د. بهاء الدين محمد مزيد
إمدادات هذا الكاتب د. بهاء الدين محمد مزيد 11 مارس 2010
نص (1): دعاء الفرج
“اللهم احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بركنك الذي لا يرام، وارحمني بقدرتك علي، فلا أهلك وأنت رجائي: كم من نعمة أنعمت بها علي قل لك بها شكري، وكم من بلية ابتليتني بها قل لها عندك صبري. فيا من قل عند نعمته شكري فلم يحرمني، ويا من قل عند ابتلائه صبري فلم يخذلني، ويا من رآني على الخطايا فلم يفضحني، ويا ذا النعم التي لا تحصى أبدا ويا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبدا أعني على ديني بدنياي وعلى آخرتي بتقواي، واحفظني فيما غبت عنه، ولا تكلني إلى نفسي فيما حضرت. يا من لا تضره الذنوب ولا تنقصه المغفرة، اغفر لي ما لا يضرك وأعطني ما لا ينقصك. يا وهّاب أسألك فرجا قريباً وصبرا جميلا والعافية من جميع البلايا وشكر العافية“.
تعقيب
الدعاء نوعٌ خطابيّ دينيّ يتوجّه فيه العبد إلى ربّه بطلب المغفرة، أو العون، أو الرزق، أو هؤلاء جميعاً، أو ما عداهم. ولكلّ دعاء سياقاته المختلفة التي تقترن بمناسبة دينية، أو حاجة إنسانية، أو لحظة حرجة في حياة من يتوجّه بالدعاء. يتأسس الدعاء على عقيدة وإيمان بالله أولاً وبقدرته على تحقيق ما يرد في الدعاء. وللدعاء آداب وشروط - هي بمثابة مبررات نجاعته في نظرية أفعال الّلغة كما تقدّم - ومنها الشعور بالافتقار والحاجة إلى الله، والدعاء بما ينفع لا ما يضرّ. غير أنّ أشراط وآداب الدعاء في الإسلام تتجاوز ما نجد من شروط ومقدّمات أفعال الّلغة كما ورد من قبل.
من هذه الشروط والآداب ما هو اعتقادي روحي، كالإخلاص لله تعالى، واليقين بالإجابة، وحضور القلب، ومنها ما هو سلوكي أو شعائري، كاستقبال القبلة، والتضرّع، والخشوع، والرغبة، والرهبة، وعدم الاستعجال، والدعاء في الرخاء والشدة، وتحرّي أوقات الإجابة، والمبادرة باغتنام الأحوال والأماكن التي هي من مظانّ إجابة الدعاء، وكثرة الأعمال الصالحة، وردّ المظالم مع التوبة، ورفع الأيدي في الدعاء، والوضوء قبل الدعاء إن تيسر، والتقرّب إلى الله بكثرة النوافل، والبعد عن المعاصي، وأن يكون المأكل والمشرب والملبس وغيرهم من حلال. ومنها ما هو لفظي، كأن يبدأ من يدعو بحمد الله والثناء عليه، ثم الصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم – ويختم بذلك، والجزم، والإلحاح في الدعاء، وألا يسأل إلا الله وحده، وعدم الدعاء على الأهل والمال والولد والنفس، وخفض الصوت بالدعاء بين المخافتة والجهر، والاعتراف بالذنب، والاستغفار منه، والاعتراف بالنعمة، وشكر الله عليها، وعدم تكلُّف السجع في الدعاء، والدعاء ثلاثـًا، وألا يعتدي في الدعاء، وأن يبدأ الداعي بنفسه إذا دعا لغيره، وأن يتوسّل إلي الله بأسمائه الحسني وصفاته العلى، أو بعمل صالح قام به الداعي نفسه، أو بدعاء رجل صالح له (بعض ما ورد في تلخيص: الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين: “الدعاء“. من موقع http://www.elafco.com، بتصرّف).
هذه الشروط والآداب، ومعظمها يرقى إلى مرتبة السنن، لأنّها وردت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، تفسّر كثيرا من خصائص النصّ الذي بين أيدينا، وتحقّق له السبك، ومنها تكرار المفردات: “صبري” و“شكري“، والبنى النحوية: “احرسني بعينك التي لا تنام“، و“اكنفني بركنك الذي لا يرام“، و“فرجا قريباً“، و“صبرا جميلا“، و“على ديني بدنياي” و“على آخرتي بتقواي“، وتكرار صيغة “افعل“ التي لا تفيد الأمر، بل الرجاء والتوسّل والاستعطاف، وصيغة لا تفعل التي لا تفيد النهي، بل الدعاء والالتماس، وترد مرة واحدة: “لا تكلني“. ويحفل الدعاء كذلك بالطباق، والتقابل، والجناس، والسجع: “نعمة” و“بليّة“، و“غبت” و“حضرت“، و“قل شكري” “فلم يحرمني“، و“قل صبري” “فلم يخذلني“، و“تضر” و“يضر“، وتنقص” و“ينقص“.
ومن كمال الخضوع لله أنّ المتكلّم لا يرد في الدعاء إلا مفعولا به أو لأجله: “احرسني” و“اكنفني” و“ارحمني” و“أنعمت بها علي” و“ابتليتني” و“يحرمني” و“يخذلني” و“رآني” و“يفضحني” و“أعنّي” و“احفظني” و“لا تكلني“. في المواضع التي يرد فيها ضمير المخاطب الذي يعود على لفظ الجلالة في موقع المفعول به (“لا تضره الذنوب” و“لا تنقصه المغفرة” و“لا يضرك” و“لا ينقصك“) تنتفي الأفعال جميعاً. ولا يرِد المتكلّم في موقع الفاعل إلا في مقام التوسُّل (“أسألك“)، أو مجرّد التواجد الذي لا يقع فعله على مفعول به (“غبت” و“حضرت“). أمّا الأدب مع الله فيتجلّى في ذكر بعض نعمه، ومغفرته، وتجاوزه عن المعصية: “فلم يحرمني” و“فلم يخذلني“، والثناء عليه عز وجل والإقرار بقدرته: “بعينك التي لا تنام” و“بركنك الذي لا يرام“، ورحمته وكرمه: “يا ذا النعم التي لا تحصى أبدا“. هذا بالإضافة إلى ما تقدّم من صيغ نحوية بلاغية تنسجم مع طبيعة العلاقة بين العبد وربّه.
نص (2): خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع
تنبيه: لا بد أن أؤكد هنا أنّ التعامل مع خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم ليس كالتعامل مع سائر النصوص البشرية – فهو صلى الله عليه وسلّم “بشر يوحى” إليه.
“إن الحمد للهّ نَحمده ونَستغفره ونَتوب إليه؛ ونعوذ بالله من شرُور أنفسنا، ومن سَيئات أعمالنا، مَن يَهْد اللّه فلا مُضِلِّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له وأَشهد أنّ لا إله اللّه وحدَه لا شريك له، وأنّ محمداً عبدُه ورسولُه. أُوصيكم عبادَ اللهّ بَتْقوى اللّه، وأَحثُّكم على طاعته، وأَسْتَفْتح بالذي هو خير. أما بعد، أيّها الناس، اسمعوا منّي أبيّنَ لكم، فإني لا أدري لعليّ لا أَلْقاكم بعد عامي هذا في مَوْقفي هذا. أيها الناس، إنّ دماءكم وأموالَكم عليكم حَرام إلى أن تَلقوا ربَّكم، كحُرمة يومكم هذا في شَهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بَلّغت، اللهم اشهد. فمن كانت عنده أمانة فَلْيُؤَدها إلى الذي ائتمنه عليها، وإن رِبَا الجاهلية مَوْضوع، وإن أوّل ربا أبدأ به ربا عمّي العبّاس بن عبد المطلب، وإن دماء الجاهليَّة مَوْضوعة، وإن أول دَم أبدأ به دَم عامر بن رَبيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وإنّ مآثر الجاهلية موضوعة غير السّدانة والسّقاية. والعَمْدُ قَوَد، وشبْه العمد ما قُتل بالعصا والحجر، ففيه مائة بعير، فمَن زاد فهو من أهل الجاهلية. أيها الناس، إنّ الشيطان قد يَئسْ أن يُعبد في أرْضكم هذه ولكنه رضي أن يُطاع فيما سوى ذلك مما تُحَقِّرون من أعمالكم. أيها الناس، إنّما النّسيء زيادة في الكُفر، يُضَل به الذين كَفروا، يُحلّونه عاماً ويُحَرمونه عاماً، ليُواطئوا عدّة ما حَرّم اللّه، وإنالزمان قد استدار كهيئته يوم خَلق اللّه السموات والأرض، وإن عدّةَ الشهور عند اللهّ اثنا عشر شهراً في كتاب اللّه يوم خلق، السموات والأرض، منها أربعة حُرم، ثلاثة متواليات، وواحد فرد، ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب الذي بين جمادي وشعبان، ألَا هل بلّغت، اللهم أشهد. أيها الناس، إنّ لنسائكم عليكم حقَاً، وإنّ لكم عليهن حقّاَ، لكم عليهن أن لا يُوطِئن فَرْشَكم غيركم، ولا يُدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم إلاّ بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن اللّه قد أذن لكم أن تَعْضُلوهن وتَهْجروهن في المَضاجع وتضربوهن ضرباً غير مُبرِّح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رِزقُهن وكسوتهن بالمعروف، وإنما النساء عندكم عَوَار لا يملكن لأنفسهن شيئاً، أخذتموهن بأَمانة اللّه، واستحلَلتُم فُروجهن بكلمة اللّه، فاتقوا اللّه في النساء واستوصوا بهن خيراً. أيها الناس، إنما المؤمنون إخوة فلا يحل لامرئ مالُ أخيه إلاّ عن طِيب نفسه، ألا هل بلّغت، اللهم أشهد. فلا تَرْجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم أعناق بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تَضلّوا: كتابَ اللّه، ألا هل بلَّغت، اللهم أشهد. أيها الناس: إنّ ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلُكم لآدم، وآدم من تراب، أكرمُكم عند اللّه أتقاكم، ليس لعربيّ على عجميّ فَضل إلّا بالتقوى، ألا هل بلّغت؟ قالوا: نعم? قال: فَلْيبلغ الشاهد منكم الغائب. أيها الناس، إنّ اللّه قد قَسم لكل وارث نصيَبه من الميراث، ولا يجوز لوارث وصية ولا تجوز وصية، في أكثر من الثّلث، والولدُ للفراش وللعاهر الحَجر، من ادَعى إلى غير أبيه، أو تولّى غَير مواليه، فعليه لعنةُ اللّه والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل اللّه منه صَرْفاً ولا عدلاً. والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته” (العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي، نسخة موقع الوراق، ص ص 487-488).
تعقيب
هذا نصٌّ من النصوص المحورية في الثقافة الإسلامية - خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر عام حجّ فيه قبل انتقاله إلى ربه عز وجل. في النصّ ما في جنس الخطبة من فاتحة دينية، واستغفار، وشهادة، ودعاء، وحلال وحرام، وترغيب وترهيب، وشئ من سرد قليل فى الحديث عن ربا الجاهلية، وفيها مفردات دينية تتعلّق بالمعتقدات، والعبادات، واقتباسات من القرآن الكريم، وفيها أحكام وتعاليم تتناول حُرمة الدماء والأشهر الحُرُم، والوصية بالنساء، والمواريث، والنسب، والتقوى كعلامة فارقة، والحقوق والواجبات المتبادلة بين الزوج والزوجة، وبين المؤمنين كافّة، وتأكيد على المساواة بين البشر إلا فيما يميز بعضهم من بعض من تقوى.
سياق النصّ هو مكانه فى مكة المكرّمة، وزمانه حجة الوداع، والعلاقة بين المتكلّم والمتلقي هي علاقة سمع وطاعة واقتداء، ولعلّ هذا يفسّر ما نرى في النص من سلطة التقرير، والتعليم، والأمر والنهي، وهي سلطة إيجابيّة، ليست من قبيل القمع، أو القهر، أو التلاعب بالعقول، لأنّ غايتها هي صلاح أمر المسلمين من خلال طاعة الله عز وجلّ، وتزكية النفس، وتحقيق العدل، وعمارة الأرض. أمّا أدوات النص لتحقيق غاياته البلاغيّة والتبليغيّة فسترد الإشارة إلى بعضها فيما يلي، وقد تقدّم الكلام عن جنس النص وموضوعاته، غير أنّ من العسير الوقوف على نغمة الخطبة أو إيقاعها إلا من خلال ما نجد من نص مكتوب، وما نعرف عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وعن سياق الخطبة كما نرى فيما يلي من ملاحظات عابرة على نصّ مهمّ.
تشتمل الخطبة فاتحة دينية تقليدية توارثها الخطباء والدعاة المسلمون عن الرسول صلّى الله عليه وسلم، حتى أصبحت قالباً خطابيّأ أثيراً، وفيها الحمد والاستغفار، بما يرسّخ الانتماء إلى الله، وفيها القسمة الخالدة بين المهتدين والضالّين، والشهادتان بما يرسّخ الانتماء إلى الإسلام، ثم النصيحة بتقوى الله وطاعته. يلي ذلك لفت انتباه المتلقي من خلال النداء “أيّها الناس“، والأمر “اسمعوا مني“، وتحديد غاية غايات الخطاب - “أبيّن لكم” – وتبرير أهميته – “لعلّى لا ألقاكم“. ثم ترد مجموعة من التعابير الإشارية المهمّة يتكرّر فيها اسم الإشارة “هذا” للقريب، فيحيل إلى وقت حجّ الرسول صلّى الله عليه وسلم، وإشارة إلى المستقبل على سبيل الظن “لعلّي لا ألقاكم …”. تكتسب التعابير الإشاريّة دلالتها هنا من معرفة المتلقي ما تشير إليه والأرضية الاعتقادية التى يقف عليها خلف الرسول صلّى الله عليه وسلم، وهي حرمة ما ورد فى الخطبة، حرمة الزمان والمكان المشار إليهما.
وفي النصّ من التوازي التركيبي ما يوحي بتبادل الحقوق والواجبات فى “لكم عليهن” و“لهن عليكم“، وكثير من التكرار كما فى “ألا هل بَلّغت، …” للتحقُّق من بلوغ الرسالة، و“أيّها الناس” للتنبيه، وفيه اقتباسات من القرآن الكريم منها “إنّما النّسيء زيادة في الكُفر” و“إن عدّةَ الشهور عند اللهّ اثنا عشر شهراً في كتاب اللّه يوم خلق السموات والأرض“. تحتشد فى الخطبة كذلك الجمل التقريرية اليقينية وصنوف الإلزام من أوامر وفروض وتعاليم وتحليل وتحريم، بما بناسب المقام ويناسب علاقة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسلمين ويناسب أغراض الخطاب وغاياته.
فى الخطبة ما يبرّر الإلحاح على تحقيق غاياتها من حيث زمانها قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وموضوعاتها التي لا يصلح بغيرها أمر المسلمين. من هنا كان التكرار وحشد الأحكام والتعاليم والوصايا والاستشهاد بالله وإشهاده عز وجلّ على أداء المهمة فى العلاقة التواصليّة – علاقة الوحي ثم التبليغ - التى ينطلق منها النّصُّ بين المسلمين وخالقهم ورسوله صلى الله عليه وسلم.
?استطراد: عن الإقناع فى البلاغة الإسلامية
“لماذا لم تتطوّر فيّ البلاغة الإسلامية نظريةٌ متكاملة فى الإقناع؟ ربّما لأنّ الوحيَ هو مدار الإقناع وهو معيار ما للكلام أو الخطاب من تأثير في تلك البلاغة. إنّ الرسالة السماوية، وهي كلام الله المُعجِز، تُحقّق الإقناع، لا من خلال بنية بلاغية إقناعية، أو من خلال بلاغة خطيب متمرّس، بل من خلال ما فيها من كمال التوحّد والانسجام بين الحقّ والجمال. وإذا لم يتحقّق الإقناع، فليس الخلل في تلك الرسالة، بل في أداة تلقّيها، ألا وهي القلب، فالرسالة قد نزلت فى أكثر أشكال البلاغة كمالاً واكتمالاً، ونعني بها القرآن، وهو ما يشير بوضوح إلى أنّ التقصير عن إدراك كلام الله مردّه إلى عجز الفرد أو المجتمع عن السمع أو زهدهما فيه. إنّ العجز عن سماع كلام الله من العلامات التى تميز الشياطين وأهل النار من البشر: “… لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم أعينٌ لا يبصرون بها ولهم آذانٌ لا يسمعون بها … ” (الأعراف، الآية 179). وعندما يستجيب البشر لكلام غيرهم أو لكلام الله، دون سلبيّة أو تقصير، فإنّ فعل الاستجابة يختصّ به السامع، على معنى أنّ السمع أو الاستماع ليس مجرّد استقبال سالب تلقائي، بل هو نوع من الفعل: أنا أسمع أو أستمع، إذن أنا أفعل. لهذا السبب، لا تتطلب الرسالة السماوية في العقيدة الإسلامية خطيباّ بليغاً، بل مستمعاً واعياً يستطيع أن يسمع ما يصل إليه من كلام الله، فبلاغة الرسالة وكمالها وإعجازها بما يستعصي على الترجمة تكمن فى ذاتها لا في بلاغة من ينقلها أو يبلّغها …” (هيرشكند Hirschkind، 2006، ص 50).
يؤكّد هذا الاقتباس على حقيقة مهمّة، وهي أنّ الاستماع فعلٌ كالكلام، وربّما يتجاوزه فى الأهمية في بعض المواضع. وهو هكذا خصوصاً فى ثقافة صوتيّة في كثير من تجلّيّاتها. ويثير الاقتباس كذلك عددا من القضايا تتعلّق بالفروق الجوهرية بين الإقناع الذي يقوم على الاستشهاد والاقتباس، والإقناع الأرسطي الذي يقوم على المحاجّة واستثارة مشاعر من قبيل الخوف أو الشفقة pathos وتقديم الدليل العقلي logos والتأسيس لمصداقية المتكلم ethos. لا ينبغي أن نقع في أشراك القولبة التي تصنّف الثقافات إلى عقلية ماديّة وروحية نقلية، وتنحاز إلى بعضها دون بعض، فتُقصي الوحيَ لحساب العقل – وكأنّه يعجز عن مخاطبته - أو تُسفّه العقل لحساب النقل. وهذا مقالٌ لا قِبَل لمقام التبسيط الراهن بالإحاطة به من جميع جوانبه.
نص (3): من خطبة لأبي العباس السفاح بالشام
“خطب أبو العباس عبدُ اللّه بن محمد عليّ، لمّا قُتل مَروان بن محمد، فقال: ألم تَر إلى الذين بَدّلوا نعمة الله كفْراً وأَحَلًوا قومهم دار البوار، جَهَنِّم يَصْلَوْنَها وبِئْسَ القَرار، نَكَصَ بكم يا أهل الشام آل حَرْب، وآل مَرْوان، يَتَسكّعون بكم الظُّلم، ويتهوَّرون بكم مَداحض الزَّلق، يطؤون بكم حُرم الله وحرم رسوله، ماذا يقول زُعماؤكم غداً؟ يقولون: ربّنا هؤلاء أَضلونا فاتهم عذاباً ضِعْفاً من النار. إذاً يقول اللّه عزَّ وجلّ لكُلّ ضِعْف ولكن لا تَعْلمون. أمّا أميرُ المؤمنين، فقد ائتنف بكم التّوبة، واغتفر لكم الزِّلة، وبسط لكم الإقالة، وعاد بفَضْلِه على نَقْصكم، وبِحِلْمه على جَهْلكم، فلْيُفرح رُوعكم، ولتطمئنّ به دارُكم، ولْتعظكم مصارعُ أَوائلكم، فتلك بيوتهم خاوية بما ظَلَموا” (العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي، نسخة موقع الوراق، ص 508).
تعقيب
لا بُدّ أن يتأسّس تحليل خطاب كهذا على وصف مّفصّل للسياق بما يشمل المتكلّم، أول الخلفاء العباسيين، والقتيل – مروان بن محمد، آخر خلفاء بني أميّة - وأهل الشام وآل حرب وآل مروان، وما كان يجمع أو يفرّق بين هؤلاء جميعاً، وكذا الحضور الذين توجّه إليهم المتكلّم بالخطاب، والظروف السياسيّة والاجتماعية التى أحاطت به. أمّا غايات الخطاب فتشمل التوبيخ – “بدّلوا نعمة الله كفراً” – ثم الإبلاغ بالعفو - “أمّا أمير المؤمنين … اغتفر لكم الذلة …” – والدعوة إلى الاعتبار – “و لتعظكم مصارع أوائلكم“. وفي الإبلاغ بالعفو جملة أفعال كلاميّة: قَبِل توبتكم، وغفر زلتكم، وأقال عثرتكم، وتفضّل عليكم، وقابل جهلكم بحلمه. وفي الائتناف والاغتفار مجاهدة ربّما لأنّ الذنب كان عظيماً.
في النصّ ثلاثة اقتباسات من القرآن الكريم، لا ترد ناتئة أو مُقحمة، بل جزءًا من نسيجه، وكأنّ المتكلّم يريد أن يقول إنَّ الآيات المقتبسة قد نزلت فى أهل الشام ومن “نكص بهم” من آل حرب وآل مروان: “ألم تَر إلى الذين بَدّلوا نعمة الله كفْراً …”، و“ربّنا هؤلاء أَضلونا فاتهم عذاباً ضِعْفاً من النار“، و“فتلك بيوتهم خاوية بما ظَلَموا“. إذا كانت القاعدة التفسيرية الإسلامية تقول إنّ العبرة بعموم اللفظ وليست بخصوص السبب، فإنّ ما أراد المتكلّم لجمهوره فى ذلك السياق هو التسليم بأنّ ما وقع منهم ومن آل حرب وأل مروان يندرج تحت تبديل “نعمة الله كفراً“، وغير ذلك مما يرد فى بقية الاقتباسات. (ويبدو أنّ هذه الوسيلة من سمات كثير من الخطب السياسيّة، ومن ذلك تشبيه حسن نصر الله إسرائيل بفرعون وحاشيته).
ليس هذا الخطاب الموجز فريداً فى باب توظيف السّاسة والحكام القرآن الكريم لتحقيق غايات بلاغيّة سياسية فى العالم العربي والإسلامي. حتى الذين لا يطبّقون ما فيه من أحكام يلوذون به ليضمنوا تعاطف عامّة المسلمين. أليست الآيات القرآنية والأحاديث النبويّة الشريفة وسيلة من أكثر وسائل الدعاية الانتخابيّة نجاعة فى العالم الإسلامي؟ لقد ظلّ الدين سلاحا مؤثراً فعّالاً فى يد السّاسة والحُكّام بطول العالم العربي الإسلامى وعرضه، في ماضيه وحاضره، يستميلون به القلوب، وربّما يتلاعبون بالعقول، ويضمنون تأييد الرعيّة، ويجيّشون به الجيوش، ويستنزلون به نصر الله، حتى وهم يتقاتلون فيما بينهم.
وفى نصّ أبي العبّاس ثنائيات لافتة تميز معسكر أمير المؤمنين – حيث الحكمة، والإيمان، والانحياز إلى جانب الله، والعفو، والكرم، والفضل، والحلم - من معسكر الخارجين من أهل الشام ومن ضلّلهم من آل حرب وآل مروان – حيث نَكص العهد، والتدمير، والتسكّع، والتهوّر، والاجتراء على حرمات الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والتضليل، والضلال، والنقص، والجهل. تتحقّق القطبيّة أو الثنائية فى الخطاب من خلال الترادف والسجع بين مفردات الانحراف عن جادّة الطريق والخروج على الحكم فى “يَتَسكّعون” و“يتهوَّرون” و“يطؤون” و“أَضلونا“، ومفردات العفو والفضل والحلم فى معسكر أمير المؤمنين، وما بين هاتين المجموعتين من المفردات من تقابل، بين “الزلّة” و“غفر“، وبين “فضله” و“نقصكم“، وبين “حلمه” و“جهلكم“، وهكذا. ويبقى على من ضلّوا وجهلوا أن تعظهم مصارع أوائلهم – وفى هذا استعارة فعل بشريّ هو الوعظ والتعليم للكلام عن المَصَارِع – فما اشبه الليلة بالبارحة!
سوف تظلّ تلك الثنائيات سمة جوهريّة من سمات الخطاب السياسي، وليس من غايات تحليل هذا النوع من الخطاب استخلاص أحكام تنحاز إلى طرف على حساب غيره. من حقّ من يدرس الخطاب السياسي أن تكون له تحيّزاته وميوله، فهو في نهاية الأمر بشر، لكن ليس من وظائفه أن يقضي بين أطراف الصراع. إنّ غاية التحليل والدراسة فى هذا الصدد هى الوقوف على ما في الخطاب من صراع، وجدليات، وطرائق التعبير عنها، ووسائل تبريرها، وما يمارس الخطاب من تجميل وتقبيح، وإسباغ شرعيّة علي النفس وتجريد المناوئين منها.
?استطراد: الدِّعاية في التراث الإسلامي
يلفت برنارد لويس Lewis (2004) النظر إلى العلاقة الاشتقاقية بين مفردات “الدّعاء” و“الدّعوة” و“الدّعاية” و“الإدّعاء” و“المدّعي” و“الدّعي” و“الدّاعية“، حيث ترد جميعها من أصل واحد هو الفعل الثلاثي “د-ع-و“، غير أنّه – وهو المستشرق المشهور – يعرف أنّ بعض هذه المفردات سالب مستهجن، وبعضها مقبول وإيجابي، على أساس ما يتحقّق للمتلقي من خير أو شرّ، وما يعمد إليه المتكلم أو الكاتب من صدق أو تحايل في الوصول إلي غاياته البلاغية. بعد هذا التأسيس، يُعرّج المستشرق على مراحل شتَّى فى تاريخ الدعاية في الثقافة الإسلامية، فيتوقَّف عند الدِّعاية لبني العباس في مواجهة بني أميَّة، وأغراض الفخر والهجاء والمديح في الشعر العربي، وفيها ما فيها من دعاية للشاعر وقبيلته، وتشويه للخصوم والمناوئين والمنافسين، وتمجيد من يحظون بالمديح. وهذه فصول مهمّة في البلاغة الغربية تستلزم وقفات تداولية عميقة مستفيضة.
مراجع
& Hirschkind, C. (2006). Ethics of Listening: Affect, Media, and the Islamic Counter-public. New York: Columbia University Press.
& Lewis, Bernard, (2004). From Babel to Dragomans: Interpreting the Middle East. Oxford: Oxford University Press.
محطة::. عرض ونقد |
إمدادات هذا الكاتب د. بهاء الدين محمد مزيد 11 مارس 2010
نص (1): دعاء الفرج
“اللهم احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بركنك الذي لا يرام، وارحمني بقدرتك علي، فلا أهلك وأنت رجائي: كم من نعمة أنعمت بها علي قل لك بها شكري، وكم من بلية ابتليتني بها قل لها عندك صبري. فيا من قل عند نعمته شكري فلم يحرمني، ويا من قل عند ابتلائه صبري فلم يخذلني، ويا من رآني على الخطايا فلم يفضحني، ويا ذا النعم التي لا تحصى أبدا ويا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبدا أعني على ديني بدنياي وعلى آخرتي بتقواي، واحفظني فيما غبت عنه، ولا تكلني إلى نفسي فيما حضرت. يا من لا تضره الذنوب ولا تنقصه المغفرة، اغفر لي ما لا يضرك وأعطني ما لا ينقصك. يا وهّاب أسألك فرجا قريباً وصبرا جميلا والعافية من جميع البلايا وشكر العافية“.
تعقيب
الدعاء نوعٌ خطابيّ دينيّ يتوجّه فيه العبد إلى ربّه بطلب المغفرة، أو العون، أو الرزق، أو هؤلاء جميعاً، أو ما عداهم. ولكلّ دعاء سياقاته المختلفة التي تقترن بمناسبة دينية، أو حاجة إنسانية، أو لحظة حرجة في حياة من يتوجّه بالدعاء. يتأسس الدعاء على عقيدة وإيمان بالله أولاً وبقدرته على تحقيق ما يرد في الدعاء. وللدعاء آداب وشروط - هي بمثابة مبررات نجاعته في نظرية أفعال الّلغة كما تقدّم - ومنها الشعور بالافتقار والحاجة إلى الله، والدعاء بما ينفع لا ما يضرّ. غير أنّ أشراط وآداب الدعاء في الإسلام تتجاوز ما نجد من شروط ومقدّمات أفعال الّلغة كما ورد من قبل.
من هذه الشروط والآداب ما هو اعتقادي روحي، كالإخلاص لله تعالى، واليقين بالإجابة، وحضور القلب، ومنها ما هو سلوكي أو شعائري، كاستقبال القبلة، والتضرّع، والخشوع، والرغبة، والرهبة، وعدم الاستعجال، والدعاء في الرخاء والشدة، وتحرّي أوقات الإجابة، والمبادرة باغتنام الأحوال والأماكن التي هي من مظانّ إجابة الدعاء، وكثرة الأعمال الصالحة، وردّ المظالم مع التوبة، ورفع الأيدي في الدعاء، والوضوء قبل الدعاء إن تيسر، والتقرّب إلى الله بكثرة النوافل، والبعد عن المعاصي، وأن يكون المأكل والمشرب والملبس وغيرهم من حلال. ومنها ما هو لفظي، كأن يبدأ من يدعو بحمد الله والثناء عليه، ثم الصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم – ويختم بذلك، والجزم، والإلحاح في الدعاء، وألا يسأل إلا الله وحده، وعدم الدعاء على الأهل والمال والولد والنفس، وخفض الصوت بالدعاء بين المخافتة والجهر، والاعتراف بالذنب، والاستغفار منه، والاعتراف بالنعمة، وشكر الله عليها، وعدم تكلُّف السجع في الدعاء، والدعاء ثلاثـًا، وألا يعتدي في الدعاء، وأن يبدأ الداعي بنفسه إذا دعا لغيره، وأن يتوسّل إلي الله بأسمائه الحسني وصفاته العلى، أو بعمل صالح قام به الداعي نفسه، أو بدعاء رجل صالح له (بعض ما ورد في تلخيص: الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين: “الدعاء“. من موقع http://www.elafco.com، بتصرّف).
هذه الشروط والآداب، ومعظمها يرقى إلى مرتبة السنن، لأنّها وردت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، تفسّر كثيرا من خصائص النصّ الذي بين أيدينا، وتحقّق له السبك، ومنها تكرار المفردات: “صبري” و“شكري“، والبنى النحوية: “احرسني بعينك التي لا تنام“، و“اكنفني بركنك الذي لا يرام“، و“فرجا قريباً“، و“صبرا جميلا“، و“على ديني بدنياي” و“على آخرتي بتقواي“، وتكرار صيغة “افعل“ التي لا تفيد الأمر، بل الرجاء والتوسّل والاستعطاف، وصيغة لا تفعل التي لا تفيد النهي، بل الدعاء والالتماس، وترد مرة واحدة: “لا تكلني“. ويحفل الدعاء كذلك بالطباق، والتقابل، والجناس، والسجع: “نعمة” و“بليّة“، و“غبت” و“حضرت“، و“قل شكري” “فلم يحرمني“، و“قل صبري” “فلم يخذلني“، و“تضر” و“يضر“، وتنقص” و“ينقص“.
ومن كمال الخضوع لله أنّ المتكلّم لا يرد في الدعاء إلا مفعولا به أو لأجله: “احرسني” و“اكنفني” و“ارحمني” و“أنعمت بها علي” و“ابتليتني” و“يحرمني” و“يخذلني” و“رآني” و“يفضحني” و“أعنّي” و“احفظني” و“لا تكلني“. في المواضع التي يرد فيها ضمير المخاطب الذي يعود على لفظ الجلالة في موقع المفعول به (“لا تضره الذنوب” و“لا تنقصه المغفرة” و“لا يضرك” و“لا ينقصك“) تنتفي الأفعال جميعاً. ولا يرِد المتكلّم في موقع الفاعل إلا في مقام التوسُّل (“أسألك“)، أو مجرّد التواجد الذي لا يقع فعله على مفعول به (“غبت” و“حضرت“). أمّا الأدب مع الله فيتجلّى في ذكر بعض نعمه، ومغفرته، وتجاوزه عن المعصية: “فلم يحرمني” و“فلم يخذلني“، والثناء عليه عز وجل والإقرار بقدرته: “بعينك التي لا تنام” و“بركنك الذي لا يرام“، ورحمته وكرمه: “يا ذا النعم التي لا تحصى أبدا“. هذا بالإضافة إلى ما تقدّم من صيغ نحوية بلاغية تنسجم مع طبيعة العلاقة بين العبد وربّه.
نص (2): خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع
تنبيه: لا بد أن أؤكد هنا أنّ التعامل مع خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم ليس كالتعامل مع سائر النصوص البشرية – فهو صلى الله عليه وسلّم “بشر يوحى” إليه.
“إن الحمد للهّ نَحمده ونَستغفره ونَتوب إليه؛ ونعوذ بالله من شرُور أنفسنا، ومن سَيئات أعمالنا، مَن يَهْد اللّه فلا مُضِلِّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له وأَشهد أنّ لا إله اللّه وحدَه لا شريك له، وأنّ محمداً عبدُه ورسولُه. أُوصيكم عبادَ اللهّ بَتْقوى اللّه، وأَحثُّكم على طاعته، وأَسْتَفْتح بالذي هو خير. أما بعد، أيّها الناس، اسمعوا منّي أبيّنَ لكم، فإني لا أدري لعليّ لا أَلْقاكم بعد عامي هذا في مَوْقفي هذا. أيها الناس، إنّ دماءكم وأموالَكم عليكم حَرام إلى أن تَلقوا ربَّكم، كحُرمة يومكم هذا في شَهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بَلّغت، اللهم اشهد. فمن كانت عنده أمانة فَلْيُؤَدها إلى الذي ائتمنه عليها، وإن رِبَا الجاهلية مَوْضوع، وإن أوّل ربا أبدأ به ربا عمّي العبّاس بن عبد المطلب، وإن دماء الجاهليَّة مَوْضوعة، وإن أول دَم أبدأ به دَم عامر بن رَبيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وإنّ مآثر الجاهلية موضوعة غير السّدانة والسّقاية. والعَمْدُ قَوَد، وشبْه العمد ما قُتل بالعصا والحجر، ففيه مائة بعير، فمَن زاد فهو من أهل الجاهلية. أيها الناس، إنّ الشيطان قد يَئسْ أن يُعبد في أرْضكم هذه ولكنه رضي أن يُطاع فيما سوى ذلك مما تُحَقِّرون من أعمالكم. أيها الناس، إنّما النّسيء زيادة في الكُفر، يُضَل به الذين كَفروا، يُحلّونه عاماً ويُحَرمونه عاماً، ليُواطئوا عدّة ما حَرّم اللّه، وإنالزمان قد استدار كهيئته يوم خَلق اللّه السموات والأرض، وإن عدّةَ الشهور عند اللهّ اثنا عشر شهراً في كتاب اللّه يوم خلق، السموات والأرض، منها أربعة حُرم، ثلاثة متواليات، وواحد فرد، ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب الذي بين جمادي وشعبان، ألَا هل بلّغت، اللهم أشهد. أيها الناس، إنّ لنسائكم عليكم حقَاً، وإنّ لكم عليهن حقّاَ، لكم عليهن أن لا يُوطِئن فَرْشَكم غيركم، ولا يُدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم إلاّ بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن اللّه قد أذن لكم أن تَعْضُلوهن وتَهْجروهن في المَضاجع وتضربوهن ضرباً غير مُبرِّح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رِزقُهن وكسوتهن بالمعروف، وإنما النساء عندكم عَوَار لا يملكن لأنفسهن شيئاً، أخذتموهن بأَمانة اللّه، واستحلَلتُم فُروجهن بكلمة اللّه، فاتقوا اللّه في النساء واستوصوا بهن خيراً. أيها الناس، إنما المؤمنون إخوة فلا يحل لامرئ مالُ أخيه إلاّ عن طِيب نفسه، ألا هل بلّغت، اللهم أشهد. فلا تَرْجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم أعناق بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تَضلّوا: كتابَ اللّه، ألا هل بلَّغت، اللهم أشهد. أيها الناس: إنّ ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلُكم لآدم، وآدم من تراب، أكرمُكم عند اللّه أتقاكم، ليس لعربيّ على عجميّ فَضل إلّا بالتقوى، ألا هل بلّغت؟ قالوا: نعم? قال: فَلْيبلغ الشاهد منكم الغائب. أيها الناس، إنّ اللّه قد قَسم لكل وارث نصيَبه من الميراث، ولا يجوز لوارث وصية ولا تجوز وصية، في أكثر من الثّلث، والولدُ للفراش وللعاهر الحَجر، من ادَعى إلى غير أبيه، أو تولّى غَير مواليه، فعليه لعنةُ اللّه والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل اللّه منه صَرْفاً ولا عدلاً. والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته” (العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي، نسخة موقع الوراق، ص ص 487-488).
تعقيب
هذا نصٌّ من النصوص المحورية في الثقافة الإسلامية - خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر عام حجّ فيه قبل انتقاله إلى ربه عز وجل. في النصّ ما في جنس الخطبة من فاتحة دينية، واستغفار، وشهادة، ودعاء، وحلال وحرام، وترغيب وترهيب، وشئ من سرد قليل فى الحديث عن ربا الجاهلية، وفيها مفردات دينية تتعلّق بالمعتقدات، والعبادات، واقتباسات من القرآن الكريم، وفيها أحكام وتعاليم تتناول حُرمة الدماء والأشهر الحُرُم، والوصية بالنساء، والمواريث، والنسب، والتقوى كعلامة فارقة، والحقوق والواجبات المتبادلة بين الزوج والزوجة، وبين المؤمنين كافّة، وتأكيد على المساواة بين البشر إلا فيما يميز بعضهم من بعض من تقوى.
سياق النصّ هو مكانه فى مكة المكرّمة، وزمانه حجة الوداع، والعلاقة بين المتكلّم والمتلقي هي علاقة سمع وطاعة واقتداء، ولعلّ هذا يفسّر ما نرى في النص من سلطة التقرير، والتعليم، والأمر والنهي، وهي سلطة إيجابيّة، ليست من قبيل القمع، أو القهر، أو التلاعب بالعقول، لأنّ غايتها هي صلاح أمر المسلمين من خلال طاعة الله عز وجلّ، وتزكية النفس، وتحقيق العدل، وعمارة الأرض. أمّا أدوات النص لتحقيق غاياته البلاغيّة والتبليغيّة فسترد الإشارة إلى بعضها فيما يلي، وقد تقدّم الكلام عن جنس النص وموضوعاته، غير أنّ من العسير الوقوف على نغمة الخطبة أو إيقاعها إلا من خلال ما نجد من نص مكتوب، وما نعرف عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وعن سياق الخطبة كما نرى فيما يلي من ملاحظات عابرة على نصّ مهمّ.
تشتمل الخطبة فاتحة دينية تقليدية توارثها الخطباء والدعاة المسلمون عن الرسول صلّى الله عليه وسلم، حتى أصبحت قالباً خطابيّأ أثيراً، وفيها الحمد والاستغفار، بما يرسّخ الانتماء إلى الله، وفيها القسمة الخالدة بين المهتدين والضالّين، والشهادتان بما يرسّخ الانتماء إلى الإسلام، ثم النصيحة بتقوى الله وطاعته. يلي ذلك لفت انتباه المتلقي من خلال النداء “أيّها الناس“، والأمر “اسمعوا مني“، وتحديد غاية غايات الخطاب - “أبيّن لكم” – وتبرير أهميته – “لعلّى لا ألقاكم“. ثم ترد مجموعة من التعابير الإشارية المهمّة يتكرّر فيها اسم الإشارة “هذا” للقريب، فيحيل إلى وقت حجّ الرسول صلّى الله عليه وسلم، وإشارة إلى المستقبل على سبيل الظن “لعلّي لا ألقاكم …”. تكتسب التعابير الإشاريّة دلالتها هنا من معرفة المتلقي ما تشير إليه والأرضية الاعتقادية التى يقف عليها خلف الرسول صلّى الله عليه وسلم، وهي حرمة ما ورد فى الخطبة، حرمة الزمان والمكان المشار إليهما.
وفي النصّ من التوازي التركيبي ما يوحي بتبادل الحقوق والواجبات فى “لكم عليهن” و“لهن عليكم“، وكثير من التكرار كما فى “ألا هل بَلّغت، …” للتحقُّق من بلوغ الرسالة، و“أيّها الناس” للتنبيه، وفيه اقتباسات من القرآن الكريم منها “إنّما النّسيء زيادة في الكُفر” و“إن عدّةَ الشهور عند اللهّ اثنا عشر شهراً في كتاب اللّه يوم خلق السموات والأرض“. تحتشد فى الخطبة كذلك الجمل التقريرية اليقينية وصنوف الإلزام من أوامر وفروض وتعاليم وتحليل وتحريم، بما بناسب المقام ويناسب علاقة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسلمين ويناسب أغراض الخطاب وغاياته.
فى الخطبة ما يبرّر الإلحاح على تحقيق غاياتها من حيث زمانها قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وموضوعاتها التي لا يصلح بغيرها أمر المسلمين. من هنا كان التكرار وحشد الأحكام والتعاليم والوصايا والاستشهاد بالله وإشهاده عز وجلّ على أداء المهمة فى العلاقة التواصليّة – علاقة الوحي ثم التبليغ - التى ينطلق منها النّصُّ بين المسلمين وخالقهم ورسوله صلى الله عليه وسلم.
?استطراد: عن الإقناع فى البلاغة الإسلامية
“لماذا لم تتطوّر فيّ البلاغة الإسلامية نظريةٌ متكاملة فى الإقناع؟ ربّما لأنّ الوحيَ هو مدار الإقناع وهو معيار ما للكلام أو الخطاب من تأثير في تلك البلاغة. إنّ الرسالة السماوية، وهي كلام الله المُعجِز، تُحقّق الإقناع، لا من خلال بنية بلاغية إقناعية، أو من خلال بلاغة خطيب متمرّس، بل من خلال ما فيها من كمال التوحّد والانسجام بين الحقّ والجمال. وإذا لم يتحقّق الإقناع، فليس الخلل في تلك الرسالة، بل في أداة تلقّيها، ألا وهي القلب، فالرسالة قد نزلت فى أكثر أشكال البلاغة كمالاً واكتمالاً، ونعني بها القرآن، وهو ما يشير بوضوح إلى أنّ التقصير عن إدراك كلام الله مردّه إلى عجز الفرد أو المجتمع عن السمع أو زهدهما فيه. إنّ العجز عن سماع كلام الله من العلامات التى تميز الشياطين وأهل النار من البشر: “… لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم أعينٌ لا يبصرون بها ولهم آذانٌ لا يسمعون بها … ” (الأعراف، الآية 179). وعندما يستجيب البشر لكلام غيرهم أو لكلام الله، دون سلبيّة أو تقصير، فإنّ فعل الاستجابة يختصّ به السامع، على معنى أنّ السمع أو الاستماع ليس مجرّد استقبال سالب تلقائي، بل هو نوع من الفعل: أنا أسمع أو أستمع، إذن أنا أفعل. لهذا السبب، لا تتطلب الرسالة السماوية في العقيدة الإسلامية خطيباّ بليغاً، بل مستمعاً واعياً يستطيع أن يسمع ما يصل إليه من كلام الله، فبلاغة الرسالة وكمالها وإعجازها بما يستعصي على الترجمة تكمن فى ذاتها لا في بلاغة من ينقلها أو يبلّغها …” (هيرشكند Hirschkind، 2006، ص 50).
يؤكّد هذا الاقتباس على حقيقة مهمّة، وهي أنّ الاستماع فعلٌ كالكلام، وربّما يتجاوزه فى الأهمية في بعض المواضع. وهو هكذا خصوصاً فى ثقافة صوتيّة في كثير من تجلّيّاتها. ويثير الاقتباس كذلك عددا من القضايا تتعلّق بالفروق الجوهرية بين الإقناع الذي يقوم على الاستشهاد والاقتباس، والإقناع الأرسطي الذي يقوم على المحاجّة واستثارة مشاعر من قبيل الخوف أو الشفقة pathos وتقديم الدليل العقلي logos والتأسيس لمصداقية المتكلم ethos. لا ينبغي أن نقع في أشراك القولبة التي تصنّف الثقافات إلى عقلية ماديّة وروحية نقلية، وتنحاز إلى بعضها دون بعض، فتُقصي الوحيَ لحساب العقل – وكأنّه يعجز عن مخاطبته - أو تُسفّه العقل لحساب النقل. وهذا مقالٌ لا قِبَل لمقام التبسيط الراهن بالإحاطة به من جميع جوانبه.
نص (3): من خطبة لأبي العباس السفاح بالشام
“خطب أبو العباس عبدُ اللّه بن محمد عليّ، لمّا قُتل مَروان بن محمد، فقال: ألم تَر إلى الذين بَدّلوا نعمة الله كفْراً وأَحَلًوا قومهم دار البوار، جَهَنِّم يَصْلَوْنَها وبِئْسَ القَرار، نَكَصَ بكم يا أهل الشام آل حَرْب، وآل مَرْوان، يَتَسكّعون بكم الظُّلم، ويتهوَّرون بكم مَداحض الزَّلق، يطؤون بكم حُرم الله وحرم رسوله، ماذا يقول زُعماؤكم غداً؟ يقولون: ربّنا هؤلاء أَضلونا فاتهم عذاباً ضِعْفاً من النار. إذاً يقول اللّه عزَّ وجلّ لكُلّ ضِعْف ولكن لا تَعْلمون. أمّا أميرُ المؤمنين، فقد ائتنف بكم التّوبة، واغتفر لكم الزِّلة، وبسط لكم الإقالة، وعاد بفَضْلِه على نَقْصكم، وبِحِلْمه على جَهْلكم، فلْيُفرح رُوعكم، ولتطمئنّ به دارُكم، ولْتعظكم مصارعُ أَوائلكم، فتلك بيوتهم خاوية بما ظَلَموا” (العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي، نسخة موقع الوراق، ص 508).
تعقيب
لا بُدّ أن يتأسّس تحليل خطاب كهذا على وصف مّفصّل للسياق بما يشمل المتكلّم، أول الخلفاء العباسيين، والقتيل – مروان بن محمد، آخر خلفاء بني أميّة - وأهل الشام وآل حرب وآل مروان، وما كان يجمع أو يفرّق بين هؤلاء جميعاً، وكذا الحضور الذين توجّه إليهم المتكلّم بالخطاب، والظروف السياسيّة والاجتماعية التى أحاطت به. أمّا غايات الخطاب فتشمل التوبيخ – “بدّلوا نعمة الله كفراً” – ثم الإبلاغ بالعفو - “أمّا أمير المؤمنين … اغتفر لكم الذلة …” – والدعوة إلى الاعتبار – “و لتعظكم مصارع أوائلكم“. وفي الإبلاغ بالعفو جملة أفعال كلاميّة: قَبِل توبتكم، وغفر زلتكم، وأقال عثرتكم، وتفضّل عليكم، وقابل جهلكم بحلمه. وفي الائتناف والاغتفار مجاهدة ربّما لأنّ الذنب كان عظيماً.
في النصّ ثلاثة اقتباسات من القرآن الكريم، لا ترد ناتئة أو مُقحمة، بل جزءًا من نسيجه، وكأنّ المتكلّم يريد أن يقول إنَّ الآيات المقتبسة قد نزلت فى أهل الشام ومن “نكص بهم” من آل حرب وآل مروان: “ألم تَر إلى الذين بَدّلوا نعمة الله كفْراً …”، و“ربّنا هؤلاء أَضلونا فاتهم عذاباً ضِعْفاً من النار“، و“فتلك بيوتهم خاوية بما ظَلَموا“. إذا كانت القاعدة التفسيرية الإسلامية تقول إنّ العبرة بعموم اللفظ وليست بخصوص السبب، فإنّ ما أراد المتكلّم لجمهوره فى ذلك السياق هو التسليم بأنّ ما وقع منهم ومن آل حرب وأل مروان يندرج تحت تبديل “نعمة الله كفراً“، وغير ذلك مما يرد فى بقية الاقتباسات. (ويبدو أنّ هذه الوسيلة من سمات كثير من الخطب السياسيّة، ومن ذلك تشبيه حسن نصر الله إسرائيل بفرعون وحاشيته).
ليس هذا الخطاب الموجز فريداً فى باب توظيف السّاسة والحكام القرآن الكريم لتحقيق غايات بلاغيّة سياسية فى العالم العربي والإسلامي. حتى الذين لا يطبّقون ما فيه من أحكام يلوذون به ليضمنوا تعاطف عامّة المسلمين. أليست الآيات القرآنية والأحاديث النبويّة الشريفة وسيلة من أكثر وسائل الدعاية الانتخابيّة نجاعة فى العالم الإسلامي؟ لقد ظلّ الدين سلاحا مؤثراً فعّالاً فى يد السّاسة والحُكّام بطول العالم العربي الإسلامى وعرضه، في ماضيه وحاضره، يستميلون به القلوب، وربّما يتلاعبون بالعقول، ويضمنون تأييد الرعيّة، ويجيّشون به الجيوش، ويستنزلون به نصر الله، حتى وهم يتقاتلون فيما بينهم.
وفى نصّ أبي العبّاس ثنائيات لافتة تميز معسكر أمير المؤمنين – حيث الحكمة، والإيمان، والانحياز إلى جانب الله، والعفو، والكرم، والفضل، والحلم - من معسكر الخارجين من أهل الشام ومن ضلّلهم من آل حرب وآل مروان – حيث نَكص العهد، والتدمير، والتسكّع، والتهوّر، والاجتراء على حرمات الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والتضليل، والضلال، والنقص، والجهل. تتحقّق القطبيّة أو الثنائية فى الخطاب من خلال الترادف والسجع بين مفردات الانحراف عن جادّة الطريق والخروج على الحكم فى “يَتَسكّعون” و“يتهوَّرون” و“يطؤون” و“أَضلونا“، ومفردات العفو والفضل والحلم فى معسكر أمير المؤمنين، وما بين هاتين المجموعتين من المفردات من تقابل، بين “الزلّة” و“غفر“، وبين “فضله” و“نقصكم“، وبين “حلمه” و“جهلكم“، وهكذا. ويبقى على من ضلّوا وجهلوا أن تعظهم مصارع أوائلهم – وفى هذا استعارة فعل بشريّ هو الوعظ والتعليم للكلام عن المَصَارِع – فما اشبه الليلة بالبارحة!
سوف تظلّ تلك الثنائيات سمة جوهريّة من سمات الخطاب السياسي، وليس من غايات تحليل هذا النوع من الخطاب استخلاص أحكام تنحاز إلى طرف على حساب غيره. من حقّ من يدرس الخطاب السياسي أن تكون له تحيّزاته وميوله، فهو في نهاية الأمر بشر، لكن ليس من وظائفه أن يقضي بين أطراف الصراع. إنّ غاية التحليل والدراسة فى هذا الصدد هى الوقوف على ما في الخطاب من صراع، وجدليات، وطرائق التعبير عنها، ووسائل تبريرها، وما يمارس الخطاب من تجميل وتقبيح، وإسباغ شرعيّة علي النفس وتجريد المناوئين منها.
?استطراد: الدِّعاية في التراث الإسلامي
يلفت برنارد لويس Lewis (2004) النظر إلى العلاقة الاشتقاقية بين مفردات “الدّعاء” و“الدّعوة” و“الدّعاية” و“الإدّعاء” و“المدّعي” و“الدّعي” و“الدّاعية“، حيث ترد جميعها من أصل واحد هو الفعل الثلاثي “د-ع-و“، غير أنّه – وهو المستشرق المشهور – يعرف أنّ بعض هذه المفردات سالب مستهجن، وبعضها مقبول وإيجابي، على أساس ما يتحقّق للمتلقي من خير أو شرّ، وما يعمد إليه المتكلم أو الكاتب من صدق أو تحايل في الوصول إلي غاياته البلاغية. بعد هذا التأسيس، يُعرّج المستشرق على مراحل شتَّى فى تاريخ الدعاية في الثقافة الإسلامية، فيتوقَّف عند الدِّعاية لبني العباس في مواجهة بني أميَّة، وأغراض الفخر والهجاء والمديح في الشعر العربي، وفيها ما فيها من دعاية للشاعر وقبيلته، وتشويه للخصوم والمناوئين والمنافسين، وتمجيد من يحظون بالمديح. وهذه فصول مهمّة في البلاغة الغربية تستلزم وقفات تداولية عميقة مستفيضة.
مراجع
& Hirschkind, C. (2006). Ethics of Listening: Affect, Media, and the Islamic Counter-public. New York: Columbia University Press.
& Lewis, Bernard, (2004). From Babel to Dragomans: Interpreting the Middle East. Oxford: Oxford University Press.
محطة::. عرض ونقد |