القارئ وأفق الانتظار
أ.د. حبيب مونسي
تبلغ العناية بالقارئ ذروتها في جمالية التلقي، إذ هي تتأسس على مبدأ التفاعل بين النص والقارئ وعلى ناتج التلقي، فيكون الاعتناء بالذات القارئة مثاراً لتساؤلات شتى، تكشف عن خطورة البعد الثالث في التواصل الأدبي، ولا تعدم المذاهب والمناهج الإشارة إلى القارئ كطرف في تأسيس النظرة الجمالية، ولكنها إشارة محدودة ما دامت غير مقصودة لذاتها، ولم تجعل من القارئ موضوع دراسة منهجية تبحث في تكوينه الاجتماعي والثقافي والنفسي والجمالي، وفي علاقاته بالوسط والزمان: حاضراً وماضياً ومستقبلاً. وتلك حقول منشعبة عن بعضها بعض، ولا يمكن لهذه الدراسة أن تحيط بها بمفردها، بل إنّ البحث في القارئ يتوزع على المعرفة الإنسانية بشتى توجهاتها واهتماماتها، ولا مناص من تكاتف الجهود لإرساء تصور واضح حول الذات القارئة. وهو مطلب ما زالت جمالية التلقي تنادي به -كما رأينا قبلاً- حتى وإن قامت سوسيولوجيا الأدب وسوسيولوجيا القراءة وسيكولوجيا القراء بطرف منه: إلاّ أنه تناول سيظل في حاجة إلى استكمال وإثراء.
وقد تستأثر نظرية التواصل بقسط وافر في الحديث عن المتلقي وهو يواجه خطاب التواصل عبر قنوات التوصيل، ويكون لعلم النفس الاجتماعي قسطاً آخر في كشف وضعيات الاستقبال كما حددها "باساغانا" في كتابه "مبادئ علم النفس الاجتماعي" في فصل "سيرورات التوصل عندما ميّز فيه جملة من الاستعدادات جسّدتها رسمته:
- وضعية مدركة
- الانتظار والدور
- العواطف نحو المتكلم
- الكفاءة
- الفوائد الآنية(1)
وهي جملة ما يستقبل القارئ من النص (الخطاب) أثناء عملية التلقي، ويعمل كلّ استعداد إلى إحداث أثر في الذات القارئة بدرجة ما، غير أن الفصل بينها لا يعدو أن يكون فصلاً مدرسياً، لأنها تعمل جملة وبشكل متداخل غامض، يتحقق من خلاله فعل التلقي والأثر الناتج عنه. وعليه فإنّ: "الفضل كل الفضل في لفت الأنظار إلى مفهوم القارئ ودوره في الإنشاء الأدبي إنما يرجع إلى نظرية التخاطب. ولقد كان لهذه النظرية أثر بارز في درس الأثر الأدبي إذ عمدت طائفة من الباحثين، إلى جعل المؤلف باثاً والقارئ متقبلاً والأثر يحمل بلاغاً، إلا أنهم رأوا التخاطب الأدبي يختلف كثيراً عن التخاطب العادي فمنتهى أمل الباث في التخاطب العادي أن يصل بلاغه سالماً من العثرات إلى المتقبل والذي يساعده على ذلك ارتباط البلاغ عادة بالمرجع أو السياق، يحضر القارئ أثناء القراءة فيتجنب به الوقوع في الخطأ".(2) إلاّ أنّ الفارق بين التخاطب العادي والتخاطب الأدبي هو غياب المرجعية مما يثير سدفاً من الغموض على سبيل التواصل الفني.
وغياب المرجعية في الأثر الأدبي أو تماهيها في النّص -كما هي عند "إيزر" و "ياوس" -يجعل الحديث عن القارئ ينطلق من مرحلة الانطباع الأولي الذي تتولاه الذاكرة ومخزوناتها واللاوعي والمحيط والتجارب، فتكون المحك الذي تعرض عليه التجربة الأدبية فتقابل بالقبول أو الرفض وقد نجد في حديث "طه حسين" عن ذاته القارئة شيئاً من التعليل إذ يقول: "فمهما أحاول أن أكون عالماً، ومهما أحاول أن أكون موضوعياً -إن صح هذا التعبير- فلن أستطيع أن أستحسن القصيدة من شعر أبي نواس إلا إذا لاءمت نفسي ووافقت عاطفتي وهواي، ولم تثقل على طبعي ولم ينفر منها مزاجي الخاص"(3) فإن خالفت شيئاً مما ذكر كان نصيبها الرفض أو الاستهجان، والقارئ في هذه الحالة يخلص لمعيار بقدر ما يحاول أن يرضي أفقاً سائداً لديه، يمتح وجوده من عوامل استحسانية غامضة تمليها نفسه وطبعه وعاطفته، وكلها مناط تغير وتبدل وتأثر بشتى العوامل الخارجية والداخلية، فلا يمكن الاطمئنان لأحكامها، بل قد تتحول مستهجنة ما كانت قد استحسنته من قبل... أما الانطباع فلا يقدم جديداً بل يخضع لنزوة عابرة قد تكون خطراً عليه في أحايين كثيرة، ولا يقدم له الانطباع جديداً، بل يبقيه في دائرته كما هو. ولا شك: "أن الناقد سيبخس نفسه عندما يكتفي بالتعبير عن ذوقه لا غيره، لأنّه سيسوي نفسه بأي قارئ عادي يدعي القدرة على النقد"(4).
ويمكن أن نتساءل الآن عن القارئ الموضوعي وعن فعله، فإذا حدّدنا منزع القارئ إديولوجياً ومعرفياً.. رأينا أنّ القارئ الإديولوجي يعيد تنظيم النص ليخدم وظيفة معقودة قبلاً، يسوق لها عناصر النص، حتى تنتظم فيها بينما تنزع القراءة العلمية إلى:
"وضع نظام منطقي محكم تراعى فيه جميع عناصر الموضوع بحيث لا يفلت أي عنصر من الرويّة"(5) ويحق لنا أن نضيف تساؤلاً آخر عن ذاتية القارئ الموضوعي، فوضع النظام المنطقي يخضع إلى فهم ترتضيه الذات القارئة وترتاح له. إلاّ أنّ الرغبة في تجاوز المتعة في مستوى الانطباع، تجعل الذاتية خاضعة للحوارية التي تسكن القراءة التحليلية.
يحدّد "ياوس" القارئ بالدور الذي يقوم به المتلقي والمميّز أي ذلك الذي يضطلع بالمهمة النقدية الأساسية: القبول أو الرفض وهو: "في أحيان خاصة المنتج الذي يحاكي أو يعارض مؤلفاً سابقاً، سواء قام بذلك كلّه مرّة واحدة، أو بكلّ دور على حدة".(6)
والمهمة التي ينيطها "ياوس" بالقارئ تنشأ من طبيعة النص أولاً، ومن طبيعة ما أسماه بأفق الانتظار ثانياً. إذ لا يمكن تصور هذا القارئ إلاّ بين أفقين، أفق أسسته النصوص السابقة وركزت فيه جملة من القيم والمعطيات الجمالية، وهو الأفق الذي يحاوره النص الجديد، ويقيم معه لعبته، فيعرّضه إلى زعزعة وتحوير وتبديل وإثراء، فتنتقل الذات القارئة من حال إلى أخرى، وهي تتهذب وتكتسب أفقاً جديداً يلائم وضعها الحالي، لذلك استوجب "ياوس" ضرورة: "معرفة الأفق بكل معاييره وأنساق قيمه الأدبية والأخلاقية وغيرها، إذا ما أردنا تقويم آثار المفاجأة والضجّة (الفضيحة) أو أردنا بالعكس من ذلك التثبت من ملائمة المؤلف لتوقع الجمهور"(7). غير أنّ المغالطة الكامنة وراء هذه الضرورة التي تحدث عنها "ياوس" تنبثق من الحديث عن التلقي كمقولة عامة، تتلاشى فيها أصناف القراء ومستوياتهم، فهي: "تسوي بين القارئ الهاوي والمتذوق الناقد وعالم الأدب والإديولوجي والباحث الإبستمولوجي في معرفة المعرفة.
مع أنّ ردود الأفعال والتفاعلات الذهنية التي يجريها كل واحد من هؤلاء تختلف اختلافاً كبيراً من حالة وحالة فضلاً عن مستوى خبرة وثقافة كل منهم"(. ونتبين من هذه الأصناف المذكورة صعوبة تحديد آفاقهم السابقة، لأنّ ذلك يتطلب من الباحث فقهاً خيالياً جباراً.
إنّ مفهوم القارئ، تصور يقيمه المؤلف في ذهنه أثناء عملية الإبداع ويحاوره ومثاليته تسوي بينهما ما داما يخضعان لنفس الشروط المحيطة. بينما القارئ الفاعل، فهو الذي تصبح عملية التلقي مقرونة بنشاطه، ومعنى ذلك افتراق الذاتين في مساحة النص، زيادة على اختلاف الشروط المحيطة لعملية النشأة وعملية التلقي فالبعد التاريخي للنص لا يشكل سلطة على القارئ الفاعل ولا يلزمه النص بها. بل يتحرّر منها ليخلق وهمه الخاص بالمجال النّصي، فيحاوره انطلاقاً منه. ويذهب "إيزر" إلى اعتبار القارئ المثالي (المعقد المستعصي على التعريف) والتحديد أساس عمل الناقد أو عالم اللغة، غير أنه يفترض لذلك معرفة نوايا ومقاصد المؤلف لأنّ اللجوء إليه يتمّ: "حين يتعذر تأويل النص، حيث يسدّ بعض ثغرات التأويل التي يعرفها التلقي"(9).
إنه القارئ الضمني الذي (يجسّد مجموع توجهات النص الداخلية حتى تتسنى قراءته) إن هذا القارئ إذن: "يوجد في النص ذاته، ويرجع وجوده إلى البنية النصية للتلقي المُحايث"(10) وبمشاركته يبني القارئ الفعلي معنى النص، لأنه بحضوره إلى جانبه يتأسس فعل القراءة، ما دامت بنية النص، وبنية فعل القراءة مترابطتان بشكل وثيق. ويتدارك "إيزر" تجاور القارئين في آن ليقرر، أنّ القارئ الضمني لا يغيب القارئ الفعلي ولا يلغي دوره، بل إنّه شرط التوتر الذي يعيشه القارئ الفعلي عندما يحقق النص: "فالقارئ الضمني لا يملك وجوداً حقيقياً، لأنه يجسّد مجموع التوجهات الأولية التي يقترحها نص تخييلي على قرّائه الممكنين، والتي هي شروط تلقيه، نتيجة لذلك فإنّ القارئ الضمني، ليس منغرساً في جوهر تجربي، بل متجذر داخل بنية النصوص نفسها"(11).
هوامش:
1- باساغانا. مبادئ في علم النفس الاجتماعي. (ت) أبو عبد اللَّه غلام اللَّه. د. المطبوعات الجامعية 1983 ص 29.
2- حسين الواد. في مناهج الدراسة الأدبية. دار سرار تونس 1985 ص 72.
3- طه حسين. في الأدب الجاهلي. ط10 دار المعارف. القاهرة 1969 ص1.
4- حميد لحميداني. مستويات التلقي. : القصة القصيرة نموذجاً. مجلة دراسات سيميائية أدبية ع6. 1992 .ص 97.
5- م س ص 96.
6- جان ستاروبنسكي. نحو الجمالية للتلقي.(ت) د. محمد العمري. مجلة دراسات سيميائية أدبية. ع6. 1992 الدار البيضاء ص1.
7- م س ص 43.
8- حميد لحميداني م م س ص 97.
9- عبد العزيز طليمات. الوقع الجمالي وآليات إنتاج الوقع عند إيزر. مجلة دراسات سيميائية أدبية ع6. 1992 ص 6.
10- م س ص 56.
11- الرود إبش: التلقي الأدبي (ت) محمد برادة. م. دراسات سيميائية أدبية ع6. 1992 ص 13.
حبيب مونسي غير متصل رد مع اقتباس