منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    تلقي الآمدي لشعر أبي تمام

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    تلقي  الآمدي لشعر أبي تمام Empty تلقي الآمدي لشعر أبي تمام

    مُساهمة   السبت مارس 13, 2010 9:24 am

    تلقي الآمدي لشعر أبي تمام
    بقلم : د. حسين المناصرة
    جامعة الملك سعود

    (1)
    يعد البحث الأكاديمي في مجال التلقي من أهم إشكاليات نقد النقد ؛ إذ إن هذا البحث – في سياق مقالتنا هذه - يجسد أربعة محاور متداخلة بعضها مع بعض، وهي: النص الإبداعي أولاً، ثم تعددية قراءة أو تلقي أو نقد هذا النص ثانياً، ثم التفاعل النقدي مع الخطاب النقدي المعني بقراءة النص من خلال الموازنة وغيرها، كما فعل الآمدي ثالثاً، ثم مقاربة هذا النقد من منظور نقد النقد في ضوء الدراسة الأكاديمية رابعاً؛ حيث يؤكد النقد الأكاديمي ، في هذا المجال الرابع ، حضوره الإشكالي من خلال مثلث : الطالب، والمشرف، والمناقشين في الرسائل الأكاديمية. وهنا ،أيضاً، نجد أنفسنا في مواجهة نقد" نقد النقد"، وهذا هو دور المشرف ، ثم المناقشين. ويبدو أنني سأضيف قراءتي الخاصة أو على الأصح مراجعتي لكتاب" تلقي شعر أبي تمام في التراث النقدي عند العرب: الآمدي نموذجاً" لمنى محمد الغامدي ( صدر الكتاب عن النادي الأدبي بالباحة، 1429هـ ) إلى طبقات النقد الآنفة ؛ لتغدو طبقات النقد المتشابكة والمتداخلة وربما المربكة للمتلقي،على النحو الآتي :

    شعرَي أبي تمام والبحتري ، ثم تلقي هذين الشعرين من خلال عدد من النقاد والقراء القدماء، ثم تلقي الآمدي لهذين الشعرين وما دار فيهما من نقد بوساطة الموازنة بين الشاعرين، ثم دراسة منى الغامدي لتلقي الآمدي من خلال مجموعة من الاستنتاجات والاستشهادات من منتج النقاد القدماء والمحدثين، مستندة في ذلك إلى منظور المناهج النقدية الغربية الحديثة على وجه الخصوص، وقد اكتملت هذه الدراسة بإشراف وتوجيه من د. صالح معيض الغامدي ، وناقشها وأجازها وأوصى بنشرها د. حسين الواد و د. سعاد المانع ، وأتمنى أن يكون عرضي للكتاب المذكور مجدياً؛ علماً بأن الدّارسة لم تترك مجالاً كبيراً لقارئ الكتاب كي ينتج تلخيصاً أو عرضاً لكتابها؛ لأنها حرصت كل الحرص على أن تلخّص في بداية كل فصل أو جزئية ، ما توصلت إليه من نتائج سابقاً .

    بدءاً، يبدو عنوان الكتاب:" تلقي شعر أبي تمام في التراث النقدي عند العرب: الآمدي نموذجاً" عنواناً فضفاضاً إلى حد ما؛ إذ تفضي عبارة " في التراث النقدي عند العرب" إلى ما يشبه الحشو أو توضيح ما هو واضح؛ فبمجرد أن يقال "الآمدي نموذجاً"، ندرك أننا في سياق النقد العربي القديم لا الحديث على أية حال؛ لذلك تبدو الحاجة غير مبررة إلى استخدام عبارة " في التراث النقدي عند العرب" في هذا العنوان تحديداً .

    بينت الدّارسة في مقدمة كتابها أنها معنية بالآمدي من جهة إشكالية الخصومة/التحيّز تجاه شعر أبي تمام؛ فتكون المواقف من منظورها في ضوء هذه الإشكالية ثلاثة: موقفي المناهض لشعر أبي تمام والمناصر له، وثالث معتدل (مضمحل). وتشير إلى أنّ منهجيتها تستند إلى نظرية التلقي بصفتيها الحديثة وهي الأساس، وما يحمله النقد القديم من رفد لهذه النظرية وهو الثانوي ، وهذه المنهجية- فيما أتصور - عندما تنتج في سياق الحوار بين الحديث والقديم، بعيداً عن أية تعمية أو تجاهل للطرفين، بإمكانها أن تكون ذات مقصديّة إنتاجية لدى أي باحث/ باحثة، وذلك عندما يكون هناك نهج علمي يبتعد عن الإسقاطات المعيارية المجهضة، في سبيل تحرّي القيمة المعرفية بغض النظر عن قدمها أو حداثتها؛ لذلك يحتاج موروثنا الأدبي والنقدي إلى إعادة قراءة في ضوء المناهج النقدية المعاصرة؛ بما يثري هذا الموروث، ويؤكد هويتنا الأصيلة ، ذات الجذور العميقة.

    ما الذي ستقدمه منى الغامدي في فصول كتابها الثلاثة :التلقي والتراث النقدي عند العرب، وإستراتيجيات التلقي وأهدافه ، وإستراتيجيات النص الشعري وإستراتيجيات تلقيه ؟! هل سيكون دورها تلفيقياً ضائعاً بين الرؤى والأقوال النقدية الدارجة في نظرية التلقي ؟! أم أنها ستعيد إنتاج التلقي بما يؤكد وجود إستراتيجيات خاصة بمنهجيتها، بما يحقق الإنجاز والقيمة ، منذ عصر الآمدي وقبله إلى اليوم ؟!

    يمكن أن أشير مبدئياً، إلى أننا أمام دراسة جيدة ، ومنجزة لباحثة ناشئة ؛ استطاعت أن تخطَّ طريق بحثها بمسئولية، وتحرّي الدقة ، ومحاولة معرفة قوانين اللعبة النقدية ، التي تثير أسئلة قادرة على أن تجيب عنها ، وأن تخلُص إلى نتائج معقولة إن لم تكن مقنعة،وذلك في ضوء أنها باحثة أو دارسة جادة في مجالها على أية حال !!

    (2)
    تتناول الدّارسة في الفصل الأول الذي عنوانه " التلقي والتراث النقدي عند العرب" ثلاثة محاور في نظرية التلقي ، هي: الخصومة والبحث عن منهج ،والبحث عن نموذج في التلقي، والتحيّزات في التراث النقدي عند العرب . وبما أن موضوع الدّراسة معني بإشكالية الخصومة أو التحيز ، انطلاقاً من الصراع بين نسقي القديم والجديد في الشعر ، وما أحدثته مدرسة أبي تمام الشعرية في مجال التحديث (الغموض) ، والخروج عن النسق الشعري الموسوعي المستقر والسائد ممثلاً بالبحتري وغيره ( مدرسة الوضوح) ؛ فإن ما يعني الدارسة في سياق نظرية التلقي، لا يخرج عن هذا السقف ؛ بحثاً عن منهج مقنع ترتضيه ، وتوضيحاً للنموذجين الحاضرين في الثقافة والإبداع: النموذج الغربي وظلاله في النقد العربي الحديث ، ونموذج الموروث ، كما وجد أو فهم مؤخراً لدى بعض النقاد العرب المحدثين .

    تحددت الخصومة الأدبية في شعري البحتري وأبي تمام في أن يمثل الأول نهج الشعر الواضح التقليدي الذي ينتمي إلى نظرية "عمود الشعر " العربي ، وهنا يكون الوضوح أو أحادية المعنى أو الدلالة المغلقة غاية هذا الشعر، في حين يشكل الآخر( أبو تمام) حالة شعرية مسكونة بالغموض وتعددية المعنى والتفسير، فعلى القارئ هنا أو المتلقي أن يجهد ذهنه كي يصل إلى فهم الشعر أو تفسيره ؛ إذ تتعدد الرؤى التأويلية مبنى ومعنى، في سبيل البحث عن المعنى الأدبي الذي لن يكون في" بطن الشاعر" ، بقدر كونه فاعلية نقدية حقيقية، تسعى إلى إعادة إنتاج النص من خلال ملء فراغاته، وتفسير رموزه تفسيراً ليس نهائياً.

    في هذا السياق ظهرت الخصومة والموازنة من خلال علاقة القارئ بالنص أو ما أنتج من خطابات نقدية طباقية أو متعارضة عن هذا النص، وهذا هو موضع تبئير هذه الدراسة النقدية؛ حيث تهيمن إشكالية الموازنة بين شاعرين؛ فيما أثاره شعر أبي تمام الغامض من ضجة على مستوى التلقي قياساً إلى سكونية تلقي شعر البحتري النسبية .

    تناولت الدارسة في الجزئية الأولى من الفصل الأول (الخصومة والبحث عن منهج)، ثلاث قضايا، هي: تحديد تساؤلات بحثها الرئيسة (وفيها ثلاث إشكاليات أيضاً: سر الخصومة التي أثارها شعر أبي تمام، وسر اضطراب منهجية الآمدي في الموازنة، والبحث عن منهج في التلقي يكشف ستر هذين السرّين)، وتحديد ثلاثة اتجاهات نقدية (اتجاهات تاريخية، وأخرى نصيّة، وثالثة تعنى بالمتلقي؛ يهمنا منها ما يعنى بالمتلقي)، وتحديد منظورات التلقي الأربعة الرئيسة (سيكولوجية ريتشاردز ، وتاريخية ياوس "الجادامرية"، وسيميولوجية إيكو،وجدلية آيزر...)، واختصارها في نموذجين، هما: النموذج التاريخي" ياوس – جادامر" ، والنموذج الجمالي " آيزر – إيكو" . وتختار الدّارسة من هذين النموذجين مفاهيم أو منطلقات نقدية معيّنة، هي : التحديد و" اللاتحديد"، والقارئ الضمني عند آيزر ، وشروط الانفتاح والانغلاق والقارئ النموذجي عند إيكو،وأفق التوقعات ( وعلاقته بتحيزات القارئ لدى جادامر) عند ياوس .

    (3)
    تعد الجزئية الثانية من الفصل الأول ، وهي بعنوان " البحث عن نموذج في التلقي " ، من أهم ما يتعلق بالمنهجية ، وأكثرها صعوبة ، خاصة في مجال دارسة تختار طريقها بين نتوءات بحث ذي منهجية معاصرة وشائكة ومربكة، ولا يوجد فيها ( الدراسة) معيارية دقيقة بطريقة أو بأخرى ؛ لأنها ذات بعد تجريبي . ويبدو أنّ الدارس الأكاديمي معني دوماً أكثر من غيره بتجديد مفاهيمه النقدية المعيارية ؛ ليضع النقاط على حروفها في سياق إجراء نقدي واضح ، خاصة إذا تعلق الأمر بنقد النقد .

    كما أسلفنا، تناولت الدارسة نموذجين، أحدهما نموذج آيزر- إيكو، والآخر نموذج ياوس -جادامر. وبغض النظر عن المادة النقدية التي تناولتها في هذين النموذجين؛ إلا أننا- في المحصلة- معنيون بإشكالية علاقة هذين النموذجين - بصفتهما من أهم مكونات منهجية التلقي– بمقاربة الآمدي أنموذج هذه الدراسة، ومن ثمّ يتبادر إلى أذهاننا هذا التساؤل:هل استوعبت الدارسة هذين النموذجين استيعاباً جيداً شاملاً؟! كأنّ البنية المنهجية من الناحية النظرية مسلكية مُنْجَزَة، مع وجود ضبابية في طرح النموذجين، وما ينتج عنهما من نتائج ذات صلة بالآمدي،على نحو قول الدارسة:" يمكننا من خلال شروط التحديد واللاتحديد عند آيزر وشروط الانفتاح عند إيكو،أن نجيب عن سر الخصومة التي أثارها شعر أبي تمام، وعن اضطراب موقف الآمدي منه( ص27)"؛ ففي قولها هذا خيار معياري منحاز لمصلحة النظرية النقدية الحديثة، إذ هناك في الموروث إجابات جاهزة توضح هذه المسائل، ولا بدّ من أنها ستثري المنهجية المعاصرة.طبعاً لا نتوقع أن تكون هي الأساس،على الأقل من وجهة نظر معتدلة تجاه إعادة قراءة الموروث، أو من خلال ما تحقق على مستوى دراسات أخرى سبقت هذه الدراسة.

    يبدو أنها(الدّارسة)تنبهت إلى ما سبق،من خلال إشارتها إلى أفق التوقعات عند ياوس(1-التجربة المسبقة عن الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه النص الأدبي2-أشكال النصوص السابقة وموضوعاتها 3-التعارض بين المتخيل والواقعي، أو بين اللغة الشعرية واللغة اليومية)، فتقول : "يستطيع القارئ من خلال أفق التوقعات أن يقيس مدى انحراف النص الشعري عن المألوف، وأن يكشف عن طبيعته الجمالية ومكانته الأدبية. فهل يمكن لنا بناء على هذه العوامل الثلاثة المكونة للأفق أن ننطلق من عمود الشعر لتحديد أفق التوقعات عند الآمدي؟ وأن نتساءل عن إمكانية النظر إلى عمود الشعر بما هو أفق للتوقعات من زاوية الجنس الأدبي، وهل كان النقد العربي على وعي بهذه المسألة(ص 32)"؛ المسألة إذن تكمن في التطبيق لا التنظير.

    لا شك في أن الدّارسة استطاعت أن تحدد عدداً من المفاهيم والإجراءات في نظرية التلقي الغربية، وأنه غدا بإمكانها أن تخدم بحثها، وبذلك نجد بنية تنظيرية مقنعة بوجود إشكالية فعلية – على الأقل من خلال وعيها بالمستوى النظري – تفضي إلى غياب الغربة عن نقل نظرية التلقي من فضائها المعاصر إلى ماضٍ قد لا يشعر بغربتها ، بل ربما سيبدو أكثر غربة من خلال هذه النظرية ، في حال غياب أو بالأحرى محدودية احترافية الناقد أو الباحث، وعدم تمكنه من منهجه ، وأظن أن الدّارسة تمكنت من تعميق إشكاليات التنظير من خلال التطبيق ، كما سيتضح فيما بعد؟!

    لعلّ لغتها أكثر حميمية، وهي تتحدث عن الجزئية الأخيرة من الفصل الأول الخاصة بـ ( التحيزات في التراث النقدي عند العرب)؛ حيث تغدو الإشكالية النقدية هنا أكثر براءة، إن لم تكن فطرية فيما يتعلق بمفهوم التعصب أو التحيز، ابتداء من نوعية القراء المتحيزين؛ القارئ الخبير عند السعافين، والقارئ الصلصال عند مجدي توفيق، والقارئ المهيمن عند أدونيس... مروراً بإشكاليتي الغموض والوضوح في الشعر، وأنواع التحيز عند القدماء (الإيجابي، والسلبي، والإيجابي السلبي)، وانتهاء بتحديد شخصية الآمدي النقدية (في جانبيها التلقي المباشر للشعر، والتلقي غير المباشر من خلال تفاعله مع الخطاب النقدي)، على نحو أنه:" رغم تبنيه لعمود الشعر بوصفه أفق التوقعات الجاهز، الذي يجسد تحيزاته، لم يكن يرفض شعر أبي تمام كلّه أو يعده كلّه خروجاً على عمود الشعر، وهو في سعيه إلى إيضاح جوانب التشابه والاختلاف بين مذهبين شعريين؛ أحدهما يمثل القديم، كما في شعر البحتري، وآخر يمثل المحدث، كما في شعر أبي تمام ؛ يعلن بوضوح أنّ موقفه الذي يميل بشدة إلى القديم لن يقف عائقاً في سبيل تذوق مواطن الجودة في هذا المذهب الحديث (42)".

    (4)
    بينما جاء الفصل الأول تنظيرياً مختصراً ( 35 ص ) ، نجد أنّ الفصل الثاني " إستراتيجية التلقي وأهدافه"، جاء تطبيقياً مطولاً ( 110 ص)، يتناول ست قضايا إشكالية : القارئ المخاطب ، وترتيب قضايا الاحتجاج ، وترتيب النصوص النقدية لقراء أبي تمام الفعليين ، وتوزيع أجزاء الكتاب وقضاياه ، وتحقيق النصوص، والموازنة بين المعاني.

    تَنْقُل الدّارسة نظرية آيزر من مجال الرواية إلى مجال قراءتها للآمدي، انطلاقاً من أن نقد شعر أبي تمام وجدلياته يفضي بكتاب الآمدي إلى بنية سردية، وأنه"ذو طبيعة منظورية كالأدب(ص 53)"؛حيث تستند نظرية آيزر إلى أربعة منظورات رئيسة بإمكان المتلقي أن ينطلق منها إلى فهم معنى النص السردي (الرواية)، وهي:منظور المؤلف، ومنظور الشخوص، ومنظور الحبكة، ومنظور القارئ التخييلي.

    إن تحويل كتاب الآمدي"الموازنة بين أبي تمام والبحتري"من بنية نقدية إلى بنية سردية، يعدّ نقلة مهمة في فهم الخطاب النقدي التراثي في سياق شعرية السرد، ومن ثمّ يغدو الآمدي راوياً ضمنياً في مواجهة عدد من المروي له؛ فـ " يتنوع هذا المروي له ، فيكون إما مفضلاً لأبي تمام، أو مفضلاً للبحتري،أو جامعاً بينهما (ص56)".ومن هنا تغدو إستراتيجية السرد النقدي عند الآمدي من خلال منظور(الراوي والمروي له)، تهدف إلى تحقيق هدفين؛ الأول شرح الاختلاف بين شعري أبي تمام والبحتري من خلال ذوقين رئيسين في تلقي شعريهما، والثاني استنتاجات الآمدي في إطلاق أحكام المفاضلة بينهما من منظوره الخاص أو ذوقه الخاص في قراءته لشعريهما، ومحاورة الاختلاف في شعرهما من خلال الموازنة بين النقاد أو المتلقين للشعر.

    (5)

    يحتج أصحاب أبي تمام بعدد من الحجج والمقاييس ؛ لإثبات فضله على البحتري، وهنا يقدم الآمدي منظور الشخصيات المسرودة ( القراء المتخيلين)؛ حيث يختفي وراء هذه الشخصيات المتخيلة؛ ليتيح لها المجال كي تعبر بأصواتها عما تعتقد أنه فضل لأبي تمام ، ومن ذلك : تلمذة البحتري على أبي تمام، واستعارته من معانيه ،واختراع أبي تمام لمذهب جديد في الشعر ، وتخصيص العلماء والنقاد لشعر أبي تمام ،وغزارة علم أبي تمام واطلاعه ،وفلسفة معانيه، وغرابة ألفاظه، وفهم الأعراب لها بالتفسير واستحسانهم إياها،ومحاسن أبي تمام تمحو مساوئه،واعتراف البحتري بفضل أبي تمام ، وجيد أبي تمام لا يتعلق به جيد أمثاله...

    ويحتج أصحاب البحتري (المتخيلين أيضاً) في تفضيلهم لصاحبهم ، على : الأخبار الموثقة، والمفاهيم النقدية القارة عن الشعر ، والالتزام بـ" عمود الشعر " ، وأنّ الأخذ لا ينقص من الشعر، ولا يحسب من السرقات ،والتركيز على المحاسن والمساوئ،وعلم الشاعر طريق إلى التكلف والصنعة ، ومدح العلماء لشعر البحتري ...

    وفي المحصلة، تكتشف الدّارسة أن صوت الآمدي يغدو أحد أصوات أصحاب البحتري، من خلال تقارب مقاييسه من مقاييسهم؛ بل إنه يتبنى معظم أفكارهم وأقوالهم؛ مع محافظته في الوقت نفسه على الموضوعية تجاه شعر أبي تمام .

    وأيضاً من منظور الحبكة، تخصّص الدارسة جزئيتين من الفصل الثاني؛ إحداهما لـ " ترتيب النصوص النقدية لقراء أبي تمام الفعليين"، فتتحدث عن آراء : الصولي، وابن المعتز،والمبرد، ودعبل، وابن مهروية، وابن الجراح... والأخرى فيها حديث عن " توزيع أجزاء الكتاب وقضاياه" ؛ حيث "يتلخص مشروعه كله في الموازنة بين قصيدتين للشاعرين ، تتفقان في الوزن والقافية وإعراب القافية ، وبين معنى ومعنى ، دون أن يفصح بتفضيل أحدهما على الآخر( ص96)".

    أما تحقيق "النصوص" فهو نهج يفضي إلى تحري العلماء للدقة والموضوعية من جهة ، أو إلى البحث عن النسخة التي تشبع بحث القارئ عمّا يخدم منظوره في الموازنة بين الشاعرين من جهة أخرى؛ فالتحقيق هنا هو فعل قراءة أو مقروئية، يحمل التعدد والاختلاف.

    وتمثل " الموازنة بين المعاني " إشكالية مهمة هي الأخرى، تستحضر تحديد المصطلحات النقدية الخاصة بالمعاني عند النقاد العرب القدماء، من خلال جداول، تحدد المصطلح العربي التراثي، ومرادفه الغربي، ومدلوله، عند كل من: ابن قتيبة ، وأبي هلال العسكري، والآمدي، وحازم القرطاجني، والقاضي الجرجاني، موضحة المشترك بين هؤلاء النقاد، ودور تحيزات الناقد في تصنيف المعاني، مشكّلة في نهاية هذا الفصل أشكال المعاني في شعر أبي تمام والبحتري، كما استعرضها الآمدي؛ وذلك من خلال معنيين: رئيس وفرعي ، يتحول كل منهما إلى عدد من الأشكال ( ينظر ص150، وص 153 )؛ إذ من خلال الموازنة بين معاني الشاعرين ، يحرص الآمدي على أن يبرز شاعرية البحتري على حساب شاعرية أبي تمام ، فالآمدي – كما تقول الدّارسة : " يلجأ إلى إجراءات وتقنيات متعددة ؛ لتحقيق أهدافه غير المعلنة، وهي القول بتفضيل البحتري على أبي تمام (ص 160)" .

    (6)
    تتناول الدارسة في الفصل الثالث والأخير " إستراتيجيات النص الشعري و إستراتيجيات تلقيه" ، وهو فصل يتوزع على الأقسام الثلاثة الآتية : إستراتيجيات عمود الشعر ، والإستراتيجيات النصية في شعر أبي تمام ، وإستراتيجيات التلقي في شعر أبي تمام ودور التحيزات.

    في سياق إستراتيجيات عمود الشعر المستخلص من نظام التأليف الشعري عند العرب ، تتضح إستراتيجيات الكتابة والتلقي عند الآمدي ؛ حيث تنقسم مكونات عمود الشعر إلى مكونين رئيسين، هما : صواب المعنى، وسلامة الطبع؛ فالدارسة تتناول هذين المكونين في ضوء الرؤى النقدية لدى الآمدي وبعض النقاد القدماء والمعاصرين ، كابن طباطبا، والمرزوقي، وحسين الواد، وغيرهم؛ بهدف إثبات أن المعنى الشعري له وجهان: حقيقي محدد ، ومجازي غير محدد، كما ظهرا من خلال نظرية آيزر. وفي ضوء هذا التصور، على حد تعبير الدارسة، يقسّم الآمدي الشعر إلى" شعر طبع وصنعة. فالشعر المطبوع يحافظ على إنتاج الوهم وبناء الاتساق، بينما يؤدي الشعر المصنوع إلى جدلية تشكيل الوهم وتحطيمه. وينسب الطبع إلى شعر البحتري وشعر القدماء ، وينسب الصنعة إلى شعر أبي تمام(ص179)".

    أما الإستراتيجيات النصية في شعر أبي تمام، وهي التي تجعله صاحب مدرسة شعرية جديدة في الموروث ( مدرسة خرجت عن الموسوعة الشعرية المشتركة بين الشعراء من جهة ، والشعر والمتلقين من جهة أخرى ) ، فتتشكل أولاً من الأخطاء الناتجة عن انتهاك الشاعر للدلالات الالتزامية للمفردة الشعرية، استحداثاً للصور المجازية المتنوعة، وهذا ما يقبل به الآمدي أو يبيحه، ما دام يحافظ على التواصل مع المتلقي ، أما الانحراف الكلي عن الدلالة الأصلية ( وهذا ما فعله أبو تمام) ، فيؤدي إلى انتفاء شرط التواصل بين النص والمتلقي. ويكون الانحراف لغوياً أو معرفياً ؛ ففي مجال أخطاء أبي تمام اللغوية أو انحرافاته– على سبيل المثال - يرصد الآمدي ثلاثة أنواع منها، تشكل إستراتيجيته التجديد ومخالفة عمود الشعر العربي، من خلال النقاط الآتية :

    " 1- الانقطاع بين الدلالات الأصلية للوحدات المعجمية ودلالاتها الالتزامية المفهومة من السياق . 2- التنافر بين الدلالات الأصلية أو الالتزامية للوحدات المعجمية والتراكيب التي ترد فيها.3- مخالفة مدار النص للدلالات المعجمية التي قام الشاعر بتفعيلها (ص199) ".

    (7)
    وإذا تجاوزنا الإشارة إلى الأخطاء المعرفية ، وانتقلنا إلى القسم الثاني من إستراتيجيات أبي تمام ، وهو الإحالات في البديع؛ من خلال تعسّفه على مستوى الاستعارة بصفتها عوالم ممكنة، والتشخيص في الاستعارة ، والمبالغة فيها ، والطباق والجناس ...فإننا في المحصلة ، نرى أن الدارسة تتوصل إلى " أنّ موقف الآمدي التحيزي من شعر أبي تمام المتمثل في سعيه إلى تضخيم أخطائه وإحالاته ، قد استطاع أن يكشف عن جمالية في القراءة ، تبحث عن المختلف في شعر أبي تمام . وهذا المختلف لم يقتصر على مواطن الإكثار من البديع فقط ، بل كان يتمثل أيضاً في المواطن التي أثرت في المعنى في شعر أبي تمام، فأحالته وأفسدته حتى غدا في نظر الآمدي خروجاً مطلقاً على عمود الشعر( ص238) " .

    وأخيراً ، تتوقف الدارسة عند "إستراتيجيات التلقي في شعر أبي تمام ودور التحيزات"؛ إذ تركز هنا على دور التحيزات في ملء الفراغ الناتج عن الانقطاع ما بين المتلقي والنص من خلال التأويلات الممكنة أو المحتملة ؛ فيلعب التحيز دوره الفاعل في هذا السياق؛ لإعادة تأليف النص أو كتابته؛ وبذلك فإن الرؤية الجوهرية في هذه الدراسة تكمن في أن" تحيزات الآمدي ضد مذهب أبي تمام الشعري، لم تشكل عائقاً يمنعه من صنع قراءة جمالية لشعره، بل على العكس من ذلك فقد أدت تحيزاته إلى تعقيد عملية القراءة، فأصبحت عملية أكثر عمقاً وحيوية. فعن طريق الاجتهاد في استحضار الوجوه التأويلية الممكنة لإثبات أخطاء أبي تمام وإحالاته ، يعود الآمدي إلى تأمل خبراته السابقة ، وإبراز التعارضات التي يثيرها شعر أبي تمام فيما بينها من جهة ، وفيما بينه وبينها من جهة أخرى، وإثارة أكبر قدر ممكن من الإشكالية حوله، تسهم في إبراز مدى استمراريته في الانفتاح واستعصائه على الانغلاق(ص262)".

    (8 )
    ليس بوسع هذا العرض الموجز عن كتاب " تلقي شعر أبي تمام ..." أن يثير أكثر من مواقع التبئير النقدي في الكتاب ؛ فكانت المقتطفات تشكل خلاصة ، لما يمكن فهمه أو استخلاصه ، وإن كان هذا الفهم مرتبكاً أيضاً ؛ لأن عملية البتر والاختصار والخلاصة ، قد تفسد الدلالة الشاملة ، التي تؤكد تحيز الآمدي لعمود الشعر العربي أو موسوعيته المهيمنة ، وفي الوقت نفسه أنه أحيا حداثة أبي تمام وانتهاكاته لما استقر في موسوعة الشعر العربي السائدة ، وبذلك كان أبو تمام رائداً حقيقياً لمدرسة جديدة في الحداثة الشعرية ، إن جاز هذا التوصيف ؛ وذلك بعد أن "قامت إستراتيجية تلقيه على صعوبة إدراك المعنى الشعري إدراكاً نهائياً، مما يقود إلى طول التأمل والاجتهاد التأويلي بحثاً عن التأليف ، وإعادة التماثل ، وإغلاق المعنى الذي يظل بالرغم من ذلك مستعصياً على الانغلاق ( ص 269)".

    والمسألة المهمة في تصوري ، هي أن الدّارسة تمكنت من تبني نظرية نقدية متطورة ، وأنها استطاعت أن تنجز من خلال هذه النظرية بحثاً يستحق أن ينشر ، وأن يكون جزءاً من نظرية نقد النقد في سياق إعادة قراءة أو إنتاج موروثنا النقدي . طبعاً لن يخلو الأمر من بعض الإرباكات المنهجية والمعرفية والاستنتاجية، والشعور أحياناً بوجود غربة نقدية بين النظرية والتطبيق ، ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن نظرية التلقي نفسها لم تصل بعد إلى معيارية نقدية مستقرة ، إضافة إلى أن الدّارسة نفسها ما زالت تشق طريقها بوسائل منهجية لم تهضم جيداً.

    وعلى أية حال ، فإن هذا العرض لم يقُل إلا الشيء اليسير ، فالمسائل النظرية المطروحة في الكتاب متعددة ، والتطبيقات متشعبة، وكل ما أتمناه أن يحظى هذا الكتاب بمقروئيّة جيدة ، وأن يفضي بالدّارسة إلى مواقع متقدمة في تفعيل نظرية التلقي على مستوى النقد العربي القديم .

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 4:49 am