الخــطاب ووجهـــة النظــر مفهومان أساسيان في نظرية السرد عبد العزيز موافي
مرسلة بواسطة طه عبد المنعم في 04:56:00 ص
إذا كان الشعر هو الفن القولي الذي احتل مكان الصدارة بامتداد العصور الكلاسيكية، اعتباره حامل قيم تلك العصور، فإن الرواية هي الفن القولي الذي بزغ مواكبًا لظهور الطبقة البرجوازية في العصور الحديثة، ووصولاً إلي ذروة نضجها بامتداد القرن الثاني عشر، والذي يعد بحق الأب الشرعي لظهور الفن الروائي بعد أن اكتملت ملامحه علي أيدي كوكبة من ألمع الروائيين في تاريخ الأدب مثل: دانييل ديفو (1689-1738)، وجوناثان سويفت (1667-1745) وصمويل ريتشاردسون (1689-1731)، والماركيز دي صاد (1740-1814).... إلخ . ونظرًا لسطوع نجم الفن الروائي مع صعود نجم الطبقة البرجوازية البازغة، فقد صارت الرواية هي فن البرجوازية الأول . لذا فإن جورج لوكاتش يصف الرواية بأنها ملحمة الطبقة الوسطي في بحثها عن المعني والقيمة، في عالم يهتز فيه المعني وتضطرب فيه القيمة.
وقد كان من الطبيعي أن يصحب فهم هذا الفن ظهور العديد من المفاهيم التي أدت إلي إمكانية فهم هذا الفن، وبالتالي دراسته . وكان من أبرز تلك المفاهيم الناشئة ما يرتبط بفعل الحكي، ألا وهو مفهوم " السرد"، الذي ارتبط - بداية- بالرواية، لكنه تجاوزها- فيما بعد - لكي يلتحق بعالم القصة القصيرة، ثم يصبح فاعلاً جماليا في الشعر، خاصة مع بزوغ قصيدة النثر في حركة الشعر الحديث.
ولكي نضع أيدينا علي طبيعة مفهوم السرد، فمن المهم أن نعرض - بداية - للدلالة المعجمية في مظانها الأولي، أي في المعاجم اللغوية، لنري إلي أي حد جاء نحت المصطلح - لغويا - مقاربًا لطبيعته الإبداعية .
في " لسان العرب " يشير ابن منظور للمفهوم اللغوي لمعني "السرد" حين يقرر في مادة "سرد" أن السرد هو: " تقدمة شيء إلي شيء، تأتي به متسقًا بعضه في إثر بعض متتابعًا، مع رعاية جودة السياق الذي يحتويه (1).
وفي هذا الصدد يشير محمد عبد المطلب إلي أن ما يلفتنا في تحديد ابن منظور السابق للدلالة اللغوية لمفهوم السرد، أنه يحتوي علي ركائز ثلاث:
- الاتساق.
- التتابع.
- جودة السياق.
ويري عبد المطلب أن هذه الركائز هي عناصر أساسية ينبني عليها مفهوم السرد عمومًا، وكذا السرديات الجديدة علي النحو الذي جاء عليه المنجز النقدي الوافد (2).
وحين نتناول مفهوم "السرد" من وجهة نظر نقدية، سنجد أنه يتخذ شكلاً مختلفا من حيث التوصيف، باعتبار أن المنظور اللغوي يقوم بوصفه من الخارج، أما المنظور النقدي فيصفه من الداخل . والسرد - طبقًا للمنظور الأخير - هو المادة المحكية بمكوناتها الداخلية من الحدث والشخوص والزمان والمكان، وهي مكونات أنتجتها اللغة بكل طاقاتها الواصفة والمحاورة والشارحة والمعلقة(3). فالسرد - إذن - ليس مجرد تكنيك كتابة، بقدر ما هو الكتابة ذاتها.
وعلي ذلك، فإنه يمكننا الإشارة إلي أن السرد أصبح لازمة أساسية في فهم كل من الفن القصصي والروائي باعتبار أنه حامل جينات كليهما. لذا فمن الطبيعي أن نتصور أنه بين القصة - الرواية من ناحية والقارئ من ناحية أخري، يوجد - دائما - " السارد "، ذلك الشخص الذي يسيطر علي ما يروي، بل وعلي كيفية رؤيته . بل إن البعض يبالغ حين يقدم نظرية السرد علي نظرية الرواية، إذ يري أن الأولي قد حلت بديلاً عن الثانية، بوصفها - أي نظرية السرد - أصبحت موضوعًا يحظي باهتمام مركزي في الدراسات الأدبية المعاصرة.
ولعل أهمية تقديم نظرية الرواية، بل المغالاة في إحلال إحديهما محل الأخري، إنما يعود - بالأساس - إلي أن التقنيات الخاصة بالرواية إنما تتضمن علاقة المؤلف بالسارد، وعلاقة السارد بالقصة، وأمور تخص وجهة النظر، إذا افترضنا أن المؤلف يحاول أن يحقق تمثيلاً موضوعيا وواقعيا(4). فالعلاقة بين المؤلف والسارد، علي تعدد الأخير داخل الفن الروائي، هي علاقة إشكالية، في نفس الوقت الذي يمكن أن نعدها فيه أقرب إلي ما يطلق عليه الشكلانيون مفهوم " العنصر المهيمن " داخل جنس أدبي ما أو عصر ما . فالسارد إما يسرد قصة عن الآخرين مشيرًا إلي كل الشخصيات عن طريق الشخص الثالث، أو قصة يشترك هو فيها.
وإذا كان السرد هو المادة المحكية بمكوناتها الداخلية من الحدث والشخوص والزمان والمكان، كما أشرنا من قبل، فلقد ميز الشكلانيون المواد الخام في " القصة" Fabula عن العمليات المستخدمة لنقل تلك الموادSyuzhet. .فالمواد ثابت مجرد في صنع التخييل، أما الكلمات والوسائل التقنية فيمكن أن تتنوع .وهناك أسباب متعددة لهذا التميز، فلا يمكن أن نناقش " كيفية " السرد دون افتراض مادة ثابتة، يمكن تقديمها بطرق متنوعة (5) . وفي نفس الوقت فقد ميز البنيويون الفرنسيون - معتمدين علي الشكلانيين - بين القصة story والخطاب Discoure ، وعرّفوا هذين المصطلحين بطرق متنوعة . ويري جيرار جينيت أن القصة تتكون من المواد قبل اللفظية في نظامها التاريخي، وعلي ذلك فهي تماثل تعريف الشكلانيين لكلمة Fabula ويتضمن الخطاب - في نظره - جميع المقومات التي يضيفها الكاتب إلي القصة، لاسيما التغيرات في سياق الزمن، وتقديم ما في وعي الشخصيات، وعلاقة السارد بالقصة والجمهور (6). ومن هنا، فإن مفهوم الخطاب يعد أحد المفاهيم المركزية في نظرية السرد.
مفهوم الخطاب
ربما لم يرتبط مفهوم الخطاب بالسرد فقط، إلا أنه تحول لكي يصبح وجوده مركزيا لدراسة آلية السرد . فلقد ارتبط مفهوم السرد بمفهوم العمل الأدبي، خاصة الرواية .وفي هذا الصدد كان الشكلانيون الروس ينظرون إلي العمل الأدبي، في مرحلة ما قبل البنائية ،علي أنه تجمع لوسائل فنية، ثم تطورت نظراتهم بعد ذلك فأصبح العمل الأدبي تنظيما الوسائل الفنية وليس تجمعًا لها ،فاتخذ مصطلح الوسيلة الفنية معني بنيويا، ولم يعد ينظر إلي الوسيلة الفنية بوصفها ذات معني في نفسها، بل بوصفها ذات دلالة لا تنفصل عن وصفها داخل نسق معين، بحيث يحدد هذا النسق العلاقات البنيوية للوسيلة الفنية بالمكونات الأخري للعمل، ثم يصل بينها - بمعني ما - وبين عناصر خارج العمل أيضًا (7).
أما بخصوص التقابل بين مفهومي القصة والخطاب عند جيرار جينيت، فإن مفهوم الخطاب قد تجاوز القصة إلي العمل الأدبي بشكل عام، إلا أنه عندما يرتبط بعلاقة تجاور مع القصة، فإنه لا يؤدي إلا باتجاه مفهوم السرد، من خلال تنظيمه للوسائل الفنية داخل القصة. بل إن مفهوم الخطاب بمعناه العام يقترب كثيرًا من هذا التصور، وإن لم يكن يتطابق معه. لقد عرف ميشيل فوكو الخطاب - بشكل عام - علي أنه " طريقة في الحديث عن شيء ما، ينشأ بفضل هذا الفعل ذاته " (. فكلمة " طريقة " في التعريف السابق هي معادلة لكلمة "منهج" فكأن الخطاب هو منهج الحديث عن جنس أدبي ما، حيث لا يتحقق وجود هذا الجنس بشكل كامل إلا من خلال خضوعه لفعل الخطاب ذاته.
وعلي جانب آخر، يري رامان سلدن أن مصطلح الخطاب يشير إلي الطريقة التي تتشكل بها الجمل، مكونة نظامًا متتابعًا، تسهم به في نسق كلي متغاير ومتحد الخواص، وعلي نحو يمكن معه أن تتآلف الجمل في خطاب بعينه لتشكل نصًا مفردًا، أو تتألف النصوص نفسها في نظام متتابع لتشكل خطابًا أوسع ينطوي علي أكثر من نص مفرد . وقد يوصف بأنه مساحة من العلامات المتعينة التي تستخدم لتحقيق أغراض متعينة بدورها . وإذا كان تحليل الخطاب محورًا مهمًا من محاور علم اللغة التصنيفي (أو التوزيعي) عند هاريس وتلاميذه، فإن مفهوم الخطاب نفسه اكتسب أهمية متميزة من حيث هو أداة التحليل، علي إسهام بنفنست في كتابه "مشكلة علم اللغة العام ". ولقد كان تعميق مفهوم الخطاب بمثابة نقطة من نقاط التحول عن البنيوية. ومن هنا، يتخذ الخطاب معني متميزًا في كتاب فوكو، فيفرد مجموعة من المنطوقات التي تنتهي إلي تشكل واحد، يتكرر علي نحو دال في التاريخ، بل علي نحو يفرد معه الخطاب جزءًا من التاريخ، هو بمثابة وحدة انقطاع في التاريخ نفسه(9).
وربما يستدعي مفهوم الخطاب سؤالاً مهمًا ظل مطروحا في الكتابات النقدية الحديثة، ورغم تعدد الإجابات عليه فمازال في حاجة إلي إجابة حاسمة، وهو: ما الأدب؟
يبين سكاربيت أن أهمية كلمة " أدب " تأتي من تعدد معانيها:
"يبدو فعلاً أن كلاًّ من علوم الأدب الحالية يقوم علي مسلمة خاصة به، ومعبرة عن أحد المضامين المتضاربة لكلمة أدب . هناك علم جمالي للأدب، وعلم أيديولوجي، وعلم سوسيولوجي . ولا شك في إمكان مد الجسور فيما بينها وفتح الأبواب، ولكن يمكننا أن نخشي ألا تتمكن كلمة أدب من البقاء حية بعد هذه العملية . فهذه السلسلة من الالتباسات هي التي صنعت فن الكلمة، ويمكن أن يؤدي الاجتهاد في إزالة الالتباس إلي إفقارها نهائيا (10) . وعند طرح السؤال السابق : ما الأدب ؟ يمكن أن ننطلق في البحث عن جوهر شيء لا يتوقف عن التحول والانفلات من أيدي الذين يسعون إلي سجنه داخل تعريفات وحدود نهائية . وسوف نتعرض عندئذ إما للوقوع في الجزم العقائدي هذه هي حدود الأدب التي لا تمس، أو في الذاتية الشكوكية للأدب (الأدب هو ما أحب، أو ما أعتبره أدباً) .أو سنكتفي - في أفضل الأحوال بمقاربات تاريخية ضيقة، ونحصر الأدب في قيمته التوثيقية (11).
ونظراً لأن مفهوم السرد يرتبط بكلمة " أدب " التي يصعب تعريفها، نظراً لتعدد إيحاءاتها أو تعدد زوايا النظر إليها، فمن الطبيعي - إذن - أن المشكلات التي تصيب الكل تنعكس - بالضرورة- علي الجزء . ومن هنا، يصبح انفتاح المعني هو صفة لازمة لتحديد مفهوم السرد، أولاً لتعدد مردودات كلمة " أدب " التي يرتبط بها ارتباطًا عضويا، وثانياً لتنوع الأجناس الأدبية التي تستخدمه . علي أن أقرب التوصيفات التي يمكن أن نعرب بها عن طبيعة السرد هو مفهوم الخطاب .
وإذا كان الخطاب يتضمن جميع المقومات التي يضيفها الكاتب إلي القصة، فإنه يتخذ شكلاً آخر عند موكاروفسكي، إذ يطلق علي جميع هذه المقومات تعبير " البنية الجمالية " إنه يصف تلك البنية بأنها مجموع مركب من مكونات مترابطة ومتحققة بصورة عملية وجمالية، في سلسلة متصاعدة ومعقدة ،يربط بينها - علي التوالي - العنصر المهيمن علي هذه المكونات " وهو يعرف تلك البنية بأنها " نسق قائم علي الوحدة الداخلية للكل، من خلال العلاقات المتبادلة بين أجزائه ولا يقوم هذا النسق علي العلاقات المتوافقة فحسب، بل يقوم - بالمثل - علي التناقضات والتوتر والصراع " (12).
ونظراً لأن الكاتب يقوم بدور الوساطة ما بين الواقع والقصة، بينما يقوم السارد بالوساطة ما بين القصة والقارئ، لذا فإن كلاً من الواقع والقارئ الضمني يلعبان دورًا غير مباشر في عملية تشكيل السرد، باعتبار أن الرواية - طبقاً لتعريف هنري جيمس - هي "انطباع شخصي ومباشر عن الواقع " . وفي هذا الصدد، يشير جاك لينهارت إلي أنه في الرواية تأتي أهمية الأشياء، باعتبارها تمثل مفردات الواقع، من خلال كونها واقع مضمون، أما وضعية الراوي (السارد) فهي واقع شكل (13) . فعملية السرد هي التي تضفي علي المضمون شكله الفني، وهي التي تحيل الواقع باتجاه الأدب .
إن وضعية السارد تتعدد وتتغير طبقاً لموقعه من العالم الداخلي، فهناك السارد الكلي الذي (يعرف كل شيء ) عن الشخصيات الأخري، وهناك السارد الشخصي الذي يتكلم علي لسان شخصية واحدة، بحيث نري العالم من خلال رؤيته الذاتية، وفي بعض الأحيان نواجه بأكثر من سارد داخل العمل الواحد، إلا أن السارد الأكثر حضورًا داخل الرواية، منذ أن اختلقه هنري جيمس، هو ما يمكن أن نطلق عليه " السارد المؤلفي " إنه ذلك السارد الذي لا يشترك في الفعل، حيث يقوم بسرد القصة دون أن يكثر من التعليقات، كما لا يستخدم ضمير " أنا" علي الإطلاق. وبذلك لا ينتبه القارئ إلي أن هناك كاتبًا أوجد ما هو في الحقيقة حكاية تخيلية. وعلاوة علي ذلك، يفترض السارد مدخلاً إلي عقل شخصية واحدة فقط، مولداً بذلك مظهرًا من مظاهر الموثوقية، حيث لا يعرف السارد ما يدور في عقول الشخصيات الأخري . وغالباً ما تتضمن وجهة نظر هذا السارد تعبيرًا بصريا، أو كما لو كان شاهدًا غير منظور يقف إلي جانبها(14).
علي أنه من المهم الإشارة إلي أن وصف الشخصيات من الداخل أو من الخارج يرتبط - بالضرورة- بموقف المؤلف منها . فقد يلتزم المؤلف بوجهة نظر الشخصية التي يشعر أنه يستطيع أن يقبل منها نظرتها، بينما تبدو الحالة النفسية لشخصية أخري غريبة له أو حتي غير مفهومة، بحيث لا يستطيع أن يتوحد معها . وفي هذه الحالة سوف تندمج شخصية المؤلف بشخصية القارئ، لأن المؤلف ينتحل وجهة نظر تلك الشخصيات. وبذلك يتحقق مفهوم الخطاب باعتبار أن القصة الرواية هي مجرد طريقة في الحديث عن أشياء وعن شخصيات متعددة، طبقًا لتعريف فوكو السابق.
مفهوم وجهة النظر
أثناء عملية السرد عادة ما يقوم السارد باختراق وعي شخصياته، باعتباره كلي المعرفة في معظم الأحيان . ويمكن لنا أن نعين أهم ملامح السرد، والذي يتمثل في مفهوم " وجهة النظر " عن طريق شاهدين أساسيين، يتمثلان في كلمتي " منظور " Perspective و " بؤرة " Focus : من يري ؟ ومن أي موقع ؟
لذا فإننا نجد أنه من المهم الإشارة إلي أن مفهوم " وجهة النظر" هو مصطلح عابر للأجناس الفنية، إذ يمكن التماسه كعابر للنوعية في فنون عديدة : قولية - تشكيلية - مسرحية - سينمائية ... إلخ، ويتخذ هذا المفهوم أشكالاً عدة، تتناسب وطبيعة الفن الذي ينتمي إليه، لكنه - وبشكل عام - يمكن أن يخضع لتوصيف أنه "موقع للرؤية"، والمقصود بالرؤية هنا ليس الرؤية البصرية بل الرؤية الفنية. وتلك الرؤية هي التي تضفي علي الأعمال - في مختلف الأجناس - التفرد والعمق، أياً كانت طبيعة تلك الرؤية : بصرية - ذهنية - حركية.
وتتصل مشكلة وجهة النظر اتصالاً مباشرًا بالأشكال الفنية التي تمتلك مستويين :
- مستوي التعبير.
- مستوي المضمون.
ومن ناحية أخري فهي تتصل اتصالاً مباشرًا بالأشكال الفنية التي تتضمن النحو - لا الدلالة - بصورة كبيرة (15).
ولدراسة مفهوم وجهة النظر، فإنه يمكن اقتراح عدة مقاربات في هذا الصدد :
- فقد نعد وجهة النظر موقعًا أيديولوجيا (أو تقويميا).
- وقد نعدها موقعًا زمانيا ومكانيا لمن يصف الأحداث (أي الراوي يثبت موقعه في إحداثية زمانية ومكانية ) .
- وقد ندرسها من ناحية خصائصها الإدراكية .
- وقد ندرسها في معناها اللغوي الخالص (كأن ترتبط مثلا بظاهرة الخطاب شبه المباشر ) .
وهناك مستويات أخري للبحث يمكن من خلالها تثبيت وجهة النظر بها:
- مستوي الأيديولوجيا.
- مستوي الصياغة التعبيرية.
- المستوي النفسي (16).
وعلي ذلك، فإنه يمكننا القول إن مفهوم " وجهة النظر " إنما يرتبط، داخل فعل الحكي، ارتباطاً وثيقًا بوضع السارد داخل العمل. بل إنه يمكن القول إن وجهة النظر تأتي كنوع من الانعكاس الشرطي لوضعية السارد، وبالتالي فإنها تتغير بتغير تلك الوضعية داخل العمل الواحد، أو بتعدد الأعمال للمؤلف الواحد ،وإذا كانت الرواية هي أبرز نتاج ثقافي داخل العصر البرجوازي، فإن مفهوم وجهة النظر هو أبرز السمات الفنية داخل نظرية السرد . ومن هنا، تأتي أهمية الإشارة إلي وضعيته المركزية داخل تلك النظرية.
وحين نتناول بالدراسة المستويات التي تتصل بوجهة النظر فمن المهم، أن نؤكد علي أهمية المستوي الأيديولوجي للمفهوم، رغم أن هذا الجانب هو الأقل خضوعًا للصياغة الشكلية، لأن التحليل فيه يعتمد - إلي حد ما - علي الفهم الحدسي، فنحن نهتم بهذه المشكلة: وجهة نظر " من " التي يتبناها المؤلف حين يقوِّم العالم الذي يصفه ويدركه أيديولوجيا؟ وجهة النظر هذه، سواء أكانت مستترة أم مصرحًا بها، قد تنتمي للمؤلف نفسه، أو تكون جزءًا من المنظومة المعيارية للسارد بمعزل عن المؤلف (وربما في صراع مع معياره)، أو تنتمي لإحدي الشخصيات .ويمكن تضمين تأليف النص عددًا من وجهات النظر الأيديولوجية المختلفة . وحين نتحدث عن نظام الأفكار التي تشكل العمل فنحن نتحدث عن البنية التأليفية العميقة له، في مقابل البنية التأليفية السطحية التي يمكن تتبعها علي الصعيد النفسي، أو الصعيد المكاني/ الزماني، أو الصعيد التعبيري (17).
إن رؤية العالم " لدي مؤلف ما، باعتبارها النية التي تسبق تحقق العمل، أو باعتبارها تعبيرًا عن المساحة الاجتماعية والأيديولوجية التي ينتمي إليها المؤلف، عادة ما تدخل في حالة من الحوار مع وجهات النظر المتضمنة داخل العمل الأدبي. بل يمكن لنا أن نقرر أن المحصلة الجبرية لمجمل وجهات النظر في هذا العمل، إنما تكون تعبيرًا ضمنيا عن مفهوم رؤية العالم لدي الكاتب. فقد تتقارب وجهة نظر السارد مع قناعات المؤلف ذاته، وأحيانا قد تتعارض معها . في الحالة الأولي تكون وجهة النظر السردية جزءًا من رؤية العالم لدي المؤلف، وفي الحالة الثانية - حالة التعارض - فإن وجهة النظر النقيضة تلعب دورًا غير مباشر في إبراز رؤية العالم لدي المؤلف، ولكن في خلفية الصورة، أي ليس علي مستوي الحدث كما يروي ولكن علي مستوي القوة المستنتجة . فما من وجهة نظر يمكن أن تكون مجانية، أو منفصلة كلية عن منشئها، ونقصد به الكاتب/ المؤلف .
وبالعودة - ثانية - إلي المستويات التي ترتبط بها وجهة النظر، نقرر أن كل المستويات السابقة - التي عرضنا لها - إنما تشكل وحدة واحدة داخل عملية السرد، الذي يمثل شبكة متداخلة من العلاقات العقلية والوجدانية والأيديولوجية والزمانية المكانية والنفسية. لذلك، تصبح عملية الفصل أو فض الاشتباك فيما بينها أمرًا عبثيا، وأن هذا الفصل يتم بشكل قسري لأغراض دراسة جوانب الظاهرة فقط . لذلك، فإنه عادة ما تنشأ العديد من العلاقات الضمنية والعرضية الناتجة عن حالة الجدل والحوار بين تلك المستويات. ولعل أهم هذه العلاقات هي تلك العلاقة التي تربط ما بين المستويين: الأيديولوجي والتعبيري. وبداية، فإن من الممكن أن نلحظ إمكانية أن تؤدي الملامح التعبيرية المختلفة ـ ونقصد بها الوسائل اللغوية الثابتة للتعبير عن وجهة النظر ـ وظيفتين :
الأولي: أنها تستطيع أن تحدد سمات الشخص الذي ينتمي إلي ذلك الملمح الأسلوبي الخاص، وبذلك يمكن تحديد رؤية العالم عند الشخصية (أو عند المؤلف من خلال التحليل الأسلوبي لكلامه) .
الثانية: أن الوسائل التعبيرية يمكن أن تشير بدقة إلي وجهة نظر أي شخص يمكن أن يتبناها المؤلف فيما ينقله من سرد. فاستعمال الكلام شبه المباشر (في نص المؤلف) قد يشير مثلاً، وبتحديد دقيق، إلي استعماله لوجهة نظر شخصية معينة .
في الحالة الأولي فإننا نتحدث عن مستوي التقييم الأيديولوجي، أو بعبارة أخري التعبير عن موقف أيديولوجي محدد (وجهة نظر)، بوساطة خصائص تعبيرية. أما في الحالة الثانية فنحن نهتم بالمستوي التعبيري، أو بالإعراب عن وجهة نظر تعبيرية.
وتجدر الإشارة إلي أن المؤلف قد ينتحل دور بعض الشخصيات لمرة واحدة، أو " يوجد " فيهم، ويصف العالم من خلال إدراكاتهم(18).
فإذا ما انتقلنا بدراسة مفهوم وجهة النظر من المستوي الأيديولوجي إلي المستوي النفسي، سنجد أنفسنا بإزاء تحول جديد في طبيعة المفهوم. في هذه الحالة، فإن المؤلف وهو يبني سرده سيجد أنه أمام عدة اختيارات في العادة:
- فقد يبني أحداث السرد وشخصياته من خلال وجهة نظر ذاتية مقصودة لوعي فرد محدد أو عدة أفراد .
- وقد يصف الأحداث علي نحو موضوعي قدر الإمكان . وبكلمات أخر قد يستخدم المؤلف معطيات إدراك وعي واحد أو أكثر من شخصياته، أو قد يستخدم الحقائق مثلما يعرفها.
والدمج بين هذين الأسلوبين ممكن، وقد يناوب المؤلف فيما بينهما، أو يخرجهما بأساليب وطرق مختلفة . في الحالة الأولي نكون بإزاء نوعين من الوصف السردي:
- الوصف الذاتي (الذي يعتمد علي استخدام وعي فرد ما، أو وجهة نظره النفسية).
- الوصف الموضوعي لحدث ما (19).
وعلي ذلك، يمكننا أن نقرر أن هناك علاقات ضمنية معقدة تربط ما بين المؤلف والسارد / الراوي الداخلي من ناحية، وبين هذا السارد وباقي شخصيات العمل من ناحية أخري، وهنا يمكن أن يتطابق موقع المؤلف تماماً مع موقع الشخصية صاحبة وجهة النظر علي المستوي النفسي. كما يمكن للمؤلف أن يتحرك عبر الزمان والمكان مع هذه الشخصية، متبنيا آفاقه واهتماماته .وتبعًا لذلك، يتطابق موقع المؤلف مع الشخصية علي المستوي الزماني / المكاني . وقد يلجأ المؤلف لكي يصف مشاهداته الشخصية وملاحظاته إلي استخدام لغتها علي شكل خطاب شبه مباشر أو مونولوج داخلي أو أي شكل آخر .وهكذا قد يتطابق موقع المؤلف مع موقع الشخصية علي المستوي الأيديولوجي (20).
الهوامش
1- لسان العرب - مادة " سرد " .
2- انظر كتاب " بلاغة السرد النسوي " - د. محمد عبد المطلب - كتابات نقدية - 2007- ص 16 .
3- شعرية التأليف - بوريس أوسبنكي - ت : سعيد الغانمي - المشروع القومي للترجمة - 1999 - ص 16 .
4- نظريات السرد الحديثة - والاس مارتن - ت: حياة جاسم محمد - المشروع القومي للترجمة - 1998- ص 17 .
5- نفسه .
6- نفسه .
7- بلاغة التوصيل وتأسيس النوع - د. ألفت الروبي - كتابات نقدية -2001- ص354 .
8- نظرية الأدب المعاصر - ص 145 .
9- النظرية الأدبية المعاصرة - رامان سلدن - ت : جابر عصفور - آفاق الترجمة - 1997- ص186 .
10- قضايا أدبية عامة - إيمانويل فريس - ت : د. لطيف الزيتوني - عالم المعرفة - 2004 - ص 66 .
11- نفسه - ص 66 .
12- شعرية التأليف - ص 11 .
13- البنيوية التكوينية - ص 27 .
14- نظريات السرد الحديثة - ص 176 .
15- شعرية التأليف - ص 11 .
16- نفسه - ص 14 .
17- نفسه - ص 19 .
18- نفسه - ص 116 .
19- نفسه - ص 93 .
20- نفسه - ص 115 .
مرسلة بواسطة طه عبد المنعم في 04:56:00 ص
إذا كان الشعر هو الفن القولي الذي احتل مكان الصدارة بامتداد العصور الكلاسيكية، اعتباره حامل قيم تلك العصور، فإن الرواية هي الفن القولي الذي بزغ مواكبًا لظهور الطبقة البرجوازية في العصور الحديثة، ووصولاً إلي ذروة نضجها بامتداد القرن الثاني عشر، والذي يعد بحق الأب الشرعي لظهور الفن الروائي بعد أن اكتملت ملامحه علي أيدي كوكبة من ألمع الروائيين في تاريخ الأدب مثل: دانييل ديفو (1689-1738)، وجوناثان سويفت (1667-1745) وصمويل ريتشاردسون (1689-1731)، والماركيز دي صاد (1740-1814).... إلخ . ونظرًا لسطوع نجم الفن الروائي مع صعود نجم الطبقة البرجوازية البازغة، فقد صارت الرواية هي فن البرجوازية الأول . لذا فإن جورج لوكاتش يصف الرواية بأنها ملحمة الطبقة الوسطي في بحثها عن المعني والقيمة، في عالم يهتز فيه المعني وتضطرب فيه القيمة.
وقد كان من الطبيعي أن يصحب فهم هذا الفن ظهور العديد من المفاهيم التي أدت إلي إمكانية فهم هذا الفن، وبالتالي دراسته . وكان من أبرز تلك المفاهيم الناشئة ما يرتبط بفعل الحكي، ألا وهو مفهوم " السرد"، الذي ارتبط - بداية- بالرواية، لكنه تجاوزها- فيما بعد - لكي يلتحق بعالم القصة القصيرة، ثم يصبح فاعلاً جماليا في الشعر، خاصة مع بزوغ قصيدة النثر في حركة الشعر الحديث.
ولكي نضع أيدينا علي طبيعة مفهوم السرد، فمن المهم أن نعرض - بداية - للدلالة المعجمية في مظانها الأولي، أي في المعاجم اللغوية، لنري إلي أي حد جاء نحت المصطلح - لغويا - مقاربًا لطبيعته الإبداعية .
في " لسان العرب " يشير ابن منظور للمفهوم اللغوي لمعني "السرد" حين يقرر في مادة "سرد" أن السرد هو: " تقدمة شيء إلي شيء، تأتي به متسقًا بعضه في إثر بعض متتابعًا، مع رعاية جودة السياق الذي يحتويه (1).
وفي هذا الصدد يشير محمد عبد المطلب إلي أن ما يلفتنا في تحديد ابن منظور السابق للدلالة اللغوية لمفهوم السرد، أنه يحتوي علي ركائز ثلاث:
- الاتساق.
- التتابع.
- جودة السياق.
ويري عبد المطلب أن هذه الركائز هي عناصر أساسية ينبني عليها مفهوم السرد عمومًا، وكذا السرديات الجديدة علي النحو الذي جاء عليه المنجز النقدي الوافد (2).
وحين نتناول مفهوم "السرد" من وجهة نظر نقدية، سنجد أنه يتخذ شكلاً مختلفا من حيث التوصيف، باعتبار أن المنظور اللغوي يقوم بوصفه من الخارج، أما المنظور النقدي فيصفه من الداخل . والسرد - طبقًا للمنظور الأخير - هو المادة المحكية بمكوناتها الداخلية من الحدث والشخوص والزمان والمكان، وهي مكونات أنتجتها اللغة بكل طاقاتها الواصفة والمحاورة والشارحة والمعلقة(3). فالسرد - إذن - ليس مجرد تكنيك كتابة، بقدر ما هو الكتابة ذاتها.
وعلي ذلك، فإنه يمكننا الإشارة إلي أن السرد أصبح لازمة أساسية في فهم كل من الفن القصصي والروائي باعتبار أنه حامل جينات كليهما. لذا فمن الطبيعي أن نتصور أنه بين القصة - الرواية من ناحية والقارئ من ناحية أخري، يوجد - دائما - " السارد "، ذلك الشخص الذي يسيطر علي ما يروي، بل وعلي كيفية رؤيته . بل إن البعض يبالغ حين يقدم نظرية السرد علي نظرية الرواية، إذ يري أن الأولي قد حلت بديلاً عن الثانية، بوصفها - أي نظرية السرد - أصبحت موضوعًا يحظي باهتمام مركزي في الدراسات الأدبية المعاصرة.
ولعل أهمية تقديم نظرية الرواية، بل المغالاة في إحلال إحديهما محل الأخري، إنما يعود - بالأساس - إلي أن التقنيات الخاصة بالرواية إنما تتضمن علاقة المؤلف بالسارد، وعلاقة السارد بالقصة، وأمور تخص وجهة النظر، إذا افترضنا أن المؤلف يحاول أن يحقق تمثيلاً موضوعيا وواقعيا(4). فالعلاقة بين المؤلف والسارد، علي تعدد الأخير داخل الفن الروائي، هي علاقة إشكالية، في نفس الوقت الذي يمكن أن نعدها فيه أقرب إلي ما يطلق عليه الشكلانيون مفهوم " العنصر المهيمن " داخل جنس أدبي ما أو عصر ما . فالسارد إما يسرد قصة عن الآخرين مشيرًا إلي كل الشخصيات عن طريق الشخص الثالث، أو قصة يشترك هو فيها.
وإذا كان السرد هو المادة المحكية بمكوناتها الداخلية من الحدث والشخوص والزمان والمكان، كما أشرنا من قبل، فلقد ميز الشكلانيون المواد الخام في " القصة" Fabula عن العمليات المستخدمة لنقل تلك الموادSyuzhet. .فالمواد ثابت مجرد في صنع التخييل، أما الكلمات والوسائل التقنية فيمكن أن تتنوع .وهناك أسباب متعددة لهذا التميز، فلا يمكن أن نناقش " كيفية " السرد دون افتراض مادة ثابتة، يمكن تقديمها بطرق متنوعة (5) . وفي نفس الوقت فقد ميز البنيويون الفرنسيون - معتمدين علي الشكلانيين - بين القصة story والخطاب Discoure ، وعرّفوا هذين المصطلحين بطرق متنوعة . ويري جيرار جينيت أن القصة تتكون من المواد قبل اللفظية في نظامها التاريخي، وعلي ذلك فهي تماثل تعريف الشكلانيين لكلمة Fabula ويتضمن الخطاب - في نظره - جميع المقومات التي يضيفها الكاتب إلي القصة، لاسيما التغيرات في سياق الزمن، وتقديم ما في وعي الشخصيات، وعلاقة السارد بالقصة والجمهور (6). ومن هنا، فإن مفهوم الخطاب يعد أحد المفاهيم المركزية في نظرية السرد.
مفهوم الخطاب
ربما لم يرتبط مفهوم الخطاب بالسرد فقط، إلا أنه تحول لكي يصبح وجوده مركزيا لدراسة آلية السرد . فلقد ارتبط مفهوم السرد بمفهوم العمل الأدبي، خاصة الرواية .وفي هذا الصدد كان الشكلانيون الروس ينظرون إلي العمل الأدبي، في مرحلة ما قبل البنائية ،علي أنه تجمع لوسائل فنية، ثم تطورت نظراتهم بعد ذلك فأصبح العمل الأدبي تنظيما الوسائل الفنية وليس تجمعًا لها ،فاتخذ مصطلح الوسيلة الفنية معني بنيويا، ولم يعد ينظر إلي الوسيلة الفنية بوصفها ذات معني في نفسها، بل بوصفها ذات دلالة لا تنفصل عن وصفها داخل نسق معين، بحيث يحدد هذا النسق العلاقات البنيوية للوسيلة الفنية بالمكونات الأخري للعمل، ثم يصل بينها - بمعني ما - وبين عناصر خارج العمل أيضًا (7).
أما بخصوص التقابل بين مفهومي القصة والخطاب عند جيرار جينيت، فإن مفهوم الخطاب قد تجاوز القصة إلي العمل الأدبي بشكل عام، إلا أنه عندما يرتبط بعلاقة تجاور مع القصة، فإنه لا يؤدي إلا باتجاه مفهوم السرد، من خلال تنظيمه للوسائل الفنية داخل القصة. بل إن مفهوم الخطاب بمعناه العام يقترب كثيرًا من هذا التصور، وإن لم يكن يتطابق معه. لقد عرف ميشيل فوكو الخطاب - بشكل عام - علي أنه " طريقة في الحديث عن شيء ما، ينشأ بفضل هذا الفعل ذاته " (. فكلمة " طريقة " في التعريف السابق هي معادلة لكلمة "منهج" فكأن الخطاب هو منهج الحديث عن جنس أدبي ما، حيث لا يتحقق وجود هذا الجنس بشكل كامل إلا من خلال خضوعه لفعل الخطاب ذاته.
وعلي جانب آخر، يري رامان سلدن أن مصطلح الخطاب يشير إلي الطريقة التي تتشكل بها الجمل، مكونة نظامًا متتابعًا، تسهم به في نسق كلي متغاير ومتحد الخواص، وعلي نحو يمكن معه أن تتآلف الجمل في خطاب بعينه لتشكل نصًا مفردًا، أو تتألف النصوص نفسها في نظام متتابع لتشكل خطابًا أوسع ينطوي علي أكثر من نص مفرد . وقد يوصف بأنه مساحة من العلامات المتعينة التي تستخدم لتحقيق أغراض متعينة بدورها . وإذا كان تحليل الخطاب محورًا مهمًا من محاور علم اللغة التصنيفي (أو التوزيعي) عند هاريس وتلاميذه، فإن مفهوم الخطاب نفسه اكتسب أهمية متميزة من حيث هو أداة التحليل، علي إسهام بنفنست في كتابه "مشكلة علم اللغة العام ". ولقد كان تعميق مفهوم الخطاب بمثابة نقطة من نقاط التحول عن البنيوية. ومن هنا، يتخذ الخطاب معني متميزًا في كتاب فوكو، فيفرد مجموعة من المنطوقات التي تنتهي إلي تشكل واحد، يتكرر علي نحو دال في التاريخ، بل علي نحو يفرد معه الخطاب جزءًا من التاريخ، هو بمثابة وحدة انقطاع في التاريخ نفسه(9).
وربما يستدعي مفهوم الخطاب سؤالاً مهمًا ظل مطروحا في الكتابات النقدية الحديثة، ورغم تعدد الإجابات عليه فمازال في حاجة إلي إجابة حاسمة، وهو: ما الأدب؟
يبين سكاربيت أن أهمية كلمة " أدب " تأتي من تعدد معانيها:
"يبدو فعلاً أن كلاًّ من علوم الأدب الحالية يقوم علي مسلمة خاصة به، ومعبرة عن أحد المضامين المتضاربة لكلمة أدب . هناك علم جمالي للأدب، وعلم أيديولوجي، وعلم سوسيولوجي . ولا شك في إمكان مد الجسور فيما بينها وفتح الأبواب، ولكن يمكننا أن نخشي ألا تتمكن كلمة أدب من البقاء حية بعد هذه العملية . فهذه السلسلة من الالتباسات هي التي صنعت فن الكلمة، ويمكن أن يؤدي الاجتهاد في إزالة الالتباس إلي إفقارها نهائيا (10) . وعند طرح السؤال السابق : ما الأدب ؟ يمكن أن ننطلق في البحث عن جوهر شيء لا يتوقف عن التحول والانفلات من أيدي الذين يسعون إلي سجنه داخل تعريفات وحدود نهائية . وسوف نتعرض عندئذ إما للوقوع في الجزم العقائدي هذه هي حدود الأدب التي لا تمس، أو في الذاتية الشكوكية للأدب (الأدب هو ما أحب، أو ما أعتبره أدباً) .أو سنكتفي - في أفضل الأحوال بمقاربات تاريخية ضيقة، ونحصر الأدب في قيمته التوثيقية (11).
ونظراً لأن مفهوم السرد يرتبط بكلمة " أدب " التي يصعب تعريفها، نظراً لتعدد إيحاءاتها أو تعدد زوايا النظر إليها، فمن الطبيعي - إذن - أن المشكلات التي تصيب الكل تنعكس - بالضرورة- علي الجزء . ومن هنا، يصبح انفتاح المعني هو صفة لازمة لتحديد مفهوم السرد، أولاً لتعدد مردودات كلمة " أدب " التي يرتبط بها ارتباطًا عضويا، وثانياً لتنوع الأجناس الأدبية التي تستخدمه . علي أن أقرب التوصيفات التي يمكن أن نعرب بها عن طبيعة السرد هو مفهوم الخطاب .
وإذا كان الخطاب يتضمن جميع المقومات التي يضيفها الكاتب إلي القصة، فإنه يتخذ شكلاً آخر عند موكاروفسكي، إذ يطلق علي جميع هذه المقومات تعبير " البنية الجمالية " إنه يصف تلك البنية بأنها مجموع مركب من مكونات مترابطة ومتحققة بصورة عملية وجمالية، في سلسلة متصاعدة ومعقدة ،يربط بينها - علي التوالي - العنصر المهيمن علي هذه المكونات " وهو يعرف تلك البنية بأنها " نسق قائم علي الوحدة الداخلية للكل، من خلال العلاقات المتبادلة بين أجزائه ولا يقوم هذا النسق علي العلاقات المتوافقة فحسب، بل يقوم - بالمثل - علي التناقضات والتوتر والصراع " (12).
ونظراً لأن الكاتب يقوم بدور الوساطة ما بين الواقع والقصة، بينما يقوم السارد بالوساطة ما بين القصة والقارئ، لذا فإن كلاً من الواقع والقارئ الضمني يلعبان دورًا غير مباشر في عملية تشكيل السرد، باعتبار أن الرواية - طبقاً لتعريف هنري جيمس - هي "انطباع شخصي ومباشر عن الواقع " . وفي هذا الصدد، يشير جاك لينهارت إلي أنه في الرواية تأتي أهمية الأشياء، باعتبارها تمثل مفردات الواقع، من خلال كونها واقع مضمون، أما وضعية الراوي (السارد) فهي واقع شكل (13) . فعملية السرد هي التي تضفي علي المضمون شكله الفني، وهي التي تحيل الواقع باتجاه الأدب .
إن وضعية السارد تتعدد وتتغير طبقاً لموقعه من العالم الداخلي، فهناك السارد الكلي الذي (يعرف كل شيء ) عن الشخصيات الأخري، وهناك السارد الشخصي الذي يتكلم علي لسان شخصية واحدة، بحيث نري العالم من خلال رؤيته الذاتية، وفي بعض الأحيان نواجه بأكثر من سارد داخل العمل الواحد، إلا أن السارد الأكثر حضورًا داخل الرواية، منذ أن اختلقه هنري جيمس، هو ما يمكن أن نطلق عليه " السارد المؤلفي " إنه ذلك السارد الذي لا يشترك في الفعل، حيث يقوم بسرد القصة دون أن يكثر من التعليقات، كما لا يستخدم ضمير " أنا" علي الإطلاق. وبذلك لا ينتبه القارئ إلي أن هناك كاتبًا أوجد ما هو في الحقيقة حكاية تخيلية. وعلاوة علي ذلك، يفترض السارد مدخلاً إلي عقل شخصية واحدة فقط، مولداً بذلك مظهرًا من مظاهر الموثوقية، حيث لا يعرف السارد ما يدور في عقول الشخصيات الأخري . وغالباً ما تتضمن وجهة نظر هذا السارد تعبيرًا بصريا، أو كما لو كان شاهدًا غير منظور يقف إلي جانبها(14).
علي أنه من المهم الإشارة إلي أن وصف الشخصيات من الداخل أو من الخارج يرتبط - بالضرورة- بموقف المؤلف منها . فقد يلتزم المؤلف بوجهة نظر الشخصية التي يشعر أنه يستطيع أن يقبل منها نظرتها، بينما تبدو الحالة النفسية لشخصية أخري غريبة له أو حتي غير مفهومة، بحيث لا يستطيع أن يتوحد معها . وفي هذه الحالة سوف تندمج شخصية المؤلف بشخصية القارئ، لأن المؤلف ينتحل وجهة نظر تلك الشخصيات. وبذلك يتحقق مفهوم الخطاب باعتبار أن القصة الرواية هي مجرد طريقة في الحديث عن أشياء وعن شخصيات متعددة، طبقًا لتعريف فوكو السابق.
مفهوم وجهة النظر
أثناء عملية السرد عادة ما يقوم السارد باختراق وعي شخصياته، باعتباره كلي المعرفة في معظم الأحيان . ويمكن لنا أن نعين أهم ملامح السرد، والذي يتمثل في مفهوم " وجهة النظر " عن طريق شاهدين أساسيين، يتمثلان في كلمتي " منظور " Perspective و " بؤرة " Focus : من يري ؟ ومن أي موقع ؟
لذا فإننا نجد أنه من المهم الإشارة إلي أن مفهوم " وجهة النظر" هو مصطلح عابر للأجناس الفنية، إذ يمكن التماسه كعابر للنوعية في فنون عديدة : قولية - تشكيلية - مسرحية - سينمائية ... إلخ، ويتخذ هذا المفهوم أشكالاً عدة، تتناسب وطبيعة الفن الذي ينتمي إليه، لكنه - وبشكل عام - يمكن أن يخضع لتوصيف أنه "موقع للرؤية"، والمقصود بالرؤية هنا ليس الرؤية البصرية بل الرؤية الفنية. وتلك الرؤية هي التي تضفي علي الأعمال - في مختلف الأجناس - التفرد والعمق، أياً كانت طبيعة تلك الرؤية : بصرية - ذهنية - حركية.
وتتصل مشكلة وجهة النظر اتصالاً مباشرًا بالأشكال الفنية التي تمتلك مستويين :
- مستوي التعبير.
- مستوي المضمون.
ومن ناحية أخري فهي تتصل اتصالاً مباشرًا بالأشكال الفنية التي تتضمن النحو - لا الدلالة - بصورة كبيرة (15).
ولدراسة مفهوم وجهة النظر، فإنه يمكن اقتراح عدة مقاربات في هذا الصدد :
- فقد نعد وجهة النظر موقعًا أيديولوجيا (أو تقويميا).
- وقد نعدها موقعًا زمانيا ومكانيا لمن يصف الأحداث (أي الراوي يثبت موقعه في إحداثية زمانية ومكانية ) .
- وقد ندرسها من ناحية خصائصها الإدراكية .
- وقد ندرسها في معناها اللغوي الخالص (كأن ترتبط مثلا بظاهرة الخطاب شبه المباشر ) .
وهناك مستويات أخري للبحث يمكن من خلالها تثبيت وجهة النظر بها:
- مستوي الأيديولوجيا.
- مستوي الصياغة التعبيرية.
- المستوي النفسي (16).
وعلي ذلك، فإنه يمكننا القول إن مفهوم " وجهة النظر " إنما يرتبط، داخل فعل الحكي، ارتباطاً وثيقًا بوضع السارد داخل العمل. بل إنه يمكن القول إن وجهة النظر تأتي كنوع من الانعكاس الشرطي لوضعية السارد، وبالتالي فإنها تتغير بتغير تلك الوضعية داخل العمل الواحد، أو بتعدد الأعمال للمؤلف الواحد ،وإذا كانت الرواية هي أبرز نتاج ثقافي داخل العصر البرجوازي، فإن مفهوم وجهة النظر هو أبرز السمات الفنية داخل نظرية السرد . ومن هنا، تأتي أهمية الإشارة إلي وضعيته المركزية داخل تلك النظرية.
وحين نتناول بالدراسة المستويات التي تتصل بوجهة النظر فمن المهم، أن نؤكد علي أهمية المستوي الأيديولوجي للمفهوم، رغم أن هذا الجانب هو الأقل خضوعًا للصياغة الشكلية، لأن التحليل فيه يعتمد - إلي حد ما - علي الفهم الحدسي، فنحن نهتم بهذه المشكلة: وجهة نظر " من " التي يتبناها المؤلف حين يقوِّم العالم الذي يصفه ويدركه أيديولوجيا؟ وجهة النظر هذه، سواء أكانت مستترة أم مصرحًا بها، قد تنتمي للمؤلف نفسه، أو تكون جزءًا من المنظومة المعيارية للسارد بمعزل عن المؤلف (وربما في صراع مع معياره)، أو تنتمي لإحدي الشخصيات .ويمكن تضمين تأليف النص عددًا من وجهات النظر الأيديولوجية المختلفة . وحين نتحدث عن نظام الأفكار التي تشكل العمل فنحن نتحدث عن البنية التأليفية العميقة له، في مقابل البنية التأليفية السطحية التي يمكن تتبعها علي الصعيد النفسي، أو الصعيد المكاني/ الزماني، أو الصعيد التعبيري (17).
إن رؤية العالم " لدي مؤلف ما، باعتبارها النية التي تسبق تحقق العمل، أو باعتبارها تعبيرًا عن المساحة الاجتماعية والأيديولوجية التي ينتمي إليها المؤلف، عادة ما تدخل في حالة من الحوار مع وجهات النظر المتضمنة داخل العمل الأدبي. بل يمكن لنا أن نقرر أن المحصلة الجبرية لمجمل وجهات النظر في هذا العمل، إنما تكون تعبيرًا ضمنيا عن مفهوم رؤية العالم لدي الكاتب. فقد تتقارب وجهة نظر السارد مع قناعات المؤلف ذاته، وأحيانا قد تتعارض معها . في الحالة الأولي تكون وجهة النظر السردية جزءًا من رؤية العالم لدي المؤلف، وفي الحالة الثانية - حالة التعارض - فإن وجهة النظر النقيضة تلعب دورًا غير مباشر في إبراز رؤية العالم لدي المؤلف، ولكن في خلفية الصورة، أي ليس علي مستوي الحدث كما يروي ولكن علي مستوي القوة المستنتجة . فما من وجهة نظر يمكن أن تكون مجانية، أو منفصلة كلية عن منشئها، ونقصد به الكاتب/ المؤلف .
وبالعودة - ثانية - إلي المستويات التي ترتبط بها وجهة النظر، نقرر أن كل المستويات السابقة - التي عرضنا لها - إنما تشكل وحدة واحدة داخل عملية السرد، الذي يمثل شبكة متداخلة من العلاقات العقلية والوجدانية والأيديولوجية والزمانية المكانية والنفسية. لذلك، تصبح عملية الفصل أو فض الاشتباك فيما بينها أمرًا عبثيا، وأن هذا الفصل يتم بشكل قسري لأغراض دراسة جوانب الظاهرة فقط . لذلك، فإنه عادة ما تنشأ العديد من العلاقات الضمنية والعرضية الناتجة عن حالة الجدل والحوار بين تلك المستويات. ولعل أهم هذه العلاقات هي تلك العلاقة التي تربط ما بين المستويين: الأيديولوجي والتعبيري. وبداية، فإن من الممكن أن نلحظ إمكانية أن تؤدي الملامح التعبيرية المختلفة ـ ونقصد بها الوسائل اللغوية الثابتة للتعبير عن وجهة النظر ـ وظيفتين :
الأولي: أنها تستطيع أن تحدد سمات الشخص الذي ينتمي إلي ذلك الملمح الأسلوبي الخاص، وبذلك يمكن تحديد رؤية العالم عند الشخصية (أو عند المؤلف من خلال التحليل الأسلوبي لكلامه) .
الثانية: أن الوسائل التعبيرية يمكن أن تشير بدقة إلي وجهة نظر أي شخص يمكن أن يتبناها المؤلف فيما ينقله من سرد. فاستعمال الكلام شبه المباشر (في نص المؤلف) قد يشير مثلاً، وبتحديد دقيق، إلي استعماله لوجهة نظر شخصية معينة .
في الحالة الأولي فإننا نتحدث عن مستوي التقييم الأيديولوجي، أو بعبارة أخري التعبير عن موقف أيديولوجي محدد (وجهة نظر)، بوساطة خصائص تعبيرية. أما في الحالة الثانية فنحن نهتم بالمستوي التعبيري، أو بالإعراب عن وجهة نظر تعبيرية.
وتجدر الإشارة إلي أن المؤلف قد ينتحل دور بعض الشخصيات لمرة واحدة، أو " يوجد " فيهم، ويصف العالم من خلال إدراكاتهم(18).
فإذا ما انتقلنا بدراسة مفهوم وجهة النظر من المستوي الأيديولوجي إلي المستوي النفسي، سنجد أنفسنا بإزاء تحول جديد في طبيعة المفهوم. في هذه الحالة، فإن المؤلف وهو يبني سرده سيجد أنه أمام عدة اختيارات في العادة:
- فقد يبني أحداث السرد وشخصياته من خلال وجهة نظر ذاتية مقصودة لوعي فرد محدد أو عدة أفراد .
- وقد يصف الأحداث علي نحو موضوعي قدر الإمكان . وبكلمات أخر قد يستخدم المؤلف معطيات إدراك وعي واحد أو أكثر من شخصياته، أو قد يستخدم الحقائق مثلما يعرفها.
والدمج بين هذين الأسلوبين ممكن، وقد يناوب المؤلف فيما بينهما، أو يخرجهما بأساليب وطرق مختلفة . في الحالة الأولي نكون بإزاء نوعين من الوصف السردي:
- الوصف الذاتي (الذي يعتمد علي استخدام وعي فرد ما، أو وجهة نظره النفسية).
- الوصف الموضوعي لحدث ما (19).
وعلي ذلك، يمكننا أن نقرر أن هناك علاقات ضمنية معقدة تربط ما بين المؤلف والسارد / الراوي الداخلي من ناحية، وبين هذا السارد وباقي شخصيات العمل من ناحية أخري، وهنا يمكن أن يتطابق موقع المؤلف تماماً مع موقع الشخصية صاحبة وجهة النظر علي المستوي النفسي. كما يمكن للمؤلف أن يتحرك عبر الزمان والمكان مع هذه الشخصية، متبنيا آفاقه واهتماماته .وتبعًا لذلك، يتطابق موقع المؤلف مع الشخصية علي المستوي الزماني / المكاني . وقد يلجأ المؤلف لكي يصف مشاهداته الشخصية وملاحظاته إلي استخدام لغتها علي شكل خطاب شبه مباشر أو مونولوج داخلي أو أي شكل آخر .وهكذا قد يتطابق موقع المؤلف مع موقع الشخصية علي المستوي الأيديولوجي (20).
الهوامش
1- لسان العرب - مادة " سرد " .
2- انظر كتاب " بلاغة السرد النسوي " - د. محمد عبد المطلب - كتابات نقدية - 2007- ص 16 .
3- شعرية التأليف - بوريس أوسبنكي - ت : سعيد الغانمي - المشروع القومي للترجمة - 1999 - ص 16 .
4- نظريات السرد الحديثة - والاس مارتن - ت: حياة جاسم محمد - المشروع القومي للترجمة - 1998- ص 17 .
5- نفسه .
6- نفسه .
7- بلاغة التوصيل وتأسيس النوع - د. ألفت الروبي - كتابات نقدية -2001- ص354 .
8- نظرية الأدب المعاصر - ص 145 .
9- النظرية الأدبية المعاصرة - رامان سلدن - ت : جابر عصفور - آفاق الترجمة - 1997- ص186 .
10- قضايا أدبية عامة - إيمانويل فريس - ت : د. لطيف الزيتوني - عالم المعرفة - 2004 - ص 66 .
11- نفسه - ص 66 .
12- شعرية التأليف - ص 11 .
13- البنيوية التكوينية - ص 27 .
14- نظريات السرد الحديثة - ص 176 .
15- شعرية التأليف - ص 11 .
16- نفسه - ص 14 .
17- نفسه - ص 19 .
18- نفسه - ص 116 .
19- نفسه - ص 93 .
20- نفسه - ص 115 .