منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    رواية "الملكة المغدورة" الفضاء الدلالي وصيغ الخطاب

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    رواية "الملكة المغدورة" الفضاء الدلالي وصيغ الخطاب Empty رواية "الملكة المغدورة" الفضاء الدلالي وصيغ الخطاب

    مُساهمة   الإثنين يناير 18, 2010 10:50 am

    رواية "الملكة المغدورة" الفضاء الدلالي وصيغ الخطاب

    عزت عمر*

    هذه المرة ستأتينا الرواية من اليمن ومن عدن بالتحديد.. وستكون استثنائية كاستثنائية عدن في الذاكرة الإنسانية، ولكنها ستأتينا مترجمة عن الفرنسية لأن كاتبها "حبيب عبد الرب سروري" كان سافر إلى فرنسا في أواسط السبعينيات للدراسة، ثم استقر فيها ولم يعد، شأنه في ذلك شأن غالبية الطلبة الذين تخصصوا في علوم متقدمة، ولم يجدوا بداً من البحث عن حاضنة بديلة للحاضنة الأم، وذلك بسبب القسوة الناشبة فيها، فكان أن وجدوا في بلدان الغرب التي درسوا فيها هذه الحاضنة الاصطناعية، وأقنعوا أنفسهم بأن اللبن الذي يرضعونه من الحاضنة البديلة، هو ذات اللبن الذي رضعوه مبكّراً، ولكن حضور الأم الحقيقية بعطورها وبخورها إلى مدينة "روان" حيث يقيم كاتب الرواية، سوف يفجّر ينابيع الحنين، ويزيح طعوم اللبن الاصطناعي، فتبدأ معها أحداث الرواية بالعودة إلى الحاضنة الأولى، وتبيان أسباب الهجر والبعاد.

    1 ـ في الدلالات العامة للنص:

    رواية "الملكة المغدورة" لحبيب عبد الرب سروري، سوف تعالج إشكالية الاغتراب الإنساني بوعي جديد عبر جدلية الصراع غير المتكافئ بين الأمومة والذكورة، ونواتج انكسار الأمومة على المستوى الداخلي والخارجي للشخصية الإنسانية. ومن هنا فإن القارئ لابدّ أن يقف بادئ ذي بدء عند عنوان الرواية "الملكة المغدورة" وأن يتأمل غلاف الرواية وقد انشطر الوزير أو ما يسميه "الملكة" نصفين فوق رقعة شطرنج خاوية، وكأنه بذلك يريد لذاكرتنا أن تذهب بعيداً في أعماق الأسطورة، لنتمثّل عملية ذبح "تيامة" وشطرها نصفين في أسطورة الخلق البابلية، ولنشرع في قراءة الرواية قراءة دلالية تبدأ من تلك اللحظات القصيّة من التاريخ الذي قام مع الأسف على "العنف". وإن هذا العنف الذي اقتضته لحظة ما في تاريخ المنطقة، سيظلّ كامناً في الخلايا، نتوارثه جيلاً عن جيل، وكلّما تأزّمت الحياة وتعقّدت في مجتمع ما، سيكون الحلّ بإعادة ترتيب البيت عبر الحرب، أو بتقديم الأضاحي لآلهة غامضة لا تشبع من الدماء. وقد تكون هذه الأضحية فرداً إنسانياً، كعرائس بحيرة التمساح اللاتي كن يرمين فيها بعد أن يذبحن من الوريد إلى الوريد، أو جماعية، كحال الكثير من المدن التي ما انفكت الذكورة تدمرها بدعوى ترتيب الأوضاع: كالقنيطرة في الجولان السوري المحتل، والقدس المحتلة، وبيروت، وعدن، وكابول، وغروزني، وهيروشيما، وناغازاكي وغيرها..

    وإن هذا "العنف" سيتجلى بوضوح في البناء الروائي لنصّ "الملكة المغدورة" من خلال ثلاثة محاور دلالية تعيد تمثيل عملية قتل "تيامة":

    أولها: عدن، الحاضنة الأمومية الكبرى.

    وثانيها: الأم أم ناجي بطل الرواية.

    وثالثها: "ابتهال" صديقة ناجي.

    وسوف تتماهى هذه الرموز الثلاثة في رمز كلّي هو ملكة الشطرنج التي بُقِرت أحشاؤها بفعلٍ ذكوري..

    "الملكة الأم" تنام الآن في غيبوبة بالغرفة رقم 248 بمستشفى "هوتيل ديو" بمدينة "روان" الفرنسية، بتاريخ 28 مارس 1992، وقد بقرت أحشاؤها هي الأخرى بعد عملية جراحية في بطنها لاستئصال السرطان، وهذه الملكة هي أم "ناجي" الراوي الرئيس للحكاية بضمير المتكلّم، بعد ما يزيد من عقدين عن زمن القصّة المحكية، وهذه اللحظة الزمكانية سوف تقود الكاتب الجالس في المستشفى بجانب أمّه للتداعي والتذكّر، فتبدأ أحداث الرواية مع ملكة الشطرنج الضحية الأولى لعدوان الذكورة، والتي تم اغتيالها في لحظة سابقة من زمن القصة، كإشارة دلالية على اغتيال كلّ من "ابتهال" و "عدن" بسبب الجهل والتقاليد والتنافس على السلطة وغير ذلك.

    فتبدأ الأحداث وكأن عاصفة من الشقاء مرّت بهذه المدينة القابعة في وجداننا الجمعي كيوتوبيا جميلة، ومعها يبدأ الراوي "ناجي" في تفتيت هذه الصورة بما سيقدمه من وقائع وأحداث غرائبية ستذكّرنا بلحظات صراعية موغلة في القدم، وربّما منذ زمن بناء المدائن الأولى وبدء الصراع بينها وبين الرعاة، حيث تأخذ المدينة على عاتقها مهمة نقل الحضارة إلى الرعاة، فيما سيتعهد الرعاة بمهاجمة هذه المدن وتدميرها كلّما سنحت لهم الفرصة، وهو صراع دموي اتّخذ أشكالاً عدة، ولكنه أبداً لم يتخلّ عن المبدأ الجهنمي الناص على إلغاء الآخر بدعوى ترتيب البيت. وسيتولى ترتيب البيت هذه المرة (الرعاة الماركسيون) بكلّ ما في التعبير من تناقض ذي دلالة بين سموّ الفكرة وقسوة الممارسة على حدّ تعبير الكاتب، وبالتالي ستكون "عدن" أضحية نموذجية لهذا التضاد، وإمعاناً في التغريب سيستحيل اسمها إلى "حشوان غراد" على غرار "لينين غراد"، وستكون شخصية "حشوان" النموذج الأمثل لهؤلاء "الرعاة" الذين قدموا من الجبال، ليتحكموا في مصائر المدينة من خلال بضع جمل ماركسية مستهلكة، لا يفقهون معظمها، ولكنها على اعتبار تمنحهم السلطة فلا بأس في حفظها وتكرارها في كلّ حوار.

    وبالإضافة إلى هذا الصراع النابع من أعماق التاريخ، فإن الرواية ستذهب بنا نحو المجتمع العدني ذاته، والذي مازال يعيش هذه اللحظة عبر هيمنة الذكورة ووأد الأنوثة، وهذا ما سنلتمسه في مطلع الرواية عندما يصرّح الراوي "ناجي" بأن العدوان الذي تمّ على ملكة الشطرنج إنما تمّ بفعل ذكوري: "كان القاتل رجلاً لا ترقّ له قناة أمام دموعي"، وتنكير لفظة "رجل" هنا تعني العموم، أو الذكورة السلطوية المستفزة والعائدة إلى همجيتها كنتيجة طبيعية للجهل الناشب، وعدم القدرة على التماشي مع منطق الحياة الجديدة الذي بدأ يتجلى لدى الأجيال الطالعة، ليتصارع الزمنان عبر الشخصيات التي تمثّل كلّ منها رمزاً معيناً: السلطة الأبوية المتمثلة بوالد ناجي، والد ابتهال، وحشوان، والتي تسعى للحفاظ على زمنها للأبد، بكلّ ما تملكه من نفوذ وقوّة، بل وإحاطة "وعيها" هذا بهالة قدسية لا ينبغي المساس بها. أما جيل الأبناء الذي تعلّم واستفاد من الثقافة الجديدة بوعي مفارق، كـ"ناجي وعدنان وابتهال وغيرهم، فإنهم انحشروا في صراع كانوا فيه الطرف الأضعف، ولكنهم على الرغم من ذلك كانوا يتطلّعون باستمرار نحو لحظة يعيدون فيها الأشياء إلى طبيعتها، ولكنهم في النهاية سيستلمون لأقدارهم أمام هذه القوّة العاتية، فيهاجر ناجي هارباً إلى فرنسا، ويتعرّض عدنان للاغتيال، أما "ابتهال" الملكة الحلم، فإنها سوف تتلاعب بها الأقدار ما بين جنوب البلاد وشمالها، وستكون أضحية نموذجية لسلطة الأعراف والتقاليد والهيمنة الذكورية المطلقة، فتنتحر احتجاجاً على سلطة الأبوة، وانسداد دروب الحرية دونها.

    2 ـ تعدد صيغ الخطاب في الرواية

    في هذا النصّ الاستعادي سيبدأ "ناجي" الراوي والشخصية المهيمنة على السرد والعالمة بكل تفاصيله، في تقديم وجهة نظره المعاكسة للإيديولوجيا السائدة من خلال تقديم كلّ ما هو سلبي في حياة المدينة التي يحبّ، ونسبه للسلطة السياسية أو لسلطة المجتمع التي ظلّت حاضرة بقوّة على الرغم من شعارات التحرر والتقدّم، وسترتبط شخصيات الرواية به إما على التضاد، أو على الوفاق، ولا مجال للحياد في هذا الوسط المتصارع. وفي هذا الصدد لابدّ من الإشارة إلى أن الخطاب الروائيّ مصدّر إلينا بعد ما يقارب من ربع قرن من مغادرة الكاتب لمكان الأحداث، وتشبّعه بالثقافة الليبرالية الغربية، والتي بدورها سوف تؤسّس لخلفية خطابه الساعي إلى نقد السائد في "عدن"، وتبيان نواتجه على مختلف الصعد، وبالتالي فإن اعتماد أسلوب السرد الخطّي على الطريقة الكلاسيكية، لن يكون في صالح اللحظة النقدية المفترض إيصالها، ولذلك فإن صيغ الخطاب ستتجه نحو تقديم مشاهد منتقاة بعناية من الذاكرة، تتخللها مجموعة من التداعيات الاستطرادية للشخصية الرئيسة وراوي الرواية بضمير المتكلّم "ناجي"، وهذا يعني بالضرورة غياب الترتيب الزمني لجملة الحكايات التي سيرويها لقارئه، حيث إن السارد يمعن في الذهاب إلى الماضي القريب لشخصياته أو الماضي البعيد لعدن واليمن عموماً، ثمّ ما يلبث أن يعود إلى حاضر زمن القصّ في مدينة روان الفرنسية، فيغدو لزاماً على القارئ ربط هذه الأزمنة والتواريخ المفصلية في حياة "عدن"، للكشف عن الدلالات المراد إيصالها.
    تصدر صيغة الخطاب الأولى من قبل الكاتب الجالس إلى جوار سرير أمّه في إحدى غرف مستشفى "هوتيل ديو" بمدينة "روان" الفرنسية في مطلع التسعينيات على شكل استهلال وصفي لما آلت إليه أوضاع عدن بعد حروب الأخوة فيها: "عبث ينخر المدينة، ويجوس خلال شوارعها، ويحاصرها من كلّ الجهات، ويتحكّم بكلّ شيء فيها، وينتشر في كلّ مكان، وكانت هي مذبوحة من الوريد إلى الوريد بين يديّ، مدفونة دون ضريح ودون قبّة، ترفع دمها النازف وترقص عارية في تابوت شفيف.." وبعد هذا الاستهلال سوف يسند الكاتب دور الراوية لـ "ناجي" الذي سيتبيّن لنا لاحقاً أنه الكاتب نفسه عندما كان في عدن، لتبدأ معالم الخطاب الروائي بالتوضّح، والتي يمكننا حصرها بما يأتي:

    أ ـ السرد السيري

    وهو النمط الغالب في الرواية، وسنتابعه دوماً من خلال الشخصية المحورية "ناجي"، الذي سيبدأ بسرد حكاياته وهو في الرابعة عشرة من عمره، فنجده متّجهاً إلى مقهى "الشهداء" في مركز "الشيخ عثمان" لمقابلة صديقيه: عدنان وشكيب حاملاً معه قطع الشطرنج ومن ضمنها الملكة التي جرى الاعتداء عليها. و"ملكة الشطرنج" هنا تسمية رمزية للوزير يقترحها الكاتب على قرائه.

    أحداث الرواية ستبدأ في الساعة الثالثة من بعد ظهر يوم السبت من أيام شهر أكتوبر في مطلع السبعينيات، حيث يدخل يدخل "ناجي" وصديقه في لعبة شطرنج غير معنيين بما يجري خارجاً من مظاهرات حيث "ينزل المتظاهرون الوالهون في فرح ثوري نحو عدن من جبال اليمن وحقولها في سيارات الحزب، ويبدو عليهم المرح والنشوة احتفالاً بشهر الثورات."

    وفي مشهد آخر سنرى رجالاً مسلّحين بمقصات ومسدسات، يتجولون في مركز "الشيخ عثمان" باحثين عن الشباب الذين لم يلتزموا بثياب الثورة ليقصّوا لهم أطراف بنطلونات "الشارلستون" والشعر "الهبّي" موضة أواخر الستينيات حفاظاً على الأخلاق العامة. ومع هذا المشهد سيبدأ الراوي في بناء الفضاء الروائي متضمناً الأمكنة والشخصيات: مركز الشيخ عثمان وأقسامه الأربعة، مقهى الشهداء، والأكواد وغيرها. ومن خلال هذه الأمكنة سيبدأ بتقديم تعريف أوّلي بشخصياته: كشكيب وعدنان، ويعلن في الوقت نفسه أنه اختار للراوي اسم ناجي لأنه يرغب في إعطائه اسماً له دلالة رمزية: "أرغب في أن أسمى بهذا الاسم الذي عاد إلى ذاكرتي اليوم بعد خمس قرن في الغرفة رقم (248) في مستشفى (هوتيل ديو) في مدينة (روان) حيث أكتب سطور روايتي هذه على بعد ستة آلاف كيلو متر من عدن.." وعلى هذا النحو من الانتقال المكاني سوف يشرع الكاتب في بناء مقدّمات عالمه الروائيّ عبر شخصيتيه الرئيستين "ناجي"، و "عدنان". ونعتقد هنا أنهما ضلعان مكمّلان لمثلث شخصية الكاتب: أستاذ علوم المبيوتر بجامعة روان الفرنسية، أحدهما واقعي، وهو الكاتب الذي كان مراهقاً في عدن والآخر حُلمي لشخصية افتراضية كان ينبغي أن يكونها، وكلاهما يحمل صورته وصوته: صوت المثقف المعجب بالحضارة الغربية إلى حدّ كبير، والناقم على ما آلت إليه أوضاع عدن. وعلى الرغم من إسناد الأدوار للشخصيات الروائية، إلاّ أن الكاتب ظلّ حاضراً في النصّ المسرود من خلال الاستطرادات العديدة التي تقتحم متن الحكاية كلّ حين، لتوضح أو تفسر الأحداث بصوت عال.. بصوت المؤلّف الجالس هناك في "روان" وليس صوت الفتية المراهقين في عدن. وهو الأمر الذي دعا إلى نوع من التعدّي على شخصية الفتى السارد "ناجي" الذي سيقوّل كلاماً كبيراً ربّما يعود لما بعد عشرين عاماً وليس للّحظة الزمكانية التي قيل القول فيها، وخصوصاً لدى تناوله بإعجاب كبير حياة عدنان الذي بدا أشبه بفيلسوف منه بشاب مراهق. وإذا كان أمر عدنان هذا ممكناً على افتراض أنه طفرة معرفية إلاّ أن "ناجي" بدوره لن يقلّ عنه قدرة في التعبير عن المسائل الفكرية العويصة بأسلوب العلماء الرصين وذلك في كثير من المواضع، وسنجتزأ هنا من الرواية دليلاً يؤكّد ما ذهبنا إليه: "عندما كان عمره ستة عشر عاماً أحبّ الشعر والجبر بجنون، يسبر أغوار التناغم الواحد الذي يتخللهما ويشدو في قلبيهما. وكان يقول: لو كان الشعر يتلاعب بالبنى المجردة لكان ببساطة نظريات الجبر، ولو كان الحلم والمشاعر في عمق اهتمامات الجبر لتحول إلى شعر. لم يتمزق عدنان بفعل هذا الحبّ المثنى كما لو كان له قلبان في جوفه. كان عاشقاً للاثنين، لكنهما لم يكونا عشقين متعامدين، فلم يكن له حياة مزدوجة، بل كان في نظره يعيش عشقاً واحداً، كان يدرك بالغريزة وبجلاء ما وراء الجبر والشعر.." كما سنلحظ إقحامات أخرى بذات المستوى صدّرت للقارئ على لسان إحدى الشخصيتين في متن الحكاية، بل إنه في الجزء الثامن من الرواية سوف يزيح شخصياته جانباً ليبدأ هو في تلخيص النتائج الكارثية التي أصابت المكان والشخصيات في نوع من الخطاب الهجائي الحاد، وهو عيب فني يقع فيه الكثير من الروائيين الذين يكتبون رواياتهم الأولى بنمط السرد السّيري الذاتي، فلا يتمكنون من الفصل بين ذواتهم وبين شخصيات الرواية، فتقدّم الأحداث من خلال وجهة نظر الكاتب الذي سيخبرنا بها أولاً عن طريق الشخصية الرئيسة، ثمّ يعمل على تأويلها من خلال ثقافته الجديدة فيفرض هذا التأويل على القارئ بأساليب مختلفة، ليدفعه للتعاطف معه واستهجان ما تمّ من سلوك.

    ب ـ التناص

    يؤكّّد الناقد "سعيد يقطين" أن جزءاً أساسياً من نصّية النصّ، يتجلى من خلال "التناص" كممارسة تبرز لنا عبرها قدرة الكاتب على التفاعل مع نصوص غيره من الكتاب، وعلى إنتاجه لنصّ جديد ، ويعني ذلك أن هذه القدرة على التفاعل مع نصوص أخرى تعني إنجاز نصّ جديد، يستقي أشياء كثيرة من التجربة الشخصية، وتنضاف إليها التناصات المقتبسة عمداً، أو عفواً، وإلى ذلك فإن نصّ "الملكة المغدورة" يحفل بالمناصات سواء عبر المحاكاة، أو في اقتباسه بنىً نصّية يثبتها كمقدمات لفصوله، أو تضميناً لأشعار في متنه، وبالإضافة إلى كل ذلك ستحضر الحكاية الخرافية المستمدة من التراث الشعبي، والأساطير اليمنية الشهيرة، وسير ملكاتها، ومدنها الساكنة في الوجدان الجمعي.

    فمن المناصات التي اعتمدها الكاتب كمقدمات لفصوله، سوف نقف على رغبة منه وإلحاح كبيرين على اقتباس مقاطع طويلة من كتابات "عدنان"، وهو شخصية رئيسة في الرواية، وأحد أضلاع المثلث الذي كنا تحدّثنا عنه، وسينضاف إلى هذه الاقتباسات نصّ من مجموعة قصصية عنوانها: "جدّات شارع النصر" مجهولة المؤلّف، وربّما هي مجموعة كتبها في عدن، أو هي للشخصية الافتراضية "عدنان"، ونصّان آخران: أحدهما لأمين معلوف والآخر للكاتب الروسي فلاديمير ماكانين، بالإضافة إلى اقتباس أخير من كتيّب مرجعي في لغة "ليسب" للكمبيوتر. وكلّ هذا الحشد من الاقتباسات والمناصات إنما جاء منفصلاً عن المتن الحكائي، وفي موضع بارز من بداية الفصل، تحت الصورة المرسومة بخطّ اليد، أو فوقها كاحتراز مسبق من قبل الكاتب في وضع قارئه أمام صورة محددة أو إيحاء ما. وقد درج كثير من الكتاب على استخدام هذه المقتبسات حتى باتت ظاهرة تتوجّب دراستها وتحليل أبعادها النفسية.
    أما المتن الحكائي فإنه بدوره حافل بالمتناصات التي تشتبك مع السرد وتمتزج به كلياً لتشكّل نصّاً جديداً، وسنلاحظ هنا أن الكاتب قد تمكّن وبمهارة كبيرة من الاشتغال على التاريخ اليمني وأساطيره وحكاياته وعاداته وتقاليده، وتوظيفها في عملية السرد، وإلى جانب ذلك فإنه وظّف العلوم الحديثة كعلوم الجبر والهندسة والكمبيوتر على نحو بديع وفي أمكنة عديدة من جسم النصّ وعلى سبيل المثال سنورد هنا مقطعاً يوضّح آليات الدمج هذه: "لو كنت ذلك اليوم أقل جهلاً وأكثر حذقاً، ولو كنت اكثر اهتماماً بالمسائل "المهمة" لأطرحها على زميلي لاستطعت قبل أن أترك أزال وحيداً مع التمارين، أن أطلب منه بعيد ذلك حلّ هذا التمرين المماثل على نحو خادع للتمرين الأول وهو المعادلة المكعبة: س مكعّب + ص مكعّب = ع مكعّب. لأطلب منه بلطف أن يجد حلاً لهذا التمرين حلاً وحيداً بأرقام تامة. كنت بذلك سأوصله مباشرة إلى حدود آخر نظرية "فرمات" وأربكه في البحث عن حلّها الضائع الذي لم يتوقّف حشد من الباحثين عن البحث عن حلّ لها منذ 350 عاماً وحتى كتابة هذه الأسطر. لو فعلت ذلك لأتيح لي وقت يكفي لأن أطبع على شفتي ابتهال أطول قبلة في العالم. ستكون تلك النظرية أثبتت فعلاً فائدتها.."

    وعلى هذا الضرب من المتناصات سنقع على الكثير، ولكن أطرفها هو عنوان رسالته لا بتهال (أحبك حتى ظل بي على 2)، أي إلى ما لا نهاية كما سيوضّح لحشوان ذلك في الصفحة (180). وبالطبع فإن النموذج الماركسي أي حشوان سيتحفنا بجملة من الشعارات وبعض الأقوال من الأدبيات الماركسية كتناص مقابل.

    أما بالنسبة للمناصات الشعرية فهي بدورها كثيرة جداً، إذ إننا سنقع على مناصات شعرية تعبّر عن زمان المرحلة وشعاراتها، أو جملة من الأشعار الشعبية، والشعر الصوفي لكل من الحلاج وابن الفارض، ولن يغيب بودلير ورامبو بـ"مركبه السكران"، وسيلقي أدونيس مقطعاً له أمام العاشقين الصغيرين. وبالطبع فإن حضور الشعر بهذه الكثافة، إلى جانب المقتبسات النصّية تحديداً، إنما يعبّر عن قلق الكاتب الداخلي الذي يعكس إلى حدّ ما شكوكه بأنه يعاني أزمة في التعبير، ولذلك فإن الشعر والمقتبسات النصّية بتركيزهما الدلالي المكثّف سيوضحان نوعاً ما عن هذا القلق الكامن من عدم وصول القارئ إلى الدلالات العامة للنصّ، كما أن الشعر من جهة أخرى سيعزز جانب الاستطرادات حيث إنها ستمكّنه من الانفصال عن الحكاية الأم نحو حكايات أخرى على طريقة "ألف ليلة وليلة" التي تحشد حكايات كثيرة في جسد الحكاية الأصلية.

    ج ـ أوراق عدنان

    ونقصد بأوراق "عدنان" الشخصية الروائية، ما كان كتبه فعلاً أو ما استرجعه ناجي عنه من ذكريات، سيما وأن ناجي ظل على الدوام معجب به وما يفتأ لحظة عن تذكير القارئ بأقواله سواء على سبيل إيراد نصّ كتبه عدنان، أو نصّ قاله، وإلى ذلك فإن أوراق عدنان ستشكّل بدورها نصّاً داخل النصّ، أو حكاية داخل الحكاية الأساسية، ومن خلال العلاقة بين الشخصيتين، سوف نتعرّف إلى عدنان كشخصية استثنائية في وسط متخلّف، شخصية تسبق زمانها ليس عبر حدس الشعراء فقط، وذلك ما ركّزت عليه الرواية، وإنما أيضاً من خلال القدرة الكبيرة على المحاكمة العقلية والاستنتاجات الصائبة.

    عدنان إذاً، هو شاب شغوف بالفكر والتأمل والكتابة، وهو إلى ذلك شخصية تصطدم بالجدران القاسية التي شيّدتها الذكورة المتخلّفة، ولكنه بدلاً من أن يدخل صراعاً مع "حشوان" أو النظام السائد فإننا سنلتمسه يسعى للهروب من هذا الواقع العبثي، وكأنه استنتج منذ زمن أنه لا سبيل للمقاومة في ظلّ هذه الآفاق المسدودة كلّياً بوجه تطلّعات الشباب، وبذلك فإنه يمثّل الجيل الواعي المقيّد عن ممارسة الفعل.

    أعتقد أن شخصية عدنان التي جاءت من خلال التداعي إلى حيّز الفعل الروائي، إنما كانت بدورها تسرد جانباً من حياة الكاتب، وهي بذلك مكمّلة لشخصية ناجي، ولكن مصيرها مختلف، حيث إن الكاتب الساعي إلى إدانة زمن بأكمله، والمنشغل إلى أقصى حدّ بكتابة رواية تعبّر عن ذلك كان سيحتاج إلى هذا الصوت الآخر المختلف عن صوت ناجي، لكي يتناول حالة الشقاء الجماعي التي تعيشه اليمن، وليس ثمة شخصية تعبّر عن ذلك روائياً أفضل من شخصية عدنان الذي كان على حدّ تعبير ناجي: "يقرأ عشرة أضعاف ما نقرأ، ويفهم بسرعة تزيد عشرة أضعاف عن سرعة فهمنا، ويعيش في عالم غير الذي نعيش فيه، ويتكلّم لغة غير اللغة التي نتحدث بها. يتساءل دون انقطاع. كان من طينة قدّر لها التأثير على حياة الآخرين.." وهو إلى جانب كلّ ذلك بطل اليمن الجنوبي في لعب الشطرنج. ومن هنا فإنه سوف يصبح مشروعاً له أن يكون مُلهَماً ومُتنبِّئاً ومليئاً بالحكمة على غرار كبار المتأمّلين، ومن هنا اصطلحنا عليه بالشخصية "الطفرة" أو الشخصية الفائقة القدرة التي تحلم بكتابة رواية مذهلة تؤدّي إلى "نسيان الأمواج، والنوم، والبرد، والطقس الجميل، والطقس الرديء، وتؤدّي أيضاً إلى تجميد الكثير من فناجين الشاي، وإحراق الكثير من الأطباق المطبوخة.." وقد يستغرب القارئ من هذه الرغبة المتّقدة لدى عدنان لكتابة رواية في وسط "تنخر فيه الأمية، وحيث تعمل القبلية لتشويه النفوس، وحيث الثأر سائد، والموت أمر عادي ص(109)، وإننا في بلد يتقدّم بإصرار وثبات نحو الخراب ص (110)"،

    فلمن إذاً سيكتب هذه الرواية؟

    ليس ثمة إجابة عن السؤال، لأن عدنان الذاهب في تأملاته غير معني بالإجابة عن هذا السؤال، سيما وقد أكّد أكثر من مرّة كما أسلفنا، أن الأفق مسدود وليس ثمة أمل، ولكنه إلى جانب ذلك، فهو يتبنى فكرة أو رؤية تنصّ على أن الإنسان منذ أيامه الأولى فوق الأرض ما زال يصوغ روايته الأولى، وذلك من خلال توقه الكبير للمعرفة. ولكن هذه المعرفة بمعناها الواسع لن تستطيع إلغاء تناقضاته الداخليه، فهو من جهة "سيظلّ مسكوناً بالغيرة وحبّ الذات، قاس ومتلهّف للسلطة والسيطرة، وفي وجه آخر عبقري متسام وجليل، واكثر استنارة من أن يعيش عيشة حيوانية.." والمثال الأبرز لهذه الرؤية نلتمسه في الشخصيتين النقيضين: حشوان، نموذج الرغبة المتأججة في السلطة والسيطرة. وعدنان، العبقري المتسامي.

    إن رواية "الملكة المغدورة" للكاتب اليمني حبيب عبد الربّ سروري حافلة بالأحداث والفضاءات التي يمكن التوقّف عندها مطوّلاً، وإذا كنا هنا تناولنا دلالاتها العامة وصيغ الخطاب فيها، إلاّ أنه لم يغب عن بالنا أيضاً توظيفه الموروث الشعبي والثقافي اليمني والعربي في لغة روائية جريئة، كان من الممكن لها أن تأخذ حيّزها المناسب في السرديات العربية الجديدة لولا أنها كتبت بالفرنسية، ومن ثمّ ترجمت إلى العربية من قبل مترجم هو الأستاذ: علي محمّد زيد، وليس من قبل الكاتب، ولولا بعض الهنّات الفنّية التي أشرنا إليها سابقاً، أو لما التمسناه من ثقة زائدة في نفس المؤلّف بأنه يصدر أدباً مشبعاً بثقافة جديدة، وله الحقّ في أن يطلع قارئه عليها بالخطاب الذي يشاء حتى ولو أضرّ بتقنيات السرد، وقد فاته أن هذه الثقافة تسافر مع الهواء ويمكن للجميع تنفسها من مصادر عديدة، بل وإنتاجها محلياً على أيدي نخبة من المبدعين الجدد، لأنها باختصار النتاج الطبيعي لهذه المرحلة الزمكانية الفائقة الخصوصية.

    في هذا الصدد انظر الصفحة 28 والفصل الأوّل من الجزء الثاني المسمّى "الجمعة الدامي أو رحلة على مسار تحتي بدائي" من الرواية ص31 وفي مواقع أخرى كثيرة من الرواية. وانظر ص10 من كتاب الرواية والتاريخ السردي، د.سعيد يقطين، المركز الثقافي العربي، بيروت،1992.

    كاتب فلسطيني* (نقلا عن موقع المشكاة نت)





    تصميم مسعود عمشوش

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة أبريل 26, 2024 10:50 pm