منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    الثابت والمتحول لأدونيس

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    الثابت والمتحول لأدونيس Empty الثابت والمتحول لأدونيس

    مُساهمة   الثلاثاء مارس 23, 2010 3:01 pm


    المنهجية العلمية بعدٌ شكلي في كتاب الثابت والمتحول لأدونيس
    د. محمّد رفعت زنجير الجمعة، 30 ديسمبر 2005 15:32 مقالات - فكر وفلسفة
    إرسال إلى صديق طباعة PDF
    تقويم القُرّاء: / 1
    الأسوأالأفضل

    المنهجية العلمية في البحث العلمي لها بعدان، الأول: شكلي، ويتمثل في تقسيم البحث إلى أبواب وفصول منتظمة، والعودة إلى المراجع العلمية المعتمدة، ووضع الفهارس والحواشي، ونحو ذلك مما هو معروف للسادة الكتاب. والثاني: موضوعي ويتمثل في حياد الباحث ونزاهته، حتى يقوده البحث إلى النتائج العلمية الصحيحة، وهذا البعد هو جوهر العملية البحثية، فإذا قرر الباحث أفكارا ونتائج مسبقة، وراح يلوي أعناق النصوص لإثبات ما قرره مسبقا، فهذا يطعن في نزاهة الباحث، وفي القيمة العلمية لذلك البحث. على أن بعض الباحثين قد يجيدون استخدام البعد الشكلي للعمل البحثي نظريا، ولكنهم لا يجيدون البعد الموضوعي وهو الأهم كما ذكرت، وذلك إما بتدخلهم مباشرة في تقرير نتائج مسبقة لم يثبتها البحث بعد، وإما بتلاعبهم بالنصوص وطرق سردها حتى ليخيل للقارئ أن الباحث يسوق إليه الحقائق نزيهة، وهي في الواقع إنما تقدم في ثوب مزيف. والأستاذ أدونيس هو واحد من هؤلاء الذين يخدعون القارئ بأساليبهم، فهو يسرد المادة العلمية بمنهج علمي ذي بعد واحد وهو البعد شكلي، ولكنه بالمقابل يتناسى البعد الموضوعي، فهو لا يمت إلى الموضوعية بصلة. وأضرب مثالا على ذلك ما جاء في كتابه ( الثابت والمتحول بحث في الإبداع والاتباع عند العرب) (1)، حيث نجده تناول في القسم الثاني من الجزء الثاني، موضوع: تأصيل الإبداع والتحول في موضوعين، الأول: الحركات الثورية: ثورة الزنج والحركة القرمطية ص (65). والثاني: المنهج التجريـبي وإبطال النبوة، ص (75).

    وسنقف في هذا البحث الموجز لمتابعته فيما يقول بخصوص : (المنهج التجريـبي وإبطال النبوة) وهو عنوان كبير يثير الدهشة والاستغراب، لأنه جعل المنهج التجريبي منذ البداية مناقضا للنبوة، فساق النتيجة في العنوان، وكان الأولى به أن يسميه: المنهج التجريبي والموقف من النبوة، ثم يسوق المعلومات التي عنده بشكل موضوعي ليكون التقرير العلمي من خلالها في الأخير حول ما إذا كان المنهج التجريبي يبطل النبوة أو يتوافق معها.

    وسوف نسرد ما قاله أدونيس في هذا الموضوع أولا، ثم نتعرض له بالتحليل والمناقشة بعد ذلك، يقول أدونيس في مستهل حديثه حول الموضوع الثاني: "كان ابن المقفع من أوائل الذين وقفوا من الدين موقفا عقليا فانتقد الدين بعامة، وخص الإسلام فانتقد القرآن وما فيه من عقائد، وتصوره لله والرسول…فابن المقفع يرفض الدين انطلاقا من مقياس عقلي، وبما أنه يؤثر الصدق والعدل والحق مما لم يجده في الدين فإنه يرفضه"(2).

    ثم يتابع في القول: " وصل هذا الموقف العقلي إلى أوجه عند ابن الراوندي، وجابر بن حيان، ومحمد بن زكريا الرازي"(3).

    ويضيف بعد ذلك : "أما ابن الراوندي فقد حفظت لنا بعض آرائه في الكتب التي ردت عليه ككتاب الانتصار للخياط المعتزلي، وكتاب المجالس المؤيدية للمؤيد في الدين هبة الله بن أبي عمران الشيرازي الإسماعيلي توفي سنة 470هـ"(4).

    وقد نقل المؤلف شبهات ابن الراوندي ونقده للشريعة الإسلامية والمعجزات وإنكاره للنبوة وإعجاز القرآن، وذلك في كتابه (2/76-81) فمن ذلك قوله: "الرسول شهد للعقل برفعته وجلالته، فلم أتى بما ينافره إن كان صادقا"(5). وقوله عن الملائكة يوم بدر إنهم "كانوا مغلولي الشوكة قليلي البطشة، على كثرة عددهم واجتماع أيديهم وأيدي المسلمين، فلم يقدروا على أن يقتلوا زيادة على سبعين رجلا"(6). وقوله: "أين كانت الملائكة يوم أحد لما توارى النبي ما بين القتلى فزعا، وما باله لم ينصروه في ذلك المقام؟". وعقب أدونيس بقوله: "وابن الراوندي هنا لا ينتقد المعجزة بذاتها وحسب، وإنما ينتقد كذلك القائلين بها، فإذا كانت المعجزة هنا نصر من الله يجيء في وقت الحاجة إليه، فإن حدوثها في الحالات الأكثر حرجا وضيقا أولى من حدوثها في الحالات الأقل حرجا وضيقا"(7).

    ويقول بعد ذلك : "وينتهي ابن الراوندي إلى القول بأن العقل يناقض النبوة، فمن جهة أولى ليس للخلق أول، والكلام الإنساني حادث، ولا يرجع في أصله إلى الأنبياء، والإنسان هو الذي ابتكر بعقله كل شيء دون حاجة الأنبياء، يقول مثلا: إن الكلام مستملى عن الوالدين صاعدا قرنا فقرنا إلى ما لا نهاية له، فليس للخلق أول"(Cool.

    وينتهي إلى النتيجة التالية: "وليست آراء ابن الراوندي إلا امتداد للموقف البرهمي من النبوة، وكان يطلق على البراهمة اسم : من ينكرون النبوة، ويلخص الشهرستاني آراءهم…"(9).

    والدارس لشخصية ابن الراوندي هذا يجد أنه لا علاقة له البتة بالمنهج التجريبي، فهو ليس من علماء العلوم البحتة، ولم يشر إلى هذا المنهج في مؤلفاته من جهة أخرى، وفيما يلي ترجمة الزركلي له: " الراوندي (…-298هـ = …919م) أحمد بن يحيى بن إسحاق، أبو الحسين الراوندي، أو ابن الراوندي، فيلسوف مجاهر بالإلحاد، نسبته إلى راوند من قرى أصبهان، قال ابن خلكان: له مجالس ومناظرات مع جماعة من علماء الكلام، وقد انفرد بمذاهب نقلوها عنه في كتبهم، وقال ابن كثير: أحد مشاهير الزنادقة، طلبه السلطان فهرب، ولجأ إلى ابن لاوي اليهودي بالأهواز، وصنف له في مدة إقامته عند كتابه الذي سماه الدامغ للقرآن" (10).

    ولم يكن نقد ابن الراوندي للنبوة قائما على منهج عقلي، ولذلك فقد كر المعري ـ وهو الفيلسوف الحر المعروف ـ على مؤلفات ابن الراوندي ونقدها بأسلوب ساخر واحدا تلو الآخر (11)، والسبب في ذلك أن ابن القارح كان قد كتب في رسالته إلى المعري يسأله عن ابن الراوندي وجاء في الرسالة ما يلي: "وكان أحمد بن يحيى الراوندي من أهل مرو الروذ، حسن الستر جميل المذهب، ثم انسلخ من ذلك كله، بأسباب عرضت له، ولأن علمه أكثر من عقله، وكان مثله كما قال الشاعر:
    ومن يطيق مردا عند صبوته ومن يقوم لمستور إذا خلعا
    صنّف كتاب "التاج"، يحتج فيه لقدم العالم، فنقضه أبو الحسين الخياط(12)، (وكتاب) "الزمرد"، يحتج فيه لإبطال الرسالة، نقضه الخياط. (وكتاب) "نعت الحكمة"، سفّه الله تعالى في تكليف خلقه أمره، نقضه الخياط . (وكتاب) "الدامغ"، يطعن فيه على نظم القرآن.(وكتاب) "القضيب"، يثبت أن علم الله محدث، وأنه كان غير عالم، حتى خلق لنفسه علما، نقضه الخياط. المرجان في اختلاف أهل الإسلام(13).
    فأجابه أبو العلاء:
    " وأما بن الراوندي فلم يكن إلى المصلحة بمهدي، وأما تاجه – أحد كتب ابن الراوندي – فلا يصلح أن يكون نعلا، ولم يجد من عذاب وعلا – أي ملجأ – " (14).

    "وأما الدامغ فما إخاله دمغ فيه إلا من ألفه، وبسوء الخلافة خلفه، وفي العرب رجل يعرف بدميغ الشيطان، وهذا الرجل كذاوي الخيطان – أسراب النعام – وإنما المنكَر أنه في الآونة يُذكر، دل ممن وضعه على ضعف دماغ، فهل يؤذن لصوت ماغ – صياح السنور –"(15)، والمعري يؤكد أن القرآن معجز، يقول في هذا السياق: "وأجمع ملحد ومهتد، وناكب عن المحجة ومقتد، أن هذا الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كتاب بهر بالإعجاز، ولقي عدوه بالإرجاز، وما حذي على مثال، ولا أشبه غريب الأمثال، ولا هو من القصيد الموزون، ولا الرجز من سهل وحزون، ولا شاكل خطابة العرب، ولا سجع الكهنة ذي الأرب، وجاء كالشمس اللائحة نورا للمسرة والبائحة، ولو فهمه الهضب الراكد لتصدع، أو الوعول المعصمة لراق الفادرة والصدع، {وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} (16)، وإن الآية منه أو بعض الآية لتعترض في أفصح كلم يقدر عليه المخلوقون، فتكون فيه كالشهاب المتلألئ في جنح غسق، والزهرة البادية في جدوب ذات نسق"(17).

    ويتابع المعري نقده لكتب ابن الراوندي واحدا تلو الآخر مبينا ضحالتها العلمية، فيقول:
    "وأما القضيب، فمن عمله أخسر صفقة من قضيب، وخير له من إنشائه، ولو ركب قضيبا عند عشائه"(18)
    "وأما الفريد، فأفرده عن كل خليل، وألبسه في الأبد برد الذليل" (19)
    " وأما المرجان فإذا قيل إنه صغار اللؤلؤ، فمعاذ الله أن يكون مرجانه صغار حصى" (20)
    "وقد سمعت من يخبر أن لابن الراوندي معاشر تذكر أن اللاهوت سكنه، وأنه من علم مكنه، ويخترصون له فضائل يشهد الخالق وأهل المعقول أن كذبها غير مصقول، وهو في هذا أحد الكفرة لا يحسب من الكرام البررة، وقد أنشد له منشد، وغيره التقى المرشد:
    قسمت بين الورى معيشتهم قسمة سكران بين الغلط
    ولو قسم الرزق هكذا رجل قلنا له قد جننت فاستعط
    ولو تمثل هذان البيتان، لكانا في الإصر يطولان أرمى مصر ـ يعني الأهرام ـ فلو مات الفطن كمدا لما عتب، فأين مهرب العاقل من شقاء رتب؟. أكلما خدع خادع، أُرسلت من الكفر مصادع، والمصادع: السهام وما حسنت السوداء الغالبة بسفيه دعواه، إلا وافق جهولا عواه، أي عطفه"(21).

    وقد أثبت كلام المعري لتفنيد مقولات ابن الراوندي، لألنه من علماء اللغة وفحولها من جهة، فرأيه بالإعجاز له قيمته العلمية، ولأنه معروف بأنه لا يجامل أحدا، ويعبر عن آرائه بصراحة لا نجدها عند غيره من جهة أخرى، وهو ما أقر به الأستاذ رجاء النقاش حين قال: "ونتوقف قليلا أمام المعري بالتحديد، فقد كان المعري في شعره ونثره مخالفا كما يقول النقاد والمؤرخون لأهل عصره في كثير من أفكارهم ومعتقداتهم الاجتماعية والدينية، ومع ذلك فقد نجا أبو العلاء المعري من مصير شعراء العراق ومفكريه، ولو عاش المعري في العراق وعبر عن آرائه وأفكاره التي عبر عنها في الشام لكان مصيره مصير بشار أو ابن المقفع أو المتنبي أو الحلاج أو ابن المعتز وما كان بالإمكان أن ينجو من هذا المصير بسبب زهده واعتزاله، فقد كان الحلاج زاهدا متصوفا، ومع ذلك فقد تم قتله وصلبه، ولم يكن أبو العلاء يمكن أن ينجو بسبب ما أصيب من محنة العمى، فقد كان بشار أعمى ومع ذلك لم ينج من القتل…وطبيعة العربي الشامي طبيعة متأثرة بالمجتمع التجاري الذي لا يمكن أن تنجح تجارته إلا في أجواء من التسامح وسعة الصدر، كما أن مجتمع الشام منذ أقدم العصور كان مجتمعا تصل إليه أجناس مختلفة من الشعوب للتعامل التجاري، أو للحرب، كما كان مجتمعا يعرف الهجرات المتعددة منه وإليه مما جعل عرب الشام أكثر احتكاكا بالعالم وأكثر خبرة في التعامل مع الناس ومع تعقيدات الحياة من أي مجتمع آخر"(22).

    والخلاصة هنا: أن المعري لم يكن باطنيا أو خائفا في عرض أفكاره، فقد اتهمه بعضهم بالزندقة لجرأته في عرض بعض أفكاره وعدم مبالاته بالنتائج، وقد بين تهافت حجج ابن الراوندي، وأقر بإعجاز القرآن، مما يدل على أن الترويج لابن الراوندي ورأيه في الإعجاز لا قيمة له علميا، فهو ليس من علماء اللغة من جهة، والأفكار التي يطرحها لا تنهض بها الحجة من ناحية ثانية، وقد تعقبه فيها العلماء، فليس من المنهجية في شيء أن تساق أقوال ابن الراوندي ويروج لها دون أن تساق آراء العلماء الآخرين الذين ردوا عليه. وما ينسب إلى ابن الراوندي من أقوال كثير منها لا يتفق مع العقل كقوله: بأنه ليس للبشرية بداية!! لذلك لا ينبغي أن يوضع ضمن علماء البحث التجريبي. لأن إقحام اسم ابن الراوندي ضمن علماء المنهج التجريبي لا وجه له ألبتة.

    ثم ينتقل أدونيس إلى شخصية جابر بن حيان، (2/81-85)، ويقول في البداية: "إن لشخصية جابر بن حيان وجهين قد يبدوان للوهلة الأولى متناقضين، الأول: باطني إلهامي، والثاني : علمي تجريبي. فهو من الناحية الأولى يتصل بالمنحى الإمامي في الثقافة العربية، وهو من الناحية الثانية مؤسس النزعة التجريبية العلمية في هذه الثقافة، وهناك شك في وجوده، وشك بالتالي في كون الكتب المنسوبة إليه هو الذي كتبها"(23).

    ويقول أدونيس بعد ذلك: "أما الاستدلال بالآثار أي الدليل الفعلي أو شهادة الغير أو السماع أو الرواية فهو كذلك ظني، ويتضح موقف جابر من الاستدلال بالآثار حين نعرف فكرته عن اليقين، فهو يرى أن في العقل أوائل وثواني، والأوائل لا يشك فيها ولا يطلب عليها برهنة ولا دليل، أما الثواني: فتستوفى من الأول بدلالته، والأوائل هي المبادئ، نصل إليها بالحدس، والحدس عيان، أي: برهان ودليل، والعيان: نبوي إمامي، ولذلك فإن النبوة والإمامة هما ينبوع الأوائل أو المبادئ، ومنها العيان والحدس"(24).

    ونبدأ فنعرف بجابر بن حيان كما ذكره الزركلي: "جابر بن حيان، (…_200هـ = … _ 815م) جابر بن حيان بن عبد الله الكوفي، أبو موسى فيلسوف كيميائي، كان يعرف بالصوفي، من أهل الكوفة، وأصله من خراسان، اتصل بالبرامكة، وانقطع إلى أحدهم: جعفر بن يحيى، وتوفي بطوس. له تصانيف كثيرة، قيل عددها: 232 كتابا، وقيل: بلغت خمسمائة، ضاع أكثرها، وترجم ما بقي منها إلى اللاتينية"(25) .

    وجاء في دائرة المعارف الإسلامية (26) ترجمتان لعلمين بهذا الاسم:
    الأول: جابر بن حيان: هو أبو موسى جابر بن حيان الأزدي، صاحب كيمياء عربي مشهور عرف عند نصارى القرون الوسطى باسم: جبرGeber ونسبته الطوسي أحيانا والطرطوسي، ويقال: إنه كان من الصابئة، ومن ثم لقبه الحراني، ودخل جابر في الإسلام بعد ذلك، وأظهر غيرة عظيمة على دينه الجديد، أما لقبه الصوفي فيرجع إلى زمن متأخر عن هذا (27).

    والثاني: جابر بن حيان الأزدي الكوفي، من بين التواليف العربية رسائل تنسب إلى جابر بن حيان تلميذ الإمام الشيعي السادس جعفر الصادق المتوفى 148هـ. إلا أن هذه الرسائل منحولة عليه، وقد وردت أقدم الشواهد على وجودها في مؤلفات صاحب الكيمياء ابن أميل المتوفى عام 350هـ (28).

    وهذا الأخير كانت له آراء في الدين "فقد بشر جابر بقرب ظهور إمام معصوم جديد أو صاحب شريعة جديدة، يبطل شريعة الإسلام، ويستبدل القرآن بأنوار العلم اليوناني والفلسفة اليونانية، وليست التعاليم المنبثة في مجموع كتبه إلا غرضا لهذا الوحي الجديد، الذي من شأنه أن يكون عقليا صرفا، وأن تكون مفاتيحه في أيدي الأئمة المعصومين، من ذرية علي بن أبي طالب" (29).

    ومن خلال هذا العرض الموجز نجد أن هنالك أكثر من شخص تسمى بجابر بن حيان، وأن شخصية جابر يلفها الغموض، وليس لها موقف محدد وواضح في رفض الدين، فدائرة المعارف ذكرت عنه أنه : "دخل في الإسلام بعد ذلك، وأظهر غيرة عظيمة على دينه الجديد". وذكرت عن جابر الآخر أنه تلميذ الإمام جعفر الصادق، وأن مفاتيح الوحي الجديد بيد الأئمة المعصومين، من ذرية علي بن أبي طالب، مما يعني عدم إنكاره لفكرة النبوة من أساسها طالما أنه يؤمن بعصمة الأئمة من آل البيت. وأما المنهج التجريبي الذي اتبعه جابر فلا صلة بينه وبين إبطال النبوة كما يدعي أدونيس، فقد "أولى جابر أهمية كبيرة للمنهج التجريبي، خاصة التجربة، يتضح ذلك من قوله: والله قد عملته بيدي وبعقلي من قبل، وبحثت عنه حتى صح، وامتحنته فما كذب." (30) وكتابات جابر "توحي بالمنهج التجريبي الذي تتلخص أهم خطواته في النقاط التالية:
    1-أن يستوحي العالم من مشاهداته فرضا يفرضه لتفسير الظاهرة المراد تفسيرها.
    2- أن يستنبط من هذا الفرض نتائج تترتب عليه من الوجهة النظرية الصرفة.
    3-أن يعود بهذه النتائج إلى الطبيعة ليرى هل تصدق أو لا تصدق على مشاهداته الجديدة، فإن صدقت تحول الفرض إلى قانون علمي يركن إلى صوابه في التنبؤ بما عساه أن يحدث في الطبيعة لو أن ظروفا بعينها توافرت"(31).
    وهذا المنهج الذي اتبعه جابر ليس فيه نفي للنبوة، فهو يؤمن بتكامل العقل مع الوحي لأنه يؤمن بأن الأئمة المعصومين "هؤلاء هم أصحاب الأوائل، أصحاب العيان والحدوس وهم حملة الآثار"(32).

    بعد ذلك يعرض أدونيس للرازي، يقول: "يقوم نقد الرازي للنبوة على أساسيين: عقلي، وتاريخي. ومقدمة الأساس الأول: أن العقل مصدر المعرفة، ولذلك يجب أن يكون متبوعا لا تابعا"(33).

    وينقل أدونيس عن الرازي سبب انتشار الأديان وسيادتها،، يقول: "وإنما غرهم طول لحى التيوس، وبياض ثياب المجتمعين حولهم من ضعفاء الرجال والنساء والصبيان وطول المدة حتى صار طبعا وعادة، ونستخلص من هذا النص أن الرازي يعلل ظاهرة التدين أو انتشار الدين بالتقليد وإكراه السلطة والتدليس والمكر لدى رجال الدين، وطول الإلفة مما يحول العادة إلى طبيعة"(34). وكلام الرازي هنا لا يليق نقله دون التعقيب عليه، لأننا مع إجلالنا للرازي نستهجن أسلوبه في التفكير هنا، فهل أسلم الصحابة الأوائل، وفارقوا أوطانهم، وبذلوا أرواحهم ودمائهم وأولادهم في سبيل الدين الحنيف لو لم يكونا يؤمنون بعقولهم وقلوبهم في آن معا بأن محمدا رسول الله؟ إن قول الرازي لا ينطبق على الرعيل الأول ولا التابعين لهم بإحسان، فليس ثمة تدليس ولا سلطة هي التي فرضت الدين، ولكنها الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وقد وجدت أمم وشعوب بدائية بلا فنون ولا صناعات ولا علوم ولكن لم توجد أمة واحدة بلا دين كما قرر الباحث ول. ديورانت في كتابه (قصة الحضارة).

    ويعرض أدونيس لكلام الرازي حول القرآن يقول: "وكلام الرازي يتضمن أيضا نقدا للتعجيز من أنكر ذلك فليأت بمثله، ويطالب هؤلاء أن يأتوا بالمثل مما لدى العلماء، مشيرا إلى ما في هذا الأسلوب التعجيزي من تهافت: (إذ ليس في وسع إنسان أن يأتي تماما بما أتى به آخر)" (35)، وأدونيس هنا لا يخفي تحيزه لمنهج للرازي حين وصف أسلوب التحدي الذي اتبعه القرآن مع خصومه بأن فيه تهافت، وهو منهج خاطئ في عرض الأمور، وكلمة تهافت هذه من خيال أدونيس ولم يتفوه بها الرازي، وإذا كان ليس بوسع إنسان أن يأتي بما أتى به الآخر تماما، فلا يعقل أن يعجز الناس جميعا على الإتيان بمثله أو بقريب منه فضلا عن أن يكون أحسن منه، وإذا كان المسلمون يجلون قرآنهم فلا يقلدونه أو لا يتجاسرون على محاكاة أسلوبه، فهناك من العرب في عصر الرسالة وحتى اليوم من لا يؤمن بالرسالة الإسلامية، مع رسوخ قدمه في البلاغة والأدب، وقد حاول بعضهم محاكاة القرآن ومع هذا فهم لم يوفقوا في هذا السبيل، ألا يعتبر عجز البشرية كلها عن المجيء بكتاب مثل القرآن على أن هذا الكتاب من عند الله؟.؟ وهل يعقل أن يكون لمحمد قدرة خارقة حتى يأتي بكتاب يتحدى فيه البشرية قاطبة على أن تأتي بسورة منه فتعجز عن ذلك لولا أن يكون محمد رسول الله!؟.

    ثم يختم أدونيس حديثه عن الرازي بقوله: "وهكذا يرى الرازي أن العقل هو وحده مصدر المعرفة وأصلها وأن النبوة باطلة، وهو لذلك يرى أن العقل هو الذي يهدي الإنسان، وأن النبوة هي التي تضله، ولقد كان من الخير والحكمة ألا يكون هنالك أنبياء ولا أديان، إذ لولا ما انعقد بين الناس من أسباب الديانات لسقطت المجاذبات والمحاربات والبلايا"(36)، وما ذهب إليه الرازي باطل من وجوه:

    الأول: أن النبوة لم تقم إلا على العقل، والأنبياء لم يتبعهم إلا العقلاء من أقوامهم، وقد وثق الدين بالمعرفة ثقة لا نظير لها، تقول زيغريد هونكة في هذا الصدد مشيدة بموقف الإسلام من العلم: "استعداد النبي بالوحي، وعبر الهداية الدينية الخاصة والعالمية، لا لقبول المعرفة البشرية العقلانية فقط، بل والحث عليها، حتى إن مداد طالب العلم ارتفع إلى درجة التقديس، وأصبح بمثابة دماء الشهداء، هذا بدلا من حشر المؤمنين في حيز عقائدي ضيق بعيدا عن المتنفس كما فعلت المسيحية"(37). وفي الإطار ذاته يقول الأستاذ موريس بوكاي: "علينا أن نعترف بأن العلماء قد لاقوا مصاعب جمة من السلطات الدينية لبعض الأديان، ففي الوسط المسيحي وعبر قرون كثيرة بادرت سلطات مسئولة ودون الاعتماد على أي نصوص حقيقية للكتب المقدسة بمعارضة تطور العلوم، اتخذت هذه السلطات ضد العلماء الذين كانوا يحاولون تطوير العلوم الإجراءات التي نعرفها، تلك التي دفعت بعض العلماء إلى المنفى تلافيا للموت حرقا أو إلى طلب المغفرة بتعديل مواقفهم وبالتماس العفو…أما في الإسلام فعموما كان الموقف إزاء العلم مختلفا، إذ ليس هناك أوضح من ذلك الحديث الشهير للنبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول: اطلب العلم ولو في الصين. أو ذلك الحديث الذي يقول: إن طلب العلم فريضة على كل مسلم وكل مسلمة. هناك أمر رئيسي: القرآن كما سنرى فيما بعد في هذا الجزء من الكتاب إلى جانب أنه يدعو إلى المواظبة على الاشتغال بالعلم، فإنه يحتوي أيضا على تأملات عديدة خاصة بالظاهرات الطبيعية وبتفاصيل توضيحية تتفق تماما مع معطيات العلم الحديث، وليس هناك ما يعادل ذلك في التوراة والإنجيل"(38). ويبين موريس بوكاي أن طريق العلم هو سبيل للإيمان بالله لولا جحود الإنسان وعناده، يقول: "ازدادت الحجج القائلة بوجود الخالق بلاغة، ولكن الإنسان بدلا من أن يمتلئ بالتواضع أمام هذه الوقائع ينتفخ تكبرا، هو يعتقد أن من سلطانه السخرية من فكرة الله كما يسخر بكل ما يجد على طريقه إذا حدث أن شكل هذا عقبة أمام متعته وشهيته للتمتع، ذلك هو المجتمع المادي في تمام توسعه الآن في الغرب" (39).

    الثاني: لا يمكن حصر مصادر المعرفة كلها بالعقل، فأين دور الروح والعاطفة؟ أليست القلوب أحيانا تدرك ملا تدركه العقول؟، ثم أليس الإيمان مصدر من مصادر الهداية والمعرفة في هذه الحياة؟، يقول الأستاذ كريسي موريسون رئيس أكاديمية العلوم في نيويورك سابقا: "إن تقدم الإنسان من الوجهة الخلقية وشعوره بالواجب إنما هما أثر من آثار الإيمان بالله، والاعتقاد بالخلود، وإن غزارة التدين لتنكشف عن روح الإنسان، وترفعه خطوة خطوة، حتى يشعر بالاتصال بالله، وإن دعاء الإنسان الغريزي لله بأن يكون في عونه، هو أمر طبيعي، وإن أبسط صلاة تسمو به لتقربه من خالقه. إن الوقار والكرم والنبل والفضيلة والإلهام، وكل ما يسمى بالصفات الإلهية، لا تنبعث عن الإلحاد أو الإنكار الذي هو مظهر مدهش من مظاهر الفرد، يضع الإنسان في مكان الله. وبدون الإيمان كانت المدنية تفلس، وكان النظام ينقلب إلى فوضى، وكان كل ضابط وكل كبح يضيع، وكان الشر يسود العالم. فعلينا إذا أن نثبت على اعتقادنا بوجود الله. وعلى محبته وعلى الأخوة الإنسانية، فإن ذلك يسمو بنا نحوه تعالى. إذ ننفذ مشيئته كما نعرفها، ونقبل تبعة اعتقادنا بأننا بوصفنا خلقه، جديرون بعنايته الإلهية" (40).

    الثالث: إن أسباب العداوات بين الأمم ليست بسبب الأديان، فالأديان في الأصل ذات مصدر سماوي واحد، وكلها تدعو إلى السلام والحب والتعاون، والإسلام معروف بتسامحه مع الذين يدينون بغيره، وقد أشادت زيغريد هونكة بموقف الإسلام حين قالت: "إن التسامح العربي العريق هو الذي حمل فاتح مصر القائد عمرو بن العاص على تحاشي أي أعمال سلب أو نهب أو تدمير للمدن المفتوحة، بل آلى على نفسه المحافظة على ضمان ممارسة حضارتهم المتوارثة، كما جاء في وثيقة الاستسلام المبرمة حرفيا، وللوقوف على البعد الحقيقي لهذا التسامح غير المعهود في أوروبا، ربما يجلوه هذا النص المأخوذ من إحدى عقود السلام العربية نصا: هذه الاتفاقية تشمل جميع الرعايا المسيحيين: قساوسة، رهبانا، وراهبات. إنها تمنحهم الأمن والحماية لكنائسهم، ومساكنهم، وأماكن الحج. كما يشمل أولئك الذين يقومون بزيارتها من جورجيين، يعقوبيين، أريوسيين، أحباش، وسائر الذين يعترفون بنبوة المسيح، جميعهم يستحق الرعاية لأنهم في وقت مضى كرموا بوثيقة من قبل النبي ص مهرها بخاتمه، وفيها يوصينا بأن نكون رحماء معهم، وأن نضمن لهم الأمن."(41)، فالحروب لا يمكن تحميل الأديان تبعة أوزارها، وإنما هنالك أسباب سياسية واقتصادية واجتماعية تكمن وراء الحروب، بدليل أننا نرى أبناء الدين الواحد يقتتلون فيما بينهم من أجل مكاسب مادية. ولا ننكر أن بعض الحروب قد تكون أسبابها دينية إما بسبب سوء فهم للدين أو بسبب التعصب الديني، ولكن الأديان في هذه الحالة لا تتحمل وزر تلك الحروب، وإنما يتحمل وزر ذلك من أشعل نار الفتنة.

    ونود أن نعرف هنا بشخصية الرازي كما ذكر الزركلي فهو: "أبو بكر الرازي، 251-313هـ = 865-925م. محمد بن زكريا الرازي، أبو بكر، فيلسوف من الأئمة في صناعة الطب من أهل الري، ولد وتعلم بها وسافر إلى بغداد ببعد سن الثلاثين…أولع بالموسيقى والغناء ونظم الشعر في صغره، واشتغل بالسيمياء والكيمياء ثم عكف على الطب والفلسفة في كبره فنبغ واشتهر"(42)، وقال القفطي في ترجمته للرازي مشيرا إلى آراءه المتطرفة: "أبو بكر الرازي: طبيب المسلمين غير مدافع، وأحد المشهورين في علم المنطق والهندسة، وغيرها من علوم الفلسفة…إلا أنه توغل في العلم الإلهي، وما فهم غرضه الأقصى، فاضطرب لذلك رأيه، وتقلد آراء سخيفة، وانتحل مذاهب خبيثة، وذم أقواما لم يفهم عنهم، ولا هدي إلى سبيلهم"(43). والرازي بحق كان صاحب منهج تجريبي مثل جابر، "استخدم الرازي المنهج التجريبي القائم على الملاحظة والتجربة، والتجربة عنده تجربة موجهة، وليست اتفاقية كالتي مارسها بعض الأطباء اليونانيين، ويتضح استخدامه للتجربة والتجريب من ممارساته المختلفة في علاج بعض الحالات المرضية، فلكي يتحقق من أثر الفصد كعلاج لمرض السرسام وهو عبارة عن ورم في الدماغ، قسم مرضاه إلى قسمين، عالج أحدهما بالفصد والآخر بدونه، ثم راقب النتائج على إفرادهما، إلى أن وصل إلى حكم في قيمة العلاج، وهذا يتفق مع قواعد التجربة عند بيكون"(44).

    ويبقى سؤال هنا هل ثمة تناقض بين المنهج التجريبي عند الرازي وبين النبوة؟ إن الرازي استخدم المنهج التجريبي في الطب، وهذا أمر يحمد له، ولكنه لم يستخدمه في إنكار النبوة، إذ لا يمكن أن يستخدم المنهج التجريبي في إنكار النبوة، يقول وحيد الدين خان: "فإذا كان المبدأ هو أن الحقيقة ليست إلا نتائج المشاهدة والتجربة العلمية، فلن تستقيم قضية معارضي الدين إلا إذا توصلوا بالمشاهدة والتجربة نفسها إلى أن الدين في حقيقته النهائية باطل، فيجب أن تصل مشاهداتهم ودراساتهم إلى الحد الذي يسمح لهم بالمجاهرة بأنهم قد شاهدوا وجربوا كل شيء داخل الكون وخارجه في أقصى مداه، وأنهم بناء على ذلك يعلنون بأنه ليس هنالك إله ولا ملائكة ولا جنة ولا جحيم بنفس الثقة التي يتمتع بها رجل بصير يدير عينيه في حجرة مقاسها 10×10 من الأمتار، ثم يعلن أنه لا يوجد في هذه الحجرة فيل ولا أسد، ومن الواضح أن معارضي الدين لا يتمتعون بهذا الموقف"(45). فالمنهج التجريبي لا يتناقض مع النبوة، ولا مع فكرة الألوهية، بل هو بشكل عام يدعم فكرة الدين على أية حال، وهو ما قرره العلماء المعاصرون، تقول زيغريد هونكة: "إن العقيدة والمعرفة لا ينبغي لهما أن تقفا بحال من الأحوال كما سيجري شرحه دائما أن تقفا على طرفي نقيض، طالما أن نشأتهما كانت من نفس بنية الفهم، إن ماكس بلانك الحاصل على جائزة نوبل عام 1980 يدفع كل تهمة بقوله: أنى وإلى أي بعد أطلقنا النظر فلن نجد أي تناقض بل سنجد تطابقا كاملا وفي النقاط الحاسمة بالذات، إن الدين والعلوم الطبيعية لا يفترقان كما يعتقد البعض بين يوم وآخر ويخشون، بل هما مكملان الواحد للآخر، ويحتم أحدهما الآخر"(46) ثم ساقت زيغريد شهادات كبار العلماء المعاصرين التي تؤيد وحدة الدين والعلم. ويقول موريس بوكاي منوها بإعجاز القرآن من خلال ما أثبته المنهج التجريبي في هذا الصدد: "بداهة يثير الجمع بين القرآن والعلم الدهشة، وخاصة أن المقصود في علاقة الجمع هذه هو التواؤم بين الإثنين وليس التنافر، ألا يرى الكثيرون في مواجهة كتاب ديني بالمعطيات الوضعية التي ينتمي العلم إليها أمرا بدعيا في عصرنا"(47)، ويقرر تبعا لذلك أن القرآن وحي من الله، يقول: "هذه الملاحظة الأخيرة تدحض فرض هؤلاء الذين يرون في محمد صلى الله عليه وسلم مؤلفا للقرآن، كيف يمكن لإنسان كان في بداية عمره أميا ثم أصبح فضلا عن ذلك سيد الأدب العربي على الإطلاق، أن يصرح بحقائق ذات طابع علمي لم يكن في مقدور أي إنسان في ذلك العصر أن يكونها، وذلك دون أن يكشف تصريحه عن أقل خطأ في هذه الوجهة"(48)، ويدحض أي فكرة حول بشرية القرآن، يقول: "ولا يستطيع الإنسان تصور أن كثيرا من المقولات ذات السمة العلمية كانت من تأليف بشر، وهذا بسبب حالة المعارف في عصر محمد صلى الله عليه وسلم، لذا فمن المشروع تماما أن ينظر إلى القرآن على أنه تعبير الوحي من الله، وأن تعطى له مكانة خاصة جدا، حيث إن صحته أمر لا يمكن الشك فيه، وحيث إن احتواءه على المعطيات العلمية المدروسة في عصرنا تبدو كأنها تتحدى أي تفسير وضعي، عقيمة حقا تلك المحاولات التي تسعى لإيجاد تفسير للقرآن بالاعتماد فقط على الاعتبارات المادية"(49).

    وفي آخر هذا الفصل من كتابه الثابت والمتحول (2/92-95) خصص أدونيس حديثه عن المعتزلة، يقول في مستهل حديثه عنهم: "تقوم الاتباعية أو النقلية على القول إن الواجبات كلها بالسمع، وإن العقل لا يحسن ولا يقبح ولا يقتضي ولا يوجب، فهذا كله من شأن السمع، وشِأن العقل أن يعرف ذلك ويقره ويأخذ به، وهذا يعني أن الشرع قبل العقل، فالشرع يوجب، والعقل يعرف ويصدق، وقد عكس الاعتزال هذا الموقف، فقدم العقل على الشرع، وقال إن المعارف كلها معقولة بالعقل، واجبة بنظر العقل، وشكر المنعم واجب قبل ورود السمع، والحسن والقبح صفتان ذاتيتان للحسن والقبيح"(50)، وقال في معرض حديثه عن آثار منهج المعتزلة: "وقد أدى تقديم العقل على الشرع إلى نفس القول بتفاوت العقول والتأكيد على أن الناس في العقل كلهم سواء، وأدى كذلك إلى إنكار بعض المعتقدات الدينية، فنفى المعتزلة الشفاعة…" (51)

    ولا ندري ما هو المبرر لإقحام المعتزلة في زمرة الزنادقة ومن ينكرون النبوة، فالمعتزلة قوم مؤمنون يتأولون النصوص بما يوافق العقل ولهم منهجهم الخاص بهم، ووضعهم في زمرة ابن الراوندي وأضرابه ممن ينكرون النبوة غير سليم، وذلك لأن المعتزلة هم الذين دافعوا عن النبوة ووجود الخالق بالأساليب الفلسفية والكلامية كما هو معروف، وإنكارهم لبعض النصوص من السنة هو اجتهاد خاص منهم من أجل سد الأبواب أمام الزنادقة والطاعنين في الدين، وهذا لا يسوغ البتة جعلهم مع منكري الوحي في مكان واحد.

    هذه كانت هي الخطوط العامة للقسم الثاني من الفصل الثاني من كتابه، وقد تناولتها بالتفصيل، وفيما يلي إيجاز لأهم الملاحظات المنهجية:

    1-كل العلماء الذين ذكرهم أدونيس من غير العرب ابتداء من ابن المقفع وانتهاء بالرازي، فلا ينطبق هذا مع عنوان الكتاب الذي يبحث في الإبداع والاتباع عند العرب، وإذا كان أدونيس يقصد بالعرب المسلمين وهو الغالب، فإن هنالك عشرات من علماء المسلمين الذين أسهموا في خدمة العلوم وتطويرها، ولم يكونوا من الزنادقة، فلماذا اقتصر في بحثه على أسماء معينة عرف عنها الزندقة ونسب المنهج التجريبي إلى هؤلاء دون غيرهم؟.

    2- هنالك اضطراب حول شخصية جابر بن حيان، وجابر لم يكن ملحدا كما رأينا، فلماذا ألصقت به تهمة الإلحاد مع إيمانه بعصمة الأئمة؟.

    3- لا صلة للمنهج التجريبي في إنكار النبوة، وإذا كان الرازي قد رفض النبوة وهو طبيب، فإن من الأطباء في عصره وحتى اليوم من يؤمن بالله والدين مثل رجال الدين أو أكثر، وموريس بوكاي الطبيب الفرنسي واحد من هؤلاء، وكذلك الدكتور خالص جلبي الذي كتب كتابا بعنوان: الطب محراب للإيمان وغيرهما كثير. فلا ينبغي أن يقال إن هوية العلم هي الإلحاد، بل العكس هو الصحيح.

    4- ابن الراوندي ليس من علماء التجريبين، فهو فيلسوف لا باع له بالعلوم البحتة ولا علاقة له بالمنهج التجريبي، وقد سرد أدونيس اسمه في قائمة العلماء التجريبيين لأنه من منكري النبوة، وهذا تدليس على القراء.

    5- ما علاقة المعتزلة بإنكار النبوة؟ أليسوا هم أكثر الناس دفاعا عن الشريعة بسلاح العقل والمنطق؟ وإنكارهم لصحة بعض النصوص أو تأويلها لا يجعلهم في سلك ابن الراوندي وزمرته، فشتان ما بين الثريا والثرى!.

    6- لقد عرض أدونيس الشبهات كافة حول النبوة والقرآن وكأنها حقائق علمية ثابتة مما لا يخفي تحيزه لأصحابها، وهو ما ينافي الموضوعية في البحث العلمي.

    كانت هذه بعض الملاحظات المنهجية على صنيع أدونيس في كتابه الثابت والمتحول، ولا شك أن الكتاب كله بحاجة إلى تتبع وقراءة نقدية جادة، ولعلني أعود لهذا الموضوع مرة أخرى بعون الله.

    -------------------------------------------------------------------------

    الهوامش:

    1 - نشر دار الساقي، ويقع في (4)أجزاء.
    2 - الثابت والمتحول بحث في الإبداع والاتباع عند العرب، (2/75).
    3 - المرجع السابق، (2/76).
    4 - المرجع نفسه، (2/76).
    5 - المرجع السابق، (2/77).
    6 - المرجع السابق،(2/77).
    7 - المرجع السابق، (2/77).
    8 - المرجع السابق، (2/78).
    9 - المرجع السابق، (2/80).
    10- الأعلام، للزركلي، (1/267-268).
    11 - رسالة الغفران، تحقيق: د. عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، ص (469-476) ط7، دار المعارف.
    12 - في الهامش ص (39): أبو الحسين الخياط، عبد الرحيم بن محمد بن عثمان، من أعيان المعتزلة في النصف الثاني من القرن الثالث، والمرجح أنه توفي بعد سنة 300هـ بقليل.
    13 - رسالة ابن القارح، مطبوعة مع رسالة الغفران، تحقيق: د. عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) ، (38-40). ط7، دار المعارف.
    14 - المرجع السابق، ص (469) ط7، دار المعارف.
    15- المرجع السابق، ص (471) ط7، دار المعارف.
    16 - سورة الحشر، الآية (21).
    17 - رسالة الغفران، تحقيق: د. عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، ص (472-473). ط7، دار المعارف.
    18- المرجع السابق، ص (473). ط7، دار المعارف.
    19 - المرجع السابق، ص (474). ط7، دار المعارف.
    20 - المرجع السابق، ص (476). ط7، دار المعارف.
    21 - المرجع السابق، ص (495). ط7، دار المعارف.
    22 - مجلة الوطن العربي، السنة (23)، العدد (1157)، الجمعة 7/5/1999م، مقال: "الرصاصة التي لم تقتل نزار قباني" لرجاء النقاش، ص (50).
    23- الثابت والمتحول بحث في الإبداع والاتباع عند العرب، (2/81).
    24 - الثابت والمتحول بحث في الإبداع والاتباع عند العرب، (2/85).
    25 - الأعلام، للزركلي، (2/102-103).
    26 - يصدرها بالعربية أحمد الشنتاوي وإبرهيم زكي خورشيد، وعبد الحميد يونس، مراجعة د. محمد مهدي علام، دار المعرفة، بيروت، (6/226—232).
    27- نفسه (6/226-227).
    28 - نفسه (6/228).
    29 - نفسه (6/229).
    30 - العلوم عند العرب أصولها وملامحها الحضارية، د. حربي عباس، و د. حسان حلاق، ص (268) دار النهضة العربية، بيروت، 1995م.
    31 - العلوم عند العرب أصولها وملامحها الحضارية، د. حربي عباس، و د. حسان حلاق، دار النهضة العربية، بيروت، 1995م. نقلا عن : جابر بن حيان لزكي نجيب محمود، ص (58) المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر، 1961م.
    32- العلوم عند العرب أصولها وملامحها الحضارية، د. حربي عباس، و د. حسان حلاق، ص (272). دار النهضة العربية، بيروت، 1995م.
    33 - الثابت والمتحول بحث في الإبداع والاتباع عند العرب، (2/85).
    34 - المرجع السابق، (2/85-86).
    35 - المرجع السابق، (2/90-91).
    36 - الرمجع السابق، (2/91).
    37 - العقيدة والمعرفة، ص (117).
    38 - دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، ص (140). دار المعارف، الطبعة الرابعة، 1977م.
    39 - المرجع السابق، ص (142).
    40- العلم يدعو للإيمان، ص (205).
    41 - العقيدة والمعرفة، ص (117).
    42 - الأعلام، للزركلي، (6/130). دار العلم للملايين، الطبعة السادسة، 1984م.
    43 - تاريخ الحكماء للقفطي، تحقيق د. جالينوس ليبيرت، ص (17) برلين. دون تاريخ.
    44- كتاب العلوم عند العرب أصولها وملامحها الحضارية، د. حربي عباس، و د. حسان حلاق، ص (272-273). دار النهضة العربية، بيروت، 1995م.
    45 - الدين في مواجهة العلم، وحيد الدين خان، ترجمة ظفر الإسلام خان، دار النفائس، الطبعة الرابعة، 1407هـ = 1987م.
    46- العقيدة والمعرفة، ص (242).
    47 - دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، ص (135).
    48- المرجع السابق،ص (150).
    49 - المرجع السابق،ص (286).
    50- الثابت والمتحول بحث في الإبداع والاتباع عند العرب، (2/92).
    51 - المرجع السابق، (2/93).

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 5:06 am