في قصيدتها (تخرجين من أسوار الجسد) سياق مشغول بالأمومة وطقوس الولادة مخاطبةً ابنتيها، وهي في ذلك تتخطى الموت حيث تجد منافذ لمعاني الحياة والموت ساحبةً قصدَها إلى العالم الذاتي ومتجاوزةً العالم الموضوعي، وإن احتفتْ بأفراحه ومناسباته الخلاقة كالولادة التي تعطيها ديمومة واستمرارية لا تجدهما في عالمها الموضوعي المنتهي، تقول: «من قال إن الموت يبلي الإنسان؟/ جدّتك صارت نجمة في ليله،/ جدّتك الخيالية،/ جدّتك الوهمية،/ جدّتك المسحورة،/ ما أن رفعتِ الحياةُ سوطها القاسي/ حتى اختفت./ كيف؟/ لا أحد يعلم. جدّتك الشجر الكثيف، جدّتك الزرقاء/ وأحياناً القرمزية.»(الديوان ص٢٣،ص٣٣) إنها تفعّل آلية السلب لتخرج إلى معنى غير ممكن في حالة الإيجاب، لذلك هي تحوّل الموت هنا إلى وسيلة خلاقة للتحوّل، فهي تجمّله، لكن ذلك قائم على واقع حالها المتأزم بسببه، أي إنّ هذا الأسلوب قائم على إيقاع فعل وردّ فعل لا على قدرة مبادرة في وضع الموت هذا الموضع. ومن المهم أن نقول أن سنية تزجّ بأفعال الموت والولادة في خانة واحدة بمعنى أنها تقابل السلب بالإيجاب، وتعيش المواجهة بالإمكانات التي لديها حتى كان لها أكثر من موقف إزاء الموت، إلا إنها تصدر عن موقف واحد له وجوه متنوعة أي تتقلب في أشكال من الإيقاع تحاول عبرها تحمّل فكرة الموت المفروضة الآن بسبب من المرض.
«أرى عذاب الأرواح في الولادة وفي الموت/ في الحب والكراهية/ في الاعتلاء والهبوط/ مع ذلك/ تخرجين لملاقاة نارك/ وقد احتست خمور الذات/ وأفيون الفراق/ مبهمة غامضة/ صامتة ومطيعة»(الديوان ص37) في هذا المثال تتأكد لدينا ثنائية الموت والحياة والمساواة بينهما في هاجس المعاناة والعذاب.
ولتأكيد أن الموت نوع من تحوّل تقول: «مليون امرأة هي أمك يا صغيرتي/ تفكّ خيط الأفق/ ليصير الموت مؤقتاً كالنوم.»(الديوان ص47) فثمة تحوّل في انتظارها لتصير ذاتاً خيالية كالجدّة الموصوفة بذلك آنفاً، وتزيد: «هكذا، عندما يقفل الزمن بابه على الجميع/ أدخل قاطرة الموت برضى/ أمسك خيط الغياب وأجذبه/ فتأتي ذاتي الخيالية/ ذاتي التي ولدت من رحم المرايا/ بكلامها الغامض المريع/ لكن الأجساد الخائفة تفرز ما ينجيها/ وها هو باب السلام يفتح/ بين الجنة والأرض./ الحياة وحدها تأخذنا وتعيدنا، لقد بَطُلَ الموت،/ وانقرضت الديدان/ وانشقّ الحجر البشري/ لتولد الأجيال/ أمّا أنا/ فسأحجز بويضات الإنجاب/ في رحمي/ لتعيش هكذا، عذراء/ من أجل ألا يحشر الربيع بين الرصاص»(الديوان ص48). إذا كان الموت تحوّلاً إلى الحياة، فمعنى ذلك أنه انتفى ولم يعد غير وجود الحياة، وهذا مثال آخر على تقنية السلب التي تتعامل بها سنية مع الموت إلا إنها تنتهي إلى العودة إليه دون ابتعاد عن هيمنته مادامت تخشى على الربيع من الرصاص.
تتجلى مقاومة المرض في دفع الموت عند قول الشاعرة: «أيها الصراخ الطالع/ لكي أشقّ ذلك الهدير الغامض/ أحمل وطأة موتي./ ينصحونني بقبوله/ ذلك الموت/ يغرونني بالاستسلام له./ لكن،/ تأخذ الريح شلواً من جسدي/ أجري خلفها وأعيدها/ وعندما تأخذ آخر وتلهو به/ أهجم ثانية وأعيده./ هكذا دارت الحروب على/ مداخل الجسد،/ حيث يقف رجل من النحاس/ يلقي القبض على ما يفرّ من الذات.»(الديوان ص65) إن اتصال الذات بالجسد فلا انفصال بينهما يدفع إلى التمسّك بكل قوة في عافية الجسد المتبقية، فالصراع مع الموت صراع لا من أجل الجسد وحده، وإنما من أجل هذا الاتصال مادام المرء على قيد الحياة، أمّا ما وراء ذلك فتقف التصورات والخيالات والمعتقدات والأحلام عليه. الموت إذن هو الواقعة التي لم تحلّ بين ثنائية الجسد والذات. تدعم سنية الربط بين هذه الثنائية الإشكالية في قولها: «من يصدّق أن الموت يضلّ طريقه؟/ قوديه أيتها الجميلة/ الفائقة الطهر/ التي انحنت وأصلحت من شأن عكازي،/ وسقتني ماء البنفسج/ ثم قالت:/ هيا انطلقي قبل أن يدركوك/ لكن المثانة على وشك الانفجار/ وقدماي عليلتان»(الديوان ص 83)، إنها تصوّر الموت كما لو أنه في موضع ما، ومن النافع أن يركض الإنسان هرباً من هذا الموضع، فتعود لتجد أن المثانة المريضة والقدمين العليلتين هما من يمنعها من الهرب.
تقف سنية في قصيدتها (طقوس البائدين) على المشكلة الزمنية التي يرتهن الإنسان بموجبها وقفة اعتراض وحزن، مهتمةً بالفارق الهائل بين الزمن الخطي والأبدية، زمن الذات، أو زمن العالم الباطني، تقول: «بدأ يعرض قواه/ أمامي حتى سحقني. وأدركتُ أنّ من التفاهة/ أن يخلق الكائن إنساناً./وأنذرني،/ أن ما هو لمحة في حساب آنيشتاين/ دهر في حسابه/ وأن له من القوى الخفّية/ ما يجعلني أكفر ملايين المرات/ بإنسانيتي،/ بالنور والحب والهواء،/ بكل المظاهر الهشّة التي يذيبها/ أسيد سمومه/ بكل ما كان مشاعاً في عصر الرومانسية/ وصار احتكاراً في عصره/ وأمرني أن أفكّ خلايا جسدي/ وأتقدّم بها/ ليعيد طقوس البائدين»(الديوان ص74).وتقول: «أيها الزمن الذي يغنّي بحناجره جميعها/ أغاني الفراق،/ في رأسي غربة ثقيلة،/(…)/ الزمن يتفرّق ويحتشد، يمدّ حبالاً شدّت إليها أعناق»(الديوان ص54).
ثمة مشاعر وجودية تنضح من الفاعلية الفلسفية التي تجابه بها سنية الموت، فالشعور بالوحدة بيّن بالرغم من كل أشكال الارتباط الإنسانية التي دفعتْ بها هذا الشعور: «في الوحدة بكيت وارتعشت/ وكأن الرعد يهزّ مفاصلي،/ وغنّى غبار وحدتي كطائر على الأشجار/ مع ذلك لا تعترفين بشرعيتي أيتها الوحدة/ أيتها الوحدة/ التي تستعير أشكال الحريات./ الوحدة أن تشتري باباً ونافذة/ ومرحاضاً بمائة قفل/ أن تختبئ في أضيق الجحور، ثم تزفر دخان حبك المحترق.»(الديوان ص81)، «مساء الخير أيتها الحزينة/ وحدك في الليل ومتعددة في النهار/تظهرين بشكلك الهندسي/ يغطيك رماد الوحدة/ أرقبك من نافذة المنفى/ كي لا نفقد مجاذيفنا في الظلام/ أعود إلى عصورك الأولى:/ قلبي، شعري وأحلامي،/ لا أجرؤ على عصيانها.»(الديوان ص84)، «دعوا ذلك الطوفان/ يحيك سرير وحدتنا»(الديوان ص47)، «أنا المرأة الرّهينة،/ السلفُ يطالب بي والخَلَف،/ وأنا أنتزع نفسي من فم الفراغين،/أحلم بآخر الكون، علّ المجد البشريّ يشهد النهاية/ ينتظر طويلاً حتى تنتهي الحضارات/ العشّاق والشعوبُ/ أو ربّما، تهاجر،/ وتبقى الأرض لي وحدي./ لأكون حواء الرائعة/ لكنني صحوت/ فوجدت الحراب تطوّقني، لقد كان حلماً أيها القضاة»(الديوان ص63)، إن الوحدة مقترنة بالاغتراب وهما هاجسا الشاعرة في محاكمتها الآخرين «علّني أسبق اللصوص والطغاة/ والقتلة،/ الذين من بصاقهم حبر التاريخ/ المقدّس،/ به تدوّن الأشواق الباردة/ والأفكار الميتة،/ ترّهات الزمن وحضيض الذاكرة./ فأين نفرغ تلك الحمولة أيها السادة؟/ هنا؟/ أمام منصّاتكم؟/ أم في العراء،/ حيث البرق يمنحني ناره/ فأتّسع بها/ والبحيرة مرآتها/ فأصل إلى نفسي»(الديوان ص٦٦)، ليس المقصود تفريغ شحنة الألم فحسب، بل إن التوجّه بالنقض إزاء التاريخ، والسلف والخلَف، والحراب، والخريف، والجيوش، والسادة، والقضاة، والكون الكبير، واللصوص والطغاة والقتلة، والزمن ..الخ فيه محاكمة لكل ما تلبسه سمة الوجود الموضوعي الذي يمنع الطلاقة الداخلية أو الذاتية أو الباطنية، فالوصول إلى النفس أمل بعيد مع وجود كل هؤلاء الذين تحاكمهم سنية في أزمة اغترابها عن الجميع. وهي في موضع لا تكون فيه للطبيعة قدرة على انتشالها: «الورود سوداء في المنفى/ النسر وحش والغابة كمين/ وعبثاً يصل الفم إلى الفم/ في نقطة لا تطالها الجهات رحت أحفر/ علّني أرى جوهرة الحرية/ فنشرب من فم واحد/ أو نقهر معاً./ لكن الغابة بيضاء/ وطعام العصافير ثلج/ شخص ما سيطلق الرصاص/ على ذاكرتي الواقفة في الهواء»(الديوان ص79) «ورجوت روحي المتضجّرة ألا تفارقني/ وأخذت أجري وراء الجغرافيين/ علّهم يعرّفونني تخومي البشرية.»(الديوان ص82). «ورأينا الله في مداخل الكون،/ باهراً وبهيّاً. في البدء أخذتنا الرهبة، لكن بأفواه متشنّجة صرخنا:/ هل حقاً تبلونا لتمتحننا؟»(الديوان ص91). إن صرخة الألم دفعت بأقصى الشعور بالوحدة والحزن في آفاق الاغتراب، حيث يبدأ الرفض من ثقل السقوط تحت ضغط الزمن الخطّي، مروراً بما يترتب على مشكلة الثنائية بين الجسد والذات، وانتهاءً بما تنتهي إليه المعاناة من استمرارية المحنة التي جاءت بسبب من الامتحان الإلهي، تاركة ظلال الفراق والوحشة تخيّم على أنقاض الجسد وحرية الذات في التخلّص.
ب. الفاعلية الشعرية
تتحقق فاعلية الشعر عند سنية، كما مهّدنا، عبر الرؤية الباطنية التي تنخرط ضمن المذهب الأدبي الرمزي، فالشعر، ممارسةً، ليس وسيلة دحض للمرض فحسب، بل إنه يمدّ الذات بأساليب يتحقق عبرها التقاء هذه الذات مع الذات البشرية الكبرى، كما ألمحت الشاعرة في مقدمة ديوانها، والشعر ينساب لديها في تدفّق مشابه لتدفق الخلق، وبغموض يتوافق فيه الشكل مع الجوهر الشفاف الذي يسعى إليه الرمزيون للوصول «إلى وحدة كونية شاملة، تزيل الحواجز العرضية التي تقيمها الحواس المختلفة، فتتوحد هذه الحواس وتتمازج»(29) لتكون نقطة انطلاق نحو الاتصال مع الذات، لا انشغالاً نهائياً، لذا لا نجد وصفاً مباشراً أو تقريرياً حتى في تعبير الشاعرة عن معاناتها مع المرض، بل العكس أصبحت المعاناة مناسبة لتحقيق التداعي «في الأفكار بطريقة معقدة ممثلة بخليط من المجازات التي يراد منها أن تنقل شعوراً ذاتياً خاصا»(30) فثمة إيقاعية شعورية، وبلاغية، وصورية، وطقسية تشيع مزاجاً شخصياً ونفسياً خاصاً في ديوان (ذكر الورد)، «والإيقاع لا يقتصر على الصوت. إنه النظام الذي يتوالى أو يتناوب بموجبه مؤثر ما (صوتي أو شكلي) أو جوٌّ ما (حسي، فكري، سحري، روحي) وهو كذلك صيغة للعلاقات (التناغم، التعارض، التوازي، التداخل) فهو إذن نظام أمواج صوتية ومعنوية وشكلية، ذلك أن للصورة إيقاعها»(31) ، ولا نريد أن نخوض في مفاهيم الإيقاع أو تجلّياته في الديوان، وإنما نكتفي بالإشارة إلى خصوصية سنية في إشاعة إيقاع نفسي واحد قائم على موقف شخصي في لحظة الحاضر، فثمة شعور كلّي وجوّ خاص ينتظم سياق كل قصيدة وهذه الوحدة الشعورية أملتها التجربة، مع تنويعات متحققة بتنويع الجزئيات أو التفصيلات.
وثمة إيقاع موضوعي متأتٍ من تقسيم الديوان إلى خمسة أقسام على أساس موضوع مهيمن في مجموعة قصائد تمثّل وحدة مستقلة لها عنوان واحد، وهيمنة الموضوع الواحد لا يمنع من تداخل بعض التفصيلات خاصة أن الديوان ينصرف كله إلى معاناة الشاعرة مع المرض والموت. والأقسام الخمسة بحسب الموضوعة المهيمنة هي: ١. الطوفان (تنشغل قصائده: (الطوفان)، و(ذاكرة النيران)، و(الذاكرة الأخيرة)، و(أيها الخداع يا جسدي) بموضوعة الجفاف في إحالة سريرية على المرض الكلوي، ومفردة المياه وما يدخل في إطارها هنا تتكرر بمعنى دالّ على المهيمنة الموضوعية)، ٢. مليون امرأة هي أمك (وقصائده: (تخرجين من أسوار الجسد)، و(ثقوب الليل)، و(امرأة من الطباشير)، و(العاشق الوبال)، و(يمضغني كما في المجاعات)، و(مليون امرأة هي أمك) تهيمن فيها موضوعة الأمومة وأبعاد المعاناة الجسدية والنفسية المستحثَّة هنا)، ٣. على زغب المياه (وقصائده: (معبد الشمس)، و(ملايين الأرواح خارج غطائها)، و(على زغب المياه)، و(شيء ما في صدر الريح)، و(البحيرات المدانة) وتخرج الشاعرة هنا إلى نوع من موضوعية البحث في مشكلتها، وتتمثل بنوع من الرموز والتشبيهات فيها تعميم لصراعها وإشاعته على مستوى أكبر من أن يكون لصيقاً بها وحدها)، ٤. المحاكمة (وقصائده: (قمر رطب)، و(المحاكمة)، و(عصيّ الكلام)، و(فارس المخيلة يمتطي حصان الشجر)، و(مضيق الهواء)، و(البحر الورع)، و(أين بهلوان النوم)، و(طقوس البائدين)، و(الغابات الوردية)، و(شجر يمشي في النوم) وتقيم الشاعرة نوعاً من الحساب والمحاكمة تتولّى فيه الموجودات الكبرى بالمساءلة والتحقيق في كلّ ما يتّصل بمصدر المعاناة وأشكالها)، ٥. الأفكار الصامتة (وقصائده: (أفكار صامتة)، و(رامبو الألف وبودلير العشرون)، و(غراب يطلب الغفران) وتضع فيها أسئلتها الوجودية ومحاكماتها مستثمرة ما تشاء من أسماء أسطورية ودينية منها مثلاً قصة الطوفان عهد النبي نوح (عليه السلام»، وقد لا تبدو الاختلافات ظاهرة بين الأقسام إلا على نحو بسيط إلا إنها، مع ذلك، دالّة على تمييز في طرْق الأفكار وتناولها، وهي ممثّلة لطبيعة التناول الرمزي الذي لا يجعل للموضوع هذا الظهور الواضح.
ومن الفاعلية الشعرية هذا التوظيف للرمز وللأسماء الأسطورية والشعرية والتاريخية ضمن ذاكرة حيّة ومتفاعلة مع موضوع المرض وإشكاله، تقول في قصيدتها (رامبو الألف وبودلير العشرون): «كان الشعراء يفكرون في الثلوج/ على قمم كلمنجارو./ في الرياح على ضفاف البحيرات/ يحلمون بالأميرات النائمات مع قيثاراتهن/ تحت أشجار الأضاليا./ أيها الشعراء/ يا سائسي أعمارنا/ النار الأولى تُمنح من جديد/ لآليات العصر ومواقده،/ الكشفُ البدائي/ رامبو الألف وبودلير العشرون/ جميعهم يجرون في دمائنا،/ ونهجم في اتجاهات العالم كلها/ جموعاً تنهش وتفترس/ وتستعيد الجوع الخرافيّ.»(الديوان ص84)، يمثل الشعر فعل خلاص، وانتماء إلى عالم من الشعراء يجعل للشاعرة مرجعاً غير المرجع المعتاد الذي يشترك فيه البشر جميعاً، إنه مرجع، أو تاريخ التفرّد الذي ينتمي إليه الشعراء، فضلاً عن أنه نوع من التطمين النفسي في إشاعة فضاء خاص موحٍ بتفرّد الشاعرة وميزة وجودها غير العابر، والموازي لوجود الشعراء الباقين رغم موتهم في دائرة قول الشاعرة وفي صفّها، إذ هم خزين وجود غير منتهٍ وهذا عزاء على المصاب، إلى جانب إنها تذكر من يدخل في دائرة خيارها الشعري، فذكر هذه الأسماء ليس عابراً أو اعتباطياً، وقد أحلّ الباحثون في الرمزية اشتقاق أسماء الأعلام مكانة مرموقة «لأنه وسيلة لنقل العلامات اللغوية ومنها أسماء الأعلام من الاعتباطية إلى القصدية أي إنها تصبح ذات قيمة رمزية(…) وقد ركز [أي الباحثون] بصفة خاصة على وظيفتها في الخطاب الشعري لأن أسماء الأعلام تحمل تداعيات معقدة تربطها بقصص تاريخية أو أسطورية، وتشير قليلاً أو كثيراً إلى أبطال وأماكن تنتمي إلى ثقافات متباعدة في الزمان وفي المكان»(32)، وقد نجحت سنية بالفعل في استثارة جوّ شعري له ديمومته يربط وجودها بالشعراء ويعزّزه بهم. وقد عبّرت بذلك الشاعرة عن حسٍّ مرهف، وإدراك راقٍ لخلاصات الفكر ورموز الشعر في ما هو مستدعى بانسجام في شعرها.
ثمة ملامح أسلوبية ودلالية لها قيمة في إطار الفاعلية الشعرية يهمنا منها أسلوب الإطلاق في استعمال بعض الصيغ كالعدد، وذلك ظاهر في العناوين (مليون امرأة هي أمكِ)، و(ملايين الأرواح خارج غطائها)، و(رامبو الألف وبودلير العشرون).. الخ ونستشف نوعاً من نفي المحدود وإرسال الدلالة إلى أقصى أبعادها في الاستخدام. ومن الإطلاق ما يأتي في صيغة النداء والتشبيهات المقترنة بالمنادى (أيها الخداع يا جسدي)، ( مساء الخير أيتها الحزينة)، ( أيها العاشق الوبال).. الخ حيث إدامة الوصف المقترن بالمنادى واستمرار النفي إذ الموصوف بإطلاق لا تنتهي عنه الصفة الجديدة وفي ذلك نفي لتحوّله عنها أو تغيّره إلى ما كان قبل الاقتران بها. ومن المناسب أن نشير هنا إلى الطرافة المختارة للعنوان، فكل القصائد مميّزة بعناوينها حتى عنوان الديوان المستلّ كما ذكرنا على وفق دلالة مختبئة في سياق الصور المجسّدة لمعنى المرض في إحدى القصائد، فعلى القارئ أن يتأنى في تأويل المقاصد المبثوثة بدقة وخفاء في الصور الشعرية والمجازات المتداخلة في انتظار الكشف الذي تحققه القراءة، كما أن الصياغة المعتمدة في تشكيل العناوين تمثل شفرات مرسلة أو رموزاً في هيأة إجابات أو أخبار سريعة، تعتمد الجمل المتضمّنة حضور الواقعة واستمرارية حدوثها (تخرجين من أسوار الجسد)، (يمضغني كما في المجاعات)، (فارس المخيلة يمتطي حصان الشجر)، (شجر يمشي في النوم)، (غراب يطلب الغفران).. الخ.
ج. فاعلية الحبّ (الأمومة)
الحبّ مهيمن موضوعي في شعر سنية كله، وإذا كان في المجاميع السابقة مصطبغاً بحركة هروب كما تقول خالدة سعيد(٣٣)، أو بالهجر والبكاء كما تقول روز غريب(34)، فإنه في مجموعتها (ذكر الورد) يمثل عاملاً إيجابياً زاخراً بالحياة ومرتفعاً بالإرادة الإنسانية إلى أقصى قدرات التمكن من مواجهة الموت. إلا إنه يرد بصيغة الحبّ الأمومي متخذاً له آليات فعل جسدية (والجسدي يتداخل مع المثالي أو الباطني عند الرمزيين، إذ عالم الحقائق المطلقة مصنوع ممّا يرحّل إليه من العالم المحسوس)، مثل الولادة ومظاهر الخلق التي تمتدّ بالآخر_ الأبناء إلى آفاق أو مديات بعيدة، وهذه الصلة من الحبّ الأمومي ليست صلة شراكة أو انتماء متعاقب، بل امتداد فاعلية وجود عبر اتصال كلي غير محدود تقابل به سنية أقصى قوة سلب لهذا الوجود، أو هو خزين وجود، تقول مثلاً: «أيتها الغابة التي أشعلها جسدي/ اقتربي/ تجاوزي ما لا يمكن تجاوزه/ اهمسي حفيفك الدّفين في فمي،/ وفي أذني/ وفي مسامّي جميعها/ ارفعي غطاء عصيانك/ وأزهري/ في القبّة المثقّبة لجسدٍ متهاوٍ./(…) أيتها الغابة التي نوّرت في جسدي/ لا تخافي/ لقد خبّأتُ روحي فيك/(…)/ أغرقي رأسك فيّ/ اخترقيني/ حتى تكاد عظامنا تغيب داخل بعضها البعض/ ولنكن متجاورتين/ متشابكتين كثنائية القلب،/ المسيني كما يلمس الإله الطين/ فأنتفض بشرا»(قصيدة (مليون امرأة هي أمك) ص٤٤ ص45).
الأبناء هنا يمدّون الآباء بالحياة وهذا مقابل للمعادلة الأولى حين مدّ الآباء (ولا سيّما الأمهات) أبناءهم بالحياة، وذلك بفعل الولادة، ولهذا السبب نجد هذا التكرار لذكر الولادة لا لفظةً فحسب، بل بالتفصيلات، لذا تكمل القصيدة بـ «ونار قلبي تركض في الجهات كلّها،/ في الكلام والصمت/ من أجل أن تولدي ملايين المرّات/ في العصور الأكثر غرابة/ يا غابتي الشقراء/ شدّي جَزَعك إلى جَزَعي/ أدخلي عظامك في نفق عظامي/ ثم اسحبي ما تبقى من جسدك واعبري/ ستكون أمامك ممرّات طويلة ضيقة/ والحقيقة تكمن في أشدها ضيقاً/ حاذري أن تنسَيْ أنك ذاهبة/ لتصرخي/ وترفضي» (القصيدة نفسها ص45)، تكون الابنة عامل توليد للحياة، بل إن لها وجوداً أسطورياً يقابل أسطورية وجود الأم، وهما تعبران الممرّ بين العدم والوجود إذ تجسّدان الولادة على نحو دائم : «يا ابنتي/ كنت وحيدة فتجزّأت/ وبقيت أتجزّأ/ حتى خلقت شعباً أنتِ أسطورته./ يا سليلة الريفيات/ يكتمن صراخ الولادة/ ثم يقذفن بالأجنّة إلى أحواض النحاس،/ والجوع يقرع طبلَه في الأحشاء/ والفقر يعرّي العظام،/ مع ذلك أضأتك/ بأعظم الرغبات./ تخرجين من أسوار الجسد/ ومعك أجيال يضيئها عبورُك الصاعق،/ إنها الولادة فلا تخافي:/ نبدأ عراكنا العظيم،/ تلتقطين ظلي وتُنهضينه،/ فيهوي، ثم تنهضينه/ فيهوي من جديد/ أنتِ أيضاً/ صار لك ظل/ وصار يهوي./ يا صغيرتي،/ يا غابة الآلهة والنساء الخالقات/ نتألم آلام الفراق الأعظم/ نتشنّج ونصرخ،/ يتمزّق جسدي/ ويُحشرُ جسدك في عتبة العالم الأولى/ ثم نصرخ./ لا تيأسي، واتبعيني،/ ففي قلب الأدغال المجهولة/ أشياء رائعة خُلقتْ لنا،/ في قلب الأدغال/ شجرة للحلم/ فاتبعيني»(قصيدة (تخرجين من أسوار الجسد ص ص3635).
ليست الأم قائدة إلى الحياة، ومبشّرة بمواطن الحلم الذي تومئ إليه بحدس وأمل الكشف فقط، وإنما هي تبني بمثابرة وجود الأم الكلية أو الأم الآلهة مانحة الحياة في الأساطير القديمة، وتجعل من إشاعة طقس الولادة علامة تجذّر في منح الوجود واستبطان القدرة الأنثوية الخالقة، تقول: «أيتها الحارسة الذكية للسلالات/ لقد منحتك روحي،/ حجم العين وشكل الهدب،/ الأطراف الرخامية،/ الزرقة والشّقرة،/ ولما جاء الصباح كنتِ مكتملة»(الديوان ص35). (يدخل في ذلك مخاطبتها لأمها ربما هي التي تسمّيها في مكانٍ آخر _الجدّة الخيالية_ بقولها: «الليل العالي/ يبحث عن نجمة تصيرين إليها/ نترصّدها، علك تهبطين/ أو تبعثين شيئاً من نِعَم الآخرة/ لنا فقراء الحياة./ اثقبي الليل بتُقاكِ/ بفطنتك وغموضك/ علّمينا ما الولادة وما الموت/ وأي جلد نلبس في تحوّلنا الكبير؟/ أي ليل نغيب فيه/ وأي فجر لا نهائي/ للأرواح والحرير والذكريات»(قصيدة ثقوب الليل ص37) مقدّمةً ما يبدو تعويذة أمومية، أو وصايا الأم الأولى).
إلا انها، من ناحية أخرى، ومع الشعور المتأزم بالألم تخرج عن كل هذه القوة والكلية لتطالب ابنتيها بانتشالها مما هي فيه، لأنهما الوجه الآخر للعطاء الأمومي أو هما امتداد لهذا العطاء فتقول: «يا ابنتيّ/ أيتها المتعدّدات/ يا حارسات البحر الصغيرات/ هل ترقبان وجبة البحر المثلى؟/عشاءه الرباني؟/ أيتها الصغيرتان المتعددتان/ فوق الجسور المقشعرة» (الديوان ص58)، «يا وطن الزرقة والشقرة/ يا وطن شام/ وربوع سلافة/ جميع خيول الشوق أطلقتها/ صوبك/ ولا تزال مجنونة في دمي./ أنتما اثنتان/ أنتما واحدة/ أنتما اللا نهاية/ البر والبحر والقبطان والشموس الساطعة/ والرحيل والعودة،/ الأعراس والولادة./ (…)/ خذيني يا صغيرتي/ تأبطيني كلحم ذراعك/ فلن أقوى على الفراق.»(الديوان ص5554)، «ها هو العالم يدور/ يُسحب قسراً من أعمارنا/ ليُمنح بالمجان للّصوص والسفاحين/، اضرميني يا ابنتي جدّديني/ لقد تعفّنتُ في النسيان» (الديوان ص١٣)، «فأنا مشوشة بالخسارة/ أستنجد ببراءتك/ بضعفك الطفولي/ وأصلّي بحرارة ويأس/ كي يصير قلبي الضعيف بحجم قدميك.»(الديوان ص34). وهكذا تكون فاعلية الحب فاعلية إمكان العطاء سواء من الأم أو من ابنتيها في تنويعات سدّ للنقص، من دون أن يكون ذلك كافياً إلى ما لانهاية، ولهذا التنوع بين دوريْ الحب المانح أو الممنوح. وتتم عبر هذه الفاعلية إيواء الحالة السريرية مكانها الأمثل من حيث أنها اقتضت هذه الفاعلية واستلزمت استثمار الشاعرة لها.
الهوامش:
٭ ديوان (ذكر الورد): سنية صالح، رياض الريس للكتب والنشر، لندن، 1988م.
(١) تأويل لغة الجسد داخل اللا وعي الثقافي العربي: علي زيعور، مجلة الفكر العربي المعاصر، بيروت، ع ٤٥٥٥، 1988م، ص٨٦.
(٢) أمراض الأدب القاتلة: ت أبو بكر العيادي، الموسوعة الصغيرة 359، بغداد، ط١، 1990م، ص96.
(٣) المصدر نفسه، ص١٠١.
(٤) الموت في الفكر الغربي: جاك شورون، ت كامل يوسف حسين، عالم المعرفة76، الكويت، 1984م،ص235.
(٥) ينظر الشعر والموت: فؤاد رفقة، دار النهار للنشر، بيروت، 1973م، ص27. وينظر أيضاً استشهاد رفقة بقول ريلكه في الردّ على شاعر شاب يستشيره «إذا وصلت إلى نقطة تفضيل الانتحار أو الموت على عدم الكتابة، وقتها تكون شاعرا»«كأنه يقول له: الكلمة الشعري.. الشعر.. الوجود الشعري يوازي وجود الشاعر.. بل هو الوجود الشاعر» في حوار أجري معه في مجلة الأقلام، ع١ كانون الثاني، 2989م ص71.
(٦) ينظر الشعر والموت، ص٤٤.
(٧) ينظر الموت في الفكر الغربي، ص23،و36.
(٨) ينظر العبقرية في الفن معاناة ام جنون أم مرض؟: جيفري ميرز، ت صبار السعدون، مجلة آفاق عربية، ع٩، أيلول ١٩٩١م، ص89.
(٩) اهتمت الشاعرة نازك الملائكة بالشعر والموت في كتابها (قضايا الشعر المعاصر)، دار العودة، ط٥، 1978م،ص ص314304، ونظر الناقد جلال الخياط إلى موت الشاعر في كتابه المنفى والملكوت، دار ط١/ 1989، ص123، ص 126.
(10) حركية الإبداع دراسات في الأدب العربي الحديث: د. خالدة سعيد، دار العودة، بيروت، ط٢، 1982م، ص98.
(١١) نسمات وأعاصير في الشعر النسائي العربي المعاصر: روز غريب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط١، 1980م، ص ص 357356.
(12) المصدر نفسه، ص ص 345 357.
(13) ينظر الرمزية: د. ياسين الأيوبي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1, 1982م، ص19.
(14) الفن الرمزي: هيجل، ت جورج طرابيشي، دار الطليعة،بيروت، ط١، 1979م، ص14.
(15) الرمزية ص60.
(16) ينظر الأدب ومذاهبه: محمد مندور، دار نهضة مصر،1974، ص120.
(17) نسمات وأعاصير في الشعر النسائي العربي المعاصر ص317.
(18) المصدر نفسه وترى الناقدة تأثير أسلوب محمد الماغوط في نتاج سنية صالح لأن «معاني الشكوى والثورة والضياع واليأس تسيطر على شعرها كما على شعر الماغوط» ص 356، وبرأيي إن هذا ليس بالدليل الكافي على تأثرها به، أم إن السبب كون سنية زوجة للماغوط وبالتالي تتبعه شعرياً كما (تبعته) اجتماعياً، وهذا نوع من النظرة المتدنية إلى نتاج المرأة، لماذا لا نقول أن الشاعرة هي التي أحاطت الماغوط باهتمامها ورعايتها تشهد على ذلك مقدمتها لديوانه الصادر عن دار العودة، بيروت، ط٢، ١٨٩١م، ص137.
(19) أمراض الأدب القاتلة ص٥.
(20) ينظر معرفة الذات: ماري مادلين دافي، ت نسيم نصر، عويدات، بيروت، ط٣، 1983م، ص14.
(21) القول لفؤاد رفقة في حوار مجلة الأقلام ص74.
(٢٢) أمراض الأدب القاتلة ص١١.
(23) ينظر المصدر نفسه، ص12٢١.
(24) رجّح الأطباء الذين استشرناهم،الدكتور غسّان الجبوري، والدكتور ناجي كريم حسن من مستشفى الفرات وغيرهم مشكورين، أن تكون الشاعرة قد تعرّضت لفشل كلوي Renal Failure بسبب من احتمالات عديدة منها العجز في القلب، أو مضاعفات تلف في الرئة، أدّت إلى الأعراض المتلاحقة، مع التدهور بسبب من مضاعفات الأدوية.
(25) تحليل الخطاب الشعري: د. محمد مفتاح، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، ط١، 1985م، ص67.
(26) ينظر المصطلح النقدي في نقد الشعر: إدريس الناقوري، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، ٢٨٩١م، ص177176.
(27) العزلة والمجتمع: نيقولاي برديائيف، ت فؤاد كامل، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط٢، 1986م، ص 129.
(28) فلسفة الجسد: جلال الدين سعيد، دار أمية للنشر، تونس، 1992م، ص75.
(29) الرمزية والرومانتيكية في الشعر اللبناني: أمية حمدان،دار الرشيد للنشر، بغداد، ١٨٩١م، ص٨٢.
(30) فن الشعر: د. إحسان عباس، دار الشروق، عمّان، ط٤، 1987م، ص62.
(31) حركية الإبداع ص ١١١.
(32) تحليل الخطاب الشعري ص ص6564.
(33) ينظر حركية الإبداع ص196.
(34) ينظر نسمات وأعاصير في الشعر النسائي العربي المعاصر ص350.
محطة::. عرض ونقد |
«أرى عذاب الأرواح في الولادة وفي الموت/ في الحب والكراهية/ في الاعتلاء والهبوط/ مع ذلك/ تخرجين لملاقاة نارك/ وقد احتست خمور الذات/ وأفيون الفراق/ مبهمة غامضة/ صامتة ومطيعة»(الديوان ص37) في هذا المثال تتأكد لدينا ثنائية الموت والحياة والمساواة بينهما في هاجس المعاناة والعذاب.
ولتأكيد أن الموت نوع من تحوّل تقول: «مليون امرأة هي أمك يا صغيرتي/ تفكّ خيط الأفق/ ليصير الموت مؤقتاً كالنوم.»(الديوان ص47) فثمة تحوّل في انتظارها لتصير ذاتاً خيالية كالجدّة الموصوفة بذلك آنفاً، وتزيد: «هكذا، عندما يقفل الزمن بابه على الجميع/ أدخل قاطرة الموت برضى/ أمسك خيط الغياب وأجذبه/ فتأتي ذاتي الخيالية/ ذاتي التي ولدت من رحم المرايا/ بكلامها الغامض المريع/ لكن الأجساد الخائفة تفرز ما ينجيها/ وها هو باب السلام يفتح/ بين الجنة والأرض./ الحياة وحدها تأخذنا وتعيدنا، لقد بَطُلَ الموت،/ وانقرضت الديدان/ وانشقّ الحجر البشري/ لتولد الأجيال/ أمّا أنا/ فسأحجز بويضات الإنجاب/ في رحمي/ لتعيش هكذا، عذراء/ من أجل ألا يحشر الربيع بين الرصاص»(الديوان ص48). إذا كان الموت تحوّلاً إلى الحياة، فمعنى ذلك أنه انتفى ولم يعد غير وجود الحياة، وهذا مثال آخر على تقنية السلب التي تتعامل بها سنية مع الموت إلا إنها تنتهي إلى العودة إليه دون ابتعاد عن هيمنته مادامت تخشى على الربيع من الرصاص.
تتجلى مقاومة المرض في دفع الموت عند قول الشاعرة: «أيها الصراخ الطالع/ لكي أشقّ ذلك الهدير الغامض/ أحمل وطأة موتي./ ينصحونني بقبوله/ ذلك الموت/ يغرونني بالاستسلام له./ لكن،/ تأخذ الريح شلواً من جسدي/ أجري خلفها وأعيدها/ وعندما تأخذ آخر وتلهو به/ أهجم ثانية وأعيده./ هكذا دارت الحروب على/ مداخل الجسد،/ حيث يقف رجل من النحاس/ يلقي القبض على ما يفرّ من الذات.»(الديوان ص65) إن اتصال الذات بالجسد فلا انفصال بينهما يدفع إلى التمسّك بكل قوة في عافية الجسد المتبقية، فالصراع مع الموت صراع لا من أجل الجسد وحده، وإنما من أجل هذا الاتصال مادام المرء على قيد الحياة، أمّا ما وراء ذلك فتقف التصورات والخيالات والمعتقدات والأحلام عليه. الموت إذن هو الواقعة التي لم تحلّ بين ثنائية الجسد والذات. تدعم سنية الربط بين هذه الثنائية الإشكالية في قولها: «من يصدّق أن الموت يضلّ طريقه؟/ قوديه أيتها الجميلة/ الفائقة الطهر/ التي انحنت وأصلحت من شأن عكازي،/ وسقتني ماء البنفسج/ ثم قالت:/ هيا انطلقي قبل أن يدركوك/ لكن المثانة على وشك الانفجار/ وقدماي عليلتان»(الديوان ص 83)، إنها تصوّر الموت كما لو أنه في موضع ما، ومن النافع أن يركض الإنسان هرباً من هذا الموضع، فتعود لتجد أن المثانة المريضة والقدمين العليلتين هما من يمنعها من الهرب.
تقف سنية في قصيدتها (طقوس البائدين) على المشكلة الزمنية التي يرتهن الإنسان بموجبها وقفة اعتراض وحزن، مهتمةً بالفارق الهائل بين الزمن الخطي والأبدية، زمن الذات، أو زمن العالم الباطني، تقول: «بدأ يعرض قواه/ أمامي حتى سحقني. وأدركتُ أنّ من التفاهة/ أن يخلق الكائن إنساناً./وأنذرني،/ أن ما هو لمحة في حساب آنيشتاين/ دهر في حسابه/ وأن له من القوى الخفّية/ ما يجعلني أكفر ملايين المرات/ بإنسانيتي،/ بالنور والحب والهواء،/ بكل المظاهر الهشّة التي يذيبها/ أسيد سمومه/ بكل ما كان مشاعاً في عصر الرومانسية/ وصار احتكاراً في عصره/ وأمرني أن أفكّ خلايا جسدي/ وأتقدّم بها/ ليعيد طقوس البائدين»(الديوان ص74).وتقول: «أيها الزمن الذي يغنّي بحناجره جميعها/ أغاني الفراق،/ في رأسي غربة ثقيلة،/(…)/ الزمن يتفرّق ويحتشد، يمدّ حبالاً شدّت إليها أعناق»(الديوان ص54).
ثمة مشاعر وجودية تنضح من الفاعلية الفلسفية التي تجابه بها سنية الموت، فالشعور بالوحدة بيّن بالرغم من كل أشكال الارتباط الإنسانية التي دفعتْ بها هذا الشعور: «في الوحدة بكيت وارتعشت/ وكأن الرعد يهزّ مفاصلي،/ وغنّى غبار وحدتي كطائر على الأشجار/ مع ذلك لا تعترفين بشرعيتي أيتها الوحدة/ أيتها الوحدة/ التي تستعير أشكال الحريات./ الوحدة أن تشتري باباً ونافذة/ ومرحاضاً بمائة قفل/ أن تختبئ في أضيق الجحور، ثم تزفر دخان حبك المحترق.»(الديوان ص81)، «مساء الخير أيتها الحزينة/ وحدك في الليل ومتعددة في النهار/تظهرين بشكلك الهندسي/ يغطيك رماد الوحدة/ أرقبك من نافذة المنفى/ كي لا نفقد مجاذيفنا في الظلام/ أعود إلى عصورك الأولى:/ قلبي، شعري وأحلامي،/ لا أجرؤ على عصيانها.»(الديوان ص84)، «دعوا ذلك الطوفان/ يحيك سرير وحدتنا»(الديوان ص47)، «أنا المرأة الرّهينة،/ السلفُ يطالب بي والخَلَف،/ وأنا أنتزع نفسي من فم الفراغين،/أحلم بآخر الكون، علّ المجد البشريّ يشهد النهاية/ ينتظر طويلاً حتى تنتهي الحضارات/ العشّاق والشعوبُ/ أو ربّما، تهاجر،/ وتبقى الأرض لي وحدي./ لأكون حواء الرائعة/ لكنني صحوت/ فوجدت الحراب تطوّقني، لقد كان حلماً أيها القضاة»(الديوان ص63)، إن الوحدة مقترنة بالاغتراب وهما هاجسا الشاعرة في محاكمتها الآخرين «علّني أسبق اللصوص والطغاة/ والقتلة،/ الذين من بصاقهم حبر التاريخ/ المقدّس،/ به تدوّن الأشواق الباردة/ والأفكار الميتة،/ ترّهات الزمن وحضيض الذاكرة./ فأين نفرغ تلك الحمولة أيها السادة؟/ هنا؟/ أمام منصّاتكم؟/ أم في العراء،/ حيث البرق يمنحني ناره/ فأتّسع بها/ والبحيرة مرآتها/ فأصل إلى نفسي»(الديوان ص٦٦)، ليس المقصود تفريغ شحنة الألم فحسب، بل إن التوجّه بالنقض إزاء التاريخ، والسلف والخلَف، والحراب، والخريف، والجيوش، والسادة، والقضاة، والكون الكبير، واللصوص والطغاة والقتلة، والزمن ..الخ فيه محاكمة لكل ما تلبسه سمة الوجود الموضوعي الذي يمنع الطلاقة الداخلية أو الذاتية أو الباطنية، فالوصول إلى النفس أمل بعيد مع وجود كل هؤلاء الذين تحاكمهم سنية في أزمة اغترابها عن الجميع. وهي في موضع لا تكون فيه للطبيعة قدرة على انتشالها: «الورود سوداء في المنفى/ النسر وحش والغابة كمين/ وعبثاً يصل الفم إلى الفم/ في نقطة لا تطالها الجهات رحت أحفر/ علّني أرى جوهرة الحرية/ فنشرب من فم واحد/ أو نقهر معاً./ لكن الغابة بيضاء/ وطعام العصافير ثلج/ شخص ما سيطلق الرصاص/ على ذاكرتي الواقفة في الهواء»(الديوان ص79) «ورجوت روحي المتضجّرة ألا تفارقني/ وأخذت أجري وراء الجغرافيين/ علّهم يعرّفونني تخومي البشرية.»(الديوان ص82). «ورأينا الله في مداخل الكون،/ باهراً وبهيّاً. في البدء أخذتنا الرهبة، لكن بأفواه متشنّجة صرخنا:/ هل حقاً تبلونا لتمتحننا؟»(الديوان ص91). إن صرخة الألم دفعت بأقصى الشعور بالوحدة والحزن في آفاق الاغتراب، حيث يبدأ الرفض من ثقل السقوط تحت ضغط الزمن الخطّي، مروراً بما يترتب على مشكلة الثنائية بين الجسد والذات، وانتهاءً بما تنتهي إليه المعاناة من استمرارية المحنة التي جاءت بسبب من الامتحان الإلهي، تاركة ظلال الفراق والوحشة تخيّم على أنقاض الجسد وحرية الذات في التخلّص.
ب. الفاعلية الشعرية
تتحقق فاعلية الشعر عند سنية، كما مهّدنا، عبر الرؤية الباطنية التي تنخرط ضمن المذهب الأدبي الرمزي، فالشعر، ممارسةً، ليس وسيلة دحض للمرض فحسب، بل إنه يمدّ الذات بأساليب يتحقق عبرها التقاء هذه الذات مع الذات البشرية الكبرى، كما ألمحت الشاعرة في مقدمة ديوانها، والشعر ينساب لديها في تدفّق مشابه لتدفق الخلق، وبغموض يتوافق فيه الشكل مع الجوهر الشفاف الذي يسعى إليه الرمزيون للوصول «إلى وحدة كونية شاملة، تزيل الحواجز العرضية التي تقيمها الحواس المختلفة، فتتوحد هذه الحواس وتتمازج»(29) لتكون نقطة انطلاق نحو الاتصال مع الذات، لا انشغالاً نهائياً، لذا لا نجد وصفاً مباشراً أو تقريرياً حتى في تعبير الشاعرة عن معاناتها مع المرض، بل العكس أصبحت المعاناة مناسبة لتحقيق التداعي «في الأفكار بطريقة معقدة ممثلة بخليط من المجازات التي يراد منها أن تنقل شعوراً ذاتياً خاصا»(30) فثمة إيقاعية شعورية، وبلاغية، وصورية، وطقسية تشيع مزاجاً شخصياً ونفسياً خاصاً في ديوان (ذكر الورد)، «والإيقاع لا يقتصر على الصوت. إنه النظام الذي يتوالى أو يتناوب بموجبه مؤثر ما (صوتي أو شكلي) أو جوٌّ ما (حسي، فكري، سحري، روحي) وهو كذلك صيغة للعلاقات (التناغم، التعارض، التوازي، التداخل) فهو إذن نظام أمواج صوتية ومعنوية وشكلية، ذلك أن للصورة إيقاعها»(31) ، ولا نريد أن نخوض في مفاهيم الإيقاع أو تجلّياته في الديوان، وإنما نكتفي بالإشارة إلى خصوصية سنية في إشاعة إيقاع نفسي واحد قائم على موقف شخصي في لحظة الحاضر، فثمة شعور كلّي وجوّ خاص ينتظم سياق كل قصيدة وهذه الوحدة الشعورية أملتها التجربة، مع تنويعات متحققة بتنويع الجزئيات أو التفصيلات.
وثمة إيقاع موضوعي متأتٍ من تقسيم الديوان إلى خمسة أقسام على أساس موضوع مهيمن في مجموعة قصائد تمثّل وحدة مستقلة لها عنوان واحد، وهيمنة الموضوع الواحد لا يمنع من تداخل بعض التفصيلات خاصة أن الديوان ينصرف كله إلى معاناة الشاعرة مع المرض والموت. والأقسام الخمسة بحسب الموضوعة المهيمنة هي: ١. الطوفان (تنشغل قصائده: (الطوفان)، و(ذاكرة النيران)، و(الذاكرة الأخيرة)، و(أيها الخداع يا جسدي) بموضوعة الجفاف في إحالة سريرية على المرض الكلوي، ومفردة المياه وما يدخل في إطارها هنا تتكرر بمعنى دالّ على المهيمنة الموضوعية)، ٢. مليون امرأة هي أمك (وقصائده: (تخرجين من أسوار الجسد)، و(ثقوب الليل)، و(امرأة من الطباشير)، و(العاشق الوبال)، و(يمضغني كما في المجاعات)، و(مليون امرأة هي أمك) تهيمن فيها موضوعة الأمومة وأبعاد المعاناة الجسدية والنفسية المستحثَّة هنا)، ٣. على زغب المياه (وقصائده: (معبد الشمس)، و(ملايين الأرواح خارج غطائها)، و(على زغب المياه)، و(شيء ما في صدر الريح)، و(البحيرات المدانة) وتخرج الشاعرة هنا إلى نوع من موضوعية البحث في مشكلتها، وتتمثل بنوع من الرموز والتشبيهات فيها تعميم لصراعها وإشاعته على مستوى أكبر من أن يكون لصيقاً بها وحدها)، ٤. المحاكمة (وقصائده: (قمر رطب)، و(المحاكمة)، و(عصيّ الكلام)، و(فارس المخيلة يمتطي حصان الشجر)، و(مضيق الهواء)، و(البحر الورع)، و(أين بهلوان النوم)، و(طقوس البائدين)، و(الغابات الوردية)، و(شجر يمشي في النوم) وتقيم الشاعرة نوعاً من الحساب والمحاكمة تتولّى فيه الموجودات الكبرى بالمساءلة والتحقيق في كلّ ما يتّصل بمصدر المعاناة وأشكالها)، ٥. الأفكار الصامتة (وقصائده: (أفكار صامتة)، و(رامبو الألف وبودلير العشرون)، و(غراب يطلب الغفران) وتضع فيها أسئلتها الوجودية ومحاكماتها مستثمرة ما تشاء من أسماء أسطورية ودينية منها مثلاً قصة الطوفان عهد النبي نوح (عليه السلام»، وقد لا تبدو الاختلافات ظاهرة بين الأقسام إلا على نحو بسيط إلا إنها، مع ذلك، دالّة على تمييز في طرْق الأفكار وتناولها، وهي ممثّلة لطبيعة التناول الرمزي الذي لا يجعل للموضوع هذا الظهور الواضح.
ومن الفاعلية الشعرية هذا التوظيف للرمز وللأسماء الأسطورية والشعرية والتاريخية ضمن ذاكرة حيّة ومتفاعلة مع موضوع المرض وإشكاله، تقول في قصيدتها (رامبو الألف وبودلير العشرون): «كان الشعراء يفكرون في الثلوج/ على قمم كلمنجارو./ في الرياح على ضفاف البحيرات/ يحلمون بالأميرات النائمات مع قيثاراتهن/ تحت أشجار الأضاليا./ أيها الشعراء/ يا سائسي أعمارنا/ النار الأولى تُمنح من جديد/ لآليات العصر ومواقده،/ الكشفُ البدائي/ رامبو الألف وبودلير العشرون/ جميعهم يجرون في دمائنا،/ ونهجم في اتجاهات العالم كلها/ جموعاً تنهش وتفترس/ وتستعيد الجوع الخرافيّ.»(الديوان ص84)، يمثل الشعر فعل خلاص، وانتماء إلى عالم من الشعراء يجعل للشاعرة مرجعاً غير المرجع المعتاد الذي يشترك فيه البشر جميعاً، إنه مرجع، أو تاريخ التفرّد الذي ينتمي إليه الشعراء، فضلاً عن أنه نوع من التطمين النفسي في إشاعة فضاء خاص موحٍ بتفرّد الشاعرة وميزة وجودها غير العابر، والموازي لوجود الشعراء الباقين رغم موتهم في دائرة قول الشاعرة وفي صفّها، إذ هم خزين وجود غير منتهٍ وهذا عزاء على المصاب، إلى جانب إنها تذكر من يدخل في دائرة خيارها الشعري، فذكر هذه الأسماء ليس عابراً أو اعتباطياً، وقد أحلّ الباحثون في الرمزية اشتقاق أسماء الأعلام مكانة مرموقة «لأنه وسيلة لنقل العلامات اللغوية ومنها أسماء الأعلام من الاعتباطية إلى القصدية أي إنها تصبح ذات قيمة رمزية(…) وقد ركز [أي الباحثون] بصفة خاصة على وظيفتها في الخطاب الشعري لأن أسماء الأعلام تحمل تداعيات معقدة تربطها بقصص تاريخية أو أسطورية، وتشير قليلاً أو كثيراً إلى أبطال وأماكن تنتمي إلى ثقافات متباعدة في الزمان وفي المكان»(32)، وقد نجحت سنية بالفعل في استثارة جوّ شعري له ديمومته يربط وجودها بالشعراء ويعزّزه بهم. وقد عبّرت بذلك الشاعرة عن حسٍّ مرهف، وإدراك راقٍ لخلاصات الفكر ورموز الشعر في ما هو مستدعى بانسجام في شعرها.
ثمة ملامح أسلوبية ودلالية لها قيمة في إطار الفاعلية الشعرية يهمنا منها أسلوب الإطلاق في استعمال بعض الصيغ كالعدد، وذلك ظاهر في العناوين (مليون امرأة هي أمكِ)، و(ملايين الأرواح خارج غطائها)، و(رامبو الألف وبودلير العشرون).. الخ ونستشف نوعاً من نفي المحدود وإرسال الدلالة إلى أقصى أبعادها في الاستخدام. ومن الإطلاق ما يأتي في صيغة النداء والتشبيهات المقترنة بالمنادى (أيها الخداع يا جسدي)، ( مساء الخير أيتها الحزينة)، ( أيها العاشق الوبال).. الخ حيث إدامة الوصف المقترن بالمنادى واستمرار النفي إذ الموصوف بإطلاق لا تنتهي عنه الصفة الجديدة وفي ذلك نفي لتحوّله عنها أو تغيّره إلى ما كان قبل الاقتران بها. ومن المناسب أن نشير هنا إلى الطرافة المختارة للعنوان، فكل القصائد مميّزة بعناوينها حتى عنوان الديوان المستلّ كما ذكرنا على وفق دلالة مختبئة في سياق الصور المجسّدة لمعنى المرض في إحدى القصائد، فعلى القارئ أن يتأنى في تأويل المقاصد المبثوثة بدقة وخفاء في الصور الشعرية والمجازات المتداخلة في انتظار الكشف الذي تحققه القراءة، كما أن الصياغة المعتمدة في تشكيل العناوين تمثل شفرات مرسلة أو رموزاً في هيأة إجابات أو أخبار سريعة، تعتمد الجمل المتضمّنة حضور الواقعة واستمرارية حدوثها (تخرجين من أسوار الجسد)، (يمضغني كما في المجاعات)، (فارس المخيلة يمتطي حصان الشجر)، (شجر يمشي في النوم)، (غراب يطلب الغفران).. الخ.
ج. فاعلية الحبّ (الأمومة)
الحبّ مهيمن موضوعي في شعر سنية كله، وإذا كان في المجاميع السابقة مصطبغاً بحركة هروب كما تقول خالدة سعيد(٣٣)، أو بالهجر والبكاء كما تقول روز غريب(34)، فإنه في مجموعتها (ذكر الورد) يمثل عاملاً إيجابياً زاخراً بالحياة ومرتفعاً بالإرادة الإنسانية إلى أقصى قدرات التمكن من مواجهة الموت. إلا إنه يرد بصيغة الحبّ الأمومي متخذاً له آليات فعل جسدية (والجسدي يتداخل مع المثالي أو الباطني عند الرمزيين، إذ عالم الحقائق المطلقة مصنوع ممّا يرحّل إليه من العالم المحسوس)، مثل الولادة ومظاهر الخلق التي تمتدّ بالآخر_ الأبناء إلى آفاق أو مديات بعيدة، وهذه الصلة من الحبّ الأمومي ليست صلة شراكة أو انتماء متعاقب، بل امتداد فاعلية وجود عبر اتصال كلي غير محدود تقابل به سنية أقصى قوة سلب لهذا الوجود، أو هو خزين وجود، تقول مثلاً: «أيتها الغابة التي أشعلها جسدي/ اقتربي/ تجاوزي ما لا يمكن تجاوزه/ اهمسي حفيفك الدّفين في فمي،/ وفي أذني/ وفي مسامّي جميعها/ ارفعي غطاء عصيانك/ وأزهري/ في القبّة المثقّبة لجسدٍ متهاوٍ./(…) أيتها الغابة التي نوّرت في جسدي/ لا تخافي/ لقد خبّأتُ روحي فيك/(…)/ أغرقي رأسك فيّ/ اخترقيني/ حتى تكاد عظامنا تغيب داخل بعضها البعض/ ولنكن متجاورتين/ متشابكتين كثنائية القلب،/ المسيني كما يلمس الإله الطين/ فأنتفض بشرا»(قصيدة (مليون امرأة هي أمك) ص٤٤ ص45).
الأبناء هنا يمدّون الآباء بالحياة وهذا مقابل للمعادلة الأولى حين مدّ الآباء (ولا سيّما الأمهات) أبناءهم بالحياة، وذلك بفعل الولادة، ولهذا السبب نجد هذا التكرار لذكر الولادة لا لفظةً فحسب، بل بالتفصيلات، لذا تكمل القصيدة بـ «ونار قلبي تركض في الجهات كلّها،/ في الكلام والصمت/ من أجل أن تولدي ملايين المرّات/ في العصور الأكثر غرابة/ يا غابتي الشقراء/ شدّي جَزَعك إلى جَزَعي/ أدخلي عظامك في نفق عظامي/ ثم اسحبي ما تبقى من جسدك واعبري/ ستكون أمامك ممرّات طويلة ضيقة/ والحقيقة تكمن في أشدها ضيقاً/ حاذري أن تنسَيْ أنك ذاهبة/ لتصرخي/ وترفضي» (القصيدة نفسها ص45)، تكون الابنة عامل توليد للحياة، بل إن لها وجوداً أسطورياً يقابل أسطورية وجود الأم، وهما تعبران الممرّ بين العدم والوجود إذ تجسّدان الولادة على نحو دائم : «يا ابنتي/ كنت وحيدة فتجزّأت/ وبقيت أتجزّأ/ حتى خلقت شعباً أنتِ أسطورته./ يا سليلة الريفيات/ يكتمن صراخ الولادة/ ثم يقذفن بالأجنّة إلى أحواض النحاس،/ والجوع يقرع طبلَه في الأحشاء/ والفقر يعرّي العظام،/ مع ذلك أضأتك/ بأعظم الرغبات./ تخرجين من أسوار الجسد/ ومعك أجيال يضيئها عبورُك الصاعق،/ إنها الولادة فلا تخافي:/ نبدأ عراكنا العظيم،/ تلتقطين ظلي وتُنهضينه،/ فيهوي، ثم تنهضينه/ فيهوي من جديد/ أنتِ أيضاً/ صار لك ظل/ وصار يهوي./ يا صغيرتي،/ يا غابة الآلهة والنساء الخالقات/ نتألم آلام الفراق الأعظم/ نتشنّج ونصرخ،/ يتمزّق جسدي/ ويُحشرُ جسدك في عتبة العالم الأولى/ ثم نصرخ./ لا تيأسي، واتبعيني،/ ففي قلب الأدغال المجهولة/ أشياء رائعة خُلقتْ لنا،/ في قلب الأدغال/ شجرة للحلم/ فاتبعيني»(قصيدة (تخرجين من أسوار الجسد ص ص3635).
ليست الأم قائدة إلى الحياة، ومبشّرة بمواطن الحلم الذي تومئ إليه بحدس وأمل الكشف فقط، وإنما هي تبني بمثابرة وجود الأم الكلية أو الأم الآلهة مانحة الحياة في الأساطير القديمة، وتجعل من إشاعة طقس الولادة علامة تجذّر في منح الوجود واستبطان القدرة الأنثوية الخالقة، تقول: «أيتها الحارسة الذكية للسلالات/ لقد منحتك روحي،/ حجم العين وشكل الهدب،/ الأطراف الرخامية،/ الزرقة والشّقرة،/ ولما جاء الصباح كنتِ مكتملة»(الديوان ص35). (يدخل في ذلك مخاطبتها لأمها ربما هي التي تسمّيها في مكانٍ آخر _الجدّة الخيالية_ بقولها: «الليل العالي/ يبحث عن نجمة تصيرين إليها/ نترصّدها، علك تهبطين/ أو تبعثين شيئاً من نِعَم الآخرة/ لنا فقراء الحياة./ اثقبي الليل بتُقاكِ/ بفطنتك وغموضك/ علّمينا ما الولادة وما الموت/ وأي جلد نلبس في تحوّلنا الكبير؟/ أي ليل نغيب فيه/ وأي فجر لا نهائي/ للأرواح والحرير والذكريات»(قصيدة ثقوب الليل ص37) مقدّمةً ما يبدو تعويذة أمومية، أو وصايا الأم الأولى).
إلا انها، من ناحية أخرى، ومع الشعور المتأزم بالألم تخرج عن كل هذه القوة والكلية لتطالب ابنتيها بانتشالها مما هي فيه، لأنهما الوجه الآخر للعطاء الأمومي أو هما امتداد لهذا العطاء فتقول: «يا ابنتيّ/ أيتها المتعدّدات/ يا حارسات البحر الصغيرات/ هل ترقبان وجبة البحر المثلى؟/عشاءه الرباني؟/ أيتها الصغيرتان المتعددتان/ فوق الجسور المقشعرة» (الديوان ص58)، «يا وطن الزرقة والشقرة/ يا وطن شام/ وربوع سلافة/ جميع خيول الشوق أطلقتها/ صوبك/ ولا تزال مجنونة في دمي./ أنتما اثنتان/ أنتما واحدة/ أنتما اللا نهاية/ البر والبحر والقبطان والشموس الساطعة/ والرحيل والعودة،/ الأعراس والولادة./ (…)/ خذيني يا صغيرتي/ تأبطيني كلحم ذراعك/ فلن أقوى على الفراق.»(الديوان ص5554)، «ها هو العالم يدور/ يُسحب قسراً من أعمارنا/ ليُمنح بالمجان للّصوص والسفاحين/، اضرميني يا ابنتي جدّديني/ لقد تعفّنتُ في النسيان» (الديوان ص١٣)، «فأنا مشوشة بالخسارة/ أستنجد ببراءتك/ بضعفك الطفولي/ وأصلّي بحرارة ويأس/ كي يصير قلبي الضعيف بحجم قدميك.»(الديوان ص34). وهكذا تكون فاعلية الحب فاعلية إمكان العطاء سواء من الأم أو من ابنتيها في تنويعات سدّ للنقص، من دون أن يكون ذلك كافياً إلى ما لانهاية، ولهذا التنوع بين دوريْ الحب المانح أو الممنوح. وتتم عبر هذه الفاعلية إيواء الحالة السريرية مكانها الأمثل من حيث أنها اقتضت هذه الفاعلية واستلزمت استثمار الشاعرة لها.
الهوامش:
٭ ديوان (ذكر الورد): سنية صالح، رياض الريس للكتب والنشر، لندن، 1988م.
(١) تأويل لغة الجسد داخل اللا وعي الثقافي العربي: علي زيعور، مجلة الفكر العربي المعاصر، بيروت، ع ٤٥٥٥، 1988م، ص٨٦.
(٢) أمراض الأدب القاتلة: ت أبو بكر العيادي، الموسوعة الصغيرة 359، بغداد، ط١، 1990م، ص96.
(٣) المصدر نفسه، ص١٠١.
(٤) الموت في الفكر الغربي: جاك شورون، ت كامل يوسف حسين، عالم المعرفة76، الكويت، 1984م،ص235.
(٥) ينظر الشعر والموت: فؤاد رفقة، دار النهار للنشر، بيروت، 1973م، ص27. وينظر أيضاً استشهاد رفقة بقول ريلكه في الردّ على شاعر شاب يستشيره «إذا وصلت إلى نقطة تفضيل الانتحار أو الموت على عدم الكتابة، وقتها تكون شاعرا»«كأنه يقول له: الكلمة الشعري.. الشعر.. الوجود الشعري يوازي وجود الشاعر.. بل هو الوجود الشاعر» في حوار أجري معه في مجلة الأقلام، ع١ كانون الثاني، 2989م ص71.
(٦) ينظر الشعر والموت، ص٤٤.
(٧) ينظر الموت في الفكر الغربي، ص23،و36.
(٨) ينظر العبقرية في الفن معاناة ام جنون أم مرض؟: جيفري ميرز، ت صبار السعدون، مجلة آفاق عربية، ع٩، أيلول ١٩٩١م، ص89.
(٩) اهتمت الشاعرة نازك الملائكة بالشعر والموت في كتابها (قضايا الشعر المعاصر)، دار العودة، ط٥، 1978م،ص ص314304، ونظر الناقد جلال الخياط إلى موت الشاعر في كتابه المنفى والملكوت، دار ط١/ 1989، ص123، ص 126.
(10) حركية الإبداع دراسات في الأدب العربي الحديث: د. خالدة سعيد، دار العودة، بيروت، ط٢، 1982م، ص98.
(١١) نسمات وأعاصير في الشعر النسائي العربي المعاصر: روز غريب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط١، 1980م، ص ص 357356.
(12) المصدر نفسه، ص ص 345 357.
(13) ينظر الرمزية: د. ياسين الأيوبي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1, 1982م، ص19.
(14) الفن الرمزي: هيجل، ت جورج طرابيشي، دار الطليعة،بيروت، ط١، 1979م، ص14.
(15) الرمزية ص60.
(16) ينظر الأدب ومذاهبه: محمد مندور، دار نهضة مصر،1974، ص120.
(17) نسمات وأعاصير في الشعر النسائي العربي المعاصر ص317.
(18) المصدر نفسه وترى الناقدة تأثير أسلوب محمد الماغوط في نتاج سنية صالح لأن «معاني الشكوى والثورة والضياع واليأس تسيطر على شعرها كما على شعر الماغوط» ص 356، وبرأيي إن هذا ليس بالدليل الكافي على تأثرها به، أم إن السبب كون سنية زوجة للماغوط وبالتالي تتبعه شعرياً كما (تبعته) اجتماعياً، وهذا نوع من النظرة المتدنية إلى نتاج المرأة، لماذا لا نقول أن الشاعرة هي التي أحاطت الماغوط باهتمامها ورعايتها تشهد على ذلك مقدمتها لديوانه الصادر عن دار العودة، بيروت، ط٢، ١٨٩١م، ص137.
(19) أمراض الأدب القاتلة ص٥.
(20) ينظر معرفة الذات: ماري مادلين دافي، ت نسيم نصر، عويدات، بيروت، ط٣، 1983م، ص14.
(21) القول لفؤاد رفقة في حوار مجلة الأقلام ص74.
(٢٢) أمراض الأدب القاتلة ص١١.
(23) ينظر المصدر نفسه، ص12٢١.
(24) رجّح الأطباء الذين استشرناهم،الدكتور غسّان الجبوري، والدكتور ناجي كريم حسن من مستشفى الفرات وغيرهم مشكورين، أن تكون الشاعرة قد تعرّضت لفشل كلوي Renal Failure بسبب من احتمالات عديدة منها العجز في القلب، أو مضاعفات تلف في الرئة، أدّت إلى الأعراض المتلاحقة، مع التدهور بسبب من مضاعفات الأدوية.
(25) تحليل الخطاب الشعري: د. محمد مفتاح، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، ط١، 1985م، ص67.
(26) ينظر المصطلح النقدي في نقد الشعر: إدريس الناقوري، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، ٢٨٩١م، ص177176.
(27) العزلة والمجتمع: نيقولاي برديائيف، ت فؤاد كامل، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط٢، 1986م، ص 129.
(28) فلسفة الجسد: جلال الدين سعيد، دار أمية للنشر، تونس، 1992م، ص75.
(29) الرمزية والرومانتيكية في الشعر اللبناني: أمية حمدان،دار الرشيد للنشر، بغداد، ١٨٩١م، ص٨٢.
(30) فن الشعر: د. إحسان عباس، دار الشروق، عمّان، ط٤، 1987م، ص62.
(31) حركية الإبداع ص ١١١.
(32) تحليل الخطاب الشعري ص ص6564.
(33) ينظر حركية الإبداع ص196.
(34) ينظر نسمات وأعاصير في الشعر النسائي العربي المعاصر ص350.
محطة::. عرض ونقد |