منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    تابع لصورة القوة والإرادة عند المتنبي.......1

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    تابع لصورة القوة والإرادة عند المتنبي.......1 Empty تابع لصورة القوة والإرادة عند المتنبي.......1

    مُساهمة   الأربعاء يوليو 06, 2011 7:54 am

    [center]
    فسيف الدولة الموصوف بالعدل وكرم الفعال قد أخرج المتنبي من فضله؛ ولهذا فهو يشكوه إلى نفسه، ويستدعي عليه حُكْمه العادل والصادر عن رؤية صائبة تميز بين الشحم والورم، أو السمن والصحة، وطالما عرف بصدق نظرته التي تفرق بين النور والظلمة.




    ونكتفي بهذا لننتقل إلى صورة أخرى من تجليات فلسفة القوة والإرادة عنده ممثلة بصورة الحرب.




    3 ـ صورة الحرب وفلسفة القوة والإرادة:




    يحتاج المجد العظيم إلى القوة، والقوة تحتاج إلى الشجاعة والحكمة والعمل الدؤوب والصبر والعزيمة، وتصبح أدوات القتال خيلاً وسيفاً ورمحاً وسهماً من مسلتزمات القوة وطبيعتها، وكلها مما يحوزه القائد الفارس في معاركه. ولعل هذا أكثر انطباقاً على قصائده التي مدح بها سيف الدولة ووصف معاركه فيها؛ وهي القصائد التي أطلق عليها تسمية (السيفيات). وفيها تظهر فلسفة القوة المادية والمعنوية بكل تجلياتها المعبرة عن الإرادات الثلاث إرادة الشعور وإرادة القوة وإرادة الحياة. ومن ثم تصبح تجليات صور القوة المتنوعة أساس وحدة القصيدة؛ وهو ما نراه في قصيدته المشهورة (على قَدْر أهل العزم)، فالقوة تطالعك من مطلعها حتى ختامها؛ ومنها قولهSad[58">)




    على قَدْر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم




    وتعظمُ في عين الصغير صغارها وتصغُر في عين العظيم العظائم




    يُكلِّف سيف الدولة الجيش همَّه وقد عَجَزت عنه الجيوش الخضارم




    ويطلب عند الناس ما عند نفسه وذلك ما لا تدعيه الضراغم




    يفدِّي أَتمُّ الطير عُمْراً سلاحَهُ نسور الفلا أحداثها والقشاعم




    وما ضَرَّها خَلْق بغير مخالب وقد خُلقت أسيافه والقوائم




    إن نظرة عجلى على صعيد الألفاظ والتراكيب والصور تثبت لك أن هذه المقدمة لا تعبّر إلا عن فلسفة القوة الذاتية والموضوعية. وحين تستجيب القراءة لقيم الدوافع المحركة للنص فإنها توقفك عند قيم تعبيرية محكومة برمزية الصور الحسية التي تشي بصور ذهنية تؤكد القدرات الذاتية التي يمتلكها المتنبي، والقدرات الموضوعية التي يتصف بها سيف الدولة وجيشه. فهناك تعاون حقيقي فاعل بين العناصر المشتركة للصورة الحسية وبين التجربة والثقافة للمتنبي حتى أمكنه من أن يتلقاها بحاسة واحدة كما نفيده من أرسطو في حديثه عن الوظائف الثلاث للحس المشترك، ولا سيما قوله: "إن كان الإدراك بالبصر هو النظر إلى الشيء، والمنظور إليه لون أو كان له لون فالإنسان إذ نظر إلى المنظور فأول ما ينظر إلى لون، فاللون أول منظور إليه. وبهذا يستبين أن الإدراك بالبصر ليس هو شيئاً واحداً: لأنا قد نرى وإذا لم نر فنحن قاضون على الضوء والظلمة على نحو واحد"(51).




    وهذا يعني أن كل شيء إنما هو ناتج عن محسوس له موضوع ما في عضو خاص ـ وهنا هو البصر ـ ولكن حركته في النفس قد تأخذ بعداً آخر وفق نظرية الاستقبال المستندة إلى التأثير والتأثير ما يجعل إدراك العرض غير متطابق مع إدراك الجوهر، علماً أن الحس المشترك يدرك أشياء مجتمعة في وقت واحد. فاللون الأصفر لا يدل بالضرورة على أنه مر بالمطلق، والإجاز أن يدرك الحلو بالبصر.. ما يعني أن الحس المشترك يعيد صاحبه إلى تذكر ذلك كله.




    وفي ضوء ما تقدم ندرك أن المتنبي قد أجاد ([59">).في تحقيق الاستجابة الفنية الدالة على حالات التعالي المؤكدة للانتصار، في الوقت الذي أحسن في التعبير عن قبح الهزيمة التي تعرض لها جيش الروم, فوصل في مرتبة الشعر إلى مرتبة الجميل الرائع في الحالين من خلال الحس المشترك بوساطة الإدراك العقلي الذي يمثل روح الجمال وماهيته كما انتهى إليه ولتر ستيس([60">). وهذه هي صفات القوة في شعره.




    وسأدع لك ، الوقوف عند الألفاظ الدالة على القوة، وتكرارها، واستثارة العقل على الموازنة بين الضعف الجبان، وبين القوي الشجاع؛ وكيف ينحاز المتنبي إلى سيف الدولة الذي استطاع ـ من خلال ما يحمل من طموحات وآمال عظيمة ـ أن يكون متفرداً في قدرته وشجاعته، وأعماله... فلا غرو بعد هذا أن تفديه الكواسر الجارحة بنفسها لأنه أراحها من طلب الطعام والسعي وراءه، بعد أن وفّره لها. ولعل هذه الصورة تستدعي لدينا صورة أخرى من القصيدة تنشلنا من مطب الرتابة والملل الذي نستشعره ونحن نقرأ بعض قصائد لشعراء آخرين في صفة المعارك. فالصورة عند المتنبي لا تحتفي فقط باللون والحجم والحركة، ولا تجعل الصورة مجرد رؤية واقعية لمشهد المعركة الذي يراه وإنما ينتقل إلى عناصر كثيرة تجمع بين الثقافة والخبرة للعديد من الظواهر الاجتماعية والفنية كما نجده في حديثه عن وصف قتلى الأعداء، إذ يقول:




    نثرْتَهم فوق الأُحيدبِ نثرةً كما نُثِرتْ فوق العروس الدراهم




    ومن قبل كان قد وضعنا في جو المعركة الطبيعية وفي حضنها وهو يرى حركة الخيل تزحف على بطونها كما تزحف الأراقم:




    إذا زَلِقَتْ مشيَّتها ببطونها كما تتمشَّى في الصَّعيدِ الأَراقم




    لهذا تختلف نسبة الإدراكات الحسية عند المتنبي عما نجدها عند غيره فهو يعمد إلى تصوير الإيقاع الموسيقي ليدخل الصوت والجلبة في صميم اللون والحجم والحركة كما في صورة قلعة الحدث، إذ يقول:




    هل الحدث الحمراء تعرف لونها وتعلمُ أيُّ السَّاقيين الغَمائم




    سقتها الغمام الغُرُّ قبل نزولـه فلما دنا منها سَقَتْها الجماجم




    بناها فأعلى والقنا يقرع القنا وبوح المنايا حولها متلاطم




    وكان بها مثلَ الجنون فأصبحت ومن جثث القتلى عليها تمائم




    هنا تكمن القيمة المهيمنة ليقينيات المتنبي المشبعة بنزوعها الوجداني، والمحمولة على واقع بطولي يؤكد ذاته في العديد من معارك سيف الدولة الذي علّق القتلى على جدران القلعة حتى سكنت الفتنة؛ فجعل جثث القتلى كالتمائم التي أذهبت عنها كل جنون. ومثل تلك الصورة المركبة في الصور الحسية المستندة إلى الحس المشترك نجدها في مقطع صفة جيش الروم بدلالته الرمزية. وهي صور لا تُعْنَى إلا بالقوة والقدرة والإرادة ابتداء بكثرة السلام وعدده ونوعيته وانتهاء بعظمة الجيش عدداً وقدرة وثباتاً، ومنه:




    أتوكِ يجرون الحديد كأنهم سروا بجيادٍ ما لهنَّ قوائم




    إذا برقوا لم تعرف البيض منهم ثيابهم من مثلها والعمائم




    خميس بشرق الأرض والغرب زحفُه وفي أذن الجوزاء منه زمازم




    وهكذا تستمر حتى النهاية، ما يعني أن مكوّنات فلسفة القوة ذات اتجاهات متعددة وتجليات متنوعة بما فيها قوة التخييل. فالتخييل يعد نمطاً جديداً يبرز عبقرية المتنبي في اختراع معانيه وصوره؛ ويثبت ذاتيته الفردية الخاصة التي تتميز بالانفعال الجمالي الجامع للبهاء والصدق، بمثل ما يثبت إبداعه الرائع قيمة الرونق والإثارة، وبخاصة حين وصف خيل سيف الدولة التي فاجأت الروم، إذ لم يشعروا بها إلا مغيرة عليهم؛ تريهم قبح فعلها على الرغم من جمال شكلها، فهي متناهية في الحُسْن؛ إذ يقولSad[61">)




    وخيلٍ براها الرَّكْضُ في كل بلدةٍ إذا عَرَّست فيها فليس تَقيل




    فلمَّا تجلَّى من دَلُوك وصَنْجةٍ عَلَتْ كلَّ طودٍ راية ورعيل




    فمَا شعروا حتى رأوها مُغيرةً قِبَاحاً وأما خَلقْها فجميل




    فالعلاقات الجديدة للصور والأفكار، واللغة والأساليب البلاغية الثرية ليست ذات اتجاه مباشر وأحادي في الوقت الذي تبتعد فيه عن الغموض والرمزية والتعقيد؛ وإنما تتجه إلى التخييل في شخصية البطل العسكري (سيف الدولة) لترسمه ـ وهو يخوض معاركه مع الروم ـ في صورة فنية دقيقة ومثيرة سواء من خلال وصف الخيل القادرة على الفعل، والمالكة لكل صفات الصبر والتحمل والبلاء في المعركة أم من خلال تشخيص صفات الممدوح البطل الذي يطارد الأعداء على اعتبار أنه بطل أسطوري من أبطال الملاحم الكبرى. وقد حقق لنا الشاعر ذلك كله من خلال عرض مشاهده المتابعة والمتركزة في مبدأ إرادة القوة أو إرادة الاختيار المعبر عن فلسفة عميقة، وفهم بديع لصفات ممدوحه. فحين عظم سيف الدولة وتميز بصفات القائد الحكيم الخبير بالمعارك وفنونها وتحلى الشاعر برؤية عقلية وفنية وحس متوقد وموهبة فذة استطاع أن يلتقط خياله جملة من المشاهد الدرامية التي امتلأت بالحركة والصراع، والإيقاع القوي للتعبير عن تلك الشخصية الفريدة. ومن ثم فالصورة قائمة على الطرافة من خلال تقنياتها الحسية والمتخيلة، ولا سيما حين شدّد على البنى اللغوية للصفات الدائرة في فلك الأسماء التي تمثل النواة في الصورة، والمركز في الأسلوب. وليس هناك شك في أن الانطباعات البصرية والسمعية قد دخلت في تكوين الصورة الفنية والجمالية ولكنها انطباعات تكاملت مع عناصر أخرى عديدة كونت هذه الصورة ورفعتها إلى درجة عالية من الإمتاع والتأثير، وفق ما ذهب إليه بنديتو كروتشه([62">).




    وما وقع عليه شاعرنا يدل على قدرته النادرة في عرض مشاهد درامية تمتاز بالوحدة العضوية في استحضار صورة المعركة وكأنها ماثلة أمامنا، ولا سيما حين نقل لنا كل حركة ونأمة لم يغفل عن أي خط من خطوط لوحته.




    ويظل سيف الدولة عند المتنبي النموذج البطولي المثالي لقوة الفارس التي تتجلى بأشكال فكرية ومادية متفردة ومتنوعة. فالغزوة التي رمى بها الروم لم تكن إلا بديهة خطرت لـه، ولكنها كانت جليلة وعظيمة، وإذا همَّ بأمر أنفذه بجيش قوي حافل يقدم على الأعداء ويطؤهم بوطء ثقيل؛ وقد اقترن مع هذا الفعل الجميل تلبية أدوات القتال التي كان يصطنعها من سيوف ورماح وسهام لكل رغباته.




    ومن ثم تتجلى في صوره الحربية ملامح فلسفة القوة لديه باعتبار ما تعبر عنه رؤيته الذاتية والموضوعية للإرادات الثلاث؛ فضلاً عن تفرده بصفات لا يمكن لأحد غيره أن يأتي بها أو ينجزها، كما نراه في قصيدته الآنفة الذكر، وفيها يقول ـ أيضاً ـ([63">)




    وما قبل سيف الدولة اثَّار عاشق ولا طُلبت عند الظلام ذحول




    ولكنه يأتي بكل غريبة تروق على استغرابها وتهول




    رمى الدرب بالجُرْدِ الجيادِ إلى العِدَا وما علموا أن السهام خُيول




    شوائل تشوال العقارب بالقنا لها مَرَحٌ من تحته وصهيل




    وما هي إلا خَطْرة عَرَضت لـه بَحرَّانَ لبَّتْهَا قناً ونُصول




    هُمام إذا ما هَمَّ أمضى همومه بأرعن وطءُ الموت فيه ثقيل




    ولعل التجربة الجمالية الجدية لفلسفة القوة في رسم شخصية ممدوحه تستمد مادتها من الواقع الذي يراه الشاعر في هذا الممدوح دون غيره؛ إنه واقع يوحّد بين فلسفته وصفات ممدوحه. فلما عثر على رجل يمتاز بكل تجليات القوة وأنواعها، واكتملت في ذهنه صورة النموذج البطل استطاع أن يعبر عن ذلك في إنه الأصيل، والفن الحقيقي إنما هو إعادة صياغة للعالم من خلال وحدة الشعور والموضوع.




    4 ـ صورة المرأة ومفهوم القوة:




    لم تغب فلسفة القوة عن رؤيته للمرأة سواء كان تصويرها لـه في معرض المقدمات الغزلية، أم المراثي، فكلتاهما تحمل صورة المرأة الممنّعة القوية المترفعة.




    وما تفرّد المتنبي في صوره الغزلية إلا انبثاق من إدارتها على المشاكلة بين المقدمات وبين الغرض الأساسي؛ حتى يستشعر المتلقي عظمة تلك المرأة بكل تجلياتها وكأنها مقدمة لعظمة ممدوحه في المدح، ومكانته الكبرى في الرثاء؛ على اعتبار العلّة والمعلول. ومن ثم فالمرأة القوية هي التي تسكن قلبه، على الرغم من أنها لا تنيله طلبه كما في قوله يمدح المغيث بن علي بن بشر العِجْليSad[64">)




    دمع جرى فقضى في الرَّبْع ما وجبا لأهله وشفى أَنَّى ولا كَربا




    عُجْنا فأذهب ما أبقى الفراق لنا من العقول وما ردَّ الذي ذهبا




    ثم قال:




    هام الفؤاد بأعرابية سكنت بيتاً من القلب لم تمدُد لـه طُنبا




    بيضاءَ تُطمعُ فيما تحت حُلَّتها




    وعَزَّ ذلك مطلوباً إذا طُلبا




    كأنها الشمس يُعْيي كفَّ قابضهِ شعاعها ويراه الطَّرف مُقْتَرِبا




    مرَّت بنا بين تِرْبيها فقلت لها: من أينَ جانس هذا الشادنُ العَرَبا




    فاستضحكت ثم قالت كالمغيث يُرَى ليثَ الشرى وهو من عِجْل إذا انتسبا




    جاءت بأَشجعِ من يُسمَى وأسمحِ من أَعْطى وأبلغ من أَمْلى ومن كتبا




    سأترك الحديث هنا عن الصور البصرية التي رصفت رصفاً جمالياً مثيراً لتبث ما في نفسه من حيوية وقدرة؛ وسأترك تضافر العديد من الصور فيما بينها ولا سيما الصورة البصرية (حركة ولوناً وحجماً) وهي تتوهج بكل عناصر الجمال، ولا سيما حين تؤكد ذاتها بهذه النضارة المنبثقة من فوران الشباب عند تلك المرأة...




    سأترك ذلك كله لأقف عند الدلالة الرمزية لحيوية الشباب التي منحت تلك المرأة سلطانها المؤثر والقوي وهي تتجاوز ساحة الحي دون أن تأبه لأحد، وهذا ما يميزها من غيرها.




    ومن هنا يمكن للمرء أن يدرك المشاكلة بانتماء المرأة إلى بني عِجْل بمثل انتماء ممدوحه؛ ولهذا فلا يعقل أن يكون معرض الغزل بها للغزل الصريح، وإنما ليمثل حالة من مشاكلة قوة تلك المرأة وصفاتها الأخرى التي تفرّدت بها كما تفرَّد ممدوحه بصفات معينة كالشجاعة والسماحة، والتوقّد. ولابأس أن نعيد النظر في قوله (فاستضحكت...) وهو البيت الذي يمثل جسر الانتقال إلى غرض المدح. فالمرأة التي مرَّت بين مثيلاتها في السن قد شابهت ظبياً والظبي يشبه العَرَب، ثم يتكشف لنا أنه اختار من العرب بني عِجْل، ومنهم المرأة والممدوح الذي يُرى كأنه أسد([65">).




    وعلى الرغم من ندرة المقدمات الفنية الغزلية، ومقدمة الرحلة/ رحلة الظعائن؛ فإنها تتصل بملامح القوة سواء ارتبطت به أم بممدوحه. فهو يحدثنا عن امرأة قوية قاسية، وهي ـ في آنٍ معاً ـ مكتملة الصفات المادية والمعنوية. وحين تعلق بها تركته سقيماً يقلقه السهاد ما جعله يبذل روحه لها، وهو راضٍ بذلك فلتفعل به ما تشاء؛ لأن البطل إذا صادته مثل هذه المرأة الحسناء فهو أَهْل لما حَلَّ به من الضنى فيقولSad[66">)




    كُلُّ خُمصانةٍ أَرق من الخَمر بقلب أقسى من الجلمود




    جَمَعتْ بين جسم أحمدَ والسُّقْم وبين الجفون والتسهيد




    هذه مهجتي لديك لِحَيْني فانقصي من عذابها أو فزيدي




    أهلُ ما بي من الضَّنَى بطَلٌ صِيْد بتصفيف طُرَّةٍ وبِجِيْد




    ثم تمتزج صورة القوة بالمرأة، لأن المرأة تمثل المنعة والعزة ما يجعل المرء يركب كل أنواع المصاعب الكبرى ليصل إليها كما في قولهSad[67">)




    عذيري من عَذَارى من أمور سكنَّ جوانحي بدل الخدور




    ومبتسمات هيجاوات عَصْرٍ عن الأسياف ليس عن الثغور




    ركبت مشمّراً قدمي إليها وكُلَّ عُذافرٍ قلق الضُّفُور




    فالمتنبي يرى أن الأمور العظيمة قد سكنت قلبه واتخذته بيتاً لها وخدراً؛ كما تفعل النساء. ومن ثم فإذا تركنا الملابسة في لفظ (عذارى) بين دلالته على البنات الخادرات، وبين الخطوب الكبيرة فإننا لن نترك دلالة (مبتسمات هيجاوات...) فاللفظان يعطفان على (عذارى) ما يعني ـ مرة أخرى ـ أن العذارى المبتسمات يبتسمن هيجاوات عن بريق السيوف وليس عن الثغور... وتغدو المشاكلة متأصلة في ألفاظ عديدة بين المرأة والهيجا (الحرب) وكلّها تؤكد فلسفة القوة التي تتصف بها المرأة، وما تفرضه على الرجل من ركوب الأهوال إليها كما يركب كل قويّ من الإبل للوصول إلى ساحة المعركة.




    وهناك أنموذج آخر من المشاكلة من التداخل في القوة بين المرأة وسيف الدولة ما يؤصل لتفرّد المرأة عنده وارتفاع مكانتها كما يظهر في بعض قصائده التي مدحه بها، وفيها تظهر المقدمة الغزلية جزءاً لا يتجزأ من المدح سواء في قصيدته ذات المطلعSad[68">)




    لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي وللحبّ ما لم يبق مني وما بقي




    وما كنت ممن يدخل العشق قلبه ولكن مَنْ يبصر جفونكَ يعشقِ




    أم في قصيدته الأخرى ومطلعهاSad[69">)




    لياليَّ بعد الظاعنين شُكول طوال وليل العاشقين طويل




    يُبِنَّ لي البَدْر الذي لا أُريده ويُخفينَ بدراً ما إليه سبيل




    وتنكشف صورة البدر عن حقيقتها، فهي ليست للمرأة الراحلة وإنما هي صورة سيف الدولة كما تبرزها القصيدة.




    ولا بأس من أن نتأمل هذه المقدمة في شيء من الصبر لنربطها بالقسم الخاص بالمدح، أما إذا وقفنا عند شكلها الغزلي ولم ندرك ما وراءه من رموز دلالية قتلنا جمالية النص. فالشاعر مهموم بما ابتلي به المسلمون على أيدي الروم؛ ويرى في عنف الليالي التي أخفت البدر الحقيقي معادلا رمزياً لهمه الذي يصبر على حمله لما يمتلكه من عزيمة وإرادة. ومن ثم ما يزل مترقباً ظهور البدر حتى يلقاه متمثلاً بسيف الدولة بدرب القلة عند ضوء الفجر فإذا به ينتصر لـه من الليل البهيم؛ بل إن الفجر ـ المرموز لـه بالممدوح ـ هو الذي قتل الليل ـ المرموز لـه بالهموم كما يقول:




    وما عشت من بعد الأحبة سلوة ولكنني للنائبات حمول




    لقيت بدرب القُلّة الفجر لقية شفت كمدي والليل فيه قتيل




    ولهذا تظهر صورة البطولة صورة غريبة تبهر المتلقي وتثير إعجابه على غرابتها كما يقول في:




    ولكنه يأتي بكل غريبة تروق على استغرابها وتهول




    هكذا نستشعر أن صورة المرأة في شعر المتنبي تمثل فلسفة القوة لديه بكل رموزها المتضافرة مع الرؤى الاجتماعية والفكرية، وهي تتعاون في عالم الخيال مع مشاعره الروحانية الراقية التي تعتمد على الحس المشترك.




    ونكتفي بهذه اللقطات السريعة لتجليات صورة القوة والإرادة بما يؤكد إعجابنا بالمتنبي؛ قدرة ونباهة، تفرداً وإدهاشاً على الصعيدين الشخصي والفني وفق ما يؤكده حديثه الغزلي في مقدمة قصيدة لـه يمدح بها سيف الدولة ويعتذر إليه ومنها:




    أجاب دمعي وما الداعي سوى طَللٍ دعا فلبَّاه قبل الرَّكْبِ والإبل




    ظِللتُ بين أصيحابي أكفكفُه وظل يسفَحُ بين العُذْر والعذل




    وما صبابة مشتاق على أمل من اللقاء كمشتاق بلا أمل




    متى تَزُرْ قومَ من تهوى زيارتها لا يتحفوك بغير البيض والأَسَل




    فهو في هذا المقطع يثبت تعذر زيارة محبوبته لما تتمتع به من المنعة والرفعة، ما يجعلنا ندرك دلالة سفحه للأعذار في البيت الثاني بدل الدمع، ويظل أصحابه يسفحون العذل.




    وبناء على ما تقدم يمكننا أن نطمئن لوضع صورة القوة والإرادة في شعر المتنبي بين يدي المتلقي؛ وما عرضنا لـه يظل نماذج للتمثيل ليس غير. ونرى أن فلسفته تكمن في هواتف النفس الضاربة في جذور الإنسان وفهم طبيعته التي ينشدها. وقد يكون المتنبي مبالغاً في بعض تجلياتها، ولكنها تظل على الدوام تصرخ في الوجود معلنة أن الفن العظيم يتجاوز كل منطق للأعراف والتقاليد الفنية وغيرها، وهذا ما حققه لنا شاعرنا من منظوره الفلسفي وهو يحكي قصة الصراع الإنساني.




    المصادر والمراجع




    1 ـ الإحساس بالجمال ـ جورج سانتيانا ـ ترجمة الدكتور محمد مصطفى بدوي والدكتور زكي نجيب محمود ـ مكتبة الأنجلو المصرية ـ القاهرة.




    2 ـ أرسطو طاليس في النفس ـ شرح وتحقيق وتقديم عبد الرحمن بدوي ـ وكالة المطبوعات ـ الكويت ـ ودار القلم ـ بيروت.




    3 ـ إشكالية المعرفة في الغنوزيووجيا ـ أحمد مبارك ـ مجلة الحياة الثقافية ـ وزارة الثقافة التونسية ـ العدد 90 ـ ك1/ ديسمبر 1997م.




    4 ـ تطور الصورة الفنية في الشعر العربي الحديث ـ د. نعيم اليافي ـ اتحاد الكتاب العرب ـ د/ت.




    5 ـ التقابل الجمالي في النص القرآني ـ د. حسين جمعة ـ دار النمير ـ دمشق ـ 2005م.




    6 ـ الحيوان للجاحظ ـ تحقيق عبد السلام هارون ـ المجمع العلمي العربي الإسلامي ـ بيروت ـ ط3 ـ 1969م.




    7 ـ دراسات فنية في الأدب العربي ـ د. عبد الكريم اليافي ـ ط1 ـ 1963م.




    8 ـ ديوان طرفة بن العبد ـ تحقيق درية الخطيب ولطفي الصقال ـ مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق ـ 975.




    9 ـ ديوان أبي الطيب المتنبي ـ شرح أبي البقاء العكبري ـ دار المعرفة ـ بيروت.




    10 ـ ديوان ابن مقبل ـ تحقيق عزة حسن ـ دار الشرق العربي ـ بيروت ـ 1995م.




    11 ـ الصورة الشعرية ونماذج إبداع أبي نواس ـ سياسية عساف ـ دار مارون عبود ـ 1985م.




    12 ـ العاطفة والإبداع الشعري ـ د. عيسى علي العاكوب ـ دار الفكر ـ دمشق ـ 2002م /ط 1.




    13 ـ علم الجمال ـ بنديتو كروتشه ـ عرَّبه نزيه الحكيم ـ وراجعه بديع الكسم ـ المطبعة الهاشمية ـ 1383هـ/ 1963م.




    14 ـ قضايا الشعر المعاصر د. عز الدين إسماعيل ـ دار الدعوة والثقافة ـ بيروت ـ ط3/1981م.




    15 ـ كتاب أرسطو طاليس في الشعر ـ تحقيق الدكتور شكري محمد عياد ـ دار الكتاب العربي للطباعة والنشر ـ القاهرة ـ 1387هـ / 1967م.




    16 ـ مبادئ علم النفس العام ـ يوسف مراد ـ دار المعارف ـ مصر ـ ط4.




    17 ـ المعجم الفلسفي ـ الدكتور جميل صليبا ـ دار الكتاب اللبناني/ بيروت، ودار الكتاب المصري/ القاهرة ـ 1979م.




    18 ـ معنى الجمال (نظرية في الاستطيقا) ـ ولتر ستيس ـ ترجمة إمام عبد الفتاح محمد ـ المجلس الأعلى للثقافة ـ القاهرة ـ 2000م.




    19 ـ مقدمة في علم الجمال ـ أميرة حلمي مطر ـ دار الثقافة للنشر والتوزيع ـ القاهرة.




    20 ـ نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين من الكندي حتى ابن رشد ـ د. ألفة كمال الروبي ـ دار التنوير ـ لبنان ـ ط 1/ 1983م.




    21 ـ نقد الشعر في المنظور النفسي ـ د. ريكان إبراهيم ـ دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد ـ 1989م.












      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة مايو 10, 2024 11:21 pm