12 سبتمبر 2007
فكرة و اعداد : كمال الرياحي .تونس kamelriahi2@yahoo.fr
http://kamelriahi.maktoobblog.com/
من المشاركين : د.عبد الملك مرتاض.جامعة الجزائر.وهران ،د زبيدة القاضي كلية الآداب جامعة حلب .سوريا د فاروق مواسي. فلسطين ، صدوق نورالدين / محمد اشويكة/ المغرب د.بوشوشة بن جمعة ، د.العادل خضر.تونس، الحبيب السائح . الجزائر
هل للكتابة طقوس ؟
متى يكتب الكاتب ؟ أين؟ و كيف ؟
أسئلة تبدو خارجة عن فعل الكتابة و النصّ الابداعي أو النقدي أو الفلسفي . و لكن هل حقّا هي أسئلة لا معنى لها ؟
أسئلة طرحناها على ثلّة من مبدعينا و نقّادنا العرب لنستمع إلى آرائهم محاولة منّا لفتح ملفّات حافة . و الحقّ ان هذه الملفات التي ننوي فتحها لا تخرج عن مشروعنا الذي بدأناه منذ سنوات و هو الإهتمام بهوامش الكتابة و عتباتها .
قرأت يوما ان الروائي الكبير “جابريال غارسيا ماركيز “كان يلبس لباسا أشبه بلباس الميكانيكي فيقول في حديث أجري معه:” عندما أكتب ألبس عفريتة ميكانيكي لأنها رداء مريح , فالعفريتة هي اللباس العملي لأقصى حدّ الذي تمّ اختراعه للعمل , فما عليك الاّ ان تندسّ داخله في الصباح و تشدّ السحّاب” و هو نفس اللّباس الذي يلبسه ايف نافار”أكتب و انا بالبيجاما , بل انها ليست بيجاما ,إنها …تصوّروا ,عفريتة للأطفال لونها أزرق داكن , لدي بالفعل هذا النوع من الرداء الذي يشبه في آن رداء طفل كبير الحجم ,يمكن ان يوضع له قماط ,و أيضا رداء طيّار كما أنّي انتعل خفّا من الصوف” أما جان شامبيون فيقول :” أرتدي المبذل (الروب دي شامبر ) طوال وقت الكتابة , بل و بعدها ؟ أنا لا أرتديه بل هو الذي يلاحقني .أمسح فيه كل شيء ,أقلامي , و دموعي , و أصابعي , و أصابعي التي اتّسخت من الكربون, و ألمي غير المنتج , و ابتهاجاتي الصغيرة , كل شيء !”
أما أنجيلو رينالدي فيحتفظ بربطة عنقه ,كما يقول احتراما لقواعد اللغة ,حتّى لا يدع مجالا للاسترخاء . و حول الامكنة التي يحلو للكاتب أن يكتب فيها تقول نتالي ساروت :” أذهب كل يوم في باريس الى حانتي المعتادة إنه لشيء رائع , كما لو كان المرء مسافرا فليس هناك مجال لأية تسلية , ففي البيت يلجأ المرء الى كل شيء لكي لا يكتب :فهو يبحث عن خطاب مفقود أو يأخذ كتابا أو يستمع إلى جلبة البيت .أما الحانة فيكون الشخص وحده تماما و يعلم تماما ان واحدا لن يزعجه ,و هو لا يشعر في الوقت نفسه بالوحدة التامة و بذلك يفضّل تواجد الناس حوله و هو يراهم أثناء مرورهم” اما روبير ساباتيه فيقول أنه يكتب في أي مكان و في أي وقت , عند الصباح و في المقهى , في لحظة انفراد , في الميترو , يكفي ان تكون معيي ورقة , و انا احمل معي دائما دفتر شيكاتي و نادرا ما لا يكون غلافه مغطّى بكتابات رفيعة مخربشة كما يحدث لي احيانا أن اضحّي بشيك أو شيكين ” و يضيف ساخرا “و الحق أنه يجب اجراء دراسة حول أهمية دفتر الشيكات في مجال الشعر ”
يبدو أن عدم الالتزام بطقس معيّن للكتابة هو في حد ذاته أحد طقوس الكتابة , و ما كان يفعله روبيرتو ساباتييه يشبه ما كان يفعله محمود المسعدي الذي عثر على كثير من نصوص كتابه الأخير “من ايام عمران …” و الذي قدّمه و حققه الدكتور محمود طرشونة, مكتوبا على بطاقات و دعوات رسمية و على جذاذات الجرائد.
يجرنا هذا الحدث الى سؤال مهم :هل للكاتب العربي طقوس ؟
هل اهتم النقد العربي قديمه و حديثه بتلك الطقوس ؟
هل غيّبت المناهج النقدية المنشغلة بالنصّ الابداعي دون غيره هذه الزوايا ؟
هل العودة الى محيط النصّ اليوم و التنقيب عن العتبات و الحواشي و الهوامش و المسكوت عنه من شأنها أن تعيد للمؤلف الحياة ؟
لماذا لا تكون للكتابة طقوس ؟!! اليس للفعل التعبّدي طقوس ؟ أليس للأكل عند الشعوب طقوس ؟أليس للاحتفالات , الزواج و غيره , طقوس ؟
اليس النشاط الكتابي ممارسة احتفالية و محاكاة تعبّدية و نشاطا غذائيا ؟!!
أيهما اكثر وضوحا طقوس الكتابة ام طقوس القراءة ؟
هل يمكن لنا أن ننكر أن التطوّر التقني و التكنولوجي بدأ يأكل كثيرا من العادات في الكتابة و القراءة ؟
في هذا الملف إجابات عن كثير من هذه الأسئلة , بعضها جاء على ألسنة المبدعين و بعضها جاء على ألسنة النقّاد . بعضها حاور سؤال الكتابة و الطقوس في الادب القديم و بعضها ناقش القضية في الأدب الحديث . بعضها نفى السؤال من أصله و اجتثّه من جذوره و بعضها أكّده و دعّمه بالحجج و الشواهد .
بعض المشاركين في هذا الملف تحدّث عن طقوسه الخاصة و بعضهم استعرض معارفه و بعضهم قدّم طقوس غيره بالنيابة .
فعن أي طقوس و عن أي كتابة تحدّث ضيوف هذا الملف ؟ و كيف كانت اجاباتهم ؟ هنا كل الأجوبة .
د.عبد الملك مرتاض.جامعة الجزائر.وهران
الطقوسية تتنامى مع سيرة الكاتب تبعاً لظروفه ومستواه المعيشي ومستواه الفكري
الكتابة الأدبيّة فنّ من الفنون الجميلة، وهي كسَوائها من الفنون الأُخَرِ تتلبّس بطقوس خاصة بها، أو قل: إنّها تسْتميز، هي أيضاً، بطقوس خالصة لها يتّخذها الكاتب من حيث الزمان والمكان والهيئة والأداة… فالقرّاء كثيراً ما يُصبحون في درجة المستهلكين العاديّين للبضاعة، فالمرء، مثلاً، حين يمتصّ قطعة من الحلوى قد لا يفكّر إطلاقاً في الكيفيّات والتحضيرات والتقديرات التي مرّتْ بها تلك القطعة اللذيذة في تصنيعها حتّى اغتدتْ كذلك… وكذلك القارئُ حين يقرأ نصّاً أدبيّاً، بغضّ الطّرْف عن طبيعة جنسه، فإنّه قد لا يفكّر في المعاناة التي كابدها صاحبُه حتّى أمسى نصّاً على ذلك القدر من الأناقة والجمال…
ويبدو أنّ أوّل من تناول هذه المسألة، من وجه أو من آخر، من النّقّاد العرب القدماء، كان ابن قتيبة (الشعر والشعراء)، ثمّ الجاحظ (البيان والتبيين)، ثمّ ابن رشيق (العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده)، ثمّ ابن خلدون (المقدمة)، ثمّ محمد البشير الإبراهيمي (جريدة البصائر، الجزائر)؛ فإنّ هؤلاء –وقد يكون غيرهم كثيرون- تحدّثوا عن طقوس الكتابة وفي أيّ وقتٍ يجب أن تكون، فجنحوا -خصوصا ابن قتيبة والإبراهيمي- إلى أنّ أفضل أوقات الكتابة هو ساعةُ الفجر حيث يكون الذهن أصفى، وحيث تكون القريحة أنقَى… غير أننا نعتقد أنّ كلّ الأوقات صالحٌ للكتابة الأدبيّة. وكلّ ما في الأمر أنّ الكاتب هو الذي يتّخذ له أوقاتاً يعتادها فتغتدي له دأْباً لازباً، تبعاً لظروفه الخاصّة التي تحمله على اختيار وقت بعينه، دون غيره… فقد كتبنا نحن أكثر من العشرين كتاباً الأولى في ساعات القيلولة، لأننا لم نكن نظفر بوقت لائق بالكتابة خارج ذلك… وقد عثرنا على نصّ في خزانة الأدب يثبت أنّّ جريراً كان يكتب شعره في أوّل الليل. وتصوّروا حال الكاتب إذا كان ضريراً فإنّه لا يستطيع أن يكتب إلاّ بالاستعانة بغلام يكتب عنه: أكان يُرغمه على أن يكون معه في ساعة السّحَر ليأتيَ ذلك؟… غير أننا نعتقد أنّ عامّة كتّاب هذا الزمان، وخصوصاً غير المتفرغين، يكتبون كتاباتهم بليل… وكأنّ الليل أخفى للويل!…
وأمّا ما يخرج عن الزمان من الطّقوس فإنّ كلّ كاتب قد يتّخذ له حالاً خالصةً له من كيفيّة القعود، ولون القلم، ونوعيّة الورق، وجِهَة المنظر، وهلمّ جرّاً… فقد كان بعض الكتّاب الأقدمين، في غياب المقاعد والمكاتب، يُضطرّون حين يَتعبون من القعود، إلى الانبطاح على بطونهم لكي يكتبوا!… كما أنّ الكاتب ربما اتخذ اللّون الأحمر لقلمه كما كان يفعل العقّاد، في حين أعرف كاتباً جامعيّاً لا يصطنع إلاّ قلم الرصاص الخفيف، ولا يكتب مسْودَّاته بغيره. في حين أنّ هيئة المكتب الذي يكتب عليه الكاتب ذو أهمّيّة طقوسيّة بمكان؛ فهل سيستدبر النافذة أو يستقبلها؟ وهل سيكتب وبجانبه قدح من الشاي أو فنجان من القهوة، أو لا شيء من ذلك؟ وهل يستعين بالاستماع إلى الموسيقى حيث أخبرني شاعر جزائريّ أنّه كان لا يأتي شيئاً، بما في ذلك تناوُل طعامه ونومه، إلاّ على إيقاع الموسيقى، وأنّه، نتيجة لذلك، لا يستطيع أن يكتب حرفاً واحداً إذا صمتت الموسيقَى! في حين أخبرني كاتب جزائريّ آخر أنّه لا يستطيع أن يكتب سطراً واحداً إلاّ وكأسٌ مترَعة بالوِسْكي على مكتبه، وإلاّ فلا يطمع في أن يكتب شيئاً أبداً… وقديماً كان الخطيب العربيّ لا يمكن أن يخطب في الناس إلاّ وهو ممسك بعصا في أيّام السلم، وبرُمح في أيّام الحرب…
وللمكان، فيما يبدو، تأثير شديد في إقبال الكتابة على الكاتب أو اعتياصها عليه. وقد أعرف حال كاتب كان حين يتنقّل من بيتٍ إلى بيتٍ آخرَ ربما بقيَ ستّة أشهرٍ بعد وقوع التنقّل لا يستطيع أن يكتب شيئاً. وقد وقع لنا نحن شخصيّاً شيءٌ من تلك السيرة العجيبة.
ولعلّ ظاهرة الكتابة بالحاسوب بدل القلم العاديّ ستغتدي جزءاً من طقوس الكتابة الجديدة بحيث سيُصبح التفكير منصرفاً إلى نوع الخطّ المستعمل، وحجم الحرف، ومن ثمّ حجم الصفحة طولاً وعَرضاً… وهي سيرة ستؤثّر في كثير من طقوس الكتّاب الذين سيتخلّى بعضهم عن طقوس القلم السائل نهائيّاً، بعد الذي كان من أمر القلم والمحبرة قبله… كما أنّ الكاتب لم يعد مفتقراً إلى اصطناع الورق وهدر ماله في شرائه، بحيث بعد أن يكتب نصّه على شاشة الحاسوب يمكن أن يُرسله بكيفيّة مباشرة عن طريق البريد الإلكتروني إلى الهيئة الناشرة. وينشأ عن ذلك اختفاء أحد الطّقوس الذي كان يلاحق المؤلفين وهو خلاصهم النهائيّ من تصحيح النّصّ، وذلك بإرساله إمّا قرصاً مسجّلاً، وإمّا بريداً إلكترونيّاً، فيُطبع كما هو دون تصحيح لأنّه يطبع على أصل وضْعه عند الكاتب… ونحن شخصيّاً لم نعد قادرين على كتابة نصّ في حجم صفحة واحدة خارج مكتبتنا، وبالقلم التقليديّ، بعيداً عن اصطناع مماسّ الحاسوب الذي أمسى جزءاً من طقوس الكتابة لدينا…
وتأسيساً على بعض ذلك فإنّا نُثبت طقوسيّة الكتابة ولا ننفيها، ولكنّنا لا نجنح لتوحيدها كما يزعم نقّادنا الأقدمون الذين كانوا يزعمون أنّ أفضل أوقات الكتابة هي أوقات السّحر، وفي يوم شرب الدواء، فالطقوسية تتنامى مع سيرة الكاتب تبعاً لظروفه ومستواه المعيشي ومستواه الفكري أيضاً فتصبح مكوّنا من مكوّنات كتابته؛ فمِن الكتّاب من لا يستطيع أن يكتب شيئاً إلاّ في صخب المقاهي، ومنهم من لا يستطيع تدبيج صفحة واحدة إلاّ إذا اختلى إلى نفسه، وأغلق الباب من دونه… وأعتقد أنّ هذه هي أسمى صفات الطقوس الإبداعيّة… فكما أنّ أفضل العبادات أن تكون حين يختلي المرء إلى نفسه ويناجي ربّه، بعيداً عن العيون، ونأياً عن الرياء؛ فإنّ الكاتب حين يعتزل النّاس ويخلو إلى نفسه تبدأ الأفكار تنهال عليه إذا كان مهيَّأً لاستقبالها، فينسج من ألفاظ هذه اللّغة التي لم يكن يعرف من أمرها، قبل أن تقع له، شيئاً…
د زبيدة القاضي كلية الآداب جامعة حلب .سوريا
أندريه جيد وطقوس الكتابة
سحر الموسيقى و القراءة
يجدر بنا أن نقول منذ البداية إن أندريه جيد خلق لكي يكتب، وقد وعى قدره ككاتب في وقت مبكر جداً. فقبل أن يبلغ سن العشرين، كان يرى أمام عينيه أعماله الكاملة كأجزاء عديدة من الكتب بصفحات بيضاء عليه أن يملأها. لم يتردد لحظة، أو يفكر في الاتجاه إلى مهنة أخرى ممكنة.
أندريه جيد رجل كتاب، وهو قارئ متحمس كما هو كاتب منتظم، فقد شكل حياته ونظمها كمكتبة، لم تكن الأجزاء المتراكمة فيها سوى حث على الكتابة. إن غزارة قراءاته وتنوعها جعلته طالباً طوال الحياة. وعلى الرغم من المظهر غير المنظم لحياته في أسفارها وتنقلاتها، الذي يتناقض مع التأمل والنضج، فإن أعماله جاءت نتيجة لهذه الحركة المستمرة. فالحركة إيقاعه الطبيعي، وفيها يعيش ويبدع. إن من يكتب في ساعات محددة، وأماكن معينة، وعدداً محدداً من الصفحات كل يوم يشعر بالدهشة، والغيظ، والحسد أمام هذه الحرية التي يتمتع بها جيد تجاه قيود الكتابة. فحرية الآخر تسبب الحنق أحياناً. وها هو الرجل الذي يسمح لنفسه بالعيش، ويجد فوق ذلك الوسيلة لنشر خمسة عشر جزءاً من الأعمال غير الكاملة، في أوج إبداعه، ستتضاعف عندما تصبح كاملة.
لن نخوض في الجانب المادي الذي سهل لجيد فرصة التعبير بالقلم، ولم يضطره إلى اللجوء إلى مهنة أخرى لكسب العيش. سنكتفي فقط بذكر إيمانه بالكتابة كواجب أو رسالة عليه القيام بها. من المناسب أن نتحدث عن ظروف تأدية هذه الرسالة، على المستوى المعنوي كما على المستوى المادي. يتوجب على الكاتب أن يعيش في ظروف تسمح لنتاجه بالوصول إلى النضوج الكامل. ومنها البحث الذي كان هاجس أندريه جيد طوال حياته، عن مكان يعمل فيه ؛ وهو مكان لا يتوخى فيه الراحة أو الرفاهية، بل الانفعال. يلزمه على الأقل شعاع الشمس. نحن نعلم أنه كان يبحث عنها في أفريقية، ويتعجب كيف تمكن فلوبير من كتابة أعماله في منطقة النورماندي تلك، حيث كان هو يشعر بأنه “يفسد”روحاً وجسداً.
كان جيد، وهو يافع، يظن أن عليه البحث عن خلوة، الأكثر عزلة ما أمكن، لكي “ينغلق على نفسه، كما في برج “، حيث لا شيء يذكر بالمحيط المألوف. وهو يفكر في لحظة ما أن يحتمي، في باريس، في غرفة منسية. سيحتفظ بعدها بهذه الحاجة (المرضية ؟) في البحث عن “البعيد” للكتابة. في وقت لاحق، سيكون ذلك رده على مسألة العزلة الأبدية وأثرها على الكاتب : لا حاجة فعلاً إلى عزلة كاملة. فأينما كان جيد، يجد الوسيلة للقراءة والكتابة. وجزء هام من يومياته كتبه مسنداً الدفتر على ركبتيه.
عرف أندريه جيد فترات عصيبة من العجز عن الإبداع، لكن القراءة والموسيقى هما النبع الذي ينهل منه عند الحاجة.
فالقراءة زاده الحقيقي، إذ ظل ينهل من الكتب حتى آخر يوم في حياته، وكان يعود لقراءة أعماله المفضلة، ومنها كتب الأقدمين، إذ كتب في يومياته، بتاريخ 3 كانون الثاني/يناير 1922 :
” إن أجود أيام العمل هي تلك التي أبدأها بقراءة كتاب قديم، من هؤلاء الذين يطلق عليهم صفة “كلاسيكيين”. صفحة واحدة تكفي، أو نصف صفحة، إذا كنت أقرأها في وضعية ذهنية مناسبة. ليس تعليماً ما يجب البحث عنه في هذه القراءة، بقدر ما هو نبرة، وهذا النوع من التغريب يتناسب مع الجهد الحاضر، ولا يلغي شيئاً من عجالة اللحظة. هكذا أيضاً أحب أن أنهي نهاري.”
أما عن الموسيقى، فنحن نعلم أن جيد كان يمضي ساعات طويلة في العزف، في كوفرفيل، وفي باريس، وحتى في أسفاره، إذ كان يستأجر بيانو في بعض الأحيان. وهذا جزء من الطقوس اللازمة للكتابة. ولكن، مهما كان المكان، يبقى عزف البيانو بالنسبة إلى جيد نشاطاً انعزاليا”، لأنه ما إن يعلم أن أحداً يصغي إليه حتى يضعف عزفه. إن هذه الحاجة إلى العزلة تفهم أكثر عندما نعلم أن جيد يرى في هذا النشاط الموسيقي مراناً، وسيلة لبلوغ نظام صارم يحتاجه في الكتابة. فهو يتمرن أحياناً أكثر من ست ساعات يومياً، “حتى يفقد القدرة على الاستمرار”. كتب في ذلك :
” في بعض الأحيان ينتابني الشك، فأتساءل ما إذا كنت أحب إلى هذا الحد، الموسيقى أم دراسة البيانو ذاتها، وإذا كانت تدفعني إليها الحاجة في تطوير شيء ما. ”
يبدو لنا أن الكتابة، كملامسة أصابع البيانو، تكشف حساسية راحة اليد وتتابعها. فجمال الملامسة في العزف على آلة البيانو، بالنسبة إلى جيد، يتناسب مع الجمال الخطي للكتابة. فهو ينمي الاثنين معاً. وبانعكاسه على الشخص الذي يقوم بالعمل، فإن دراسة البيانو والكتابة تغنيان الشخص وتطور ملكاته. ويعد انعكاس هذا المران جزءاً من إغناء الثقافة الشخصية للكاتب. وتمرين أصابع اليد في ملامسة البيانو يساعد في مخيلة جيد على استخدام العضو المفضل في الكتابة. وهذا يدل على الأهمية المميزة التي تتمتع بها الساعات التي يقضيها أندريه جيد على البيانو. إن تطوير موهبة العزف على البيانو يتلاءم مع تطوير الكتابة، فيعود الفضل هنا إلى السيدة جيد، والدة الكاتب، التي وجهت ابنها إلى تصور حياته في توافق بين الموسيقى والكتابة، لن يتوقف طوال حياته. نقرأ برنامجه في أحد الأيام :
” ثلاث ساعات بيانو
ساعة تصحيح مسودات ” لو لم تمت الحبة… ”
ساعة شكسبير
ساعة سانت-بوف
هذه هي وجبتي كل يوم.
عادة تأخذ المراسلات مني حوالي ساعتين..
وأعطي غالباً ست ساعات للرواية.
نصف ساعة أو ساعة تمرين.
ومع الزمن الضائع كله، يبدو نهاري القصير مكتظاً
وعلى الرغم من رغبتي الملحة، لا أتمكن من إعطاء وقت أكثر للعمل. ”
من المهم أن ندرس أيضاً عنصراً يبدو أنه مرتبط بموسيقى البيانو، وهو الطبيعة. فالفرح الذي يشعر به أندريه جيد وهو يعزف شوبان أو دوبوسي متعلق أحياناً بإثارة صورة الطبيعة :
” إنه الفرح الذي يسيطر على المنظر (…) والابتسامة في المشهد على ضفة الجدول، في السمفونية الرعوية لبيتهوفن. قبل دوبوسي وبعض المؤلفين الموسيقيين الروس، لا أعتقد أن الموسيقى اخترقت هذا الكم من الضوء، وخرير المياه، والرياح، وأوراق الشجر. ”
ولذا فإن يوميات جيد تعج بذكر أهمية تأمل الطبيعة والنزهات، ودورها في تهيئة المزاج والفكر لعملية الكتابة. وتجربة الطبيعة انعزالية، كالبيانو، تحمل أكبر متعة لشخص الوحيد. كتب في 8 كانون الثاني/يناير عام 1922 :
” أعمل هذا الصباح أمام النافذة الثلاثية لحجرة الجلوس، وأنا أراقب عملية البستنة التي تقوم بها العصافير في حديقتي الصغيرة. ”
وقد يحصل أن يستيقظ أندريه جيد ليلاً، بعد أن نضجت الفكرة، ليكتب :
” سهاد مستمر. لم أشعر أبداً بهذا النشاط الذهني. هذه الليلة، لو كانت السكرتيرة بقربي لكتبت ربع كتاب. أحس بأن فكرتي تتشكل بسهولة ووضوح أكبر مما كانت عليه في السابق. ”
يمر الكاتب بفترات عصيبة يعجز فيها عن الإبداع، وهنا يختلط القلق بالثقة أن كل كتاب سيكتب في وقته عندما ينضج. إن إحدى شروط الإبداع أن يعرف الكاتب متى يكتب، ليس مبكراً جداً، ولا متأخراً جداً. كتب يقول :
” أعتقد أن الخطأ الأكبر للأدباء والفنانين اليوم هو عدم الصبر. فلو كانوا يعرفون الانتظار لكان أتيح للموضوع أن يتشكل بهدوء في أذهانهم. ”
على الرغم من تنوع كتابات أندريه جيد وغناها، نجد فيها انسجاما ًونضجاً. لاشيء كتب قبل أوانه، لاشيء في استعجال، ما عدا النهايات، التي يسرعها بإرادته. واليوميات تؤكد ذك، وهي بالتعريف مرتبطة بالزمن، وتساعد على الهروب منه وتحديه. فقد سمح له الزمن بأن يأخذ الوقت اللازم للكتابة. أليس جان جيرودو من قال : ” لا يحترم الوقت ما صنع من دونه ” ؟ لكنه بودلير، على أية حال من أقر ” بالفضائل العملية لأوقات الفراغ من أجل الخلود. ”
الهوامش كلها من كتاب أندريه جيد، اليوميات، ، الجزء الأول، 1889- 1939. لا بلياد، دار جاليمار للنشر، باريس، 1952. (والمرجع باللغة الفرنسية، قمنا بترجمة المقبوسات منه إلى اللغة العربية لهذا البحث)
د فاروق مواسي. فلسطين
طقوسهم و طقوسي
تأتيني جنية الشعر لا شيطانه
يبدو لي أن “الطقوس” كما يسميها الكثيرون أو العادات المنتهجة أو ” السلوك الكتابي” – كما أرى – فيها ما يشي بالمضمون، وإذا كان الأسلوب هو الكاتب كما يرى ( بوفون ) فلا بدع إن لاحظنا أن الشكل حتى الخارجي عن النص أو السابق له ، له علاقة ما بالفحوى أو بصاحبه.
وقد ألف س.ر مارتين كتابه “في تجربة الكتابة” ( ترجمة: تحرير السماوي ) ، فعرّفنا على بعض السلوك الكتابي لدى المبدعين ، فسيمنون مثلاً يصحو من السادسة صباحًا ويحضر لنفسه القهوة، ويأخذ فنجانه يوميًا” إلى غرفة عمله… الستائر تظل مسدلة ، فهو يحب العمل تحت المصابيح الكهربائية . سيمنون كان يعمل لمدة ثلاث ساعات يوميًا – أي أنه في التاسعة صباحًا يكون قد أكمل ما يقارب العشرين صفحة دونما استراحة ، وتستمر طباعته كطلقات الرشاش، ويطبع نسختين من كل صفحة خوفًا من أن تضيع إحدى أوراقه… في فترات الاستراحة لا يقوم بأي عمل (ص92). أما أجاتا كريستي ففي الحمام تأتيها أفضل الأفكار كما قالت، كانت تجلس في البانيو ساعات طوالاً حتى تجد القصة الملائمة ، وتضيف:” لا أستطيع وضع التصاميم إلا في الرياح الممطرة، أما إذا أشرقت الشمس فيكون أحب شيء إلى نفسي هو الجلوس في الحديقة. وفي الأيام العشرة قبل الأخيرة قبل البدء في الكتابة أحتاج لتركيز محكم. عليّ أن أظل وحدي دون ضيوف ودون تلفون ورسائل (ص 108).
ولم يكن همنغواي يستعمل المكتبة لعمله ، بل كان يعمل في “البرج الأبيض” المطل على العاصمة هافانا (ص12) – الأمر الذي يذكّرنا بميخائيل نعيمة و”الشخروب” في أعلى بسكنتا.
والانضباط الصارم وجدناه لدى ألبرتو مورافيا ، فيقول : ” منذ فترة طويلة جداً وأنا أكتب كل صباح بالطريقة نفسها التي أنام فيها وآكل يوميًا. لقد أصبحت الكتابة جزءًا عضويًا في إيقاعي البيولوجي…
ولا بد من الإشارة كذلك إلى مقال كتبه صالح علماني في صحيفة تشرين السورية 2003/05/28 ، حيث استعرض كتاب ” عندما تأتي ربات الإلهام” للمؤلفَين الإسبانيين راؤول كريماديس وأنخل إستبيان. أما الأول فقد كان أستاذاً للأدب الإسباني والأمريكي اللاتيني في جامعات مختلفة ، وحرر مقالات أدبية ونقدية في صحف كثيرة . وأما الآخر فهو أستاذ الأدب الأمريكي في جامعة غرناطة. وهذا الكتاب يدرس عادات ستة عشرأديبًا في ستة عشر فصلا”، نحو: ألبرتي، نيرودا، بورخيس وأوكتافيو بات وإدواردز…الخ.
فبورخيس – مثلاً – كان يغطس في الصباح الباكر في حوض الاستحمام ليستغرق في التأمل ، وليناقش الحلم الذي حلمه الليلة الفائتة، وليدرس إن كانت فكرة الحلم تنفعه في صياغة أدبية ما، فإذا اهتدى إلى البداية والنهاية لم تكن لديه صعوبة في استمرار معالجته النص.
يقول علاء طاهر في كتابه الخوف من الكتابة ( ص 60 ) أن في نصوصه نجد المرايا ، التيه ، النمور ، الأنهار المدارية ، مدن غريبة …..
ومن الجدير أن نذكر أن ماركيز كان يؤمن بأن الأزهار الصفراء على منضدته تجلب له الحظ، وقد ذكر أنه يستهلك مئات الأوراق حتى يستخلص قصة في اثنتي عشرة صفحة.
أما الحديث عن يوسا وانضباطه ودقته فيذكرنا بنجيب محفوظ الذي كان يمر في وقت محدد في أثناء تجواله في القاهرة ، فتُضبط الساعة حسب مروره بذات المكان . ولكن المفاجئ في سلوك يوسا الأدبي أنه كان يكتب وأمامه دمى لأفراس النهر.
ولم يعش بروست مع نساء ، بل عاش مع سائقه الخاص الذي كان يصحبه بسيارته إلى تلك الحفلات الليلية التي لا تنتهي ، فبروست كان ينام طيلة النهار ، ثم يخرج ليلاً متوجهًا إلى صالون أرستقراطي تجري فيه حفلات الكوكتيل ، لذا كانت رواية البحث عن زمن ضائع تتصف بمناخ هذه الحياة الغريبة . ( انظر كتاب : علاء طاهر : الخوف من الكتابة ).
وإذا عدنا إلى أدبنا ، و طالعنا في العمدة لابن رشيق فسنجد أنه أفرد للشعراء العرب الضروب التي بها يُستدعى الشعر ، فكثيّر عزة كان يطوف في الرياض المعشبة ، بينما كان الفرزدق يركب ناقته ، ويطوف منفردًا في شعاب الجبال وبطون الأودية والأماكن الخربة. وأما جرير فكان يشعل سراجه ويعتزل ، وربما علا السطح وغطى رأسه رغبة في الخلوة ، بينما ذو الرمة كان يخلو لتذكر الأحباب ( انظر نماذج أخرى في العمدة ج 1 ، ص 180 )
وكنت قد قرأت أن شاعرنا شوقي كان يكتب في المقاهي وعلى أوراق علبة التبغ ، وكان يترنم في شعره قبل أن يكتبه ، وذلك في تجواله على شاطئ النيل، وأن نزار قباني كان لا يستخدم إلا الورق الملون في كتابته ، وكان هناك من الشعراء ( عزيز أباظة وسواه ) يرتدي أبهى ملابسه وأفخمها…. وكأنه سيلاقي عروسه . وقد تعرفت إلى أديب – لا يحب أن أذكر اسمه – بأنه من الذين يُعدّون للكتابة عدتها، فيرتب هذا الطاولة والأقلام والورق، ويحضر القهوة، ويستمع إلى الموسيقى الكلاسية .
ونحن بالطبع لا نستطيع أن نصل بين خط السلوك وفحوى النص تمامًا، ولكن ذلك يحتاج إلى دراسة متأنية ومسؤولة، والافتراض هو أن ثمة علاقة ما – كما أشرت – .
وسأحاول أن أبيًن ذلك من خلال سلوكي الشخصي (وعذرًا لأنني أذكر نفسي بين عظماء أنا تلميذ لهم، فقد طُلب مني – أصلاً- أن أكتب هنا عن سلوكي أو طقوسي الشخصية :
إن النظام والانضباط والدقة أهم ما أهتم به، والصدق مع النفس هو العمود الفقري لكتابتي، فإذا ورد وارد القصيدة وكنت سائقًا كتبت بعض أبياتها وأنا أقود سيارتي، وإن كنت على فراشي ليلاً فإنني أدوّن الوارد والنور مُطفأ ( خشية من تعكير الصفو على العائلة)، وإن أطلّت الفكرة أو الومضة أو الإشراقة لجأت إلى الهدوء لأتابع ما أحسه ويختلج في مشاعري وفكري.
لماذا أقول ” الصدق ” وهو وصف أكثر منه سلوكًا ؟
السبب – أنني أحاول أن أتهرب من هذا الخاطر أو الكتابة بسبب كثرة انهماكاتي ، وحبي للقراءة الذي لا يكاد يفسح لي مجالاً ، وبسبب يأس مستور من عدم جدوى الكتابة ، وبسبب االتساؤل الملح : ومن يقرأ هذا الكلام ؟ ولكني لا أجد مناصًا ، فالكتابة ليست ترفًا لدي ، والصدق يستلزم أن أكون إياي .
أقرأ بصوت عال كل ما أكتبه، وفي قراءتي يتبين لي إيقاع الشعر بتلقائية، وألاحظ كيف يرتفع صوتي وينخفض مع وتيرة دمي. بعض قصائدي كانت تأتي إثباتاً لمقولة ووردزوورث إن الشعر ” فيضان تلقائي ” – spontaneous overflow
فتولد القصيدة كاملة دون أن أغير فيها حرفًا – على سبيل المثال: ” ند في أضرحة عراقية ” التي كتبتها والدمعة ترف على مآقيّ. أما القصائد التي أقرأها على نفسي بإلقائي المتفاعل فقد أجد فيها كلمة بحاجة إلى تغيير، أو أن هناك معنى جديرًا بي علي أن أتوسع فيه أو أختزله ، فأفعل ذلك أسوة بـ ” عبيد الشعر” الذين اشتهروا في الجاهلية بسلوكهم الكتابي الذي كان يمتحن الجملة الشعرية مرة بعد مرة ، قراءة بعد أخرى ، وأمام هذا وذاك (زهير في حولياته، عبيد بن الأبرص، الحطيئة وعدي بن زيد…)
ولعل في هذا إيجابًا – أيضًا إذ أن الشاعر لا يعتبر كلماته كمالاً مطلقًا، وقد توصل إلى ذاك لاحقاً العماد الأصفهاني الذي رأى في التغيير دلالة على “استيلاء النقص على جملة البشر”.
أما كيف تولد قصيدتي، فالأمر يتعلق بما شُحنت به ، أو عبّئت فيه أشجاني وأحلامي وعاطفتي. تأتيني جنية الشعر ( ولا أقول شيطانه ، ولعل هذه القناعة خاصة بي لم أسمع أن أحدًا سبقني فيها من العرب ، ولا شك أن هناك تأثرًا من الغرب فهي مستقاة من الموزا ) فأتبعها بلباسها المغري الشفاف. هل الصورة أوشكت أن تكون جنسية ؟ إذن فاسمعوا ما أقول:
انحنت لي قليلا
فبدا تكوّر نهديها
فرمقت الزغب الأبيض.
في شهوه
ومضينا في الـــ كلام
وفي الـــ قصيده
عندما أختم قصيدتي أحب أن أقرأها أولاً على رفيقتي (تسمي نفسها” الأذن الأولى ” ) هي تسمع ، وأنا أقرأ وأراقب تعابير وجهها ،ثم أستمع إلى تعليقها ، ولكني مع ذلك – ولتعذرني – لا أتقيد به.
أما كتابتي النقدية والبحثية فهي من قبيل القصدية، فأنا معنيّ مثلاً بفكرة أو بنص أو بأديب أحب أن أعرّف به ، أو مبدأ شعري أو فكري…
أقرأ أولاً ماذا كُتب في موضوعتي ، وأعطي كل ذي حق حقه، فلا أسرق من هذا وأنتحل، أو أنكر على ذاك فضله، فقد جعلت رائدي الصدق-كما قلت – ، وفي ذلك أتصالح مع ضرورة الكتابة في عصر يتنكر للكاتب والكتابة .
أبحث عن متلق يستمع إلي وأشترط فيه (في قرارة نفسي دون الإفصاح عن ذلك ) أن يقدّر جهدي، فلا يتوقف لدى الملاحظة التي لا تروق له ، وينسى أن الأذن تسمن و ” يهوى الثناء مبرز ومقصر ” .
شرط كتابتي أن يكون هدوء حولي لأركّز فكرتي ، وأغوص في أعماقها شعراً ونثراً.
فهل هذا الصدق وهذا الهدوء وهذه الدقة تنعكس في كتابتي؟
أدع الجواب للمتلقي.
صدوق نورالدين / المغرب
بحثا عن خيط أبيـــض
طقوس القراءة عندي أقوى من الكتابة
يمكن القول بداية ، بأني لا أملك طقوسا على مستوى الكتابة و التأليف..ذلك أني أكتب حيثما أتيحت لي الظروف ، و لئن كان الأغلب ، تحقق فعل الكتابة داخل فضاء المقاهي ، على الرغم مما يسمها من لغط و ضجيج على السواء..
إنني من الكائنات النهارية ، و لا علاقة تربطني بالليل..أعرف مطلق المعرفة إيقاع الصمت الذي يسم موسيقى الليل ، و لكني اخترت ..اخترت الانغمار في الخيط الأبيض منذ الانبثاقة الأولى ..ذلك أنني أعتبر اليقظة المبكرة البديل الحق لما ضاع ليلا..
ابدأ الكتابة في الساعات الأولى من النهار ، قد أستغرق ثلاث ساعات إلى أربع ، لأجد نفسي مطاردا بالوقت و ليس الزمن..وقت خروج ابني من الصف الدراسي ، و وقت التحاقي بالعمل حيث أشتغل مدرسا..
إنني أفضل التسويد و ليس الكتابة المباشرة ..ذلك أني أكتب و أعيد قراءة ما كتبته منذ البداية ، حيث التشذيب و الحذف يأخذ بدوره وقتا ..و أما إذا كان المساء فارغا ، فإني أعمل على رقن ما كتبته على جهاز كومبيوتر صغير غير متطور ، له طاقات محدودة ، مادمت أفضل التدوين و الحفظ..
منذ : 1984 ، سنة إصدار كتابي النقدي الأول ” حدود النص الأدبي ” ، عملت على الاشتغال داخل فضاء المقاهي كما أسلفت ..أصل المقهى مبكرا ، و أجلس في ذات المكان ، علما بأن العاملين بالمقهى يعرفونني ، مثلما باتوا يعرفون ما أشربه ، حيث تطالعهم صورتي أحيانا على شاشة التلفاز..
و في حالات أعمل على تغيير الفضاء نحو مقهى آخر ، لأني أرى في ذلك متنفسا ، و تم أستكمل ما كنت بدأته..
أعمل باستمرار على النقد ..و في حالات يأخذ مني الإبداع حظه ..أعمالي النقدية مستوحاة من قراءاتي في القصة و الرواية و النقد نفسه و الفكر..من تم فإني أحاول الاشتغال على ما لم يتم الاهتمام به ، إذ و مهما تأجلت عملية نشره ، فإنه لا يفقد قيمته..
إنني أفضل النشر في المنابر القوية ، في الواجهة ..و أما الظلال فمتروكة لغيري ممن ينتمون ل :
” نقابات ” الكتبة و ليس الكتاب..
قد تسألني و متى تقرأ ؟
إن طقوس القراءة عندي أقوى من الكتابة ..و أعترف في هذا المقام بأن جميع الأعمال التي كتبت عنها قرأته مرة واحدة ..ذلك أن القراءة لدي بطيئة جدا..ثم إنني أنتقي ما أقرأه بحكم عامل الزمن..
بل إني ندمت على سنوات قضيتها أقرأ تفاهات من الإبداع المغربي المسمى بالحديث ، كان يمكن استغلالها في التعرف على الآداب العالمية ..
أقرا ليلا ، و في حالات الفراغ من الكتابة نهارا..قد يستغرق الكتاب بين يدي شهرا إذا كان ممتعا و أربعة أيام أحيانا ..
أفضل القهوة السوداء أثناء الكتابة ، حيث لا أتجاوز فنجانا واحدا إلى اثنين..تماما مثلما أفضل المشي طويلا لأنه يهبني راحة على مقعد الكتابة منعزلا و غريبا..
أجدني بعد كل تأليف شبه عاطل ، و أبحث عن بذرة ، عن نواة أخرى للكتابة و التأليف ، لتبدأ مجددا ذات الطقوس ، إلى نهاية الجسد..
د.بوشوشة بن جمعة
أحلام مستغانمي و طقوس الكتابة
“أنا في حالة شهوة دائمة”
تمتلك الكتابة الابداعية طقوسها الخاصة التي تجعل منها فعلا خلاّقا يتوفّر على العلامات الدّالة على اختلافه عن السائد من أشكال ممارسة الوجود .
و يندرج الحديث عن /و في طقوس الكتابة الروائية لدى أحلام مستغانمي ,ضمن حضور تيمة الكتابة شاغلا فكريا ,و تشكيلا جماليا في ثلاثيتها :ذاكرة الجسد .و فوضى الحواس ,و عابر سرير. و هو حضور يكشف عمّا تمتلكه هذه الكتابة من وعي نظري بشروط الجنس الروائي ,و عن تداخل الخطابين النقدي و الروائي في ممارستها لهذا النوع من الابداع الأدبي /السردي .
فهي تدرك الكتابة طقسا حميما إلى المدى , و ذاتيا إلى الأقاصي , يبقى ” وليد أحاسيس و دوافع لا شعورية “(عابر سريرص73) ,و من ثمّة لا يمكن أن يمارس – في نظرها- الاّ في فضاءات خاصّة ,مما يعلّل اندهاشها ممّن يمارسونه في أماكن عامّة , تلوّنها مناخات المألوف, تقول:”لم اكن أفهم يوما كيف يكون بامكان البعض أن يكتب هكذا في مقهى أو في قطار دون أي اعتبار لحميمية الكتابة . أن تجلس لتكتب في مكان علني , مأن تمارس الحب على وقع أزيز سرير معدني .و بإمكان الجميع أن يتابعوا عن بعد كلّ أوضاعك النفسية ,و تقلباتك المزاجية أمام ورقة “(فوضى الحواس ص 65) . و تعلّل تصوّرها هذا بما تضفيه على الكتابة من بعد وجودي يجعلها تكون فعلا مشتقّا من المكان ,و خطاب نبوءة يحمل المؤشّرات الدالة على الصيرورة ,تقول في حوار أجري معها :” الكتابة جزء من كياني ” ,و هو ما يقرن فعل الكتابة الروائية لديها بالسمة النرجسية ,حيث يتّخذ من الذات :المنطلق ,و المدار ,و المدى , و هو ما تعترف به في شكل مكاشفة , في قولها في شهادة نشرت لها بأخبار الأدب “إننا نكتب بالدرجة الأولى لأنفسنا فالكتابة مشروع شخصي , و رحلة لا يقوم بها المسافر الاّ وحده , لسبب وحده معني به”
إن الكتابة – من منظور أحلام مستغانمي حالة ابداعية خاصة ,و مختلفة , ترد في نصوصها الروائية مقترنة بعدد من عناصر الكيان في علاقته بالذات و الآخر و الوجود , كالذاكرة , و الحب ,و الوطن , و الحياة ,والقدر , و جميعها يتعالق مع فعل الكتابة ليشكّل طقوسه ,و يرسم مناخاته ,و يبلور المفيد من سماته الفكرية و الجمالية ,و فعلا يتيح للذات أن تتعرّى و للكيان أن يتطهّر , و للعقل أن يصير جنونا , تقول في حوار معها لمجلة الاختلاف :” أنا امرأة مجنونة ,و أزداد جنونا في حضرة الورق ”
ثم إنّها تعدّ الكتابة أداتها للوعي بذاتها و الوعي بالآخر :الرجل /المجتمع / العالم و سبيلها إلى اكتشاف هويتها و تبرير وجودها , و من ثمّة فهي رحلة بحث دائم عن هويتها أنثى في علاقتها بذاتها / و الآخر على حدّ سواء , تقول :” مازلت أبحث خلال كتاباتي عن قيمة حياتي ,و معنى ما عشته..” ثم تشبه طقس الكتابة بطقوس العشق و قد أدرك مدى الشهوة ,و منتهى المتعة في قولها :أنا في حالة شهوة دائمة ,أشتهي نصّا ,أشتهي شخصا ,أشتهي حالة ,أشتهي مدينة لا أعرفها ,كل هذه الأشياء تجعلني أكتب” .كما يتماهى طقس الكتابة مع طقوس الجنس في حال ارغام الجسد على الاستجابة /الاغنتصاب , و ذلك عند تعامل الكاتبة مع بياض الورقة بكثير من العنف دليلا على العنفوان , تقول :” فلا يمكن الاّ أن نكون عنيفين مع الورقة لأن الكتابة حالة اغتصاب دائم بالنسبة لي ,لا بد من كثير من السطوة , لا بد من السيطرة على الورقة , لا يمكنني ان أكتب اذا لم لم أكن في حالة عنف و شراسة , شراسة أمارسها لأنّي لا أملك سلاحا غيرها , من حسن حظّي أنني لا أملك شيئا آخر أكثر تدميرا من الكتابة ,,أنا لا أكتب لأهادن الورق “.
فالكتابة , في ضوء هذه الرؤية, طقس يورّط صاحبه , و هو لينشئ نصّه يذهب به” من سؤال إلى آخر و فجأة تجد نفسك , وقد وضعت اصبعك على الجرح و أنت لا تدري أنك قد وضعت يدك على هذا الألم الكبير و هذه هي الرواية ” .
كل هذا يجعل من طقوس الكتابة الروائية لدى احلام مستغانمي ,طقوسيتها تسمها الصيرورة , باعتبار انها لا تتمّ على أرض ثابتة بل هي تجسيد “لحالة ارتحال دائم بين الاسئلة و انتهاك دائم لمنطق الاجوبة , و احتمال مقتوح على التعدّي النصّي الذي يفضي بالكتابة إلى اسئلة شاسعة و مخيفة في أجوبتها , ليس أقلّها ,لماذا تكتب ؟ و لمن تكتب ؟ و هو ما يعلّل رؤية الكتابة لقيمة ممارسة طقوس الكتابة الروائية في ذاتها , لا في مقاصد أخرى خارجها ,تقول “إن المهم في كل ما نكتب هو ما نكتبه لا غير . فوجودها الكتابة هي الادب , و هي التي ستبقى , و اما الذين كتبنا عنهم فهم حادثة سير , أناس توقفنا أمامهم ذات يوم لسبب أو لآخر ثن واصلنا الطريق معهم أو دونهم” ذاكرة الجسد ص125
الكتابة والطّقوس
د.العادل خضر.تونس
كأنّ إلها غضّا يرقص في قلبي
محمّد بالعربي الجلاصي
لا تحتاج الكتابة إلى طقس خاصّ ولا إلى إعداد ولا إلى استعداد من أيّ نوع كان. فالكتابة هي فعل تنقلب فيه الأفكار والأحاسيس من حال إلى حال. تكون في الحال الأولى في الذّهن، وفي الحال الثّانية على الورق. فالكتابة هي العمل الّّذي يجعل الفكر حبرا على ورق، أو متجلّيا على شاشة الحاسوب. فهي هذا الصّنيع الّذي يقلب أحوالنا الذّهنيّة إلى رموز خطّيّة حتّى تصبح قابلة للتّداول في سوق المبادلات الثّقافي. فليست الكتابة بهذا التّصوّر تمثيلا للفكر وإنّما إبداع له.
هذا التّصوّر الّذي يجرّد الكتابة من هالتها المقدّسة وكلّ طقوس، ويجعلها مجرّد عمل ككلّ الأعمال البشريّة لم ينشأ من عدم، لأنّه نتاج تحوّلات عميقة جدّت في أبنية الثّقافة التّقنيّة، منذ أن عرف الإنسان الكتابة، ثمّ الطّباعة والثّورة الرّقميّة في مجال الاتّصاليّات. وقد جعلت هذه التّحوّلات العالم يفقد شيئا فشيئا سحره القديم، وتنتزع منه قداسته فلم يبق من جرّاء ذلك الفقدان مكان للألوهة. ولا يعني ذلك بالضّرورة الكفر والإلحاد، وإنّما وضعيّة مختلفة عمّا عهدناه من قبل، أضحى فيها الفرد، هذا الأنا المفكّر، معوّضا للإله وبديلا له بوصفه أساسا لكلّ شيء.
وإذا كانت الطّقوس في الأصل مرتبطة بالمقدّس وجسد الآلهة، أي صنمها الملطّخ بدماء الأضاحي العابق بعطر البخور، فإنّ تلك الطّقوس كانت الدّليل الوحيد على ألوهيّة الآلهة، أي على حضورها في العالم. ولعلّ أكثر النّاس ارتباطا بتلك الطّقوس ملاّك الحقيقة، ممّن منحوا هبة الاستبصار، والاطّلاع على الغيب، ومعرفة ما كان وما يكون وما سيكون. من هؤلاء نجد الشّاعر والكاهن والحكم في العوالم القديمة كالعالم الإغريقيّ القديم والعالم العربيّ (في الجاهليّة الأولى والأخيرة). ولا فائدة في استعراض الأدوار الّتي اضطلع بها هؤلاء في ترسيخ الدّيانة المحلّيّة على شاكلة طقوس وممارسات تعبّديّة، كالأضاحي والنّذور وطقوس الحجّ والاستمطار وغيرها.
كانت هذه الطّقوس تجري بما سمّيناه في بعض بحوثنا بالعبارة النّبوئيّة، وهي عبارة يجريها الكاهن بالسّجع والشّاعر بالشّعر، وميزتها أنّها مؤثّرة في الوجود طبيعة وإنسانا. فهي تستنزل الأمطار وتشلّ حركة العدوّ في الحروب. وهي أيضا عبارة غير متيسّرة إلاّ للأصفياء ممّن كانوا قادرين على الاتّصال بعالم الغيب وكائناته اللاّمرئيّة كالجنّ والشّياطين. وهي أيضا عبارة لا تكتسب إلاّ بتقنيات سرّيّة كالطّرق المريديّة أو الانخطافيّة. وهي عبارة باهظة ثمنها أحيانا بصر العين أو العقم، ولكنّها عنيفة ترعد قائلها. فقد كانت كنية الكاهن العربيّ عمرو بن جعيد الأفكل، وهي كنية ذات أصول سومريّة منتشرة في العالم السّامي تدلّ على الرّعدة والنّفضة. كلّ هذه المعطيات تدلّ على أنّ العبارة النّبوئيّة في العالم القديم بصفة عامّة هي قول مقدّس يستمدّ قداسته من طقوسيّته القويّة بوصفها الأساس المكين الّذي ينهض عليه الحضور الإلهيّ، أو ألوهيّة الآلهة في العالم.
من كبير المفارقات أن نتحدّث عن الكتابة والطّقوس، لأنّ الكتابة في اعتقادي هي عنصر دنيويّ قد نقل المقدّس خارج المعبد والحرم، وخارج دائرة الدّين. صحيح أنّ الكتابة منذ ظهورها الهيرغليفيّ قد كانت وثيقة الصّلة بالمعابد والآلهة، إلاّ أنّه ينبغي أن لا ننسى أنّ ظهورها قد ارتبط في الآن نفسه بظهور الإله الواحد وأشكال الدّيانات التّوحيديّة الأولى. ومع الكتابة الصّوتيّة، أصبح الإلهيّ لا مرئيّا، وذا وجود شبحيّ، يَرى ولا يُرى. وبفضل هذا الحضور اللاّمرئيّ صارت الكتابة والكتاب الدّليل الباقي على أثر ذلك الحضور. فالكتابة هي بنت الغياب الإلهيّ. وهو ما يعني في الوقت ذاته أنّ الحضور الإلهيّ في الصّنم، خاصّة في الدّيانات المحلّيّة لا الكونيّة، هو نفي لإمكان الكتابة والكتاب. ويمكن بالاستتباع أن نقول إنّ كلّ طقوسيّة ينهض عليها الحضور الإلهيّ هي بالضّرورة نفي للكتابة والكتاب. فالكتابة والطّقوس وجهان يتنازعان حضور الإلهيّ وغيابه. فالكتابة والله اللاّمرئيّ العظيم سيّان، والطّقوس وحضور جسد الألوهة شيء واحد.
إذا سلّمنا بهذه المعطيات أضحى الحديث عن طقوس الكتابة أمرا من قبيل المتناقضات إلاّ إذا تراخينا واعتبرنا أنّ استعداد المؤلّف وتهيّؤه النّفسيّ للكتابة داخلا في باب الطّقوس. وبهذا التّأويل نفرغ المفهوم من محتواه، ونعمل على إضفاء القداسة على عمل (أي الكتابة) هو في الأصل عمل لا قداسة فيه. علينا أن نتذكّر أنّ إله الكتابة تحوت، أو تووت كما نقل اسمه في محاورة الفيدروس الأفلاطونيّة، هو أيضا إله الموت، وأنّ الكتابة، قبل كلّ شيء، ذاكرة اصطناعيّة وليست ذاكرة عارفة حيّة. كما لا ننس أنّ الكتابة في الفيدروس هي فارماكون: دواء وسمّ، يُحلّ الكتابة اللاّهثة محلّ الكلام الحيّ، ويزعم الاستغناء عن الأب (الحيّ وواهب الحياة).
إن جاز لنا أن نتحدّث عن طقوس الكتابة أو طقوس للكتابة فهي في نظري طقوس للقتل واليتم. فإذا كان المتكلّم هو أبا كلامه أضحى الكلام بمقتضى هذا التّصوّر الأنسابيّ ابنا “وإنّه ليفنى من دون حضور أبيه ومن دون عونه الحاضر، حضور أبيه الّذي يجيب. يجيب عنه ومن أجله. من دون أبيه، لا يعود بالذّات سوى كتابة ” (دريدا، جاك: صيدليّة أفلاطون. ترجمة كاظم جهاد. دار الجنوب للنّشر تونس،1998، ص29). فالكتابة هي الّتي تحلّ محلّ الأب المتكلّم، فهي غياب الأب. الكتابة يتيمة بلا أب. وبهذا التّصوّر تمسي طقوس الكتابة طقس للجريمة وصناعة اليتم.
أستحضر ثلاثة مشاهد لهذا الطّقس العجيب:
المشهد الأوّل: هو مشهد الكاتب المسرحيّ النّرويجيّ هنريك إبسن. كان يضع على مكتبه عندما يكتب عقربا في قارورة وهو يغرس إبرته نافثا سمّه في تفّاحة. هذا المشهد قد ترسّخ في ذهني منذ أيّام الشّباب الأوّل. ولعلّ عناصره قد حرّفها النّسيان. ولكنّ وجود العقرب ثابت. ألا يكون مشهد العقرب قبل الشّروع في الكتابة عند إبسن استعدادا للدغ القارئ وقتله؟
المشهد الثّاني: هو مشهد الشّاعر القديم. هو أيضا مشهد الاحتذاء لا الابتداء، والمحاكاة لا الابتداع. يسرق الشّاعر ويسطو ويغير وينتحل شعر السّابقين والمعاصرين. فمبحث السّرقات هو مبحث في الجرائم الشّعريّة الّتي تدينها مؤسّسة الشّعر. لنتخيّل مشهد الكتابة داخل هذا الأفق. الشّاعر لا يبدع. كلّ ما يسبق القصيدة هو مشهد الجريمة قبل أن تقع. طقوس الكتابة هاهنا هي طقوس الانتهاك والقتل المؤسّس للقانون الشّعريّ.
المشهد الثّالث هو مشهد موت الجاحظ. سبق لي أن حلّلت هذا المشهد في مقال عنوانه “النّاتئ في أدب الجاحظ”. أستعيد تفاصيل المشهد الفاجع: يقال إنّه في حانوت من حوانيت الورّاقين التي كانت تكترى للمطالعة، تهاوت الكتب على الجاحظ وتساقطت، فمات رازحا تحت أثقالها. ولو افترضنا أنّ الكتب التي تساقطت على الجاحظ فأهلكته هي ذاتها الكتب التي ألّفها طيلة حياته أفلا تصبح الكتابة بهذا الافتراض ضربا من الانتحار المؤجَّل وتقنية من تقنيات الموت بها تصنع الكتب القاتلة؟
ورغم ذلك هل ينبغي أن نتحدّث عن طقوس؟ وطقوس للكتابة؟
جوابي هو أنّنا بهذا الافتراض نساهم في صناعة أكذوبة أخرى يعجّ بها الفضاء الأدبيّ. فالفارق بين الكتابة والطّقوس هو كالفارق بين الحقيقة الأدبيّة الّتي تنظر إلى الكتابة على أنّها عمل بشريّ لا خوارق فيه، وبين الأكذوبة الدّينيّة الّتي تظهر الكتابة في صورة مقدّسة. وهي صورة يؤمن بها الكتّاب أنفسهم، ويروّجون لها، ويريدون حمل الآخرين على تصديقها والاعتقاد فيها على أنّها حقيقة لا ريب فيها.
الحبيب السائح . الجزائر
ما ذا لو أجبت عن السؤال شفهيا ثم وازنته بما أنا بصدد كتابته؟ أي: أي أثر يحدثه كلا الأمرين لدى قارئ مفترض؟
الكتابة، أي كتابة، تبدأ شفهية، تتشكل بتلك الصفة وتستمر كذلك حتى وقد خُطّت على ورق أو في صفحة الحاسوب منعرضة في كل مرة إلى عمليات هدم وإعادة بناء وأحيانا إلى حذف نهائي في سياق تبديلي متواصل إلى أن ترضى ـ الكتابة، أجل الكتابة ـ عن الشكل النهائي أو القريب منه.
ليس هناك نص، الروائي خاصة قياسا إلى الشعري، ينكتب ضمن طقس اعتيادي. إني أعني بالطقس الحال المزاجية المسيطرة على الذات الكاتبة والمتبدلة المتغيرة، ليس فقط بفعل كيمياء الجسد التي تؤثر في الوعي وفي درجة التحمل ما دامت الكتابة تتطلب العافية الشاملة، ولكن أيضا بما تتعرض لها من ضغط الخارجي ذي العلاقة بالمعيشي الذي هو المنطلق وهو المرجع لحياة الكاتب في العالم العربي.
المهتمون بكتابة سيرة الكتاب الذاتية وحدهم يكونون قادرين على وصف طقوس الكتابة عند هذا الروائي، أو الشاعر، أو ذاك. وهم المؤهلون لأن يقولوا إن هذا السلوك أو غيره من طقس الكتابة؛ لأن الكتابة لا تتحول طقسا إلا خلال إنجاز النص الذي يستغرق وقتا لا يمكن تقديره مسبقا وفي أجواء تستدعي غالبا العزلة المكانية والغيبة الزمانية.
إن الكتاب الذين يُغريهم الحديث عن طقوس كتابتهم هُمْ لا يفعلون أكثر من أن يصفوا اللحظات التي يتمنون أن يكونوا عليها لحظة الكتابة ولا تسعفهم عليها الكتابة الأخرى التي تُفلت منهم.
فإنه بمجرد أن يأخذ النص، الروائي تحديدا، شكل هيكل يصير هو إرادة الكتابة ذاتها ويصبح الكاتب منفذا لتلك الإرادة في أن تذهب بالكتابة إلى حدها النهائي مع ما يدوس على كل تفكير في إقامة أي مراسم طقوسية؛ ذلك أن النص في لحظات تشكله هو الذي يحول الكاتب إلى أثاث طقوسي.
فقط، لا بد من التفريق في هذا المقام بين الكتابة في درجتها الدنيا؛ أي مستوى الهواية لأنها ليست هاجسا مركزيا ولا مسوغا وجوديا للكاتب المنشغل بـ”كتابات أخرى”، وبين الكتابة في درجتها العليا، أي مستوى الصنعة التي تعني الاحتراف بمفهوم الانصراف كلية إلى الإبداعي.
فإن طقس الأولى، إن تم الحديث عنه، وصفه صاحبه بالمراسمي الاستظهاري تعويضا عن كتابة عصية الاقتراب هي المحْفَلية ذاتها. على أن الثانية، باعتبارها طقسا بحد ذاته، تتجاوز مبررات انكتابها إلى أسئلة الاشتغال؛ لا لتقدم إجابة ب
فكرة و اعداد : كمال الرياحي .تونس kamelriahi2@yahoo.fr
http://kamelriahi.maktoobblog.com/
من المشاركين : د.عبد الملك مرتاض.جامعة الجزائر.وهران ،د زبيدة القاضي كلية الآداب جامعة حلب .سوريا د فاروق مواسي. فلسطين ، صدوق نورالدين / محمد اشويكة/ المغرب د.بوشوشة بن جمعة ، د.العادل خضر.تونس، الحبيب السائح . الجزائر
هل للكتابة طقوس ؟
متى يكتب الكاتب ؟ أين؟ و كيف ؟
أسئلة تبدو خارجة عن فعل الكتابة و النصّ الابداعي أو النقدي أو الفلسفي . و لكن هل حقّا هي أسئلة لا معنى لها ؟
أسئلة طرحناها على ثلّة من مبدعينا و نقّادنا العرب لنستمع إلى آرائهم محاولة منّا لفتح ملفّات حافة . و الحقّ ان هذه الملفات التي ننوي فتحها لا تخرج عن مشروعنا الذي بدأناه منذ سنوات و هو الإهتمام بهوامش الكتابة و عتباتها .
قرأت يوما ان الروائي الكبير “جابريال غارسيا ماركيز “كان يلبس لباسا أشبه بلباس الميكانيكي فيقول في حديث أجري معه:” عندما أكتب ألبس عفريتة ميكانيكي لأنها رداء مريح , فالعفريتة هي اللباس العملي لأقصى حدّ الذي تمّ اختراعه للعمل , فما عليك الاّ ان تندسّ داخله في الصباح و تشدّ السحّاب” و هو نفس اللّباس الذي يلبسه ايف نافار”أكتب و انا بالبيجاما , بل انها ليست بيجاما ,إنها …تصوّروا ,عفريتة للأطفال لونها أزرق داكن , لدي بالفعل هذا النوع من الرداء الذي يشبه في آن رداء طفل كبير الحجم ,يمكن ان يوضع له قماط ,و أيضا رداء طيّار كما أنّي انتعل خفّا من الصوف” أما جان شامبيون فيقول :” أرتدي المبذل (الروب دي شامبر ) طوال وقت الكتابة , بل و بعدها ؟ أنا لا أرتديه بل هو الذي يلاحقني .أمسح فيه كل شيء ,أقلامي , و دموعي , و أصابعي , و أصابعي التي اتّسخت من الكربون, و ألمي غير المنتج , و ابتهاجاتي الصغيرة , كل شيء !”
أما أنجيلو رينالدي فيحتفظ بربطة عنقه ,كما يقول احتراما لقواعد اللغة ,حتّى لا يدع مجالا للاسترخاء . و حول الامكنة التي يحلو للكاتب أن يكتب فيها تقول نتالي ساروت :” أذهب كل يوم في باريس الى حانتي المعتادة إنه لشيء رائع , كما لو كان المرء مسافرا فليس هناك مجال لأية تسلية , ففي البيت يلجأ المرء الى كل شيء لكي لا يكتب :فهو يبحث عن خطاب مفقود أو يأخذ كتابا أو يستمع إلى جلبة البيت .أما الحانة فيكون الشخص وحده تماما و يعلم تماما ان واحدا لن يزعجه ,و هو لا يشعر في الوقت نفسه بالوحدة التامة و بذلك يفضّل تواجد الناس حوله و هو يراهم أثناء مرورهم” اما روبير ساباتيه فيقول أنه يكتب في أي مكان و في أي وقت , عند الصباح و في المقهى , في لحظة انفراد , في الميترو , يكفي ان تكون معيي ورقة , و انا احمل معي دائما دفتر شيكاتي و نادرا ما لا يكون غلافه مغطّى بكتابات رفيعة مخربشة كما يحدث لي احيانا أن اضحّي بشيك أو شيكين ” و يضيف ساخرا “و الحق أنه يجب اجراء دراسة حول أهمية دفتر الشيكات في مجال الشعر ”
يبدو أن عدم الالتزام بطقس معيّن للكتابة هو في حد ذاته أحد طقوس الكتابة , و ما كان يفعله روبيرتو ساباتييه يشبه ما كان يفعله محمود المسعدي الذي عثر على كثير من نصوص كتابه الأخير “من ايام عمران …” و الذي قدّمه و حققه الدكتور محمود طرشونة, مكتوبا على بطاقات و دعوات رسمية و على جذاذات الجرائد.
يجرنا هذا الحدث الى سؤال مهم :هل للكاتب العربي طقوس ؟
هل اهتم النقد العربي قديمه و حديثه بتلك الطقوس ؟
هل غيّبت المناهج النقدية المنشغلة بالنصّ الابداعي دون غيره هذه الزوايا ؟
هل العودة الى محيط النصّ اليوم و التنقيب عن العتبات و الحواشي و الهوامش و المسكوت عنه من شأنها أن تعيد للمؤلف الحياة ؟
لماذا لا تكون للكتابة طقوس ؟!! اليس للفعل التعبّدي طقوس ؟ أليس للأكل عند الشعوب طقوس ؟أليس للاحتفالات , الزواج و غيره , طقوس ؟
اليس النشاط الكتابي ممارسة احتفالية و محاكاة تعبّدية و نشاطا غذائيا ؟!!
أيهما اكثر وضوحا طقوس الكتابة ام طقوس القراءة ؟
هل يمكن لنا أن ننكر أن التطوّر التقني و التكنولوجي بدأ يأكل كثيرا من العادات في الكتابة و القراءة ؟
في هذا الملف إجابات عن كثير من هذه الأسئلة , بعضها جاء على ألسنة المبدعين و بعضها جاء على ألسنة النقّاد . بعضها حاور سؤال الكتابة و الطقوس في الادب القديم و بعضها ناقش القضية في الأدب الحديث . بعضها نفى السؤال من أصله و اجتثّه من جذوره و بعضها أكّده و دعّمه بالحجج و الشواهد .
بعض المشاركين في هذا الملف تحدّث عن طقوسه الخاصة و بعضهم استعرض معارفه و بعضهم قدّم طقوس غيره بالنيابة .
فعن أي طقوس و عن أي كتابة تحدّث ضيوف هذا الملف ؟ و كيف كانت اجاباتهم ؟ هنا كل الأجوبة .
د.عبد الملك مرتاض.جامعة الجزائر.وهران
الطقوسية تتنامى مع سيرة الكاتب تبعاً لظروفه ومستواه المعيشي ومستواه الفكري
الكتابة الأدبيّة فنّ من الفنون الجميلة، وهي كسَوائها من الفنون الأُخَرِ تتلبّس بطقوس خاصة بها، أو قل: إنّها تسْتميز، هي أيضاً، بطقوس خالصة لها يتّخذها الكاتب من حيث الزمان والمكان والهيئة والأداة… فالقرّاء كثيراً ما يُصبحون في درجة المستهلكين العاديّين للبضاعة، فالمرء، مثلاً، حين يمتصّ قطعة من الحلوى قد لا يفكّر إطلاقاً في الكيفيّات والتحضيرات والتقديرات التي مرّتْ بها تلك القطعة اللذيذة في تصنيعها حتّى اغتدتْ كذلك… وكذلك القارئُ حين يقرأ نصّاً أدبيّاً، بغضّ الطّرْف عن طبيعة جنسه، فإنّه قد لا يفكّر في المعاناة التي كابدها صاحبُه حتّى أمسى نصّاً على ذلك القدر من الأناقة والجمال…
ويبدو أنّ أوّل من تناول هذه المسألة، من وجه أو من آخر، من النّقّاد العرب القدماء، كان ابن قتيبة (الشعر والشعراء)، ثمّ الجاحظ (البيان والتبيين)، ثمّ ابن رشيق (العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده)، ثمّ ابن خلدون (المقدمة)، ثمّ محمد البشير الإبراهيمي (جريدة البصائر، الجزائر)؛ فإنّ هؤلاء –وقد يكون غيرهم كثيرون- تحدّثوا عن طقوس الكتابة وفي أيّ وقتٍ يجب أن تكون، فجنحوا -خصوصا ابن قتيبة والإبراهيمي- إلى أنّ أفضل أوقات الكتابة هو ساعةُ الفجر حيث يكون الذهن أصفى، وحيث تكون القريحة أنقَى… غير أننا نعتقد أنّ كلّ الأوقات صالحٌ للكتابة الأدبيّة. وكلّ ما في الأمر أنّ الكاتب هو الذي يتّخذ له أوقاتاً يعتادها فتغتدي له دأْباً لازباً، تبعاً لظروفه الخاصّة التي تحمله على اختيار وقت بعينه، دون غيره… فقد كتبنا نحن أكثر من العشرين كتاباً الأولى في ساعات القيلولة، لأننا لم نكن نظفر بوقت لائق بالكتابة خارج ذلك… وقد عثرنا على نصّ في خزانة الأدب يثبت أنّّ جريراً كان يكتب شعره في أوّل الليل. وتصوّروا حال الكاتب إذا كان ضريراً فإنّه لا يستطيع أن يكتب إلاّ بالاستعانة بغلام يكتب عنه: أكان يُرغمه على أن يكون معه في ساعة السّحَر ليأتيَ ذلك؟… غير أننا نعتقد أنّ عامّة كتّاب هذا الزمان، وخصوصاً غير المتفرغين، يكتبون كتاباتهم بليل… وكأنّ الليل أخفى للويل!…
وأمّا ما يخرج عن الزمان من الطّقوس فإنّ كلّ كاتب قد يتّخذ له حالاً خالصةً له من كيفيّة القعود، ولون القلم، ونوعيّة الورق، وجِهَة المنظر، وهلمّ جرّاً… فقد كان بعض الكتّاب الأقدمين، في غياب المقاعد والمكاتب، يُضطرّون حين يَتعبون من القعود، إلى الانبطاح على بطونهم لكي يكتبوا!… كما أنّ الكاتب ربما اتخذ اللّون الأحمر لقلمه كما كان يفعل العقّاد، في حين أعرف كاتباً جامعيّاً لا يصطنع إلاّ قلم الرصاص الخفيف، ولا يكتب مسْودَّاته بغيره. في حين أنّ هيئة المكتب الذي يكتب عليه الكاتب ذو أهمّيّة طقوسيّة بمكان؛ فهل سيستدبر النافذة أو يستقبلها؟ وهل سيكتب وبجانبه قدح من الشاي أو فنجان من القهوة، أو لا شيء من ذلك؟ وهل يستعين بالاستماع إلى الموسيقى حيث أخبرني شاعر جزائريّ أنّه كان لا يأتي شيئاً، بما في ذلك تناوُل طعامه ونومه، إلاّ على إيقاع الموسيقى، وأنّه، نتيجة لذلك، لا يستطيع أن يكتب حرفاً واحداً إذا صمتت الموسيقَى! في حين أخبرني كاتب جزائريّ آخر أنّه لا يستطيع أن يكتب سطراً واحداً إلاّ وكأسٌ مترَعة بالوِسْكي على مكتبه، وإلاّ فلا يطمع في أن يكتب شيئاً أبداً… وقديماً كان الخطيب العربيّ لا يمكن أن يخطب في الناس إلاّ وهو ممسك بعصا في أيّام السلم، وبرُمح في أيّام الحرب…
وللمكان، فيما يبدو، تأثير شديد في إقبال الكتابة على الكاتب أو اعتياصها عليه. وقد أعرف حال كاتب كان حين يتنقّل من بيتٍ إلى بيتٍ آخرَ ربما بقيَ ستّة أشهرٍ بعد وقوع التنقّل لا يستطيع أن يكتب شيئاً. وقد وقع لنا نحن شخصيّاً شيءٌ من تلك السيرة العجيبة.
ولعلّ ظاهرة الكتابة بالحاسوب بدل القلم العاديّ ستغتدي جزءاً من طقوس الكتابة الجديدة بحيث سيُصبح التفكير منصرفاً إلى نوع الخطّ المستعمل، وحجم الحرف، ومن ثمّ حجم الصفحة طولاً وعَرضاً… وهي سيرة ستؤثّر في كثير من طقوس الكتّاب الذين سيتخلّى بعضهم عن طقوس القلم السائل نهائيّاً، بعد الذي كان من أمر القلم والمحبرة قبله… كما أنّ الكاتب لم يعد مفتقراً إلى اصطناع الورق وهدر ماله في شرائه، بحيث بعد أن يكتب نصّه على شاشة الحاسوب يمكن أن يُرسله بكيفيّة مباشرة عن طريق البريد الإلكتروني إلى الهيئة الناشرة. وينشأ عن ذلك اختفاء أحد الطّقوس الذي كان يلاحق المؤلفين وهو خلاصهم النهائيّ من تصحيح النّصّ، وذلك بإرساله إمّا قرصاً مسجّلاً، وإمّا بريداً إلكترونيّاً، فيُطبع كما هو دون تصحيح لأنّه يطبع على أصل وضْعه عند الكاتب… ونحن شخصيّاً لم نعد قادرين على كتابة نصّ في حجم صفحة واحدة خارج مكتبتنا، وبالقلم التقليديّ، بعيداً عن اصطناع مماسّ الحاسوب الذي أمسى جزءاً من طقوس الكتابة لدينا…
وتأسيساً على بعض ذلك فإنّا نُثبت طقوسيّة الكتابة ولا ننفيها، ولكنّنا لا نجنح لتوحيدها كما يزعم نقّادنا الأقدمون الذين كانوا يزعمون أنّ أفضل أوقات الكتابة هي أوقات السّحر، وفي يوم شرب الدواء، فالطقوسية تتنامى مع سيرة الكاتب تبعاً لظروفه ومستواه المعيشي ومستواه الفكري أيضاً فتصبح مكوّنا من مكوّنات كتابته؛ فمِن الكتّاب من لا يستطيع أن يكتب شيئاً إلاّ في صخب المقاهي، ومنهم من لا يستطيع تدبيج صفحة واحدة إلاّ إذا اختلى إلى نفسه، وأغلق الباب من دونه… وأعتقد أنّ هذه هي أسمى صفات الطقوس الإبداعيّة… فكما أنّ أفضل العبادات أن تكون حين يختلي المرء إلى نفسه ويناجي ربّه، بعيداً عن العيون، ونأياً عن الرياء؛ فإنّ الكاتب حين يعتزل النّاس ويخلو إلى نفسه تبدأ الأفكار تنهال عليه إذا كان مهيَّأً لاستقبالها، فينسج من ألفاظ هذه اللّغة التي لم يكن يعرف من أمرها، قبل أن تقع له، شيئاً…
د زبيدة القاضي كلية الآداب جامعة حلب .سوريا
أندريه جيد وطقوس الكتابة
سحر الموسيقى و القراءة
يجدر بنا أن نقول منذ البداية إن أندريه جيد خلق لكي يكتب، وقد وعى قدره ككاتب في وقت مبكر جداً. فقبل أن يبلغ سن العشرين، كان يرى أمام عينيه أعماله الكاملة كأجزاء عديدة من الكتب بصفحات بيضاء عليه أن يملأها. لم يتردد لحظة، أو يفكر في الاتجاه إلى مهنة أخرى ممكنة.
أندريه جيد رجل كتاب، وهو قارئ متحمس كما هو كاتب منتظم، فقد شكل حياته ونظمها كمكتبة، لم تكن الأجزاء المتراكمة فيها سوى حث على الكتابة. إن غزارة قراءاته وتنوعها جعلته طالباً طوال الحياة. وعلى الرغم من المظهر غير المنظم لحياته في أسفارها وتنقلاتها، الذي يتناقض مع التأمل والنضج، فإن أعماله جاءت نتيجة لهذه الحركة المستمرة. فالحركة إيقاعه الطبيعي، وفيها يعيش ويبدع. إن من يكتب في ساعات محددة، وأماكن معينة، وعدداً محدداً من الصفحات كل يوم يشعر بالدهشة، والغيظ، والحسد أمام هذه الحرية التي يتمتع بها جيد تجاه قيود الكتابة. فحرية الآخر تسبب الحنق أحياناً. وها هو الرجل الذي يسمح لنفسه بالعيش، ويجد فوق ذلك الوسيلة لنشر خمسة عشر جزءاً من الأعمال غير الكاملة، في أوج إبداعه، ستتضاعف عندما تصبح كاملة.
لن نخوض في الجانب المادي الذي سهل لجيد فرصة التعبير بالقلم، ولم يضطره إلى اللجوء إلى مهنة أخرى لكسب العيش. سنكتفي فقط بذكر إيمانه بالكتابة كواجب أو رسالة عليه القيام بها. من المناسب أن نتحدث عن ظروف تأدية هذه الرسالة، على المستوى المعنوي كما على المستوى المادي. يتوجب على الكاتب أن يعيش في ظروف تسمح لنتاجه بالوصول إلى النضوج الكامل. ومنها البحث الذي كان هاجس أندريه جيد طوال حياته، عن مكان يعمل فيه ؛ وهو مكان لا يتوخى فيه الراحة أو الرفاهية، بل الانفعال. يلزمه على الأقل شعاع الشمس. نحن نعلم أنه كان يبحث عنها في أفريقية، ويتعجب كيف تمكن فلوبير من كتابة أعماله في منطقة النورماندي تلك، حيث كان هو يشعر بأنه “يفسد”روحاً وجسداً.
كان جيد، وهو يافع، يظن أن عليه البحث عن خلوة، الأكثر عزلة ما أمكن، لكي “ينغلق على نفسه، كما في برج “، حيث لا شيء يذكر بالمحيط المألوف. وهو يفكر في لحظة ما أن يحتمي، في باريس، في غرفة منسية. سيحتفظ بعدها بهذه الحاجة (المرضية ؟) في البحث عن “البعيد” للكتابة. في وقت لاحق، سيكون ذلك رده على مسألة العزلة الأبدية وأثرها على الكاتب : لا حاجة فعلاً إلى عزلة كاملة. فأينما كان جيد، يجد الوسيلة للقراءة والكتابة. وجزء هام من يومياته كتبه مسنداً الدفتر على ركبتيه.
عرف أندريه جيد فترات عصيبة من العجز عن الإبداع، لكن القراءة والموسيقى هما النبع الذي ينهل منه عند الحاجة.
فالقراءة زاده الحقيقي، إذ ظل ينهل من الكتب حتى آخر يوم في حياته، وكان يعود لقراءة أعماله المفضلة، ومنها كتب الأقدمين، إذ كتب في يومياته، بتاريخ 3 كانون الثاني/يناير 1922 :
” إن أجود أيام العمل هي تلك التي أبدأها بقراءة كتاب قديم، من هؤلاء الذين يطلق عليهم صفة “كلاسيكيين”. صفحة واحدة تكفي، أو نصف صفحة، إذا كنت أقرأها في وضعية ذهنية مناسبة. ليس تعليماً ما يجب البحث عنه في هذه القراءة، بقدر ما هو نبرة، وهذا النوع من التغريب يتناسب مع الجهد الحاضر، ولا يلغي شيئاً من عجالة اللحظة. هكذا أيضاً أحب أن أنهي نهاري.”
أما عن الموسيقى، فنحن نعلم أن جيد كان يمضي ساعات طويلة في العزف، في كوفرفيل، وفي باريس، وحتى في أسفاره، إذ كان يستأجر بيانو في بعض الأحيان. وهذا جزء من الطقوس اللازمة للكتابة. ولكن، مهما كان المكان، يبقى عزف البيانو بالنسبة إلى جيد نشاطاً انعزاليا”، لأنه ما إن يعلم أن أحداً يصغي إليه حتى يضعف عزفه. إن هذه الحاجة إلى العزلة تفهم أكثر عندما نعلم أن جيد يرى في هذا النشاط الموسيقي مراناً، وسيلة لبلوغ نظام صارم يحتاجه في الكتابة. فهو يتمرن أحياناً أكثر من ست ساعات يومياً، “حتى يفقد القدرة على الاستمرار”. كتب في ذلك :
” في بعض الأحيان ينتابني الشك، فأتساءل ما إذا كنت أحب إلى هذا الحد، الموسيقى أم دراسة البيانو ذاتها، وإذا كانت تدفعني إليها الحاجة في تطوير شيء ما. ”
يبدو لنا أن الكتابة، كملامسة أصابع البيانو، تكشف حساسية راحة اليد وتتابعها. فجمال الملامسة في العزف على آلة البيانو، بالنسبة إلى جيد، يتناسب مع الجمال الخطي للكتابة. فهو ينمي الاثنين معاً. وبانعكاسه على الشخص الذي يقوم بالعمل، فإن دراسة البيانو والكتابة تغنيان الشخص وتطور ملكاته. ويعد انعكاس هذا المران جزءاً من إغناء الثقافة الشخصية للكاتب. وتمرين أصابع اليد في ملامسة البيانو يساعد في مخيلة جيد على استخدام العضو المفضل في الكتابة. وهذا يدل على الأهمية المميزة التي تتمتع بها الساعات التي يقضيها أندريه جيد على البيانو. إن تطوير موهبة العزف على البيانو يتلاءم مع تطوير الكتابة، فيعود الفضل هنا إلى السيدة جيد، والدة الكاتب، التي وجهت ابنها إلى تصور حياته في توافق بين الموسيقى والكتابة، لن يتوقف طوال حياته. نقرأ برنامجه في أحد الأيام :
” ثلاث ساعات بيانو
ساعة تصحيح مسودات ” لو لم تمت الحبة… ”
ساعة شكسبير
ساعة سانت-بوف
هذه هي وجبتي كل يوم.
عادة تأخذ المراسلات مني حوالي ساعتين..
وأعطي غالباً ست ساعات للرواية.
نصف ساعة أو ساعة تمرين.
ومع الزمن الضائع كله، يبدو نهاري القصير مكتظاً
وعلى الرغم من رغبتي الملحة، لا أتمكن من إعطاء وقت أكثر للعمل. ”
من المهم أن ندرس أيضاً عنصراً يبدو أنه مرتبط بموسيقى البيانو، وهو الطبيعة. فالفرح الذي يشعر به أندريه جيد وهو يعزف شوبان أو دوبوسي متعلق أحياناً بإثارة صورة الطبيعة :
” إنه الفرح الذي يسيطر على المنظر (…) والابتسامة في المشهد على ضفة الجدول، في السمفونية الرعوية لبيتهوفن. قبل دوبوسي وبعض المؤلفين الموسيقيين الروس، لا أعتقد أن الموسيقى اخترقت هذا الكم من الضوء، وخرير المياه، والرياح، وأوراق الشجر. ”
ولذا فإن يوميات جيد تعج بذكر أهمية تأمل الطبيعة والنزهات، ودورها في تهيئة المزاج والفكر لعملية الكتابة. وتجربة الطبيعة انعزالية، كالبيانو، تحمل أكبر متعة لشخص الوحيد. كتب في 8 كانون الثاني/يناير عام 1922 :
” أعمل هذا الصباح أمام النافذة الثلاثية لحجرة الجلوس، وأنا أراقب عملية البستنة التي تقوم بها العصافير في حديقتي الصغيرة. ”
وقد يحصل أن يستيقظ أندريه جيد ليلاً، بعد أن نضجت الفكرة، ليكتب :
” سهاد مستمر. لم أشعر أبداً بهذا النشاط الذهني. هذه الليلة، لو كانت السكرتيرة بقربي لكتبت ربع كتاب. أحس بأن فكرتي تتشكل بسهولة ووضوح أكبر مما كانت عليه في السابق. ”
يمر الكاتب بفترات عصيبة يعجز فيها عن الإبداع، وهنا يختلط القلق بالثقة أن كل كتاب سيكتب في وقته عندما ينضج. إن إحدى شروط الإبداع أن يعرف الكاتب متى يكتب، ليس مبكراً جداً، ولا متأخراً جداً. كتب يقول :
” أعتقد أن الخطأ الأكبر للأدباء والفنانين اليوم هو عدم الصبر. فلو كانوا يعرفون الانتظار لكان أتيح للموضوع أن يتشكل بهدوء في أذهانهم. ”
على الرغم من تنوع كتابات أندريه جيد وغناها، نجد فيها انسجاما ًونضجاً. لاشيء كتب قبل أوانه، لاشيء في استعجال، ما عدا النهايات، التي يسرعها بإرادته. واليوميات تؤكد ذك، وهي بالتعريف مرتبطة بالزمن، وتساعد على الهروب منه وتحديه. فقد سمح له الزمن بأن يأخذ الوقت اللازم للكتابة. أليس جان جيرودو من قال : ” لا يحترم الوقت ما صنع من دونه ” ؟ لكنه بودلير، على أية حال من أقر ” بالفضائل العملية لأوقات الفراغ من أجل الخلود. ”
الهوامش كلها من كتاب أندريه جيد، اليوميات، ، الجزء الأول، 1889- 1939. لا بلياد، دار جاليمار للنشر، باريس، 1952. (والمرجع باللغة الفرنسية، قمنا بترجمة المقبوسات منه إلى اللغة العربية لهذا البحث)
د فاروق مواسي. فلسطين
طقوسهم و طقوسي
تأتيني جنية الشعر لا شيطانه
يبدو لي أن “الطقوس” كما يسميها الكثيرون أو العادات المنتهجة أو ” السلوك الكتابي” – كما أرى – فيها ما يشي بالمضمون، وإذا كان الأسلوب هو الكاتب كما يرى ( بوفون ) فلا بدع إن لاحظنا أن الشكل حتى الخارجي عن النص أو السابق له ، له علاقة ما بالفحوى أو بصاحبه.
وقد ألف س.ر مارتين كتابه “في تجربة الكتابة” ( ترجمة: تحرير السماوي ) ، فعرّفنا على بعض السلوك الكتابي لدى المبدعين ، فسيمنون مثلاً يصحو من السادسة صباحًا ويحضر لنفسه القهوة، ويأخذ فنجانه يوميًا” إلى غرفة عمله… الستائر تظل مسدلة ، فهو يحب العمل تحت المصابيح الكهربائية . سيمنون كان يعمل لمدة ثلاث ساعات يوميًا – أي أنه في التاسعة صباحًا يكون قد أكمل ما يقارب العشرين صفحة دونما استراحة ، وتستمر طباعته كطلقات الرشاش، ويطبع نسختين من كل صفحة خوفًا من أن تضيع إحدى أوراقه… في فترات الاستراحة لا يقوم بأي عمل (ص92). أما أجاتا كريستي ففي الحمام تأتيها أفضل الأفكار كما قالت، كانت تجلس في البانيو ساعات طوالاً حتى تجد القصة الملائمة ، وتضيف:” لا أستطيع وضع التصاميم إلا في الرياح الممطرة، أما إذا أشرقت الشمس فيكون أحب شيء إلى نفسي هو الجلوس في الحديقة. وفي الأيام العشرة قبل الأخيرة قبل البدء في الكتابة أحتاج لتركيز محكم. عليّ أن أظل وحدي دون ضيوف ودون تلفون ورسائل (ص 108).
ولم يكن همنغواي يستعمل المكتبة لعمله ، بل كان يعمل في “البرج الأبيض” المطل على العاصمة هافانا (ص12) – الأمر الذي يذكّرنا بميخائيل نعيمة و”الشخروب” في أعلى بسكنتا.
والانضباط الصارم وجدناه لدى ألبرتو مورافيا ، فيقول : ” منذ فترة طويلة جداً وأنا أكتب كل صباح بالطريقة نفسها التي أنام فيها وآكل يوميًا. لقد أصبحت الكتابة جزءًا عضويًا في إيقاعي البيولوجي…
ولا بد من الإشارة كذلك إلى مقال كتبه صالح علماني في صحيفة تشرين السورية 2003/05/28 ، حيث استعرض كتاب ” عندما تأتي ربات الإلهام” للمؤلفَين الإسبانيين راؤول كريماديس وأنخل إستبيان. أما الأول فقد كان أستاذاً للأدب الإسباني والأمريكي اللاتيني في جامعات مختلفة ، وحرر مقالات أدبية ونقدية في صحف كثيرة . وأما الآخر فهو أستاذ الأدب الأمريكي في جامعة غرناطة. وهذا الكتاب يدرس عادات ستة عشرأديبًا في ستة عشر فصلا”، نحو: ألبرتي، نيرودا، بورخيس وأوكتافيو بات وإدواردز…الخ.
فبورخيس – مثلاً – كان يغطس في الصباح الباكر في حوض الاستحمام ليستغرق في التأمل ، وليناقش الحلم الذي حلمه الليلة الفائتة، وليدرس إن كانت فكرة الحلم تنفعه في صياغة أدبية ما، فإذا اهتدى إلى البداية والنهاية لم تكن لديه صعوبة في استمرار معالجته النص.
يقول علاء طاهر في كتابه الخوف من الكتابة ( ص 60 ) أن في نصوصه نجد المرايا ، التيه ، النمور ، الأنهار المدارية ، مدن غريبة …..
ومن الجدير أن نذكر أن ماركيز كان يؤمن بأن الأزهار الصفراء على منضدته تجلب له الحظ، وقد ذكر أنه يستهلك مئات الأوراق حتى يستخلص قصة في اثنتي عشرة صفحة.
أما الحديث عن يوسا وانضباطه ودقته فيذكرنا بنجيب محفوظ الذي كان يمر في وقت محدد في أثناء تجواله في القاهرة ، فتُضبط الساعة حسب مروره بذات المكان . ولكن المفاجئ في سلوك يوسا الأدبي أنه كان يكتب وأمامه دمى لأفراس النهر.
ولم يعش بروست مع نساء ، بل عاش مع سائقه الخاص الذي كان يصحبه بسيارته إلى تلك الحفلات الليلية التي لا تنتهي ، فبروست كان ينام طيلة النهار ، ثم يخرج ليلاً متوجهًا إلى صالون أرستقراطي تجري فيه حفلات الكوكتيل ، لذا كانت رواية البحث عن زمن ضائع تتصف بمناخ هذه الحياة الغريبة . ( انظر كتاب : علاء طاهر : الخوف من الكتابة ).
وإذا عدنا إلى أدبنا ، و طالعنا في العمدة لابن رشيق فسنجد أنه أفرد للشعراء العرب الضروب التي بها يُستدعى الشعر ، فكثيّر عزة كان يطوف في الرياض المعشبة ، بينما كان الفرزدق يركب ناقته ، ويطوف منفردًا في شعاب الجبال وبطون الأودية والأماكن الخربة. وأما جرير فكان يشعل سراجه ويعتزل ، وربما علا السطح وغطى رأسه رغبة في الخلوة ، بينما ذو الرمة كان يخلو لتذكر الأحباب ( انظر نماذج أخرى في العمدة ج 1 ، ص 180 )
وكنت قد قرأت أن شاعرنا شوقي كان يكتب في المقاهي وعلى أوراق علبة التبغ ، وكان يترنم في شعره قبل أن يكتبه ، وذلك في تجواله على شاطئ النيل، وأن نزار قباني كان لا يستخدم إلا الورق الملون في كتابته ، وكان هناك من الشعراء ( عزيز أباظة وسواه ) يرتدي أبهى ملابسه وأفخمها…. وكأنه سيلاقي عروسه . وقد تعرفت إلى أديب – لا يحب أن أذكر اسمه – بأنه من الذين يُعدّون للكتابة عدتها، فيرتب هذا الطاولة والأقلام والورق، ويحضر القهوة، ويستمع إلى الموسيقى الكلاسية .
ونحن بالطبع لا نستطيع أن نصل بين خط السلوك وفحوى النص تمامًا، ولكن ذلك يحتاج إلى دراسة متأنية ومسؤولة، والافتراض هو أن ثمة علاقة ما – كما أشرت – .
وسأحاول أن أبيًن ذلك من خلال سلوكي الشخصي (وعذرًا لأنني أذكر نفسي بين عظماء أنا تلميذ لهم، فقد طُلب مني – أصلاً- أن أكتب هنا عن سلوكي أو طقوسي الشخصية :
إن النظام والانضباط والدقة أهم ما أهتم به، والصدق مع النفس هو العمود الفقري لكتابتي، فإذا ورد وارد القصيدة وكنت سائقًا كتبت بعض أبياتها وأنا أقود سيارتي، وإن كنت على فراشي ليلاً فإنني أدوّن الوارد والنور مُطفأ ( خشية من تعكير الصفو على العائلة)، وإن أطلّت الفكرة أو الومضة أو الإشراقة لجأت إلى الهدوء لأتابع ما أحسه ويختلج في مشاعري وفكري.
لماذا أقول ” الصدق ” وهو وصف أكثر منه سلوكًا ؟
السبب – أنني أحاول أن أتهرب من هذا الخاطر أو الكتابة بسبب كثرة انهماكاتي ، وحبي للقراءة الذي لا يكاد يفسح لي مجالاً ، وبسبب يأس مستور من عدم جدوى الكتابة ، وبسبب االتساؤل الملح : ومن يقرأ هذا الكلام ؟ ولكني لا أجد مناصًا ، فالكتابة ليست ترفًا لدي ، والصدق يستلزم أن أكون إياي .
أقرأ بصوت عال كل ما أكتبه، وفي قراءتي يتبين لي إيقاع الشعر بتلقائية، وألاحظ كيف يرتفع صوتي وينخفض مع وتيرة دمي. بعض قصائدي كانت تأتي إثباتاً لمقولة ووردزوورث إن الشعر ” فيضان تلقائي ” – spontaneous overflow
فتولد القصيدة كاملة دون أن أغير فيها حرفًا – على سبيل المثال: ” ند في أضرحة عراقية ” التي كتبتها والدمعة ترف على مآقيّ. أما القصائد التي أقرأها على نفسي بإلقائي المتفاعل فقد أجد فيها كلمة بحاجة إلى تغيير، أو أن هناك معنى جديرًا بي علي أن أتوسع فيه أو أختزله ، فأفعل ذلك أسوة بـ ” عبيد الشعر” الذين اشتهروا في الجاهلية بسلوكهم الكتابي الذي كان يمتحن الجملة الشعرية مرة بعد مرة ، قراءة بعد أخرى ، وأمام هذا وذاك (زهير في حولياته، عبيد بن الأبرص، الحطيئة وعدي بن زيد…)
ولعل في هذا إيجابًا – أيضًا إذ أن الشاعر لا يعتبر كلماته كمالاً مطلقًا، وقد توصل إلى ذاك لاحقاً العماد الأصفهاني الذي رأى في التغيير دلالة على “استيلاء النقص على جملة البشر”.
أما كيف تولد قصيدتي، فالأمر يتعلق بما شُحنت به ، أو عبّئت فيه أشجاني وأحلامي وعاطفتي. تأتيني جنية الشعر ( ولا أقول شيطانه ، ولعل هذه القناعة خاصة بي لم أسمع أن أحدًا سبقني فيها من العرب ، ولا شك أن هناك تأثرًا من الغرب فهي مستقاة من الموزا ) فأتبعها بلباسها المغري الشفاف. هل الصورة أوشكت أن تكون جنسية ؟ إذن فاسمعوا ما أقول:
انحنت لي قليلا
فبدا تكوّر نهديها
فرمقت الزغب الأبيض.
في شهوه
ومضينا في الـــ كلام
وفي الـــ قصيده
عندما أختم قصيدتي أحب أن أقرأها أولاً على رفيقتي (تسمي نفسها” الأذن الأولى ” ) هي تسمع ، وأنا أقرأ وأراقب تعابير وجهها ،ثم أستمع إلى تعليقها ، ولكني مع ذلك – ولتعذرني – لا أتقيد به.
أما كتابتي النقدية والبحثية فهي من قبيل القصدية، فأنا معنيّ مثلاً بفكرة أو بنص أو بأديب أحب أن أعرّف به ، أو مبدأ شعري أو فكري…
أقرأ أولاً ماذا كُتب في موضوعتي ، وأعطي كل ذي حق حقه، فلا أسرق من هذا وأنتحل، أو أنكر على ذاك فضله، فقد جعلت رائدي الصدق-كما قلت – ، وفي ذلك أتصالح مع ضرورة الكتابة في عصر يتنكر للكاتب والكتابة .
أبحث عن متلق يستمع إلي وأشترط فيه (في قرارة نفسي دون الإفصاح عن ذلك ) أن يقدّر جهدي، فلا يتوقف لدى الملاحظة التي لا تروق له ، وينسى أن الأذن تسمن و ” يهوى الثناء مبرز ومقصر ” .
شرط كتابتي أن يكون هدوء حولي لأركّز فكرتي ، وأغوص في أعماقها شعراً ونثراً.
فهل هذا الصدق وهذا الهدوء وهذه الدقة تنعكس في كتابتي؟
أدع الجواب للمتلقي.
صدوق نورالدين / المغرب
بحثا عن خيط أبيـــض
طقوس القراءة عندي أقوى من الكتابة
يمكن القول بداية ، بأني لا أملك طقوسا على مستوى الكتابة و التأليف..ذلك أني أكتب حيثما أتيحت لي الظروف ، و لئن كان الأغلب ، تحقق فعل الكتابة داخل فضاء المقاهي ، على الرغم مما يسمها من لغط و ضجيج على السواء..
إنني من الكائنات النهارية ، و لا علاقة تربطني بالليل..أعرف مطلق المعرفة إيقاع الصمت الذي يسم موسيقى الليل ، و لكني اخترت ..اخترت الانغمار في الخيط الأبيض منذ الانبثاقة الأولى ..ذلك أنني أعتبر اليقظة المبكرة البديل الحق لما ضاع ليلا..
ابدأ الكتابة في الساعات الأولى من النهار ، قد أستغرق ثلاث ساعات إلى أربع ، لأجد نفسي مطاردا بالوقت و ليس الزمن..وقت خروج ابني من الصف الدراسي ، و وقت التحاقي بالعمل حيث أشتغل مدرسا..
إنني أفضل التسويد و ليس الكتابة المباشرة ..ذلك أني أكتب و أعيد قراءة ما كتبته منذ البداية ، حيث التشذيب و الحذف يأخذ بدوره وقتا ..و أما إذا كان المساء فارغا ، فإني أعمل على رقن ما كتبته على جهاز كومبيوتر صغير غير متطور ، له طاقات محدودة ، مادمت أفضل التدوين و الحفظ..
منذ : 1984 ، سنة إصدار كتابي النقدي الأول ” حدود النص الأدبي ” ، عملت على الاشتغال داخل فضاء المقاهي كما أسلفت ..أصل المقهى مبكرا ، و أجلس في ذات المكان ، علما بأن العاملين بالمقهى يعرفونني ، مثلما باتوا يعرفون ما أشربه ، حيث تطالعهم صورتي أحيانا على شاشة التلفاز..
و في حالات أعمل على تغيير الفضاء نحو مقهى آخر ، لأني أرى في ذلك متنفسا ، و تم أستكمل ما كنت بدأته..
أعمل باستمرار على النقد ..و في حالات يأخذ مني الإبداع حظه ..أعمالي النقدية مستوحاة من قراءاتي في القصة و الرواية و النقد نفسه و الفكر..من تم فإني أحاول الاشتغال على ما لم يتم الاهتمام به ، إذ و مهما تأجلت عملية نشره ، فإنه لا يفقد قيمته..
إنني أفضل النشر في المنابر القوية ، في الواجهة ..و أما الظلال فمتروكة لغيري ممن ينتمون ل :
” نقابات ” الكتبة و ليس الكتاب..
قد تسألني و متى تقرأ ؟
إن طقوس القراءة عندي أقوى من الكتابة ..و أعترف في هذا المقام بأن جميع الأعمال التي كتبت عنها قرأته مرة واحدة ..ذلك أن القراءة لدي بطيئة جدا..ثم إنني أنتقي ما أقرأه بحكم عامل الزمن..
بل إني ندمت على سنوات قضيتها أقرأ تفاهات من الإبداع المغربي المسمى بالحديث ، كان يمكن استغلالها في التعرف على الآداب العالمية ..
أقرا ليلا ، و في حالات الفراغ من الكتابة نهارا..قد يستغرق الكتاب بين يدي شهرا إذا كان ممتعا و أربعة أيام أحيانا ..
أفضل القهوة السوداء أثناء الكتابة ، حيث لا أتجاوز فنجانا واحدا إلى اثنين..تماما مثلما أفضل المشي طويلا لأنه يهبني راحة على مقعد الكتابة منعزلا و غريبا..
أجدني بعد كل تأليف شبه عاطل ، و أبحث عن بذرة ، عن نواة أخرى للكتابة و التأليف ، لتبدأ مجددا ذات الطقوس ، إلى نهاية الجسد..
د.بوشوشة بن جمعة
أحلام مستغانمي و طقوس الكتابة
“أنا في حالة شهوة دائمة”
تمتلك الكتابة الابداعية طقوسها الخاصة التي تجعل منها فعلا خلاّقا يتوفّر على العلامات الدّالة على اختلافه عن السائد من أشكال ممارسة الوجود .
و يندرج الحديث عن /و في طقوس الكتابة الروائية لدى أحلام مستغانمي ,ضمن حضور تيمة الكتابة شاغلا فكريا ,و تشكيلا جماليا في ثلاثيتها :ذاكرة الجسد .و فوضى الحواس ,و عابر سرير. و هو حضور يكشف عمّا تمتلكه هذه الكتابة من وعي نظري بشروط الجنس الروائي ,و عن تداخل الخطابين النقدي و الروائي في ممارستها لهذا النوع من الابداع الأدبي /السردي .
فهي تدرك الكتابة طقسا حميما إلى المدى , و ذاتيا إلى الأقاصي , يبقى ” وليد أحاسيس و دوافع لا شعورية “(عابر سريرص73) ,و من ثمّة لا يمكن أن يمارس – في نظرها- الاّ في فضاءات خاصّة ,مما يعلّل اندهاشها ممّن يمارسونه في أماكن عامّة , تلوّنها مناخات المألوف, تقول:”لم اكن أفهم يوما كيف يكون بامكان البعض أن يكتب هكذا في مقهى أو في قطار دون أي اعتبار لحميمية الكتابة . أن تجلس لتكتب في مكان علني , مأن تمارس الحب على وقع أزيز سرير معدني .و بإمكان الجميع أن يتابعوا عن بعد كلّ أوضاعك النفسية ,و تقلباتك المزاجية أمام ورقة “(فوضى الحواس ص 65) . و تعلّل تصوّرها هذا بما تضفيه على الكتابة من بعد وجودي يجعلها تكون فعلا مشتقّا من المكان ,و خطاب نبوءة يحمل المؤشّرات الدالة على الصيرورة ,تقول في حوار أجري معها :” الكتابة جزء من كياني ” ,و هو ما يقرن فعل الكتابة الروائية لديها بالسمة النرجسية ,حيث يتّخذ من الذات :المنطلق ,و المدار ,و المدى , و هو ما تعترف به في شكل مكاشفة , في قولها في شهادة نشرت لها بأخبار الأدب “إننا نكتب بالدرجة الأولى لأنفسنا فالكتابة مشروع شخصي , و رحلة لا يقوم بها المسافر الاّ وحده , لسبب وحده معني به”
إن الكتابة – من منظور أحلام مستغانمي حالة ابداعية خاصة ,و مختلفة , ترد في نصوصها الروائية مقترنة بعدد من عناصر الكيان في علاقته بالذات و الآخر و الوجود , كالذاكرة , و الحب ,و الوطن , و الحياة ,والقدر , و جميعها يتعالق مع فعل الكتابة ليشكّل طقوسه ,و يرسم مناخاته ,و يبلور المفيد من سماته الفكرية و الجمالية ,و فعلا يتيح للذات أن تتعرّى و للكيان أن يتطهّر , و للعقل أن يصير جنونا , تقول في حوار معها لمجلة الاختلاف :” أنا امرأة مجنونة ,و أزداد جنونا في حضرة الورق ”
ثم إنّها تعدّ الكتابة أداتها للوعي بذاتها و الوعي بالآخر :الرجل /المجتمع / العالم و سبيلها إلى اكتشاف هويتها و تبرير وجودها , و من ثمّة فهي رحلة بحث دائم عن هويتها أنثى في علاقتها بذاتها / و الآخر على حدّ سواء , تقول :” مازلت أبحث خلال كتاباتي عن قيمة حياتي ,و معنى ما عشته..” ثم تشبه طقس الكتابة بطقوس العشق و قد أدرك مدى الشهوة ,و منتهى المتعة في قولها :أنا في حالة شهوة دائمة ,أشتهي نصّا ,أشتهي شخصا ,أشتهي حالة ,أشتهي مدينة لا أعرفها ,كل هذه الأشياء تجعلني أكتب” .كما يتماهى طقس الكتابة مع طقوس الجنس في حال ارغام الجسد على الاستجابة /الاغنتصاب , و ذلك عند تعامل الكاتبة مع بياض الورقة بكثير من العنف دليلا على العنفوان , تقول :” فلا يمكن الاّ أن نكون عنيفين مع الورقة لأن الكتابة حالة اغتصاب دائم بالنسبة لي ,لا بد من كثير من السطوة , لا بد من السيطرة على الورقة , لا يمكنني ان أكتب اذا لم لم أكن في حالة عنف و شراسة , شراسة أمارسها لأنّي لا أملك سلاحا غيرها , من حسن حظّي أنني لا أملك شيئا آخر أكثر تدميرا من الكتابة ,,أنا لا أكتب لأهادن الورق “.
فالكتابة , في ضوء هذه الرؤية, طقس يورّط صاحبه , و هو لينشئ نصّه يذهب به” من سؤال إلى آخر و فجأة تجد نفسك , وقد وضعت اصبعك على الجرح و أنت لا تدري أنك قد وضعت يدك على هذا الألم الكبير و هذه هي الرواية ” .
كل هذا يجعل من طقوس الكتابة الروائية لدى احلام مستغانمي ,طقوسيتها تسمها الصيرورة , باعتبار انها لا تتمّ على أرض ثابتة بل هي تجسيد “لحالة ارتحال دائم بين الاسئلة و انتهاك دائم لمنطق الاجوبة , و احتمال مقتوح على التعدّي النصّي الذي يفضي بالكتابة إلى اسئلة شاسعة و مخيفة في أجوبتها , ليس أقلّها ,لماذا تكتب ؟ و لمن تكتب ؟ و هو ما يعلّل رؤية الكتابة لقيمة ممارسة طقوس الكتابة الروائية في ذاتها , لا في مقاصد أخرى خارجها ,تقول “إن المهم في كل ما نكتب هو ما نكتبه لا غير . فوجودها الكتابة هي الادب , و هي التي ستبقى , و اما الذين كتبنا عنهم فهم حادثة سير , أناس توقفنا أمامهم ذات يوم لسبب أو لآخر ثن واصلنا الطريق معهم أو دونهم” ذاكرة الجسد ص125
الكتابة والطّقوس
د.العادل خضر.تونس
كأنّ إلها غضّا يرقص في قلبي
محمّد بالعربي الجلاصي
لا تحتاج الكتابة إلى طقس خاصّ ولا إلى إعداد ولا إلى استعداد من أيّ نوع كان. فالكتابة هي فعل تنقلب فيه الأفكار والأحاسيس من حال إلى حال. تكون في الحال الأولى في الذّهن، وفي الحال الثّانية على الورق. فالكتابة هي العمل الّّذي يجعل الفكر حبرا على ورق، أو متجلّيا على شاشة الحاسوب. فهي هذا الصّنيع الّذي يقلب أحوالنا الذّهنيّة إلى رموز خطّيّة حتّى تصبح قابلة للتّداول في سوق المبادلات الثّقافي. فليست الكتابة بهذا التّصوّر تمثيلا للفكر وإنّما إبداع له.
هذا التّصوّر الّذي يجرّد الكتابة من هالتها المقدّسة وكلّ طقوس، ويجعلها مجرّد عمل ككلّ الأعمال البشريّة لم ينشأ من عدم، لأنّه نتاج تحوّلات عميقة جدّت في أبنية الثّقافة التّقنيّة، منذ أن عرف الإنسان الكتابة، ثمّ الطّباعة والثّورة الرّقميّة في مجال الاتّصاليّات. وقد جعلت هذه التّحوّلات العالم يفقد شيئا فشيئا سحره القديم، وتنتزع منه قداسته فلم يبق من جرّاء ذلك الفقدان مكان للألوهة. ولا يعني ذلك بالضّرورة الكفر والإلحاد، وإنّما وضعيّة مختلفة عمّا عهدناه من قبل، أضحى فيها الفرد، هذا الأنا المفكّر، معوّضا للإله وبديلا له بوصفه أساسا لكلّ شيء.
وإذا كانت الطّقوس في الأصل مرتبطة بالمقدّس وجسد الآلهة، أي صنمها الملطّخ بدماء الأضاحي العابق بعطر البخور، فإنّ تلك الطّقوس كانت الدّليل الوحيد على ألوهيّة الآلهة، أي على حضورها في العالم. ولعلّ أكثر النّاس ارتباطا بتلك الطّقوس ملاّك الحقيقة، ممّن منحوا هبة الاستبصار، والاطّلاع على الغيب، ومعرفة ما كان وما يكون وما سيكون. من هؤلاء نجد الشّاعر والكاهن والحكم في العوالم القديمة كالعالم الإغريقيّ القديم والعالم العربيّ (في الجاهليّة الأولى والأخيرة). ولا فائدة في استعراض الأدوار الّتي اضطلع بها هؤلاء في ترسيخ الدّيانة المحلّيّة على شاكلة طقوس وممارسات تعبّديّة، كالأضاحي والنّذور وطقوس الحجّ والاستمطار وغيرها.
كانت هذه الطّقوس تجري بما سمّيناه في بعض بحوثنا بالعبارة النّبوئيّة، وهي عبارة يجريها الكاهن بالسّجع والشّاعر بالشّعر، وميزتها أنّها مؤثّرة في الوجود طبيعة وإنسانا. فهي تستنزل الأمطار وتشلّ حركة العدوّ في الحروب. وهي أيضا عبارة غير متيسّرة إلاّ للأصفياء ممّن كانوا قادرين على الاتّصال بعالم الغيب وكائناته اللاّمرئيّة كالجنّ والشّياطين. وهي أيضا عبارة لا تكتسب إلاّ بتقنيات سرّيّة كالطّرق المريديّة أو الانخطافيّة. وهي عبارة باهظة ثمنها أحيانا بصر العين أو العقم، ولكنّها عنيفة ترعد قائلها. فقد كانت كنية الكاهن العربيّ عمرو بن جعيد الأفكل، وهي كنية ذات أصول سومريّة منتشرة في العالم السّامي تدلّ على الرّعدة والنّفضة. كلّ هذه المعطيات تدلّ على أنّ العبارة النّبوئيّة في العالم القديم بصفة عامّة هي قول مقدّس يستمدّ قداسته من طقوسيّته القويّة بوصفها الأساس المكين الّذي ينهض عليه الحضور الإلهيّ، أو ألوهيّة الآلهة في العالم.
من كبير المفارقات أن نتحدّث عن الكتابة والطّقوس، لأنّ الكتابة في اعتقادي هي عنصر دنيويّ قد نقل المقدّس خارج المعبد والحرم، وخارج دائرة الدّين. صحيح أنّ الكتابة منذ ظهورها الهيرغليفيّ قد كانت وثيقة الصّلة بالمعابد والآلهة، إلاّ أنّه ينبغي أن لا ننسى أنّ ظهورها قد ارتبط في الآن نفسه بظهور الإله الواحد وأشكال الدّيانات التّوحيديّة الأولى. ومع الكتابة الصّوتيّة، أصبح الإلهيّ لا مرئيّا، وذا وجود شبحيّ، يَرى ولا يُرى. وبفضل هذا الحضور اللاّمرئيّ صارت الكتابة والكتاب الدّليل الباقي على أثر ذلك الحضور. فالكتابة هي بنت الغياب الإلهيّ. وهو ما يعني في الوقت ذاته أنّ الحضور الإلهيّ في الصّنم، خاصّة في الدّيانات المحلّيّة لا الكونيّة، هو نفي لإمكان الكتابة والكتاب. ويمكن بالاستتباع أن نقول إنّ كلّ طقوسيّة ينهض عليها الحضور الإلهيّ هي بالضّرورة نفي للكتابة والكتاب. فالكتابة والطّقوس وجهان يتنازعان حضور الإلهيّ وغيابه. فالكتابة والله اللاّمرئيّ العظيم سيّان، والطّقوس وحضور جسد الألوهة شيء واحد.
إذا سلّمنا بهذه المعطيات أضحى الحديث عن طقوس الكتابة أمرا من قبيل المتناقضات إلاّ إذا تراخينا واعتبرنا أنّ استعداد المؤلّف وتهيّؤه النّفسيّ للكتابة داخلا في باب الطّقوس. وبهذا التّأويل نفرغ المفهوم من محتواه، ونعمل على إضفاء القداسة على عمل (أي الكتابة) هو في الأصل عمل لا قداسة فيه. علينا أن نتذكّر أنّ إله الكتابة تحوت، أو تووت كما نقل اسمه في محاورة الفيدروس الأفلاطونيّة، هو أيضا إله الموت، وأنّ الكتابة، قبل كلّ شيء، ذاكرة اصطناعيّة وليست ذاكرة عارفة حيّة. كما لا ننس أنّ الكتابة في الفيدروس هي فارماكون: دواء وسمّ، يُحلّ الكتابة اللاّهثة محلّ الكلام الحيّ، ويزعم الاستغناء عن الأب (الحيّ وواهب الحياة).
إن جاز لنا أن نتحدّث عن طقوس الكتابة أو طقوس للكتابة فهي في نظري طقوس للقتل واليتم. فإذا كان المتكلّم هو أبا كلامه أضحى الكلام بمقتضى هذا التّصوّر الأنسابيّ ابنا “وإنّه ليفنى من دون حضور أبيه ومن دون عونه الحاضر، حضور أبيه الّذي يجيب. يجيب عنه ومن أجله. من دون أبيه، لا يعود بالذّات سوى كتابة ” (دريدا، جاك: صيدليّة أفلاطون. ترجمة كاظم جهاد. دار الجنوب للنّشر تونس،1998، ص29). فالكتابة هي الّتي تحلّ محلّ الأب المتكلّم، فهي غياب الأب. الكتابة يتيمة بلا أب. وبهذا التّصوّر تمسي طقوس الكتابة طقس للجريمة وصناعة اليتم.
أستحضر ثلاثة مشاهد لهذا الطّقس العجيب:
المشهد الأوّل: هو مشهد الكاتب المسرحيّ النّرويجيّ هنريك إبسن. كان يضع على مكتبه عندما يكتب عقربا في قارورة وهو يغرس إبرته نافثا سمّه في تفّاحة. هذا المشهد قد ترسّخ في ذهني منذ أيّام الشّباب الأوّل. ولعلّ عناصره قد حرّفها النّسيان. ولكنّ وجود العقرب ثابت. ألا يكون مشهد العقرب قبل الشّروع في الكتابة عند إبسن استعدادا للدغ القارئ وقتله؟
المشهد الثّاني: هو مشهد الشّاعر القديم. هو أيضا مشهد الاحتذاء لا الابتداء، والمحاكاة لا الابتداع. يسرق الشّاعر ويسطو ويغير وينتحل شعر السّابقين والمعاصرين. فمبحث السّرقات هو مبحث في الجرائم الشّعريّة الّتي تدينها مؤسّسة الشّعر. لنتخيّل مشهد الكتابة داخل هذا الأفق. الشّاعر لا يبدع. كلّ ما يسبق القصيدة هو مشهد الجريمة قبل أن تقع. طقوس الكتابة هاهنا هي طقوس الانتهاك والقتل المؤسّس للقانون الشّعريّ.
المشهد الثّالث هو مشهد موت الجاحظ. سبق لي أن حلّلت هذا المشهد في مقال عنوانه “النّاتئ في أدب الجاحظ”. أستعيد تفاصيل المشهد الفاجع: يقال إنّه في حانوت من حوانيت الورّاقين التي كانت تكترى للمطالعة، تهاوت الكتب على الجاحظ وتساقطت، فمات رازحا تحت أثقالها. ولو افترضنا أنّ الكتب التي تساقطت على الجاحظ فأهلكته هي ذاتها الكتب التي ألّفها طيلة حياته أفلا تصبح الكتابة بهذا الافتراض ضربا من الانتحار المؤجَّل وتقنية من تقنيات الموت بها تصنع الكتب القاتلة؟
ورغم ذلك هل ينبغي أن نتحدّث عن طقوس؟ وطقوس للكتابة؟
جوابي هو أنّنا بهذا الافتراض نساهم في صناعة أكذوبة أخرى يعجّ بها الفضاء الأدبيّ. فالفارق بين الكتابة والطّقوس هو كالفارق بين الحقيقة الأدبيّة الّتي تنظر إلى الكتابة على أنّها عمل بشريّ لا خوارق فيه، وبين الأكذوبة الدّينيّة الّتي تظهر الكتابة في صورة مقدّسة. وهي صورة يؤمن بها الكتّاب أنفسهم، ويروّجون لها، ويريدون حمل الآخرين على تصديقها والاعتقاد فيها على أنّها حقيقة لا ريب فيها.
الحبيب السائح . الجزائر
ما ذا لو أجبت عن السؤال شفهيا ثم وازنته بما أنا بصدد كتابته؟ أي: أي أثر يحدثه كلا الأمرين لدى قارئ مفترض؟
الكتابة، أي كتابة، تبدأ شفهية، تتشكل بتلك الصفة وتستمر كذلك حتى وقد خُطّت على ورق أو في صفحة الحاسوب منعرضة في كل مرة إلى عمليات هدم وإعادة بناء وأحيانا إلى حذف نهائي في سياق تبديلي متواصل إلى أن ترضى ـ الكتابة، أجل الكتابة ـ عن الشكل النهائي أو القريب منه.
ليس هناك نص، الروائي خاصة قياسا إلى الشعري، ينكتب ضمن طقس اعتيادي. إني أعني بالطقس الحال المزاجية المسيطرة على الذات الكاتبة والمتبدلة المتغيرة، ليس فقط بفعل كيمياء الجسد التي تؤثر في الوعي وفي درجة التحمل ما دامت الكتابة تتطلب العافية الشاملة، ولكن أيضا بما تتعرض لها من ضغط الخارجي ذي العلاقة بالمعيشي الذي هو المنطلق وهو المرجع لحياة الكاتب في العالم العربي.
المهتمون بكتابة سيرة الكتاب الذاتية وحدهم يكونون قادرين على وصف طقوس الكتابة عند هذا الروائي، أو الشاعر، أو ذاك. وهم المؤهلون لأن يقولوا إن هذا السلوك أو غيره من طقس الكتابة؛ لأن الكتابة لا تتحول طقسا إلا خلال إنجاز النص الذي يستغرق وقتا لا يمكن تقديره مسبقا وفي أجواء تستدعي غالبا العزلة المكانية والغيبة الزمانية.
إن الكتاب الذين يُغريهم الحديث عن طقوس كتابتهم هُمْ لا يفعلون أكثر من أن يصفوا اللحظات التي يتمنون أن يكونوا عليها لحظة الكتابة ولا تسعفهم عليها الكتابة الأخرى التي تُفلت منهم.
فإنه بمجرد أن يأخذ النص، الروائي تحديدا، شكل هيكل يصير هو إرادة الكتابة ذاتها ويصبح الكاتب منفذا لتلك الإرادة في أن تذهب بالكتابة إلى حدها النهائي مع ما يدوس على كل تفكير في إقامة أي مراسم طقوسية؛ ذلك أن النص في لحظات تشكله هو الذي يحول الكاتب إلى أثاث طقوسي.
فقط، لا بد من التفريق في هذا المقام بين الكتابة في درجتها الدنيا؛ أي مستوى الهواية لأنها ليست هاجسا مركزيا ولا مسوغا وجوديا للكاتب المنشغل بـ”كتابات أخرى”، وبين الكتابة في درجتها العليا، أي مستوى الصنعة التي تعني الاحتراف بمفهوم الانصراف كلية إلى الإبداعي.
فإن طقس الأولى، إن تم الحديث عنه، وصفه صاحبه بالمراسمي الاستظهاري تعويضا عن كتابة عصية الاقتراب هي المحْفَلية ذاتها. على أن الثانية، باعتبارها طقسا بحد ذاته، تتجاوز مبررات انكتابها إلى أسئلة الاشتغال؛ لا لتقدم إجابة ب