الحجاج وخبره الصّائب
الحِجاج باعتباره أسلوبا منطقيا فلسفياّ في الإقناع بالفكرة ونقيضها غالبا ما يُدرس بمنأى عن خبره. والخبر مجرى تسويق الحجّة ورواجها يتطلّب من صاحبه قدرة في السّرد أي الإخبار بما يراود ويشوّق ويفحم. والنّثر الفنّي عند العرب أسلوب في الحِجاج قد يصلح لأن يكون أرضيّة طيّبة لمقاربة ما للخبر من مكر لخلخلة الحجّة بتصنّع الحيل، حيل المفارقات القائمة على لطافة المراوحة بين الفويرقات الّتي دقّّت معانيها للخاصّة والعموميّات الّتي بسّطت للعامّة فقامت حججا تكلّست وتخلخلت بالخبر وكيفيّات تدبيره.
لذلك فإنّ النثر الفنّي العربيّ لم يكن خالصا من بصمات المكر، مكر الخبر يشقّ عصا طاعة السّائد من الحجج المرسّخ لهيمنة المتن مما يجعل الحِجاج في الفكر العربيّ الإسلاميّ غير عار من توابع الخبر وزوابعه بدءا من الكلمة باعتبارها فعلا حكائيّا إلى النصّ الذي لا يختلف كثيرا عن منطق نصّه الأصغر ألا وهو الكلمة. والوعي بهذه الفكرة التى تجعل المفهوم مادّة الحجاج ووظيفته إن جاء الوعي به أو التّعبير عنه متأخّرا نسبيّا لما يمتاز به مسلك الرّواية أو مجراها من مشهديّة أو علوق بالضّفاف تشغل القارئ أو السّامع عن مقاصد النّاثر الفنّي أو الحكواتي المتوسّل بأسلوبه الحكائيّ ليقنع بالرّأي ويقيم الحجّة وهو الغافل عمّا يلحقه حصان الخبر راكضا أو متمهّلا بالحِجاج من عدول أو انحراف أو توليد حجج من حجج قد تقطع نهائيّا مع ما يتوهّم انّه الحجّة الأصل أو المفهوم الأصل.
وشقّ عصا الطّاعة في النّثر الفنّي العربيّ يستقرأ، بل يستنبط ممّا تجيزه مقامات الخبر من مفارقات تجعل نصّ الحاشية نصّ الخبر مخلاّ بنصّ المتن، نصّ الحجّة، بانيا من جديد نصّ الحاشية خبر نصّ الانزلاق بالحجّة إلى حجّة أخرى وهكذا تكون مروحة الهدم والبناء محرّك الحياة في الخبر الفنّي العربيّ في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني وكليلة ودمنة لابن المقفّع ونوادر الجاحظ وبخلائه ومقامات الهمذاني إلى غير ذلك من رسائل المناطقة والفلاسفة والفقهاء والمفسّرين وأصحاب الملل والنّحل.
ولعلّ الوقوف عند ما يقرّه المتن في نماذج من النّثر الفنّي العربيّ – اختيارا – من نسبة أخبار إلى عمر بن أبي ربيعة أو إلى جميل بثينة وغيرها من أخبار الشّعراء والمغنّين تخلّ به الحاشية أو المقام أو الفضلة أو السّوح في الخيال وجعل المستحيل ممكنا والرّغبة في الإخلال من الخيوط الرّقيقة التي تستنبط من تكثيف النّعوت وما تضمرة جدليّة الفويرقات اللّغوية القائمة بالتّمثيل والتّشبيه واختلاق المفاجآت بالمراوحة بين الممكن واللاّممكن بتدبير اللّغة وبناء عوالم مفترضة مادتها، قرائنها، أسماء أعلام وأسماء جنس فصفات مشبّهة ونعوت ولواحق ظرف وحال وماشاكلها من عناصر المشهد الحكائيّ لوافت ابتداء واختتام وعقدة وحل فلغز وحيل ومعهود وعجيب وشخصيات وسرد وحوار وغيرها من شارات التّعليم والحجاج تبدو مسمّرة بالإيهام مقلوعة بالتفطّن إلى دواعي المكر والتّهميش. والتّهميش سرحة العقل تحوّر البديهيّ بالشّاذ فينشأ حوار بين الفويرقات اللّغويّة المترسّخة حوافّها بالفطرة البدويّة المقموعة بالنّمطيّة المحوّرة بنمطيّة أخرى، نمطيّة العقليّ المعدّلة أو الممسوخة بالثّقافة النّثريّة المدنيّة الحاملة مشروع تبديل الطّبع وتحقيق أحلام النّاثرين التي قد تلتقي وأحلام الشعراء والفلاسفة أو "الزّنادقة في كتاب الأغاني وكتاب كليلة ودمنة وهذا يصبح الخبر ذرّات حياة ولازمة تجدّد تنجي المفهوم من الموت، موت التكلس، تكلّس البيان والوضوح.
جدليّة الصّراع بين فوريقات المتن وفو يرقات الحاشية قائمة بشكل لافت في "كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع" مما يقيم الدّليل على أنّ النّثر الفنّيّ العربيّ نثر حِجاج يهدف إلى الإقناع بحجج وإيصال علم لا يمكن له أن يتمّ أو يستقلّ عن مراسم الخبر وما يقتضيه من تلهية وإمتاع قد يؤخّر المعلومة أو يحرّفها فيحيد بها عن بلوغ القصد وبالتّالي يولد منها مفاهيم أخرى إلى حدّ الغموض وخبر الغموض خبر الحجاج الحيّ لا الميّت. وهكذا يصير الخبر بالنّسبة إلى الحِجاج كالضّارّة النّافعة تجعل المفهوم أقدر على العيش دون أن يبقى هو هو، وهي حالة مستحيلة إن لم نقل حالة جمود فموت.
فقال الجرذ "إنّ لي أخبارا وقصصا سأسردها إليك ولقد انتهينا إلى حيث تريد فأخذ الغراب بذنب الجرذ فطار به حتّى دنا من العين الّتي فيها السّلحفاة" جملة السّرد نحويّة تعقد مفهوما حجاجيّا لم لم تلحق بذنب الجرذ وكان كذلك لجملة الاستهلال في مثل الجرذ والناسك أن تكون جملة نحويّة أو راوئّية بالمفهوم، مفهوم الحجاج في الرّواية، رواية الحديث والسّنّة الدّاعمة لمفاهيم الكتاب أو "النصّ الأعظم" القرآن أو بمفهوم المثل مفهوم الحجاج في كليلة دمنة المبشّر بمنهج عقليّ جديد لو لم تنعت المدينة بـ "ماروت"(1) وهي فضلة تركيب إسنادي في قول الجرذ "كان أول منزلي في مدينة يقال لها ماروت في بيت رجل من النسّاك لم يكن له عيال" أليست "ماروت" قرينة "هاروت" في التّعبير عمّا هو خرافيّ أو أسطوريّ كذلك مثل الأرملة والعبد وطريقة هلاكها كان نحويّا مستجيبا لمنطق الإسناد المفيد منطق الرّواة المؤيّد للمفهوم الأخلاقيّ لو صيغ على الوجه الّذي انتهى إليه الكتاب المدرسيّ "المهذّب" ولم يحرّف عن صيغة وروده في طبعة الجزائر إذ نفخ المرأة الهالكة في دبر العبد بمناسبة ضيافتها النّاسك غير النفخ في فيه. فالحِجاج القائم منسوف بالخبر لافظا المسكوت عنه المجنّح بالفضلة أو الحاشية فاتحا باب اللّغو أو ألعجائبيّ في كليلة ودمنة مخلاّ بالعمدة. وما إفادة العمدة سوى مشهد علم جادّ أو مفهوم ممسوخ بمشهد اللاّمعني أو الثّرثرة الممتعة التي تسنح بالضّحك، ضحك السّخريّة أو التهكّم من المصير حيث يستوي النّفخ في دبر العبد بالنّفخ في روحه أو في فمه فيصير رهان المثل أو الخبر الإخبار عما قد يقع مستقبلا لا عمّا قد وقع فيصير الخبر تبشيرا لا تقريرا فيملأ الفراغ أو يؤخّر العلم بخبر الثّرثرة لأنّ الثّرثرة وأضيف الخارقة بتدبير الرّاوي تخوّل للمتكلّم بناء عوالم لا تنتهي من عوالم التّمثيل والتّشخيص، وما وسائل التّمثيل والتّشخيص في اللغة الحكائيّة سوى مشاهد لفظيّة بانية بيوتها القصصيّة جدرانا قائمة متداعية بمواد الخبر متناصّة.
وإذا الخبر في كليلة ودمنة خبران خبر ممسوخ وآخر ماسخ يصير بهما المثل بريئا إلى حدّ المكر إذ تستقيم أركان المشهد لتقنع بالمألوف وتحمل على التّصديق وإجراء الأحداث مجرى الواقع بامتهان الإسناد المفيد فينبهر القارئ بحجاج سرعان ما تعصف به لواحق تحيل المثل من رسول حكمة أو مسرّب حكمة أو مذهب إلى هاتر باللّغو حائد به عن القصد بأخبار وقصص تدخل حلبة الرهان للتفتت والتّهميش فيصير الخبر استشرافا مستقبليّا لا إخبارا آنيّا أو ماضويّا والهاتر غير مطالب بأداء أيّة رسالة.
أليست مقاربة مختلفة كهذه كفيلة مؤقّتا بالكشف عن وهم التّعلق بالحِجاج بمنأى عن خبره ليس على مستوى النّثر الفنّيّ فحسب بل على مستوى جميع أنواع النّثر الأخرى سواء أكان خطابها حجاجيّا علميّا أو فلسفيا أو حتّى تاريخيا أو فقهيّا. إذ الوعي بالمفهوم الحجاجيّ ودواليب خبره كالوعي بمفهوم صحّة الجسد الصّريحة بالسّمنة أو النّحوّل المضمرة بتعقّّد الشّرايين والأوعية الدّقيقة والغفلة عن الخبر كالغفلة عن أمراض الجسد التي تشبه أمراض المفهوم الحجاجيّ الّذي قد يقضي عليه خبره دون وعي من أصحابه أو معتنقيه إذ للخبر قدرة عجيبة على عقد المفهوم الحجاجيّ وحلّه في أسلوب لا يخلو من زيف ومكر غادر يؤدّيان إلى الغموض أو الإرباك.
والخبر بمعجمه ونحوه ومجازه الأدبيّ أو العلميّ أو الإعلاميّ أو اليوميّ بالغ بحجّة منزلة "الصّائب سياسيّا politiquement correct" كما يقول Umberto Eco ويعتبره مؤدّيا إلى الارتباك الكبير "la grande confusion" (2)
لكن إن كانت مادّة مقاربتي هنا غير مادّة مقاربة إيكو فإنّني ألتقي معه في الإحساس بالارتباك إزاء معايير "المقبول أو الصّائب سياسيّا" في ما يتبنّاه معوّض كلمة "الدّبر" بالفم أو "homosexuels" بـ "enculés" إلى غير ذلك من الأخبار والألفاظ والنّعوت وضروب التّكنيّة والتنابز بالألقاب كالإرهابي والفاشستي (3) والانتحاري البالغة بخبر العولمة منزلة ّالصّواب السّياسيّّ معيار العرقيّ أو الايديولوجيّ في التّمييز بين الكلمات أو المفردات والجمل أو النّصوص وبين دوالّها الأخلاقيّة والشّرعيّة مما يجعل النّعت كالكنية أو التّهمة كاسبا "صوابه سياسيّا" وإن كان لافظه أو معلنه منهيا عن أمر وآتيا بمثله مسجّلا في دلك أبشع الجرائم ضدّ من يدّعي أو يعتقد أنّه يدافع عنهم ويرغب في تحريرهم من منعوتيه بأهل الشرّ. فالمشكل محيّر ويدعو بإلحاح إلى الدّرس الدّقيق والتّحليل اللّساني المتطوّر العميق.
هوامش : (1) ابن المقفع "كليلة ودمنة" ، طبعة الجزائر
(2) امبرتو إيكو/ الارتباك الكبير 5/6 لوموند الثقافية في 11/8/2006 نقله من الإيطالية بيار لاروش
(3) عبد الباري عطوان "الفاشية الإسلامية أم البوشية، القدس العربي في 12/8/2006
محمّد خريّف / ناقد من تونس
krfmohamed@yahoo.fr