منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    قراءات .. البلاغة الجديدة

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    قراءات .. البلاغة الجديدة Empty قراءات .. البلاغة الجديدة

    مُساهمة   الثلاثاء مايو 04, 2010 11:17 am

    <!--ADD HERE --> قراءات .. البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول حـسـن الـمـودن


    وكيف يظن إنسان أن صناعة البلاغة يتأتّـى تحصيلها في الزمن القريب، وهي البحر الذي لم يصل أحد إلى نهايته مع استنفاد الأعمار (حازم القرطاجني)
    { تـقـديــم
    يسعدني اليوم أن أقدم الكتاب الجديد الذي أصدره الدكتور محمد العمري سنة 2005م بدار افريقيا الشرق تحت عنوان: البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول·
    والدكتور محمد العمري غني عن التعريف، فهو صاحب مشروع علمي يفتح أفقا جديدا للدراسات البلاغية والنقدية، وذلك بحكم تشبعه بالتراث وتحكمه من النظريات والمناهج الغربية، ودراساته تحاور التراثين، العربي والغربي، وتغنيهما بوعي علمي دقيق، وبالطريقة التي تسمح بإثراء الخطابين البلاغي والنقدي المعاصرين، وتطوير أسئلتهما وإشكالاتهما، وتدشين مباحث جديدة تزيد من عمق وعينا بإشكالية الخطاب، والأدبي خاصة·
    يتألف هذا المشروع العلمي من دراسات وأبحاث وترجمات، بعضها يعتبر قراءة نسقية جديدة للتراث البلاغي العربي( كتابه الصادر سنة 1999 تحت عنوان:البلاغة العربية،أصولها وامتداداتها) ، وبعضها ترجمات تعرّف بالنظريات الأدبية والبلاغية الجديدة(كتابه الصادر سنة 1996 تحت عنوان: نظرية الأدب في القرن العشرين)، وبعضها يخلق حوارا بين البلاغة العربية والبلاغات الأخرى، الإغريقية في العصور القديمة والغربية في العصر الراهن( على سبيل التمثيل، نشير إلى المقالات التي أصدرها الباحث في مجلة فكر ونقد حول البلاغة العامة والبلاغات المعممة، وبلاغة الحوار ···) ·
    ويمكن تصنيف هذه الدراسات إلى صنفين يشكلان بعدين أساسين في المشروع العلمي للأستاذ محمد العمري:
    يتكون الصنف الأول من دراسات كرّسها الباحث للخطاب الشعري، منها كتابه الذي أصدره سنة 1990 تحت عنوان: تحليل الخطاب الشعري، البنية الصوتية في الشعر، وكتابه الذي أصدره سنة 2001 تحت عنوان: الموازنات الصوتية في الرؤية البلاغية والممارسة الشعرية·
    ويتألف الصنف الثاني من دراسات اعتنى فيها الباحث بالخطابة والخطاب الاقناعي قديما وحديثا، منها كتابه الذي أصدره سنة 1986 وصدرت طبعته الثانية سنة 2002 تحت عنوان: في بلاغة الخطاب الاقناعي، وكتابه الذي صدر سنة 2002 تحت عنوان: دائرة الحوار ومزالق العنف·
    قد يعطي هذا التصنيف الانطباع بأن الباحث يفصل فصلا مطلقا بين الشعري والخطابي، وأنه يدرس الشعري دراسة بنيوية داخلية، ويدرس الخطابي دراسة تداولية خارجية· والواقع أن الأمر ليس بهذه البساطة، ففي دراسته للخطابة العربية كان يأخذ بعين الاعتبار الدور الذي يلعبه المكون الشعري في الخطاب الاقناعي، وهو يستعين بنظريات القراءة والتلقي في دراساته للخطاب الشعري، ويكشف النقاب عن النظرة التداولية إلى الشعر في التراث البلاغي ( نشير إلى مقالة نشرها بمجلة : فكر ونقد، عدد 17، سنة1999، تحت عنوان: القاريء وإنتاج المعنى في الشعر القديم، حدود التأويل البلاغي )·
    واليوم، يأتي هذا الكتاب الجديد: البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول للبحث في هذه المنطقة البينية التي يتقاطع فيها التخييلي والتداولي، وهو بذلك يعيد البحث البلاغي إلى الواجهة باعتباره بحثا علميا يهتم بالخطاب في كليته، أي في بعديه التخييلي الأدبي والحجاجي المنطقي·
    بعد عمر من البحث في المجال البلاغي ببعديه الشعري والخطابي، يعود الباحث إلى نقطة البداية ليتساءل: ما هي البلاغة؟ أين توجد البلاغة؟ هل هناك بلاغة واحدة أم بلاغات متعددة؟ وإذا كانت هناك بلاغات متعددة، هل هناك مشروعية لقيام بلاغة عامة تنسق هذه البلاغات الخاصة وتتحدث باسمها في نادي العلوم المحيطة بها؟
    هذه هي الأسئلة التي يعالجها هذا الكتاب نظريا وتاريخيا في الفصل الأول، وتطبيقيا ثانيا من خلال الاشتغال على نموذجي السخرية والسيرة الذاتية في الفصل الثاني، وبالحفر ثالثا في أعماق اللغة والفكر لإبراز فعالية المكون الجوهري في البلاغة، أي المجاز، في الفصل الثالث·
    { عرض الكتاب:
    يتألف الكتاب من تقديم وثلاثة فصول وملحق يضمّ مقالا للبلاغي الفرنسي أوليفيي روبول تحت عنوان: هل يمكن أن يوجد حجاج غير بلاغي؟ قام الأستاذ محمد العمري بترجمته، وهو مقال لا تخفى أهميته بالنظر إلى موضوع الكتاب·
    ويتكون الفصل الأول من مبحثين اثنين:
    يفتتح الأستاذ العمري المبحث الأول بتوضيحات أساس، منها أن كلمة بلاغة لا تطرح في السياق العربي إشكالا في كونها علم الخطاب الاحتمالي بنوعيه التخييلي والتداولي، وذلك نتيجة الدمج الذي مارسه، في المرحلة الثانية من تاريخها، كل من عبد القاهر الجرجاني وابن سنان الخفاجي ثم السكاكي وحازم القرطاجني، وذلك بعد المحاولة التي قام بها العسكري تحت عنوان: الصناعتين· ويقول انه بالرغم مما أدت إليه عملية الدمج من إقصاء واختزال أحيانا، ومن تحويل المركز أحيانا أخرى( من التخييل إلى التداول خاصة)، فقد ظلّ شعار الوحدة البلاغية مرفوعا·
    وفي مقابل ذلك، يوضح أن كلمة ريطوريك rhetorique, rhetoric في الثقافة الغربية تتراوح بين ثلاثة مفاهيم كبرى:
    1 ـ المفهوم الأرسطي الذي يخصّصها لمجال الإقناع وآلياته، حيث تشتغل على النص الخطابي في المقامات الثلاثة المعروفة (المشاورة، المشاجرة، المفاضلة)، وتقابل بذلك الخطاب المحاكي المخيل أي الشعر حصرا· وهذا هو المفهوم الذي أعاد بيرلمان وآخرون صياغته في اتجاه بناء نموذج منطقي للإقناع·
    2 ـ المفهوم الأدبي الذي يجعلها بحثا في صور الأسلوب، وهذا المفهوم هو الذي استقرّ لها عبر تاريخ من الانكماش رسم رولان بارت خطوطه العامة في محاضراته المشهورة عن تاريخ البلاغة القديمة· وقد أعيدت صياغة هذا الاتجاه حديثا باعتباره بلاغة عامة أحيانا، كما هو الحال في الدراسة المشهورة لجماعة مي تحت عنوان: البلاغة العامة·
    3 ـ المفهوم النسقي الذي يسعى إلى جعل البلاغة علما أعلى يشمل التخييل والحجاج، ويستوعب المفهومين معا من خلال المنطقة التي يتقاطعان فيها، ويوسّع منطقة التقاطع إلى أقصى حدّ ممكن· فقد حدث خلال التاريخ أن تقلّص البعد الفلسفي التداولي للبلاغة، وتوسّع البعد الأسلوبي حتى صار الموضوع الوحيد لها، فكانت نهضة البلاغة حديثا منصبّة على استرجاع البعد المفقود في تجاذب بين المجال الأدبي( حيث يهيمن التخييل) والمجال الفلسفي المنطقي من جهة، واللساني التداولي من جهة ثانية·
    ويسجل الباحث أن هذا المفهوم العام النسقي للبلاغة هو الذي يهمّه، موضحا أن هذا المفهوم قد يفقد طابعه الإشكالي النسقي سعيا للدمج الكلّي بين التخييلي والتداولي فيشرف على حدود التلفيق، كما هو الحال في الكثير من النماذج المنتمية إلى السيميائيات وعلم النص·
    بعد هذه التوضيحات ينتقل الباحث إلى الحديث عن الأساس الذي يقوم عليه النسق البلاغي، مشيرا إلى أن الحديث عن علم للتخييل والتداول باعتبارهما خطابين يتّجهان نحو قطبين متباعدين يقتضي بيان العنصر الجوهري الذي يجمعهما، ومدى الإنتاجية الإضافية المترتّبة عن الجمع، فضلا عن الحاجة إلى ضبط الحدود مع الجوار المعرفي( المنطق والفلسفة واللسانيات)·
    ويسجّل أن لا اختلاف بين المدافعين عن النسق البلاغي العام وبين المرتابين في إمكانية قيامه في أن التخييل والتداول( أوالحجاج بشكل أدقّ) يلتقيان في أنهما خطابان قائمان على الاحتمال، الاحتمال توهيما أو ترجيحا، التوهيم في التخييل والترجيح في التداول الحجاجي: فخطاب الشاعر كذب محتمل الصدق، وكلام الخطيب صدق محتمل الكذب· ومع ذلك، فمن الدارسين من رجّح الخصوصيات النوعية لكل جنس ففصل، ومنهم من رأى أن منطقة الاتصال واسعة بشكل يجعلها كافية لقيام علم عامّ للشعرية والخطابية هو علم البلاغة:
    ــ الفصل بين الشعرية والخطابية: في سياق الفصل بين الخطابية والشعرية، يعرض محمد العمري ويناقش مقالا لــبول ريكور تحت عنوان: الخطابية، الشعرية، التأويلية · وهو في نظره مقال مركّز يفحص بعمق عناصر الالتقاء وعناصر الافتراق بين الشعرية والخطابية، وعرضه ومناقشته يتيحان تبيّن عناصر التداخل، وتدعيمها بمعطيات أخرى من المجال العربي، ومناقشة المستندات المعتمدة في الاحتجاج لعدم إمكان قيام بلاغة عامة·
    يعود بول ريكور بالبلاغة إلى مهدها الغربي عند اليونان باحثا عن نواة الشعرية والخطابية، فيلاحظ أن نواة الخطابية هي فضّ نزاع يتمّ حسمه عن طريق معاقلة توجد في منتصف بين الخطاب البرهاني والعنف المستتر وراء الخطاب الإغوائي الخالص، فبينهما يوجد معقول مناسب للمقامات الخطابية عند أرسطو· وأساس هذا الخطاب هو الحوار·
    والأمر الجوهري في الخطابية الأرسطية وبلاغة الحجاج عامة هو الاحتكام إلى المستمعات Auditoires، إذ يظل هدف الحجاج هو الإقناع، أي الحصول على موافقة المستمع ودفعه للفعل، فالخطابية هي فن الخطاب الفاعل· ويضاف إلى هذا أن اعتبار حال المستمع في بناء الخطاب يطرح مدى صلابة المنطلقات الحجاجية·
    وتلتقي الشعرية مع الخطابية في كونهما يعالجان إنتاجا لنصوص نواتها الاحتمال، فالشعرية تعني عند أرسطو إنتاج الخطاب، والخطابية ليس شيئا آخر غير تركيب الخطاب، أي أنها هي الأخـرى بـويـزيـس Poesis · ومـع ذلـك، وإن كان الـشـعـري والخطابي يتقاطعان في منطقة المحتمل، فإن تقاطعهما، بالنسبة لـريكور، يعني مجيئهما من مكانين مختلفين وتوجّههما نحو هدفين مختلفين· فالفعل الشعري هو خلق حكايات ـ حبكة، والفعل الخطابي هو تقديم حجج·
    إن نواة الشعرية تتبلور في العلاقة بين كلمات مفاتيح هي: الإنـتــاج Poesis والـحـكـي Muthos والـمـحـاكـاة Memesis والـحـبـكـة Intrigue ، وهي بهذا تعارض نواة الخطابية التي هي الحجاج· وعليه، فليس من الممكن، في نظر بول ريكور، قيام علم يستوعب الشعرية والخطابية( بل والتأويلية أيضا)· والملائم إذن هو أن تتحدث كل واحدة باسمها الخاصّ، فتختصّ الخطابية بفنّ الحجاج الهادف لاقناع المستمع، وتختصّ الشعرية بفنّ بناء الحبك مستهدفة توسيع الخيال الفردي والجماعي·
    وفي سياق مناقشة الفصل بين الشعرية والخطابية، كما يقول به بول ريكور، يسجّل محمد العمري أن الباحث قد اعتبر تقسيم أرسطو مهدا واحدا للنشأة المزدوجة للبلاغة، والواقع أن هناك مهدا آخر هو مهد البلاغة العربية التي عرفت نشأة شبيهة دون أن تكون نواة الشعر فيها مماثلة لما عند أرسطو، وهذا الأخير ليس المهد الأول للبلاغة اليونانية، بل هو الذي شطّرها بعد أن كان فنّ القول واحدا مشاعا بين الفلاسفة والخطباء والشعراء· ويضاف إلى هذا أن ما وصلنا من شعرية أرسطو لا يمثّل تصوره في مشروعه، فأحرى أن يمثّل الشعر في عصره كاملا، فكتابه مبتور كما هو معلوم، وأهمّ غائب فيه الشعر الغنائي الذي لو حضر لكان الحديث عن الحبكة والحكاية محلّ نقاش، فنواة الشعر قابلة للمراجعة من خلال قراءة تاريخية موسّعة· وقد انتبه البلاغيون الفلاسفة العرب إلى غياب المتن العربي أو ما يماثله عن تصور أرسطو، ولو حضر لديه لأضاف فصولا إلى كتابه(ويحيل محمد العمري هنا إلى قول حازم القرطاجني في : منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص 68 : ولو وجد الحكيم أرسطو في شـعـر اليونانيين ما يوجد في شـعــر الـعـرب من كـثــرة الـحــكــــم والأمثال والاستدلالات واختلاف ضروب الإبداع في فنون الكلام ··· لزاد على ما وضع من القوانين الشعرية)·
    ــ الوصل بين الشعرية والخطابية: البلاغة العامة: يسجّل محمد العمري أن بلاغيين محدثين كبارا قد بذلوا جهدا فلسفيا ومـخـبريا في بيان مدى صـلابـة الأسـاس العلمي لقيام بلاغة عامة بالمفهوم الذي تحدث عنه حازم القرطاجني، أي البلاغة باعتبارها علما كليا يستوعب ثمار علوم اللسان·
    ومن أبرز هؤلاء البلاغيين ميشال مايير الذي يقول إن بناء بلاغة كلية يتطلّب الخروج من المقابلة القضوية بين الوجود واللاوجود التي بني عليها تفريق أرسطو بين الشعرية والخطابية، حيث الشعرلاوجود يحتمل الوجود والخطابة وجود يحتمل اللاوجود، وبعبارة أقرب: الشعر كذب يحتمل الصدق، والخطابة صدق يحتمل الكذب· فبدل هذا التقابل القضوي الوجودي يمكن تحقيق وحدة بلاغية باعتماد التفاعل القائم على الإشكال والمساءلة·
    10
    ومن أبرزهم أيضا أوليفيي روبول الذي يبحث في كتابه: البلاغة عن حلّ ثالث، ويقول إن جوهر البلاغة لا يوجد لا في الأسلوب ولا في الحجاج، بل يوجد بالتحديد في المنطقة التي يتقاطعان فيها· وبالنسبة إليه، ينتمي إلى البلاغة كل خطاب يجمع بين الحجاج والأسلوب، أي كلّ خطاب يقنع بالمتعة والإثارة مدعّمتين بالحجاج·
    ويحاول أوليفيي روبول في مقالته: الصورة والحجة أن يكشف طموح البلاغة الجديدة إلى استرجاع أطرافها المفقودة والتقريب بين مكونيها: الصورة والحجة· ويبدأ مقالته بالسؤال عن إمكان أن تكون الصورة حجّة أو على الأقل عنصرا حجاجيا، فيبيّن أن الصور في مختلف أنواعها( صور الكلمات، صور المعنى، صور التركيب···) تؤدي وظائف حجاجية· ثمّ ينتقل إلى السؤال المعاكس عن إمكان اعتبار الحجة نفسها صورة، فيوضح أن الجواب يقتضي بيان ما يميّز الحجاج عن البرهنة المنطقية من خلال ملامح أربعة أساس: 1ـ ارتباط الحجاج بمستمع محدد يأخذه بعين الاعتبار، وهذا ما يطرح مدى صلابة المنطلقات الحجاجية، 2 ـ استعمال اللغة الطبيعية في الحجاج، وهي لغة ألفاظها ملتبسة أو متعددة الدلالات، وهذا ما يطبعها بالاحـتـمال، 3 ـ مسار الحجاج لا يأخذ طريق الصرامة البرهانية، 4 ـ الحجاج سجال، وهو ما يطرح مسألة الذاتية والموضوعية· وينتهي روبول إلى أن الحجّة نفسها صورة يسري عليها ما يسري على الصور من انعدام الدقة ومن التذاوت( تفاعل الذوات) والسجال·
    ويدعم الباحث الاتجاه الثاني الذي يقول بالوصل بين الشعرية والخطابية، وذلك بالحديث عن التخييل والتداول في مسار البلاغة العربية· فينطلق من أن الملاحظات الأسلوبية هي المصدر الأول للبلاغة العربية، وستجمع لاحـقـا تحت اسـم البديع ومحاسن الكلام( ابن المعتز)، وأن الطموح إلى صياغة نظرية عامة للفهم والإفهام أو للبيان والتبيين(الجاحظ) هو المصدر الثاني الكبير للبلاغة العربية· ويخلص إلى أن للبلاغة العربية مهدين كبيرين أنتجا مسارين كبيرين: مسار البديع يغذيه الشعر، ومسار البيان تغذيه الخطابة· ونظرا للتداخل الكبير بين الشعر والخطابة في التراث العربي، فقد ظل الـمـسـاران مـتـداخـلـين وملتبسين رغم الجهود الكبيرة النيرة التي ساهم بها الفلاسفة وهم يقرؤون بلاغة أرسطو وشعريته (ص ص 28 ـ 29.)· وقد بذل الفلاسفة في إطار قراءتهم لعمل أرسطو في الشعر والخطاب جهدا محمودا لبيان الخصوصية الشعرية(التخييل) والخصوصية الخطابية(التصديق)، وما بينهما من التداخل والتخارج· ولعلّ المحاولة التنظيرية الوحيدة الجادة في هذا المجال هي التي بذلها حازم القرطاجني(ص 30) ·
    وفي المبحث الثاني، تتبع الباحث تاريخ الحوار بين التخييل والتداول في البلاغتين العربية والغربية، وما أفرزه من توجهات نحو التعميم والتخصيص· وهو تاريخ يشهد بوجود بلاغات خاصة، بقدر ما يؤكد النزوع الدائم إلى بلورة بلاغة عامة لكل الخطاب الاحتمالي التخييلي والتداولي·
    وهكذا، ففي التراث العربي، يلاحظ الباحث أن أول كلمة تربعت فوق مجموعة من المصطلحات المرصودة لوصف الخطاب من زاوية الخصوصية التعبيرية هي كلمة بـديـع مع ابن المعتز في القرن الثالث الهجري· وقد ظل هذا المصطلح، أكثر من أربعة قرون، يوسع دائرة نفوذه لتضم كل صور التعبير ووجوهه اللسانية، غير عابيء بمقامات القول ومقاصده، أي بأبعاد الخطاب التداولية، إلى أن ظهر كتاب مفتاح العلوم للسكاكي الذي أزاح البديع عن موقع السيادة والهيمنة، ونقله إلى الهامش·
    ويلاحظ الباحث أن الكلمة الأخرى التي تربعت على مجال خطابي متميز، وأنتجت لائحة مصطلحية دالة على علم جديد هي كلمة بيان مع الجاحظ في القرن الثالث الهجري· وبخلاف البديع الذي اهتم بالعبارة الشعرية، اهتم البيان بالفهم والإفهام، وتدرج من كلمة بيان إلى كلمة بلاغة، ومن كلمة بلاغة إلى كلمة خطابة، وينتقل من الواحدة إلى الأخرى، وكأنما يتحدث عن الشيء نفسه· وهنا يسجل الباحث أن كلمة بلاغة ظهرت عند العرب والإغريق في الحقل نفسه، أي الخطابة، ويوضح أن تفرع البلاغة عن البيان يعني تقديم الإفهام على الفهم، والخروج من نظرية المعرفة إلى نظرية الإقناع· وقد استفادت القراءات البلاغية اللاحقة من الجاحظ، ابتداء من العسكري وانتهاء بــابن سنان، فقد أخذا منه أهم مكونين للخطاب الاقناعي، وهما: المناسبة والاعتدال·

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 8:19 am