[b]#
قصص قصيرة للأديب الروسي أنطوان تشيخوف
بطاقة اليانصيب
السيد إيفان ديمتريش يجلس إلى طاولة الطعام يتناول عشاءه بعد يوم عمل شاق، وبعد أن يفرغ منه وقبل أن يهم بقراءة الصحيفة، كعادته وعادة كل الأزواج تقريبا، كل يوم تذكره أم العيال السيدة الفاضلة ماشا، التي تشاركه شظف العيش، تذكره أن اليوم هو إعلان نتيجة اليانصيب الأخير الذي اشترت ماشا واحدة من بطاقاته .العزيز إيفان رجل جاد لا يؤمن بالحظ، وبالأحرى يرى أن الحظ ليس من نصيبه وإلا لماذا حاله هكذا؟ غير أن الرجل، على ضيق حاله قنوع راض بدخله المتواضع. إيفان يسأل، في غير اكتراث واضح، زوجته عن رقم البطاقة ويبدأ في التفتيش عن الرقم الفائز المنشور في الصحيفة التي بين يديه. تناوله ماشا البطاقة فيقرأ الرقم بطرف عين، وقد رأى أن الرقم الفائز هو رقم بطاقة ماشا. وفي لحظات تتغير نفسية الرجل ويغوص فجأة في أحلامه وينسى نفسه.. كيف سينفق هذه الثروة التي هبطت عليه.. يغير البيت؟ طبعا. وكل الأثاث؟ بالتأكيد. ويسدد الديون المتراكمة عليه؟ لا بأس. ولكن الباقي ما مصيره؟ في البنك يا عزيزي ليضمن عائدا يتلاءم مع متطلبات المرحلة الجدية التي ولجها.
فجأة يتحول العزيز ديمتريش من رجل قانع إلى شخص طامع لديه نهم إلى الإسراف والتبذير، فهذه الورقة التي بين يديه ستنقله من عالم إلى عالم آخر، ليس هو وحده وإنما معه الأولاد وأم الأولاد الحصيفة التي اشترت البطاقة. يتوقف إيفان ديمتريش عن الاسترسال في أحلامه برهة وينظر إلى ماشا ليخبرها أنه سيسافر إلى خارج البلاد في رحلة سياحية. العزيزة ماشا يبدو أن أحلامها هي الأخرى كانت اختمرت في مؤخرة جمجمتها، حيث تبادره قائلة .. أنا أيضا أود السفر إلى الخارج، على طريقة "رجلي على رجلك" المعروفة بين الزوجات.
للكلام وقع صاعقة على الرجل الذي كان، حتى لحظات قليلة، وقورا. لم يكن يتخيل أن تطلب أم العيال السفر للخارج، ويتساءل- في نفسه طبعا- ماذا تريد ماشا؟ أتريد ملازمتي فلا أسافر وحيدا واستمتع بسفرتي حتى النهاية؟ وفي ثواني معدودات تتحول صورة المرأة التي رافقته رحلة الحياة إلى شبح مزعج؛ عجوز لا تعرف إلا الشكوى، ولا تشم منها إلا رائحة المطبخ؛ في جسدها وفي ملابسها. لم يعد فيها شيء يجذبه إليها. أما هو فمازال شابا وسيما- هكذا تخيل- ولا يخلو من جاذبية، فلماذا لا يتزوج من أخرى؟ نعم لماذا لا يتزوج من أخرى؟
على هذا التراب .. أرى الحياةَ
ولا أرى ما يَستحقُّ لها تَغنـِّينا
تركتُ بساقِ زاجلةٍ
رسائلَ عاشقٍ للأرض ..
فاحتارتْ وضيَّعتِ العناوينا !!
بعد المسرح
ما إن عادت نادية زيلينيا مع والدتها من المسرح، حيث شاهدتا "يفجيني أنيجين" * ودخلت غرفتها، حتى نزعت فستانها بسرعة وحلت ضفيرتها، وأسرعت بالجونلة والبلوزة البيضاء فقط فجلست إلى الطاولة لتكتب خطابا كالذي كتبته تاتيانا.
وخطت : "إنني أحبك، ولكنك لا تحبني، لا تحبني". كتبت هذا وضحكت .
كان عمرها ستة عشر عاما فقط، ولم تحب أحدا بعد . وكانت تعلم أن الضابط جورني والطالب جزوديف يحبانها، ولكنها شعرت الآن بعد الأوبرا برغبة في التشكك في ذلك الحب . أن تكون غير محبوبة وتعيسة .. ما أروع ذلك ! ثمة شيء ما، حين يحب الشخص بقوة ولا يكترث به الآخر، شيء جميل، ومؤثر وشاعري .
أنيجين ممتع لأنه لا يحب مطلقا أما تاتيانا فهي خلابة لأنها تحب بقوة، ولو أنهما أحبا بعضهما البعض بنفس الدرجة وكانا سعيدين لأصبحا علي الأرجح مملين . " كف عن التأكيد بأنك تحبني ـ واصلت نادية الكتابة وهي تفكر في الضابط جورني ـ فأنا لا استطيع أن أصدقك، أنت ذكي جدا مثقف جاد ولديك موهبة كبيرة وربما كان في انتظارك مستقبل باهر، أما أنا فلا شيء يميزني فتاة لا وزن لها وأنت نفسك تعرف جيدا أنني لن أكون سوي عقبة في حياتك حقا. أنت همت بي وظننت أنك في شخصي عثرت على المثال الذي تبحث عنه، لكنها كانت غلطة والآن تسأل نفسك بيأس : ما الذي جعلني ألتقي بهذه الفتاة ؟ وطيبة قلبك فقط هي التي تمنعك من الاعتراف بذلك !..." .
أحست نادية بالإشفاق على نفسها، فبكت ومضت تكتب : " صعب علي فراق ماما وأخي، وإلا كنت ارتديت مسوح الراهبات ومضيت أينما يمتد بي النصر .. ولأصبحت أنت حرا وأحببت فتاة غيري . آه لو كنت أموت ".
من خلال الدموع استحال تبين الكلمات المكتوبة، وتراقصت ألوان طيف قصيرة فوق الطاولة، وعلى أرضية الغرفة وعلى السقف كما لو أن نادية كانت تنظر عبر منشور، وتعذرت الكتابة فتراجعت إلى ظهر المقعد وأخذت تفكر في جورني . يا إلهي، أي سحر في الرجال، وأية جاذبية ! تذكرت نادية ذلك التعبير الرائع، المتزلف والمذنب والناعم الذي يرتسم على وجه الضابط عندما يجادلونه في الموسيقى، وأية جهود يبذلها أثناء ذلك لكيلا يرن صوته بحماسة . ففي المجتمع الذي يعتبر فيه الترفع البارد واللامبالاة دلالة على حسن التربية والأخلاق الفاضلة لابد أن تداري حماستك وهو يداريها . لكنه لا يوفق في ذلك، فالجميع يعرفون جيدا أنه يهوى الموسيقي بشغف. إن المناقشات التي لا تنتهي عن الموسيقى والأحكام الجريئة لغير الفاهمين من الناس . تجعلانه في توتر دائم فهو مفزع خجول وصموت وهو يعزف على البيانو بصورة رائعة مثل أي عازف أصيل ولو لم يكن ضابطا لكان في الغالب موسيقيا مشهورا.
وجفت دموعها، وتذكرت نادية أن جورني قد صارحها بحبه في حفل سيمفوني، ثم بعد ذلك في الطابق الأرضي بجوار المشاجب حيث هبت تيارات الهواء من جميع النواحي .
"أنا سعيدة جدا لأنك أخيرا تعرفت على الطالب جروزديف – مضت تكتب- إنه إنسان ذكي جدا ولعلك ستعجب به . كان عندنا بالأمس ومكث حتى الساعة الثانية وقد انبهرنا به جميعا وتأسفت أنك لم تأت لقد حدثنا بالكثير من الأشياء الرائعة ".
عقدت نادية يديها فوق الطاولة وأسندت إليهما رأسها فسقط شعرها وغطى الخطاب . وتذكرت أن الطالب جروزديف أيضا يحبها وأن له الحق في رسالة منها مثلما لجورني تماما.
وبالفعل أليس من الأفضل أن تكتب إلي جروزديف ؟ وبلا أية أسباب دبت البهجة في صدرها .. بدأت بهجة صغيرة تواثبت في صدرها مثل كرة من المطاط، ثم صارت أعرض وأكبر وتدفقت كالموجة .
ونسيت نادية جورني وجروزديف واختلطت أفكارها، بينما أخذت البهجة تكبر وتكبر وتنساب من صدرها إلى ذراعيها وساقيها وخيل إليها كأن نسمة رقيقة باردة هفت على رأسها فحركت شعرها . واهتزت كتفاها من الضحك الخافت . واهتزت الطاولة وزجاجة المصباح وطفر الدمع من عينها إلى الخطاب، لم يكن بوسعها ان توقف ذلك الضحك ولكي تظهر لنفسها أنها لا تضحك بدون سبب أسرعت تتذكر شيئا ما مضحكا.
- يا له من مضحك ذلك الكلب البودل !
تمتمت وقد شعرت أنها ستختنق من الضحك .
– يا له من مضحك ذلك البودل.
تذكرت كيف لاعب جروزديف، بعد شرب الشاي بالأمس، الكلب البودل مكسيم، ثم حكي لها عن بودل ذكي جدا لاحق في الفناء غرابا، فالتفت الغراب نحوه وقال :
- أنت يا أفاق !
ولم يكن الكلب يدري أن أمامه غرابا مدربا فارتبك بشدة وتراجع في حيرة ثم عاد ينبح .
- كلا، الأفضل أن أحب جروزديف
قررت نادية ومزقت الرسالة، وراحت تفكر في الطالب، في حبه وفي حبها، لكن الذي حدث أن الأفكار ساحت في رأسها فأصبحت تفكر في كل شيء : في أمها في الشارع في القلم في البيانو .
فكرت ببهجة فوجدت أن كل شيء حسن، رائع . وأوحت إليها البهجة بأن هذا ليس كل شيء بعد . وأنه عما قريب ستكون الأمور أروع . قريبا يحل الربيع، الصيف، السفر مع والدتها إلى "جوربيكي"، سيأتي جورني في فترة إجازته وسيتحول معها في الحديقة ويحيطها باهتمامه .
وسيجئ جروزديف أيضا ويلعب معها الكروكيت والكجل ويقص عليها أشياء مضحكة أومدهشة وانتابتها رغبة جارفة في أن تجد نفسها في الحديقة في العتمة تحت السماء الصافية والنجوم . واهتزت كتفاها ثانية من الضحك، وخيل إليها أن الغرفة تعبق برائحة الشيح، وأن غصنا قد احتك بالنافذة.
مشت نحو فراشها وجلست، ودون أن تدري ماذا تفعل ببهجتها التي أضنتها، نظرت إلى الأيقونة المعلقة فوق ظهر سريرها وتمتمت :
- يا إلهي ! إلهي ! يا إلهي ! .
ترجمة الدكتور أبو بكر يوسف
على هذا التراب .. أرى الحياةَ
ولا أرى ما يَستحقُّ لها تَغنـِّينا
تركتُ بساقِ زاجلةٍ
رسائلَ عاشقٍ للأرض ..
فاحتارتْ وضيَّعتِ العناوينا !!
زوجة الأب
على كرسى كبير ذى مساند يعود إلى الأسلاف، جلست سيدة عجوز صغيرة الجسم. وجهها مجعد ذو لونٍ اصفر - رمادى وكأنه ليمونة معصورة. كانت تنظر إلى جانب واحد، بكآبة وارتياب، متململة فى كرسيها دون استقرار، وبين الحين والآخر ترفع إلى انفها الدقيق الشبيه بالمنقار، قنينة صغيرة تحوى أملاحاً ذات رائحة (سعوط)، وكانت تشعر بأنها متعكرة المزاج. والى جانبها وقف شاب بمظهر جذاب، اسمحوا لى أن أقدمه لكم: انه شاعر، وابن زوج السيدة العجوز الصغيرة الجسم، وكان يدور بين زوجة الأب وابن الزوج، الحديث التالي:
قال الشاعر: جئت إليك بعملٍ يا أمى .. لقد كتبت رواية، ولقد أمرتنى أن أقرأ لك كل ما اكتبه. اسمحى لي، ها هى الرواية الآن....
- حسناً، سوف نقرأها.... ولكن لماذا يبدو عليك الحزن ؟ هل يعنى ذلك انك مستاء من تدخلى فى عملك ؟ هل تمانع ؟ هل أنت من ذلك النوع من الأشخاص ؟...
- ولكن، أنا مسرور يا أمي! كيف تأتى لك أن تقولى هذا ؟. لم أفكر حتي.... اخذ الشاعر نفساً عميقاً، اغمض عينيه قليلاً وبذل جهده لإظهار ابتسامة.ثم أردف: أنا مسرور جداً.... أرجو أن تحسنى إلي.... ينبغى لنا - نحن الكتـاب - أن نكون تحت رقابة ما......
- هكذا إذاً،.... هيا.. اقرأ لى ما كتبته، سأستمع لك.
بدأ الشاعر يقلب أوراقه ببطء. سعل مرتبكاً، وبدأ يقرأ:
كان صباح يوم من أيام شهر آيار الرائعة، وكان بطلى مستلقياً على الشاطئ، ينظر إلى الأمواج الهادرة، وهو يتأمل.... .
قاطعته زوجة أبيه: قف. قف.. اشطب كلمة "يتأمل".
- ولكن لماذا ؟
- الله يعلم ماذا كان يتأمل بطلك ! ربما كان شيئاً ما يمكن....
- ولكن سأوضح لك فيما بعد، يا أمي.
- يمكن للمرء أن يستنتج الكثير من الأشياء، قبل أن تكون قد وصلت إلى إيضاحاتك.... اشطبها.
شطب الشاعر كلمة "يتأمل"، واستمر يقرأ:
وبجانبه، على الرمل، كان يضع صندوق أصباغ وقطعة قنب تمتد على إطار....
- قف. قف.... كيف يمكنك أن تكتب مثل هذا ؟ اشطب كلمة "قنب"...
- ولكن لماذا، يا أمي؟
- ألا تدل تلك الكلمة على "التصّيد" ؟ ألا يمكن أن يكون فى معنى الكلمة تلميح إلى اضطرابات فى سكك الحديد، وان تلك الاضطرابات ترتبط مباشرة بـ .....
استبدل الشاعر كلمة "القنب" بـ "قطعة قماش" واستأنف القراءة:
كان مرافقه فلاح شاب يقف على حافة الشاطئ....
- أعدها. طوحت العجوز بيديها فى الهواء، وأدخلت أرنبة انفها فى قنينة أملاح الشم. أعدها... من اجل ماذا تريد فلاحاً هنا ؟ لماذا ؟ كيف دخل فى الموضوع ؟ استبدله بشيء آخر....
- سوف استبدله بـ "ولد صغير".
- ينبغى أن لا تفعل ذلك... إذا كان الولد الصغير يقف صباحاً على شاطئ البحر، فهذا يعنى انه ليس فى المدرسة، وهو تلميح بوجود نقصٍ فى المدارس.
مسح الشاعر حاجبه، تنهد بعمق، وواصل القراءة.
ولكن كلما توغلنا فى الغابة، كلما كانت هناك أشجار كثيفة، يتوجب قطعها. بدأت مخطوطة الشاعر تدريجياً تتغطى بخطوط سوداء، وبشطب، ونقاط، وفقدت باضطراد لونها الأبيض، وتبدلت إلى اللون الأسود. جميع الكلمات تم شطبها، عدا بعض علامات التعجب، والأرقام والقليل من ظروف الزمان والمكان. كانت العجوز تقف بالضد من علامات التعجب، لان مثل هذه العلامات، ربما كان القصد منها، زواجاً غير شرعى أو غير قانوني، يؤدى إلى اختلاط الطبقات الاجتماعية. وهى ترفض ضمائر الشخص الثالث، ذلك لان كلمة "هو" للعـاقل و"هو" أو "هي" لغير العاقل، قد تعنى أى شخص أو أى شئ: رينان، لزال، موسكو تلغراف، أو شيدرين ...وهى لم ولن تسمح له بأن يستعمل "الفوارز" لأنها - حسب ظنها - تلمح إلى ....
قالت العجوز: لماذا تركت هوامش فى مخطوطتك ؟ المسافة الفارغة تعني، أن لا حصاد. اقتطعها بالمقص!.
استطاع الشاعر بطريقة ما أن يصل إلى نهاية روايته:
أعلن الشخص المسؤول، قرار المحلفين بصوتٍ مرتعش: كلا انهم ليسوا مذنبين. صفق الحاضرون للقرار. .
انتفضت السيدة العجوز واقفة على قدميها، وقد امتلأت عيناها بالرعب، ومال غطاء رأسها جانباً، لتظهر ضفيرتها التى لا ترى فى العادة.
- هل جننت ؟... هل تبرئ السفلة ؟
- لكننى افعل الشيء الصحيح! انهم ليسوا مذنبين، يا أمي.
- ليسوا مذنبين ؟ هل فقدت عقلك ؟!. مجرد كونهم لم يصغوا لأسيادهم، وكانوا وقحين، وقليلى الأدب مع مساعد المدعى العام، وسمحوا لأنفسهم بأن يتحذلقوا أمام المحكمة، ينبغى أن يجلدوا بالسياط. ألا تعلم بان التبرئة تفسد أخلاق المرء؟ وتتلف الناس!. تريد أن تقول إن الجرائم يمكن أن تمر دون عقاب! ابدلها، من فضلك!
شطب الشاعر كلا، انهم ليسوا مذنبين وكتب:
فاسيلى كلنسكي، يعاقب بالعبودية فى المناجم، لمدة غير محددة، وتعاقب زوجته، ماريا، بالعبودية فى المعامل لمدة أربعة عشر عاماً.... .
السيدة العجوز منعته من شطب صفق الحاضرون للقرار .
- الآن، أخذت روايتك شكلها الصحيح. - قالت زوجة الأب - يمكنك السماح لأى شخص بأن يقرأها.
قَبل الشاعر يد السيدة العجوز، البارزة العظام، ورحل.
على هذا التراب .. أرى الحياةَ
ولا أرى ما يَستحقُّ لها تَغنـِّينا
تركتُ بساقِ زاجلةٍ
رسائلَ عاشقٍ للأرض ..
فاحتارتْ وضيَّعتِ العناوينا !!
فــــــــانـــــــكــــا
في ليلة عيد الميلاد لم ينم الصبي " فانكا جوكوف" ابن الأعوام التسعة والذي أعطوه منذ ثلاثة أشهر للاسكافي "الياخين" ليعمل صبياً لديه. وانتظر حتى انصرف أصحاب البيت والاسطوات إلي الصلاة فاخرج من صوان الاسكافي محبرة وقلماً بسن مصدي، وفرش أمامه ورقة مجعدة وراح يكتب. وقبل أن يخط أول حرف نظر إلي الباب والنوافذ بحذر، وتطلع بطرف عينه إلي الأيقونة الداكنة التي امتدت على جانبيها أرفف محملة بالنعال، وزفر زفيراً متقطعاً. كانت الورقة مبسوطة علي الأريكة، أما هو فقد جثا علي ركبتيه أمامها. وكتب:
" جدي العزيز " قسطنطين مكاريتش" ! أنا اكتب إليك خطاباً. أهنئكم بعيد الميلاد وأرجو لك من الله كل الخير. أنا ليس لدي أب أو أم، ولم يبق لي غيرك وحدك".
وحول " فانكا" بصره إلي النافذة المظلمة التي عكست ضوء شمعته المتذبذب، وتخيل بوضوح جده " قسطنطين مكاريتش" الذي يعمل حارساً ليلياً لدي السادة لدي " آل جيفارف ". و هو عجوز صغير نحيل إلا انه خفيف الحركة بصورة غير عادية، في حوالي الخامسة والستين، ذو وجه باسم دائماً وعينين ثملتين. كان نهاراً ينام في مطبخ الخدم أو يثرثر مع الطاهيات، أما في الليل فيطوف حول بيت السادة متدثراً بمعطف فضفاض من جلد الحمل ويدق علي صفيحة. ومن خلفه يسير مطأطأ الرأسين مع الكلبة العجوز "كاشتانكا" والكلب "فيون" الذي سمي هكذا للونه الأسود وجسده الطويل كالنمس.
كان هذا الـ " فيون " مهذباً ورقيقاً بصورة غير عادية، وكان ينظر بنفس الدرجة من التأثر سواء لأصحابه أم للغرباء، ولكنه لم يكن يحظى بالثقة. كان يخفي تحت تهذيبه واستكانته خبثاً غادراً إلي أقصي حد. فلم يكن هناك من هو أحسن منه في التلصص في الوقت المناسب ليعض الساق، أو التسلل إلي المخزن، أو سرقة دجاجة من بيت فلاح. وقد حطموا له ساقيه الخلفيتين غير مرة، وعلقوه مرتين، وكانوا يضربونه كل أسبوع حتى الموت، ولكنه كان يبعث من جديد.
وربما يقف الجد الآن أمام البوابة ويزر عينيه وهو يتطلع إلي نوافذ كنيسة القرية الساطعة الحمرة، ويثرثر مع الخدم وهو يدق الأرض بحذائه اللباد. والصفيحة التي يدق عليها معلقة إلي خصره،. ويشيح بيديه ثم يتململ من البرد، ويضحك ضحكة عجوز ويقرص الخادم تارة والطاهية تارة أخري.
ويقول وهو يقدم للفلاحات كيس تبغه:
- ألا ترغبن في استنشاق التبغ؟
وتستنشق الفلاحات ويعطسن، ويستولي علي الجد إعجاب لا يوصف ويقهقه بمرح ويصيح:
- بقوة و إلا لزقت!
ويقدمون التبغ للكلاب لتشمه. وتعطس "كاشتانكا" و تلوي بوزها، وتبتعد مغضبة. أما " فيون" فلا يعطس تأدبا، بل يهز ذيله. والجو رائع. الهواء هادئ، وشفاف ومنعش.
والليل حالك ومع ذلك تلوح القرية كلها بأسقف منازلها البيضاء وأعمدة الدخان المنبعثة من المداخن، والأشجار وقد كساها الثلج ثوباً فضياً، وأكوام الثلج. والسماء كلها مرصعة بنجوم تتراقص بمرح، ويبدو درب التبانة واضحاً وكأنما غسلوه قبل العيد ودعكوه بالثلج.. وتنهد " فانكا" ، وغمس الريشة في الحبر ومضي يكتب:
" بالأمس ضربوني علقة، شدني المعلم من شعري إلي الحوش وضربني بقالب الأحذية لأني كنت أهز ابنه في المهد فنعست غصباً عني. وفي هذا الأسبوع أمرتني المعلمة أن أقشر فسيخة، فبدأت أقشرها من ذيلها، فشدت مني الفسيخة وأخذت تحك رأسها في وجهي. والاسطوات يسخرون مني ويرسلونني إلي الخمارة لشراء "الفودكا" ويأمرونني أن اسرق الخيار من بيت المعلم، والمعلم يضربني بكل ما يقع في يده. وليس هناك أي طعام، في الصباح يعطونني خبزاً، وفي الغداء عصيدة، وفي المساء أيضا خبزاً، أما الشاي أو الحساء فالسادة وحدهم يشربونه. ويأمرونني أن أنام في المدخل، وعندما يبكي ابنهم لا أنام أبداً وأهز المهد. يا جدي العزيز، اعمل معروفاً لله وخذني من هنا إلي البيت في القرية. لم اعد احتمل أبداً... أتوسل إليك وسوف اصلي لله دائماً، خذني من هنا و إلا سأموت..
وقلص " فانكا" شفتيه ومسح عينيه بقبضته السوداء وأجهش بالبكاء. ومضي يكتب: " سأطحن لك التبغ، واصلي لله، وإذا بدر مني شيء اضربني كما يُضرب الكلب. وإذا كنت تظن أنه ليس لي عمل فسأرجو الخولي بحق المسيح أن يأخذني ولو لتنظيف حذائه، أو أعمل راعياً بدلاً من " فيدكا" . يا جدي العزيز، لم اعد احتمل أبداً، لا شيء سوي الموت. أردت أن اهرب إلي القرية ماشياً ولكن ليس لدي حذاء واخشي الصقيع، وعندما أصبح كبيراً فسوف أطعمك مقابل هذا ولن اسمح لأحد أن يمسك، وإذا مت يا جدي فسأصلي من أجل روحك كما أصلي من أجل أمي " بيلاجيا". وموسكو مدينة كبيرة.. والبيوت كلها بيوت أكابر، والخيول كثيرة، وليس هناك غنم، والكلاب ليست شريرة. والأولاد في العيد لا يطوفون بالبيوت منشدين ولا يسمح لأحد بالذهاب للترتيل في الكنيسة. ومرة رأيت في أحد الدكاكين، في الشباك، صنانير تباع بخيوطها لصيد كل أنواع السمك، عظيمة جداً، بل وتوجد صنارة تتحمل قرموطاً وزنه "بوذ". ورأيت دكاكين فيها مختلف أنواع البنادق التي تشبه بنادق السادة، ويمكن الواحدة منها تساوي مائة روبل.. وفي دكاكين اللحوم يوجد دجاج الغابة وأرانب، ولكن الباعة لا يقولون أين يصطادونها. يا جدي العزيز، عندما يقيم السادة شجرة عيد الميلاد خذ لي جوزة مذهبة وخبئها في الصندوق. قل للآنسة " أولجا اجناتيفنا" أنها من أجل "فانكا".
وتنهد " فانكا" وسمر عينيه في النافذة من جديد. وتذكر أن جده كان دائماً يذهب للغابة لإحضار شجرة عيد الميلاد ويصحب معه حفيده. يا له من عهد سعيد! كان الجد يتنحنح والثلج يتنحنح و"فانكا" يتنحنح مثلهم. وكان يحدث أن الجد، قبل أن يقطع الشجرة، يجلس ليدخن الغليون، ويشم التبغ طويلاً وهو يضحك من "فانكا" المقرور.. وشجيرات عيد الميلاد الشابة تقف متلفعة بالثلج وساكنة وهي تنتظر أيها التي ستموت؟ وفجأة يمرق أرنب كالسهم عبر أكوام الثلج.. ولا يستطيع الجد أن يمسك نفسه عن الصياح:
- امسك، امسك.. امسك!
آه، يا شيطان يا ملعون، ثم يسحب الجد الشجرة المقطوعة إلي منزل السادة، حيث يشرعون في تزيينها.. وكانت الآنسة "اولجا اجتاتيفنا" التي يحبها "فانكا"، هي التي تشغله أكثر من الجميع، وعندما كانت أم "فانكا" "بيلاجيا" علي قيد الحياة كانت تعمل خادمة لدي السادة، كانت " اولجا اجتناتيفنا" تعطي " لفانكا " الحلوى، ولما لم يكن لديها ما تعمله فقد علمته القراءة والكتابة والعد حتى مئة، بل وحتى رقصة "الكادريل"، ولما ماتت" بيلاجيا"، أرسلوا "فانكا" اليتيم إلي جده في المطبخ مع الخدم، ومن المطبخ إلي موسكو عند الاسكافي "الياخين"...
ومضي فانكا يكتب: " احضر يا جدي العزيز، استحلفك بالمسيح الرب أن تأخذني من هنا. أشفق علي أنا اليتيم المسكين، لان الجميع يضربونني، وأنا جوعان جداً، ولا أستطيع أن أصف لك وحشتي، وابكي طول الوقت. ومن مدة ضربني المعلم بالنعل علي رأسي حتى وقعت ولم أفق إلا بالعافية. ما أضيع حياتي، أسوأ من حياة أي كلب.. تحياتي " لاليونا و "يجوركا الأحول" ، والحوذي، ولا تعط "الهارمونيكا" لأحد. حفيدك دائماً " ايفان جوكوف"، احضر يا جدي العزيز".
وطوي " فانكا" الورقة المكتوبة أربع مرات ووضعها في مظروف كان قد اشتراه من قبل " بكوبيك".. وفكر قليلاً ثم غمس الريشة وكتب العنوان:
إلي قرية جدي
وحك رأسه وفكر، ثم أضاف " قسطنطين مكاريتش". وارتدي غطاء الرأس وهو سعيد لأن أحداً لم يعطله عن الكتابة، ولم يضع المعطف علي كتفيه، بل انطلق إلي الخارج بالقميص فقط...
كان الباعة في دكان الجزار الذين سألهم من قبل قد اخبروه أن الرسائل تلقي في صناديق البريد، ومن الصناديق تنقل إلي جميع أنحاء الأرض علي عربات بريد بحوذية سكاري وأجرس رنانة.
وركض " فانكا" إلي أول صندوق بريد صادفه، ودس الرسالة الغالية في فتحة الصندوق.
وبعد ساعة كان يغط في نوم عميق وقد هدهدت الآمال الحلوة روحه.. وحلم بالفرن. كان جده جالساً علي الفرن مدلياً ساقيه العريانتين وهو يقرأ الرسالة للطاهيات.. وبجوار الفرن يسير " فيون " ويهز ذيله...
تمـــــــــــــــــــــــــــــــت
على هذا التراب .. أرى الحياةَ
ولا أرى ما يَستحقُّ لها تَغنـِّينا
تركتُ بساقِ زاجلةٍ
رسائلَ عاشقٍ للأرض ..
فاحتارتْ وضيَّعتِ العناوينا !!
المتمـــارضـــون
في أحد أيام الثلاثاء من شهر مايو كانت زوجة الجنرال مارفا بتروفنا بتشونكينا ,التي تمارس العلاج الهوميوباتي منذ عشر سنوات ,تستقبل المرضى في غرفة مكتبها. وعلى الطاولة أمامها كان صندوق صيدلية الادوية الهوميوباتية وكتاب وصفات العلاج وفواتير الصيدلية.
وعلى الجدران علقت تحت الزجاج في اطر مذهبة رسائل طبيب هوميوتابي ما من بطرسبرج كان مشهورا جدا في رأي مارفا بتروفنا, بل وعظيما, وصورة الأب أريستاخ الذي تدين له زوجة الجنرال بخلاصها ,أي بالكف عن العلاج المألوف وادراك الحقيقة.وفي الردهة ينتظر المرضى جالسين ومعظمهم من الفلاحين .وجميعهم ماعدا اثنين او ثلاثة حفاة,لأن زوجة الجنرال تأمرهم بأن يتركوا احذيتهم النتنة في الفناء.
كانت مارفا بتروفنا قد استقبلت عشرة اشخاص, وهاهي تستدعي الحادي عشر:
-جافريلا جروزد !
ويفتح الباب وبدلا من جافريلا جروزد يدخل الغرفة زاموخرشين, جار زوجة الجنرال, من الاقطاعين المفلسين ,عجوز ضئيل الجسم ذو عينين كابيتين وتحت ابطه قبعة النبلاء. ويضع العصا في الركن ويقترب من زوجة الجنرال, وفي صمت يركع على احدى ركبتيه أمامها.
فتفزع زوجة الجنرال وتتضرج حمرة
-ماهذا! ماهذا ياكوزما كوزميتش! أرجوك لا داعي!
فيقول زاموخريشين مقبلا يدها:
-لن انهض مادمت حيا! فليراني الناس كلهم راكعا امامك ياملاكنا الحارس ياراعية جنس بني البشر! ليروني! الساحرة الخيّرة التي وهبتني الحياة وارشدتني الى السبيل القويم وأنارت ظلمات يأسي, هذه الساحرة مستعد ان اقف امامها لا علىركبتي بل وفي النار ايضا, ياشافية جراحنا الرائعة, يا أم اليتامى والارامل ! لقد شفيت ! بعثت حيا أيتها الساحرة!
فتدمدم زوجة الجنرال وهي تتضرج من السرور:
-أنا...أنا سعيدة جدا...ماأطيب ان اسمع هذا..اجلس من فضلك!ولكنك في الثلاثاء الماضي كنت مريضا جدا!
فيقول زاموخريشين:
-اوه كم كنت مريضا! مجرد التذكر شيء مرعب! كان الروماتيزم ممسكا بكل اطرافي واعضائي .ثماني سنوات أتعذب , لم أذق للراحة طعماً ....لاليلا ولانهارا ياربة نعمتي! ترددت على الأطباء وسافرت الى البروفيسورات في كازان, وتعالجت بمختلف انواع الطين, وشربت المياه المعدنية ,لم أترك شيئا الا جربته! وضيعت ثروتي على العلاج ياسيدتي الجميلة. هؤلاء الاطباء لم يعودوا عليّ بشيء الا الضرر .حبسوا الداء في جسمي..صحيح انهم حبسوه ..ولكن علومهم ليست قادرة على اخراجه..هؤلاء اللصوص لايحبون الا الاستيلاء على النقود, أما آلام الانسان فلا تحرك شيئا في نفوسهم .يصف لك الدجال منهم شيئا ما , وعليك ان تشربه . باختصار هم قتلة!
ولولاك يا ملاكنا , لكنت الآن في القبر! عدت من عندك يوم الثلاثاء الماضي ونظرت الى الحبات التي اعطيتنيها يومها وقلت لنفسي ((أي فائدة منها؟ أمن المعقول أن هذه الحبيبات التي لا تكاد تُرى يمكن ان تشفيني من مرضي الهائل القديم؟)) . ورحت ابتسم وانا افكر ,يالي من ضعيف الايمان , وما ان تناولت حبة حتى ظهر الأثر فورا! كأنما لم اكن مريضا, كأنما يد مسحت الداء عني . وحدقت زوجتي فيَّ بعينين جاحظتين وهي لاتصدق:
((اهذا انت ياكوليا حقا؟)) فقلت لها: ((نعم أنا)). وركعنا معا امام الايقونة ورحنا نصلي لملاكنا : (( فلتعطها يارب كل ما نتمناه لها في نفوسنا)).
ويمسح زاموخريشين عينيه براحته, وينهض من على المقعد, ويبدو انه ينوي الركوع مرة اخرى على احدى ركبتيه , ولكن زوجة الجنرال تستوقفه وتجلسه.
-لاتوجّه الشكر اليّ ..._ قالت وهي تتضرج بحمرة الانفعال وتنظر باعجاب الى صورة الأب اريستاخ _ ما انا الا اداة طيعة..يالها من معجزات ! روماتيزم قديم من ثماني سنوات ويزول من حبة واحدة!
-لقد تكرمت واعطيتني ثلاث حبات. أخذت حبة في الغداء,وفورا زال ! والثانية اخذتها في المساء, والثالثة في اليوم التالي..ومن ساعتها لم أشعر بشيء! ولاحتى بوخزة! مع اني كنت استعد لملاقاة الموت , حتى اني كتبت لابني في موسكو ان يأتي! ألهمك الله ياشافية الجراح ! ها أنذا أسير وكأني في الجنة ..في ذلك الثلاثاء عندما كنت عندك كنت اعرج, اما الآن فعلى استعداد ولو لمطاردة أرنب...مائة سنة أخرى استطيع ان اعيش! شيء واحد يؤرقني :قلة الموارد. ها انذا صحيح الجسم ,فما جدوى الصحة اذا كنت لاتجد ماتعيش به؟ العوز أرهقني أكثر من المرض.. إليك مثلا على ذلك هذا الأمر...الآن أوان بذر الجودار , فكيف تبذره وليس لديك بذور؟ ينبغي ان اشتري, ولكن النقود..اي نقود لدينا...
- سأعطيك جودارا ياكوزماكوزميتش...اجلس, اجلس . كم أذهلتني , أية سعادة منحتني , انا التي يجب ان اشكرك لا انت!
- انت سعادتنا! كيف خلق الرب كل هذه الطيبة! فلتفرحي ياسيدتي وانت تنظرين الى اعمالك الطيبة! اما نحن المساكين فليس لدينا مايفرحنا ...نحن قوم صغار , فقراء الروح ,لانفع منا...تافهون...نحن نبلاء اسما فقط , أما ماديا فنحن كهؤلاء الفلاحين , بل اسوأ ... نعيش في بيوت حجرية ولكن ذلك في الحقيقة سراب ...لأن السقف مثقوب تتسرب منه المياه.. وليس لدينا مانشتري به الخشب.
- سأعطيك خشبا ياكوزما كوزميتش.
ويحصل زاموخريشين كذلك على بقرة, وخطاب توصية لابنته التي يعتزم الحاقها بمعهد و..ويغلبه التأثر من كرم زوجة الجنرال فيشهق باكيا ويتقلص فمه, ويدس يده في جيبه ليخرج المنديل ..وترى زوجة الجنرال ورقة حمراء تخرج من جيبه مع المنديل وتسقط على الارض دون صوت .
ويتمتم زاموخريشين:
-لن انسى ابد الدهر.. وسأوصي اولادي واحفادي ان يذكروا..وكل الاجيال..هاهي يا اولادي تلك التي انقذتني من القبر..تلك التي..
وبعد ان تودع زوجة الجنرال مريضها تقف دقيقة تحدق في الاب اريستاخ بعينين مغرورقتين بالدموع ,ثم تطوف بنظرة رقيقة ممتنة على الصيدلية , وكتب العلاج, والفواتير, والكرسي الذي كانيجلس فيه منذ قليل الرجل الذي انقذته من الموت, ويقع بصرها على الورقة التي سقطت من جيب المريض. وترفع زوجة الجنرال الورقة وتفضها , فترى فيها ثلاث حبات ,تلك الحبات نفسها التي اعطتها لزاموخريشين في الثلاثاء الماضي .
وتقول مستغربة:
- انها هي نفسها..حتى الورقة هي بعينها ...انه حتى لميفضها! ماالذي تناوله اذن ؟ غريبة..لايمكن ان يكون قد خدعني!
ولأول مرة خلال عشر سنوات من الممارسة يتسرب الشك الى نفس زوجة الجنرال ...وتستدعي بقية المرضى , وتلاحظ وهي تتحدث معهم عن امراضهم ماكان يغيب عن سمعها من قبل . فجميع المرضى بلا استثناء, وكأنما اتفقوا على ذلك, يمجدونها في البداية على شفائهم المدهش , ويبدون اعجابهم بحصافتها الطبية , ويسبون الاطباء العاديين , وبعد ذلك , وعندما يتضرج وجهها من شدة الانفعال, يبدأون في شرح مطالبهم . فأحدهم يسألها قطعة أرض ليزرعها, والآخر قليلا من الحطب , والثالث يرجوها ان تسمح له بالصيد في غاباتها...الخ. وتتطلع زوجة الجنرال الى وجه الاب اريستاخ العريض السمح الذي هداها الى الحقيقة, وتأخذ حقيقة أخرى في تعذيب روحها..حقيقة كريهة , ثقيلة...
ماأخبث الانسان![/b]
قصص قصيرة للأديب الروسي أنطوان تشيخوف
بطاقة اليانصيب
السيد إيفان ديمتريش يجلس إلى طاولة الطعام يتناول عشاءه بعد يوم عمل شاق، وبعد أن يفرغ منه وقبل أن يهم بقراءة الصحيفة، كعادته وعادة كل الأزواج تقريبا، كل يوم تذكره أم العيال السيدة الفاضلة ماشا، التي تشاركه شظف العيش، تذكره أن اليوم هو إعلان نتيجة اليانصيب الأخير الذي اشترت ماشا واحدة من بطاقاته .العزيز إيفان رجل جاد لا يؤمن بالحظ، وبالأحرى يرى أن الحظ ليس من نصيبه وإلا لماذا حاله هكذا؟ غير أن الرجل، على ضيق حاله قنوع راض بدخله المتواضع. إيفان يسأل، في غير اكتراث واضح، زوجته عن رقم البطاقة ويبدأ في التفتيش عن الرقم الفائز المنشور في الصحيفة التي بين يديه. تناوله ماشا البطاقة فيقرأ الرقم بطرف عين، وقد رأى أن الرقم الفائز هو رقم بطاقة ماشا. وفي لحظات تتغير نفسية الرجل ويغوص فجأة في أحلامه وينسى نفسه.. كيف سينفق هذه الثروة التي هبطت عليه.. يغير البيت؟ طبعا. وكل الأثاث؟ بالتأكيد. ويسدد الديون المتراكمة عليه؟ لا بأس. ولكن الباقي ما مصيره؟ في البنك يا عزيزي ليضمن عائدا يتلاءم مع متطلبات المرحلة الجدية التي ولجها.
فجأة يتحول العزيز ديمتريش من رجل قانع إلى شخص طامع لديه نهم إلى الإسراف والتبذير، فهذه الورقة التي بين يديه ستنقله من عالم إلى عالم آخر، ليس هو وحده وإنما معه الأولاد وأم الأولاد الحصيفة التي اشترت البطاقة. يتوقف إيفان ديمتريش عن الاسترسال في أحلامه برهة وينظر إلى ماشا ليخبرها أنه سيسافر إلى خارج البلاد في رحلة سياحية. العزيزة ماشا يبدو أن أحلامها هي الأخرى كانت اختمرت في مؤخرة جمجمتها، حيث تبادره قائلة .. أنا أيضا أود السفر إلى الخارج، على طريقة "رجلي على رجلك" المعروفة بين الزوجات.
للكلام وقع صاعقة على الرجل الذي كان، حتى لحظات قليلة، وقورا. لم يكن يتخيل أن تطلب أم العيال السفر للخارج، ويتساءل- في نفسه طبعا- ماذا تريد ماشا؟ أتريد ملازمتي فلا أسافر وحيدا واستمتع بسفرتي حتى النهاية؟ وفي ثواني معدودات تتحول صورة المرأة التي رافقته رحلة الحياة إلى شبح مزعج؛ عجوز لا تعرف إلا الشكوى، ولا تشم منها إلا رائحة المطبخ؛ في جسدها وفي ملابسها. لم يعد فيها شيء يجذبه إليها. أما هو فمازال شابا وسيما- هكذا تخيل- ولا يخلو من جاذبية، فلماذا لا يتزوج من أخرى؟ نعم لماذا لا يتزوج من أخرى؟
على هذا التراب .. أرى الحياةَ
ولا أرى ما يَستحقُّ لها تَغنـِّينا
تركتُ بساقِ زاجلةٍ
رسائلَ عاشقٍ للأرض ..
فاحتارتْ وضيَّعتِ العناوينا !!
بعد المسرح
ما إن عادت نادية زيلينيا مع والدتها من المسرح، حيث شاهدتا "يفجيني أنيجين" * ودخلت غرفتها، حتى نزعت فستانها بسرعة وحلت ضفيرتها، وأسرعت بالجونلة والبلوزة البيضاء فقط فجلست إلى الطاولة لتكتب خطابا كالذي كتبته تاتيانا.
وخطت : "إنني أحبك، ولكنك لا تحبني، لا تحبني". كتبت هذا وضحكت .
كان عمرها ستة عشر عاما فقط، ولم تحب أحدا بعد . وكانت تعلم أن الضابط جورني والطالب جزوديف يحبانها، ولكنها شعرت الآن بعد الأوبرا برغبة في التشكك في ذلك الحب . أن تكون غير محبوبة وتعيسة .. ما أروع ذلك ! ثمة شيء ما، حين يحب الشخص بقوة ولا يكترث به الآخر، شيء جميل، ومؤثر وشاعري .
أنيجين ممتع لأنه لا يحب مطلقا أما تاتيانا فهي خلابة لأنها تحب بقوة، ولو أنهما أحبا بعضهما البعض بنفس الدرجة وكانا سعيدين لأصبحا علي الأرجح مملين . " كف عن التأكيد بأنك تحبني ـ واصلت نادية الكتابة وهي تفكر في الضابط جورني ـ فأنا لا استطيع أن أصدقك، أنت ذكي جدا مثقف جاد ولديك موهبة كبيرة وربما كان في انتظارك مستقبل باهر، أما أنا فلا شيء يميزني فتاة لا وزن لها وأنت نفسك تعرف جيدا أنني لن أكون سوي عقبة في حياتك حقا. أنت همت بي وظننت أنك في شخصي عثرت على المثال الذي تبحث عنه، لكنها كانت غلطة والآن تسأل نفسك بيأس : ما الذي جعلني ألتقي بهذه الفتاة ؟ وطيبة قلبك فقط هي التي تمنعك من الاعتراف بذلك !..." .
أحست نادية بالإشفاق على نفسها، فبكت ومضت تكتب : " صعب علي فراق ماما وأخي، وإلا كنت ارتديت مسوح الراهبات ومضيت أينما يمتد بي النصر .. ولأصبحت أنت حرا وأحببت فتاة غيري . آه لو كنت أموت ".
من خلال الدموع استحال تبين الكلمات المكتوبة، وتراقصت ألوان طيف قصيرة فوق الطاولة، وعلى أرضية الغرفة وعلى السقف كما لو أن نادية كانت تنظر عبر منشور، وتعذرت الكتابة فتراجعت إلى ظهر المقعد وأخذت تفكر في جورني . يا إلهي، أي سحر في الرجال، وأية جاذبية ! تذكرت نادية ذلك التعبير الرائع، المتزلف والمذنب والناعم الذي يرتسم على وجه الضابط عندما يجادلونه في الموسيقى، وأية جهود يبذلها أثناء ذلك لكيلا يرن صوته بحماسة . ففي المجتمع الذي يعتبر فيه الترفع البارد واللامبالاة دلالة على حسن التربية والأخلاق الفاضلة لابد أن تداري حماستك وهو يداريها . لكنه لا يوفق في ذلك، فالجميع يعرفون جيدا أنه يهوى الموسيقي بشغف. إن المناقشات التي لا تنتهي عن الموسيقى والأحكام الجريئة لغير الفاهمين من الناس . تجعلانه في توتر دائم فهو مفزع خجول وصموت وهو يعزف على البيانو بصورة رائعة مثل أي عازف أصيل ولو لم يكن ضابطا لكان في الغالب موسيقيا مشهورا.
وجفت دموعها، وتذكرت نادية أن جورني قد صارحها بحبه في حفل سيمفوني، ثم بعد ذلك في الطابق الأرضي بجوار المشاجب حيث هبت تيارات الهواء من جميع النواحي .
"أنا سعيدة جدا لأنك أخيرا تعرفت على الطالب جروزديف – مضت تكتب- إنه إنسان ذكي جدا ولعلك ستعجب به . كان عندنا بالأمس ومكث حتى الساعة الثانية وقد انبهرنا به جميعا وتأسفت أنك لم تأت لقد حدثنا بالكثير من الأشياء الرائعة ".
عقدت نادية يديها فوق الطاولة وأسندت إليهما رأسها فسقط شعرها وغطى الخطاب . وتذكرت أن الطالب جروزديف أيضا يحبها وأن له الحق في رسالة منها مثلما لجورني تماما.
وبالفعل أليس من الأفضل أن تكتب إلي جروزديف ؟ وبلا أية أسباب دبت البهجة في صدرها .. بدأت بهجة صغيرة تواثبت في صدرها مثل كرة من المطاط، ثم صارت أعرض وأكبر وتدفقت كالموجة .
ونسيت نادية جورني وجروزديف واختلطت أفكارها، بينما أخذت البهجة تكبر وتكبر وتنساب من صدرها إلى ذراعيها وساقيها وخيل إليها كأن نسمة رقيقة باردة هفت على رأسها فحركت شعرها . واهتزت كتفاها من الضحك الخافت . واهتزت الطاولة وزجاجة المصباح وطفر الدمع من عينها إلى الخطاب، لم يكن بوسعها ان توقف ذلك الضحك ولكي تظهر لنفسها أنها لا تضحك بدون سبب أسرعت تتذكر شيئا ما مضحكا.
- يا له من مضحك ذلك الكلب البودل !
تمتمت وقد شعرت أنها ستختنق من الضحك .
– يا له من مضحك ذلك البودل.
تذكرت كيف لاعب جروزديف، بعد شرب الشاي بالأمس، الكلب البودل مكسيم، ثم حكي لها عن بودل ذكي جدا لاحق في الفناء غرابا، فالتفت الغراب نحوه وقال :
- أنت يا أفاق !
ولم يكن الكلب يدري أن أمامه غرابا مدربا فارتبك بشدة وتراجع في حيرة ثم عاد ينبح .
- كلا، الأفضل أن أحب جروزديف
قررت نادية ومزقت الرسالة، وراحت تفكر في الطالب، في حبه وفي حبها، لكن الذي حدث أن الأفكار ساحت في رأسها فأصبحت تفكر في كل شيء : في أمها في الشارع في القلم في البيانو .
فكرت ببهجة فوجدت أن كل شيء حسن، رائع . وأوحت إليها البهجة بأن هذا ليس كل شيء بعد . وأنه عما قريب ستكون الأمور أروع . قريبا يحل الربيع، الصيف، السفر مع والدتها إلى "جوربيكي"، سيأتي جورني في فترة إجازته وسيتحول معها في الحديقة ويحيطها باهتمامه .
وسيجئ جروزديف أيضا ويلعب معها الكروكيت والكجل ويقص عليها أشياء مضحكة أومدهشة وانتابتها رغبة جارفة في أن تجد نفسها في الحديقة في العتمة تحت السماء الصافية والنجوم . واهتزت كتفاها ثانية من الضحك، وخيل إليها أن الغرفة تعبق برائحة الشيح، وأن غصنا قد احتك بالنافذة.
مشت نحو فراشها وجلست، ودون أن تدري ماذا تفعل ببهجتها التي أضنتها، نظرت إلى الأيقونة المعلقة فوق ظهر سريرها وتمتمت :
- يا إلهي ! إلهي ! يا إلهي ! .
ترجمة الدكتور أبو بكر يوسف
على هذا التراب .. أرى الحياةَ
ولا أرى ما يَستحقُّ لها تَغنـِّينا
تركتُ بساقِ زاجلةٍ
رسائلَ عاشقٍ للأرض ..
فاحتارتْ وضيَّعتِ العناوينا !!
زوجة الأب
على كرسى كبير ذى مساند يعود إلى الأسلاف، جلست سيدة عجوز صغيرة الجسم. وجهها مجعد ذو لونٍ اصفر - رمادى وكأنه ليمونة معصورة. كانت تنظر إلى جانب واحد، بكآبة وارتياب، متململة فى كرسيها دون استقرار، وبين الحين والآخر ترفع إلى انفها الدقيق الشبيه بالمنقار، قنينة صغيرة تحوى أملاحاً ذات رائحة (سعوط)، وكانت تشعر بأنها متعكرة المزاج. والى جانبها وقف شاب بمظهر جذاب، اسمحوا لى أن أقدمه لكم: انه شاعر، وابن زوج السيدة العجوز الصغيرة الجسم، وكان يدور بين زوجة الأب وابن الزوج، الحديث التالي:
قال الشاعر: جئت إليك بعملٍ يا أمى .. لقد كتبت رواية، ولقد أمرتنى أن أقرأ لك كل ما اكتبه. اسمحى لي، ها هى الرواية الآن....
- حسناً، سوف نقرأها.... ولكن لماذا يبدو عليك الحزن ؟ هل يعنى ذلك انك مستاء من تدخلى فى عملك ؟ هل تمانع ؟ هل أنت من ذلك النوع من الأشخاص ؟...
- ولكن، أنا مسرور يا أمي! كيف تأتى لك أن تقولى هذا ؟. لم أفكر حتي.... اخذ الشاعر نفساً عميقاً، اغمض عينيه قليلاً وبذل جهده لإظهار ابتسامة.ثم أردف: أنا مسرور جداً.... أرجو أن تحسنى إلي.... ينبغى لنا - نحن الكتـاب - أن نكون تحت رقابة ما......
- هكذا إذاً،.... هيا.. اقرأ لى ما كتبته، سأستمع لك.
بدأ الشاعر يقلب أوراقه ببطء. سعل مرتبكاً، وبدأ يقرأ:
كان صباح يوم من أيام شهر آيار الرائعة، وكان بطلى مستلقياً على الشاطئ، ينظر إلى الأمواج الهادرة، وهو يتأمل.... .
قاطعته زوجة أبيه: قف. قف.. اشطب كلمة "يتأمل".
- ولكن لماذا ؟
- الله يعلم ماذا كان يتأمل بطلك ! ربما كان شيئاً ما يمكن....
- ولكن سأوضح لك فيما بعد، يا أمي.
- يمكن للمرء أن يستنتج الكثير من الأشياء، قبل أن تكون قد وصلت إلى إيضاحاتك.... اشطبها.
شطب الشاعر كلمة "يتأمل"، واستمر يقرأ:
وبجانبه، على الرمل، كان يضع صندوق أصباغ وقطعة قنب تمتد على إطار....
- قف. قف.... كيف يمكنك أن تكتب مثل هذا ؟ اشطب كلمة "قنب"...
- ولكن لماذا، يا أمي؟
- ألا تدل تلك الكلمة على "التصّيد" ؟ ألا يمكن أن يكون فى معنى الكلمة تلميح إلى اضطرابات فى سكك الحديد، وان تلك الاضطرابات ترتبط مباشرة بـ .....
استبدل الشاعر كلمة "القنب" بـ "قطعة قماش" واستأنف القراءة:
كان مرافقه فلاح شاب يقف على حافة الشاطئ....
- أعدها. طوحت العجوز بيديها فى الهواء، وأدخلت أرنبة انفها فى قنينة أملاح الشم. أعدها... من اجل ماذا تريد فلاحاً هنا ؟ لماذا ؟ كيف دخل فى الموضوع ؟ استبدله بشيء آخر....
- سوف استبدله بـ "ولد صغير".
- ينبغى أن لا تفعل ذلك... إذا كان الولد الصغير يقف صباحاً على شاطئ البحر، فهذا يعنى انه ليس فى المدرسة، وهو تلميح بوجود نقصٍ فى المدارس.
مسح الشاعر حاجبه، تنهد بعمق، وواصل القراءة.
ولكن كلما توغلنا فى الغابة، كلما كانت هناك أشجار كثيفة، يتوجب قطعها. بدأت مخطوطة الشاعر تدريجياً تتغطى بخطوط سوداء، وبشطب، ونقاط، وفقدت باضطراد لونها الأبيض، وتبدلت إلى اللون الأسود. جميع الكلمات تم شطبها، عدا بعض علامات التعجب، والأرقام والقليل من ظروف الزمان والمكان. كانت العجوز تقف بالضد من علامات التعجب، لان مثل هذه العلامات، ربما كان القصد منها، زواجاً غير شرعى أو غير قانوني، يؤدى إلى اختلاط الطبقات الاجتماعية. وهى ترفض ضمائر الشخص الثالث، ذلك لان كلمة "هو" للعـاقل و"هو" أو "هي" لغير العاقل، قد تعنى أى شخص أو أى شئ: رينان، لزال، موسكو تلغراف، أو شيدرين ...وهى لم ولن تسمح له بأن يستعمل "الفوارز" لأنها - حسب ظنها - تلمح إلى ....
قالت العجوز: لماذا تركت هوامش فى مخطوطتك ؟ المسافة الفارغة تعني، أن لا حصاد. اقتطعها بالمقص!.
استطاع الشاعر بطريقة ما أن يصل إلى نهاية روايته:
أعلن الشخص المسؤول، قرار المحلفين بصوتٍ مرتعش: كلا انهم ليسوا مذنبين. صفق الحاضرون للقرار. .
انتفضت السيدة العجوز واقفة على قدميها، وقد امتلأت عيناها بالرعب، ومال غطاء رأسها جانباً، لتظهر ضفيرتها التى لا ترى فى العادة.
- هل جننت ؟... هل تبرئ السفلة ؟
- لكننى افعل الشيء الصحيح! انهم ليسوا مذنبين، يا أمي.
- ليسوا مذنبين ؟ هل فقدت عقلك ؟!. مجرد كونهم لم يصغوا لأسيادهم، وكانوا وقحين، وقليلى الأدب مع مساعد المدعى العام، وسمحوا لأنفسهم بأن يتحذلقوا أمام المحكمة، ينبغى أن يجلدوا بالسياط. ألا تعلم بان التبرئة تفسد أخلاق المرء؟ وتتلف الناس!. تريد أن تقول إن الجرائم يمكن أن تمر دون عقاب! ابدلها، من فضلك!
شطب الشاعر كلا، انهم ليسوا مذنبين وكتب:
فاسيلى كلنسكي، يعاقب بالعبودية فى المناجم، لمدة غير محددة، وتعاقب زوجته، ماريا، بالعبودية فى المعامل لمدة أربعة عشر عاماً.... .
السيدة العجوز منعته من شطب صفق الحاضرون للقرار .
- الآن، أخذت روايتك شكلها الصحيح. - قالت زوجة الأب - يمكنك السماح لأى شخص بأن يقرأها.
قَبل الشاعر يد السيدة العجوز، البارزة العظام، ورحل.
على هذا التراب .. أرى الحياةَ
ولا أرى ما يَستحقُّ لها تَغنـِّينا
تركتُ بساقِ زاجلةٍ
رسائلَ عاشقٍ للأرض ..
فاحتارتْ وضيَّعتِ العناوينا !!
فــــــــانـــــــكــــا
في ليلة عيد الميلاد لم ينم الصبي " فانكا جوكوف" ابن الأعوام التسعة والذي أعطوه منذ ثلاثة أشهر للاسكافي "الياخين" ليعمل صبياً لديه. وانتظر حتى انصرف أصحاب البيت والاسطوات إلي الصلاة فاخرج من صوان الاسكافي محبرة وقلماً بسن مصدي، وفرش أمامه ورقة مجعدة وراح يكتب. وقبل أن يخط أول حرف نظر إلي الباب والنوافذ بحذر، وتطلع بطرف عينه إلي الأيقونة الداكنة التي امتدت على جانبيها أرفف محملة بالنعال، وزفر زفيراً متقطعاً. كانت الورقة مبسوطة علي الأريكة، أما هو فقد جثا علي ركبتيه أمامها. وكتب:
" جدي العزيز " قسطنطين مكاريتش" ! أنا اكتب إليك خطاباً. أهنئكم بعيد الميلاد وأرجو لك من الله كل الخير. أنا ليس لدي أب أو أم، ولم يبق لي غيرك وحدك".
وحول " فانكا" بصره إلي النافذة المظلمة التي عكست ضوء شمعته المتذبذب، وتخيل بوضوح جده " قسطنطين مكاريتش" الذي يعمل حارساً ليلياً لدي السادة لدي " آل جيفارف ". و هو عجوز صغير نحيل إلا انه خفيف الحركة بصورة غير عادية، في حوالي الخامسة والستين، ذو وجه باسم دائماً وعينين ثملتين. كان نهاراً ينام في مطبخ الخدم أو يثرثر مع الطاهيات، أما في الليل فيطوف حول بيت السادة متدثراً بمعطف فضفاض من جلد الحمل ويدق علي صفيحة. ومن خلفه يسير مطأطأ الرأسين مع الكلبة العجوز "كاشتانكا" والكلب "فيون" الذي سمي هكذا للونه الأسود وجسده الطويل كالنمس.
كان هذا الـ " فيون " مهذباً ورقيقاً بصورة غير عادية، وكان ينظر بنفس الدرجة من التأثر سواء لأصحابه أم للغرباء، ولكنه لم يكن يحظى بالثقة. كان يخفي تحت تهذيبه واستكانته خبثاً غادراً إلي أقصي حد. فلم يكن هناك من هو أحسن منه في التلصص في الوقت المناسب ليعض الساق، أو التسلل إلي المخزن، أو سرقة دجاجة من بيت فلاح. وقد حطموا له ساقيه الخلفيتين غير مرة، وعلقوه مرتين، وكانوا يضربونه كل أسبوع حتى الموت، ولكنه كان يبعث من جديد.
وربما يقف الجد الآن أمام البوابة ويزر عينيه وهو يتطلع إلي نوافذ كنيسة القرية الساطعة الحمرة، ويثرثر مع الخدم وهو يدق الأرض بحذائه اللباد. والصفيحة التي يدق عليها معلقة إلي خصره،. ويشيح بيديه ثم يتململ من البرد، ويضحك ضحكة عجوز ويقرص الخادم تارة والطاهية تارة أخري.
ويقول وهو يقدم للفلاحات كيس تبغه:
- ألا ترغبن في استنشاق التبغ؟
وتستنشق الفلاحات ويعطسن، ويستولي علي الجد إعجاب لا يوصف ويقهقه بمرح ويصيح:
- بقوة و إلا لزقت!
ويقدمون التبغ للكلاب لتشمه. وتعطس "كاشتانكا" و تلوي بوزها، وتبتعد مغضبة. أما " فيون" فلا يعطس تأدبا، بل يهز ذيله. والجو رائع. الهواء هادئ، وشفاف ومنعش.
والليل حالك ومع ذلك تلوح القرية كلها بأسقف منازلها البيضاء وأعمدة الدخان المنبعثة من المداخن، والأشجار وقد كساها الثلج ثوباً فضياً، وأكوام الثلج. والسماء كلها مرصعة بنجوم تتراقص بمرح، ويبدو درب التبانة واضحاً وكأنما غسلوه قبل العيد ودعكوه بالثلج.. وتنهد " فانكا" ، وغمس الريشة في الحبر ومضي يكتب:
" بالأمس ضربوني علقة، شدني المعلم من شعري إلي الحوش وضربني بقالب الأحذية لأني كنت أهز ابنه في المهد فنعست غصباً عني. وفي هذا الأسبوع أمرتني المعلمة أن أقشر فسيخة، فبدأت أقشرها من ذيلها، فشدت مني الفسيخة وأخذت تحك رأسها في وجهي. والاسطوات يسخرون مني ويرسلونني إلي الخمارة لشراء "الفودكا" ويأمرونني أن اسرق الخيار من بيت المعلم، والمعلم يضربني بكل ما يقع في يده. وليس هناك أي طعام، في الصباح يعطونني خبزاً، وفي الغداء عصيدة، وفي المساء أيضا خبزاً، أما الشاي أو الحساء فالسادة وحدهم يشربونه. ويأمرونني أن أنام في المدخل، وعندما يبكي ابنهم لا أنام أبداً وأهز المهد. يا جدي العزيز، اعمل معروفاً لله وخذني من هنا إلي البيت في القرية. لم اعد احتمل أبداً... أتوسل إليك وسوف اصلي لله دائماً، خذني من هنا و إلا سأموت..
وقلص " فانكا" شفتيه ومسح عينيه بقبضته السوداء وأجهش بالبكاء. ومضي يكتب: " سأطحن لك التبغ، واصلي لله، وإذا بدر مني شيء اضربني كما يُضرب الكلب. وإذا كنت تظن أنه ليس لي عمل فسأرجو الخولي بحق المسيح أن يأخذني ولو لتنظيف حذائه، أو أعمل راعياً بدلاً من " فيدكا" . يا جدي العزيز، لم اعد احتمل أبداً، لا شيء سوي الموت. أردت أن اهرب إلي القرية ماشياً ولكن ليس لدي حذاء واخشي الصقيع، وعندما أصبح كبيراً فسوف أطعمك مقابل هذا ولن اسمح لأحد أن يمسك، وإذا مت يا جدي فسأصلي من أجل روحك كما أصلي من أجل أمي " بيلاجيا". وموسكو مدينة كبيرة.. والبيوت كلها بيوت أكابر، والخيول كثيرة، وليس هناك غنم، والكلاب ليست شريرة. والأولاد في العيد لا يطوفون بالبيوت منشدين ولا يسمح لأحد بالذهاب للترتيل في الكنيسة. ومرة رأيت في أحد الدكاكين، في الشباك، صنانير تباع بخيوطها لصيد كل أنواع السمك، عظيمة جداً، بل وتوجد صنارة تتحمل قرموطاً وزنه "بوذ". ورأيت دكاكين فيها مختلف أنواع البنادق التي تشبه بنادق السادة، ويمكن الواحدة منها تساوي مائة روبل.. وفي دكاكين اللحوم يوجد دجاج الغابة وأرانب، ولكن الباعة لا يقولون أين يصطادونها. يا جدي العزيز، عندما يقيم السادة شجرة عيد الميلاد خذ لي جوزة مذهبة وخبئها في الصندوق. قل للآنسة " أولجا اجناتيفنا" أنها من أجل "فانكا".
وتنهد " فانكا" وسمر عينيه في النافذة من جديد. وتذكر أن جده كان دائماً يذهب للغابة لإحضار شجرة عيد الميلاد ويصحب معه حفيده. يا له من عهد سعيد! كان الجد يتنحنح والثلج يتنحنح و"فانكا" يتنحنح مثلهم. وكان يحدث أن الجد، قبل أن يقطع الشجرة، يجلس ليدخن الغليون، ويشم التبغ طويلاً وهو يضحك من "فانكا" المقرور.. وشجيرات عيد الميلاد الشابة تقف متلفعة بالثلج وساكنة وهي تنتظر أيها التي ستموت؟ وفجأة يمرق أرنب كالسهم عبر أكوام الثلج.. ولا يستطيع الجد أن يمسك نفسه عن الصياح:
- امسك، امسك.. امسك!
آه، يا شيطان يا ملعون، ثم يسحب الجد الشجرة المقطوعة إلي منزل السادة، حيث يشرعون في تزيينها.. وكانت الآنسة "اولجا اجتاتيفنا" التي يحبها "فانكا"، هي التي تشغله أكثر من الجميع، وعندما كانت أم "فانكا" "بيلاجيا" علي قيد الحياة كانت تعمل خادمة لدي السادة، كانت " اولجا اجتناتيفنا" تعطي " لفانكا " الحلوى، ولما لم يكن لديها ما تعمله فقد علمته القراءة والكتابة والعد حتى مئة، بل وحتى رقصة "الكادريل"، ولما ماتت" بيلاجيا"، أرسلوا "فانكا" اليتيم إلي جده في المطبخ مع الخدم، ومن المطبخ إلي موسكو عند الاسكافي "الياخين"...
ومضي فانكا يكتب: " احضر يا جدي العزيز، استحلفك بالمسيح الرب أن تأخذني من هنا. أشفق علي أنا اليتيم المسكين، لان الجميع يضربونني، وأنا جوعان جداً، ولا أستطيع أن أصف لك وحشتي، وابكي طول الوقت. ومن مدة ضربني المعلم بالنعل علي رأسي حتى وقعت ولم أفق إلا بالعافية. ما أضيع حياتي، أسوأ من حياة أي كلب.. تحياتي " لاليونا و "يجوركا الأحول" ، والحوذي، ولا تعط "الهارمونيكا" لأحد. حفيدك دائماً " ايفان جوكوف"، احضر يا جدي العزيز".
وطوي " فانكا" الورقة المكتوبة أربع مرات ووضعها في مظروف كان قد اشتراه من قبل " بكوبيك".. وفكر قليلاً ثم غمس الريشة وكتب العنوان:
إلي قرية جدي
وحك رأسه وفكر، ثم أضاف " قسطنطين مكاريتش". وارتدي غطاء الرأس وهو سعيد لأن أحداً لم يعطله عن الكتابة، ولم يضع المعطف علي كتفيه، بل انطلق إلي الخارج بالقميص فقط...
كان الباعة في دكان الجزار الذين سألهم من قبل قد اخبروه أن الرسائل تلقي في صناديق البريد، ومن الصناديق تنقل إلي جميع أنحاء الأرض علي عربات بريد بحوذية سكاري وأجرس رنانة.
وركض " فانكا" إلي أول صندوق بريد صادفه، ودس الرسالة الغالية في فتحة الصندوق.
وبعد ساعة كان يغط في نوم عميق وقد هدهدت الآمال الحلوة روحه.. وحلم بالفرن. كان جده جالساً علي الفرن مدلياً ساقيه العريانتين وهو يقرأ الرسالة للطاهيات.. وبجوار الفرن يسير " فيون " ويهز ذيله...
تمـــــــــــــــــــــــــــــــت
على هذا التراب .. أرى الحياةَ
ولا أرى ما يَستحقُّ لها تَغنـِّينا
تركتُ بساقِ زاجلةٍ
رسائلَ عاشقٍ للأرض ..
فاحتارتْ وضيَّعتِ العناوينا !!
المتمـــارضـــون
في أحد أيام الثلاثاء من شهر مايو كانت زوجة الجنرال مارفا بتروفنا بتشونكينا ,التي تمارس العلاج الهوميوباتي منذ عشر سنوات ,تستقبل المرضى في غرفة مكتبها. وعلى الطاولة أمامها كان صندوق صيدلية الادوية الهوميوباتية وكتاب وصفات العلاج وفواتير الصيدلية.
وعلى الجدران علقت تحت الزجاج في اطر مذهبة رسائل طبيب هوميوتابي ما من بطرسبرج كان مشهورا جدا في رأي مارفا بتروفنا, بل وعظيما, وصورة الأب أريستاخ الذي تدين له زوجة الجنرال بخلاصها ,أي بالكف عن العلاج المألوف وادراك الحقيقة.وفي الردهة ينتظر المرضى جالسين ومعظمهم من الفلاحين .وجميعهم ماعدا اثنين او ثلاثة حفاة,لأن زوجة الجنرال تأمرهم بأن يتركوا احذيتهم النتنة في الفناء.
كانت مارفا بتروفنا قد استقبلت عشرة اشخاص, وهاهي تستدعي الحادي عشر:
-جافريلا جروزد !
ويفتح الباب وبدلا من جافريلا جروزد يدخل الغرفة زاموخرشين, جار زوجة الجنرال, من الاقطاعين المفلسين ,عجوز ضئيل الجسم ذو عينين كابيتين وتحت ابطه قبعة النبلاء. ويضع العصا في الركن ويقترب من زوجة الجنرال, وفي صمت يركع على احدى ركبتيه أمامها.
فتفزع زوجة الجنرال وتتضرج حمرة
-ماهذا! ماهذا ياكوزما كوزميتش! أرجوك لا داعي!
فيقول زاموخريشين مقبلا يدها:
-لن انهض مادمت حيا! فليراني الناس كلهم راكعا امامك ياملاكنا الحارس ياراعية جنس بني البشر! ليروني! الساحرة الخيّرة التي وهبتني الحياة وارشدتني الى السبيل القويم وأنارت ظلمات يأسي, هذه الساحرة مستعد ان اقف امامها لا علىركبتي بل وفي النار ايضا, ياشافية جراحنا الرائعة, يا أم اليتامى والارامل ! لقد شفيت ! بعثت حيا أيتها الساحرة!
فتدمدم زوجة الجنرال وهي تتضرج من السرور:
-أنا...أنا سعيدة جدا...ماأطيب ان اسمع هذا..اجلس من فضلك!ولكنك في الثلاثاء الماضي كنت مريضا جدا!
فيقول زاموخريشين:
-اوه كم كنت مريضا! مجرد التذكر شيء مرعب! كان الروماتيزم ممسكا بكل اطرافي واعضائي .ثماني سنوات أتعذب , لم أذق للراحة طعماً ....لاليلا ولانهارا ياربة نعمتي! ترددت على الأطباء وسافرت الى البروفيسورات في كازان, وتعالجت بمختلف انواع الطين, وشربت المياه المعدنية ,لم أترك شيئا الا جربته! وضيعت ثروتي على العلاج ياسيدتي الجميلة. هؤلاء الاطباء لم يعودوا عليّ بشيء الا الضرر .حبسوا الداء في جسمي..صحيح انهم حبسوه ..ولكن علومهم ليست قادرة على اخراجه..هؤلاء اللصوص لايحبون الا الاستيلاء على النقود, أما آلام الانسان فلا تحرك شيئا في نفوسهم .يصف لك الدجال منهم شيئا ما , وعليك ان تشربه . باختصار هم قتلة!
ولولاك يا ملاكنا , لكنت الآن في القبر! عدت من عندك يوم الثلاثاء الماضي ونظرت الى الحبات التي اعطيتنيها يومها وقلت لنفسي ((أي فائدة منها؟ أمن المعقول أن هذه الحبيبات التي لا تكاد تُرى يمكن ان تشفيني من مرضي الهائل القديم؟)) . ورحت ابتسم وانا افكر ,يالي من ضعيف الايمان , وما ان تناولت حبة حتى ظهر الأثر فورا! كأنما لم اكن مريضا, كأنما يد مسحت الداء عني . وحدقت زوجتي فيَّ بعينين جاحظتين وهي لاتصدق:
((اهذا انت ياكوليا حقا؟)) فقلت لها: ((نعم أنا)). وركعنا معا امام الايقونة ورحنا نصلي لملاكنا : (( فلتعطها يارب كل ما نتمناه لها في نفوسنا)).
ويمسح زاموخريشين عينيه براحته, وينهض من على المقعد, ويبدو انه ينوي الركوع مرة اخرى على احدى ركبتيه , ولكن زوجة الجنرال تستوقفه وتجلسه.
-لاتوجّه الشكر اليّ ..._ قالت وهي تتضرج بحمرة الانفعال وتنظر باعجاب الى صورة الأب اريستاخ _ ما انا الا اداة طيعة..يالها من معجزات ! روماتيزم قديم من ثماني سنوات ويزول من حبة واحدة!
-لقد تكرمت واعطيتني ثلاث حبات. أخذت حبة في الغداء,وفورا زال ! والثانية اخذتها في المساء, والثالثة في اليوم التالي..ومن ساعتها لم أشعر بشيء! ولاحتى بوخزة! مع اني كنت استعد لملاقاة الموت , حتى اني كتبت لابني في موسكو ان يأتي! ألهمك الله ياشافية الجراح ! ها أنذا أسير وكأني في الجنة ..في ذلك الثلاثاء عندما كنت عندك كنت اعرج, اما الآن فعلى استعداد ولو لمطاردة أرنب...مائة سنة أخرى استطيع ان اعيش! شيء واحد يؤرقني :قلة الموارد. ها انذا صحيح الجسم ,فما جدوى الصحة اذا كنت لاتجد ماتعيش به؟ العوز أرهقني أكثر من المرض.. إليك مثلا على ذلك هذا الأمر...الآن أوان بذر الجودار , فكيف تبذره وليس لديك بذور؟ ينبغي ان اشتري, ولكن النقود..اي نقود لدينا...
- سأعطيك جودارا ياكوزماكوزميتش...اجلس, اجلس . كم أذهلتني , أية سعادة منحتني , انا التي يجب ان اشكرك لا انت!
- انت سعادتنا! كيف خلق الرب كل هذه الطيبة! فلتفرحي ياسيدتي وانت تنظرين الى اعمالك الطيبة! اما نحن المساكين فليس لدينا مايفرحنا ...نحن قوم صغار , فقراء الروح ,لانفع منا...تافهون...نحن نبلاء اسما فقط , أما ماديا فنحن كهؤلاء الفلاحين , بل اسوأ ... نعيش في بيوت حجرية ولكن ذلك في الحقيقة سراب ...لأن السقف مثقوب تتسرب منه المياه.. وليس لدينا مانشتري به الخشب.
- سأعطيك خشبا ياكوزما كوزميتش.
ويحصل زاموخريشين كذلك على بقرة, وخطاب توصية لابنته التي يعتزم الحاقها بمعهد و..ويغلبه التأثر من كرم زوجة الجنرال فيشهق باكيا ويتقلص فمه, ويدس يده في جيبه ليخرج المنديل ..وترى زوجة الجنرال ورقة حمراء تخرج من جيبه مع المنديل وتسقط على الارض دون صوت .
ويتمتم زاموخريشين:
-لن انسى ابد الدهر.. وسأوصي اولادي واحفادي ان يذكروا..وكل الاجيال..هاهي يا اولادي تلك التي انقذتني من القبر..تلك التي..
وبعد ان تودع زوجة الجنرال مريضها تقف دقيقة تحدق في الاب اريستاخ بعينين مغرورقتين بالدموع ,ثم تطوف بنظرة رقيقة ممتنة على الصيدلية , وكتب العلاج, والفواتير, والكرسي الذي كانيجلس فيه منذ قليل الرجل الذي انقذته من الموت, ويقع بصرها على الورقة التي سقطت من جيب المريض. وترفع زوجة الجنرال الورقة وتفضها , فترى فيها ثلاث حبات ,تلك الحبات نفسها التي اعطتها لزاموخريشين في الثلاثاء الماضي .
وتقول مستغربة:
- انها هي نفسها..حتى الورقة هي بعينها ...انه حتى لميفضها! ماالذي تناوله اذن ؟ غريبة..لايمكن ان يكون قد خدعني!
ولأول مرة خلال عشر سنوات من الممارسة يتسرب الشك الى نفس زوجة الجنرال ...وتستدعي بقية المرضى , وتلاحظ وهي تتحدث معهم عن امراضهم ماكان يغيب عن سمعها من قبل . فجميع المرضى بلا استثناء, وكأنما اتفقوا على ذلك, يمجدونها في البداية على شفائهم المدهش , ويبدون اعجابهم بحصافتها الطبية , ويسبون الاطباء العاديين , وبعد ذلك , وعندما يتضرج وجهها من شدة الانفعال, يبدأون في شرح مطالبهم . فأحدهم يسألها قطعة أرض ليزرعها, والآخر قليلا من الحطب , والثالث يرجوها ان تسمح له بالصيد في غاباتها...الخ. وتتطلع زوجة الجنرال الى وجه الاب اريستاخ العريض السمح الذي هداها الى الحقيقة, وتأخذ حقيقة أخرى في تعذيب روحها..حقيقة كريهة , ثقيلة...
ماأخبث الانسان![/b]