحلقة ، وكان علي الحوات أمام بركة نقية من الرخام الناصع ، يتلألأ فيها ماء نقي15." نشير هنا باقتضاب إلى المفارقة الموجودة بين هذا الحيز والحيز الواقعي لقسنطينة في رواية " الزلزال" للكاتب‏

    نفسه ، فالأمكنة في قسنطينة فوضوية وقبيحة بينما المكان هنا منظم ومتناسق وجميل .‏

    إن حاجات المسكن والصحة كذلك ملبّاة في هذه القرية ، قرية الأعداء التي تمثل المثال بالنسبة للقرى الأخرى في هذه الرواية :"هنا مقر ضيافتك يا علي الحوات ، لقد قرران تستضاف ستاً وثلاثين ساعة ، عندنا ، فأهلا ومرحباً بك. الحمام على اليمين وقاعة النوم في الوسط ، وعلى اليسار قاعة المضيفات وبعدها قاعة الأكل16."‏

    " انتبه إلى أن جميع سكان قرية الأعداء يبدون في صحة جيدة 17" وفي هذه القرية لا نجد أي وصف للعمل المستغل كما هو الحال في الرواية الواقعية الإشتراكية.‏

    تخلق " الحوات والقصر" مجتمعاً مثالياً وسلطة مثالية وترغب في تحقيق " مدينة فاضلة " أو " يوتوبيا " UT‎OPIE تحقق فيها الشخوص كل حاجاتها الاقتصادية وينتفي فيها العمل المستغل : " باختصار هي حاسة التزود الذاتي تغني الإنسان عن كل شيء ، إذا ما برد يدفيء نفسه بمجرد قرار يتخذه . إذا ما جاع يفعل كذلك ، إذا ماعطش يرتوي بقرار ، إذا ما مرض عالج نفسه بنفسه ، إذا ما رغب في السفر لايضطر لركوب دابة أوالسير على القدمين - إنما يحمل نفسه في الفضاء وينطلق إلى هدفه18."‏

    يخلق العلم ، بمفهوم التقنية، هذه " المدينة الفاضلة " أو اليوتوبيا ". تتحقق السعادة ، حسب الماركسية ، التي يتبناها الكاتب في المجتمع الشيوعي ، فهو مجتمع دون طبقات تصبح ملكية وسائل الانتاج مشتركة ويتجمع العمال في جمعية منتجين ، ولا ينتفي العمل ، إنما العمل الرأسمالي، لكن العجيب العلمي أويوتوبيا الطاهر وطار في " الحوات والقصر" تنأى عن هذا التصور . إن العلم هو الذي يخلق المجتمع الجديد الذي تتحقق فيه السعادة .‏

    إن العلم بمفهوم التقنية هو الذي ينهي العمل المستغل ويحقق حاجات الفرد . تظهر هذه الرواية إذن إيديولوجيا لا واعية مختلفة عن إيديولوجيا الكاتب الواعية .‏

    هذه الايديولوجيا اللاواعية هي إيديولوجيا علموية Scientiste ترى أن العلم هو القادر على تحقيق السعادة البشرية .‏

    المصادر:‏

    وطار ( الطاهر) ، الحوات والقصر، قسنطينة : مطبعة البعث، 1980 المراجع : فوزي (حسين) ، حديث السندباد القديم ، القاهرة : مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر 1943.‏

    الشيخ غلاييني (مصطفى)، جامع الدروس العربية ، راجعه ونقحه د. عبد المنعم خفاجة ج 1 ، صيدا / بيروت :المكتبة العصرية 1406/ 1986.‏

    DUCHET, C. , “ Une écriture de la socialité” Poétique (16) , 1973.‏

    FREUD, S., ESSAIS DE PSYCHANALYSE APPLIQUEE Paris: ed, Gallimard , 1973.‏

    GREIMAS, A.J., COURTES, J SEMIOTIQUE‏

    ( Dictionnaire raisonné de la théorie du langage ) Paris : Hachette Université,1979‏

    HAMON, Ph, Le Personnel du roman, Genéve: Droz , 1983‏

    Hamon,ph,texte et Idèologie : paris :p.u .f .(coll. Ecriture ) 1984.‏

    LABICA, G. . BENSUSSAN , G., dir., Dictionnaire critique du marxisme , 2éme ed. rev et augm . , Paris : P. U.F. , 1985.‏

    PIERROT, J, Merveilleux et Fantastique, Lille : Université de Lille , 1975.‏

    TODOROV, T., La Notion de lalittérature‏

    Paris : Ed. du seuil ( Coll. Points , no188) 1987‏

    WATT, I, ( Réalisme et forme remanesque) in Littérature et réalité , ouvrage collectif , paris : Ed . du Seuil , 1982‏

    الحواشي:‏

    1 لا يفترض أن يكون الشخص القصصي دوماً كائناً بشرياً .‏

    2 شخص عملاق له عين واحدة ، وهو شخص من شخوص ( أوديسة ) هوميروس.‏

    3 لكل عصر " قابلية تصديق" معينة مرتبطة بمعتقداته ، إن اليونانيين القدامى يصدقون أن الالهة تسكن في أعالي الأولمب ، في حين يبدو هذا عجيباً عندما نقرؤه الآن في الياذة هوميروس . إلى جانب " قابلية التصديق" هذه ، هناك قابلية تصديق خاصة بكل نوع أدبي لا مجال لذكرها هنا.‏

    4 راجع تودوروف ، فكرة الأدب T. TODOROV , La notion delalitérature Paris: du Seucl , 1987‏

    5 Ph. HAMON , Texte et idéologic , paris : P.V. F1984.‏

    6 الشيخ مصطفى غلاييني ، جامع الدروس العربية ، ج 1 صيدا / بيروت : المكتبة العصرية، 1406هـ /1986م، ص 108.‏

    7 لكلمة " بطل" دلالات متعددة في النقد الحديث ، فتارة هي مرادف لمفهوم الشخص الرئيسي ،وتارة أخرى تعني الشخص الذي يقوم بأعمال بطولية حتى وإن لم يكن من الناحية البنوية شخصاً رئيسياً .‏

    8 Lille: université de lille , 1975.p.7 J. PIERROT, jerveilleux et fantastique‏

    9 عن حسين فوزي ، حديث السند باد القديم ، القاهرة : مطبعة لجنة التأليف والترجمة والتسيير ، 1943، ص 38.‏

    10 كتيار أدبي‏

    11 ph. Hamon , Le Personnel olu roman Genéve : Droz , 1983‏

    12 عن المرجع نفسه ، ص 28.‏

    13 اعتقد النظام السوفياتي الستاليني أنه حقق مجتمعاً بلاطبقات ، لذلك لا تظهر الروايات السوفياتية في ذلك الوقت " الصراع الطبقي" ، إنما تظهر بطلاً ايجابياً ستاخانوفيا يريد تحقيق الاشتراكية فيحقق المستحيل في الانتاج مثلما نرى ذلك في رواية " بعيداً عن موسكو " لا جاييف AJAEV حيث تستطيع الشخوص الايجابية بناء أنبوب محروقات في سبيريا أثناء الحرب العالمية الثانية في سنة بدل ثلاث سنوات متحدين بذلك عقلانية المهندسين.‏

    14 الطاهر وطار، الحوات والقصر . ص . 259-260.‏

    15 الطاهر وطار، الحوات والقصر ، ص 109-110‏

    16الطاهر وطار، الحوات والقصر ، ص 112.‏

    17 نفسه ، ص 117.‏

    18 الطاهر و طار ، الحوات والقصر، ص115.‏ afro afro afro

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد مايو 12, 2024 12:27 am